في تأبين عبد الرحمن اليوسفي

2020-06-18:: مدونة


عبد الرحمن اليوسفي الانسان والمناضل

1
يرجع أول لقاء حي لي مع المغرب إلى مشاركتي في الندوة التي دعا إليها "منتدى الفكر والحوار"، والتي عقدت في الرباط 13-15 من عام 1980، واجتمعت فيها كوكبة من المفكرين والقادة السياسيين العرب لتلك الحقبة، كان من بينهم أحمد المستيري وخالد الحسن وخالد محي الدين ولطفي الخولي وعبد الكريم غلاب ومنح الصلح وابراهيم ابو طالب وغيرهم. وكان موضوع الندوة "اشكالية الديمقراطية في الوطن العربي"، الذي أبرز بداية  الاهتمام العربي بقضية الديمقراطية وتبوء المغرب المركز الأول في وضعها على رأس أجندة السياسة الشعبية العربية، والتي بقيت وربما ستبقى لسنوات وربما لعقود طويلة قادمة أيضا، بالرغم مما فعلته ثورات الربيع العربي، أجندة هذه السياسة الأبرز بامتياز. كانت المشاركة بالنسبة لي فرصة استثنائية للالتقاء بالنخبة الثقافية والسياسية المغربية، والتعرف على مفكريها وقادتها، الذين اصبح اكثرهم أصدقاء وشركاء أيضا في النشاطات الفكرية والسياسية القادمة، ومنهم الحقوقي الانساني والمناضل الكبير عبد الرحمن اليوسفي.
ومنذ ذلك الوقت، سوف تتقاطع دروبنا، كما هو الحال مع جيل كامل من الساسة والمثقفين المخضرمين الذين وقعت عليهم، بعد إخفاق الحركات القومية والانقلابات العسكرية وشبه العسكرية، وفشل التجربة التنموية، التي سميت اشتراكية، مسؤولية السير قدما بهذه القضية الحاسمة  في مستقبل المجتمعات العربية. وسرعان ما دخل على الخط لوضع هذه الأجندة الجديدة على السكة مركز دراسات الوحدة العربية الذي عقد في مدينة ليماسول-قبرص خلال الفترة 26-30 تشرين الثاني/نوفمبر 1983، أول ندواته العديدة والجادة تحت عنوان أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، أعقبها مباشرة في الاجتماع ذاته الاعلان عن تأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان لتكون فاتحة إطلاق مشروع تجديد شباب المجتمع المدني العربي وتأسيس جمعيات متعددة في مختلف الاختصاصات الفكرية والاجتماعية.
ومنذ ذلك الوقت ارتبطت قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الانسان لحصول الاعتقاد بل شبه الاجماع في وسط النخب العربية على أن كسب معركة توسيع هامش الحقوق والحريات والحد من تغول السلطة التنفيذية على السلطات الاخرى، وعلى الحياة السياسية عموما، هو مقدمة حتمية لكسب معركة التحول السياسي نحو الديمقراطية التي بدأت تحتل منذ مطلع الثمانينيات فضاء الثقافة والسياسية في العالم العربي بأكمله. ولعب مركز دراسات الوحدة العربية بقيادة خير الدين حسيب ودعم العديد من من أصدقائه السياسيين السابقين، وعلى راسهم سي عبد الرحمن دور المنتدى العربي الفعلي لجمع النخبة وإطلاق روح الحوار والنقاش فيما بينها حول هذه القضية الكبرى، التي زاحمت بشكل كبير مركز اهتمام المركز الرئيسي حول الوحدة العربية والفكرة القومية. وربما كان صدور كتابي الصغير "بيان من أجل الديمقراطية" في بيروت عام 1976 والذي احتفظ به الناشر في المستودعات لأكثر من عام خوفا من الملاحقة، وجعلته الظروف والصدف عنوانا لتلك المرحلة، بطاقة دخولي الوحيدة لهذا المنتدى ومشاركتي منذ ذلك الوقت في نشاطاته مع جيل المثقفين والسياسيين العرب المخضرمين  الذين سبقونا بمراحل في شق طريق العمل الفكري والسياسي الوطني الصعب. وعلى هامش هذا التجمع النخبوي العربي الواسع، الذي ضم عشرات الشخصيات المستقلة والفاعلة والمؤثرة في بيئتها، نشأت بيني ونخب المغرب العربي الذي أصبحت أتردد على أقطاره بشكل باستمرار علاقات مميزة، وصداقات مستمرة.
لم يكن القرب الجغرافي بين المغرب وفرنسا، مكان إقامتي، هو السبب الرئيسي لهذا التردد وانما الحركية السياسية والفكرية القوية التي كانت تميز حياة تلك الاقطار في ذاك الوقت، بينما كانت بلدان المشرق تعيش فترة انحدار وهمود وسقوط تحت أقدام نظم عسكرية وبيرقراطية جائرة وعقيمة وقاتلة. وقد تكررت زياراتي للمغرب وتونس والجزائر حتى أصبح الكثير من المشرقيين، بمن فيهم السوريون، يعتقدون لفترة طويلة أنني من أبناء المغرب العربي أو المغرب الأقصى. لكن لقائي مع عبد الرحمن اليوسفي كان يستند أيضا إلى تقاطع منهجين في التفكير والعمل، عبر عنه سي عبد الرحمن بطريقته في الخروج من نفق الصراع الحدي والقاطع بين السلطة والمعارضة، وعبرت عنه في كتابي "بيان من أجل الديمقراطية" بالقطع مع الرؤية التقليدية، اللينينية الانقلابية، للماركسية، واستعادة الاهتمام بالسياسة، ومن ضمنها بالمجتمع المدني وتكويناته، فيما يشبه النزعة الغرامشية العفوية، وأنه لن يكون هناك حل للمسالة الاجتماعية عن طريق الحرب الطبقية أو الانقلابات العسكرية او الحزبية، وإنما عبر برنامج يهدف إلى التحرر السياسي وإقامة دولة مواطنة ومجتمع مدني حي وفاعل ونظم مشاركة ديمقراطية فعالة.
كان عبد الرحمن اليوسفي في طليعة هذه النخبة السياسية والفكرية والحقوقية العربية التي قطعت الامل بالايديولوجيات وأساليب العمل القديمة، التي ارتبطت بحقبة الحرب الباردة ونظرت، بعد اختبار الفشل والهزائم المتكررة، إلى أن العمل على الديمقراطية واحترام الانسان هو المخرج الوحيد للشعوب العربية من الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي الذي استنفد قدرات شبابها وهدرها لعقود طويلة. ولا شك عندي في أن اكتشاف هذا الطريق الجديدة هو الذي أعاد لجيل الرعيل الأول نشاطه وحماسه، ووحد صفوفه فاصبح من الممكن ان نجتمع، شباب من أمثالنا، مع رواد الفكر والسياسة العربية لعقود طويلة سابقة، من أمثال فتحي رضوان ومحمد فايق واديب الجادر وخير الدين حسيب واحمد صدقي الدجاني ومنذر عنبتاوي وطارق البشري وسعد الدين ابراهيم والأخضر الابراهيمي وهشام جعيط ومصطفي الفيلالي وسمير أمين وجلال أمين وعادل حسين وأحمد كمال ابو المجد وحسين جميل ويحيى الجمل وآخرون كثر، وفي الصفوف الأولى عبد الرحمن اليوسفي الذي عملت معه في إطار المنظمة العربية لحقوق الانسان قبل ان اتعرف عليه كمناضل وزعيم سياسي يجمع بأعجوبة بين صلابة تقرب من العناد ودماثة الأخلاق المتناهية.

2
كرس عبد الرحمن اليوسفي حياته بأكملها للدفاع عن معنى الحق والقانون وساهم في تأسيس العديد من منظمات حقوق الانسان وشارك في قيادتها، وانتمى الى احزاب سياسية كان هدفها تغيير شروط حياة الشعب نحو الأفضل وتطبيق حكم القانون والعدالة، في المغرب وفي المنطقة العربية والبلدان النامية التي ينتمي إليها المغرب أيضا. وانتخب لأكثر من عشرين عاما عضوا في المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، ثم أمينا مساعدا له، وشغل
 بالإضافة إلى ذلك منصب نائب رئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومنسق أعمالها على الصعيد الدولي. وكانت الساحة المغربية سباقة من دون شك لاستقبال مثل هذا العمل الحقوق انساني والدفع به إلى الأمام. فقد كان المزاج السياسي فيها متوهجا وايمان النخب المغربية قوي في قدرتها على إحداث نقلة ديمقراطية، بالرغم من حدة المواجهة بين النظام واجهزته وتشكيلات المعارضة وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي واتحاد طلبة المغرب والنقابات والأحزاب السياسية الأخرى.
لكن الدور القيادي الأبرز الذي  سيجعل من عبد الرحمن اليوسفي مرجعية لمعظم المناضلين في السياسة المغربية، وفي تجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي والبلدان النامية، و ما سوف يبقى ذكره عاليا في التاريخ السياسي للمغرب، هو قيادته للحوارات التي انتهت بتشكيل ما سمي بحكومة التناوب الديمقراطي التي ساهمت في إخراج السياسة المغربية من المأزق الذي بقيت تعاني منه عقودا طويلة. وكان نجاح هذه الحوارات تكريسا للنهج الفكري والسياسي الذي اتبعه اليوسفي وما تميز به من حكمة وبصيرة وشعور عميق بالمسؤولية الوطنية أيضا. وما من شك في أن هذا النهج الذي قاد المغرب إلى طريق الانتقال الديمقراطية يستحق أن يكون موضوعا للدراسة وأخذ العبر، وربما نموذجا يمكن ان يحتذى في العديد من الأقطار التي لا تزال تتعثر في طريقها إلى هذا الانتقال السياسي.
جاءت حكومة التناوب بعد حقبة الستينيات والسبعينيات العاصفة، ووصول الصراع الدموي بين الملكية المطلقة والمعارضة الوطنية المغربية بمختلف تياراتها، إلى طريق مسدود لامخرج منه، ودخول المغرب فيما يمكن تسميته الوقت الضائع للسياسة أو الوقت السياسي الضائع. كان الحكم المطلق قد نجح في البقاء وصمد بالرغم من جميع محاولات زعزته التي لم تساهم فيها الحركات السياسية والنقابية القوية التي عرفها المغرب فحسب، وإنما المناخ "الثوري" السائد في المنطقة وفي العالم الثالث أيضا. لكن ثمن هذا الصمود كا باهظا، فقد أحدث شرخا وجرحا لم يندمل بسهولة بين السلطة والشعب، ترك فيه مئات المناضلين أرواحهم، وغيب الكثير منهم في سجون الموت المظلمة. لكن في المقابل لم تنهزم المعارضة التي تمتعت بروح نضالية لا تقارن، ومثلها ورمزها عمر بن جلون، ولم تقبل الاستسلام، بالرغم مما تعرضت له من ضربات قاسية ومؤلمة. بقيت كلمة السر ذاتها لم تتغير: المقاومة.
هكذا وجد طرفا الصراع نفسيهما وجها لوجه، في صراع صامت وعنيد، يرابط فيه كل طرف على مواقعه، وليس في الأفق أي ضوء. كانت الحلول الجذرية قد أخفقت في كلا المعسكرين، فلم يقض القمع الدموي على إرادة المقاومة عند المعارضة ويضمن الاستقرار، كما أن المقاومة العنيدة التي اظهرتها المعارضة، والتي وصلت إلى حد إغواء بعض اطرافها بإطلاق حرب عصابات شعبية، لم تهدد بقاء النظام ولا ساعدت المعارضة على التقدم في ايجاد حل للمشكلات الاجتماعية والسياسية المتفاقمة والتي كانت تغذي الصراع وتعمق الانقسام.
يرجع الفضل إلى عبد الرحمن اليوسفي في الاستجابة لمبادة الحوار التي بدأها الملك وفي تحويلها إلى فرصة للخروج من العدم السياسي وإخراج المغرب من المواجهة الشالة للتطور والتغيير، واختبار امكانية طي صفحة العنف والبحث عن سبل مقبولة لإعادة إطلاق الحياة السياسية. وكما يقول الشاعر العربي، برزت في هذه الليلة الظلماء، حيث كل طرف يترصد خصمه ويده على الزناد، الروح القيادية لعبد الرحمن اليوسفي، التي جمعت بين حكمة الحذر وشجاعة الاقدام في الوقت نفسه. وبقبوله الحوار مع خصم أثخن المعارضة بالجراح، وتحمله المسؤولية الأولى في مسيرة لم تكن ابدا مضمونة العواقب ولا موضع إجماع بين المناضلين، خلق اليوسفي الحدث، وفتح طريقا جديدة للعمل امام الحكم والمعارضة بعد اربعة عقود من الصراع الدامي. فكانت النتيجة إطلاق مسيرة الحقيقة والمصالحة.
لم يكن التوصل لمثل هذه النتيجة سهلا ولا معبدا. فقد دامت الحوارات بين الطرفين لاكثر من عقد من الزمن بسبب انعدام الثقة والاحباط والذكريات الأليمة قبل أن تنتهي المشاروات بولادة حكومة التناوب، التي دشنت أو أرادت أن تكون تدشينا لحقبة انتقال ديمقراطي، في إطار الملكية، ولكن أيضا على أسس تغيير قواعد السلطة وتوسيع هامش الحريات السياسية، وفصل السلطات، وتقليص صلاحيات السلطة التنفيذية.
وما من شك في أن عبد الرحمن اليوسفي كان مهندس هذا الانقلاب في نهج السياسة المغربية ورائده. فإليه يعود الفضل في إعادة السياسة إلى موقعها المركزي، بدل المواجهات الدموية، في حياة المغرب والمغاربة. وإعادة السياسة تعني العودة، في صف الحكم وصف المعارضة، إلى العمل ضمن الممكن،  ليس للقبول بما هو مفروض وإنما، بالعكس، لتغيير شروط الصراع من أجل أن يكون ما هو غير ممكن اليوم، هدفا واقعيا ومعقولا وممكنا غدا.
هناك من دون شك الكثير مما يمكن ذكره حول هذه التجربة الاستثنائية للانتقال الديمقراطي. ولم تخف بعض قطاعات الرأي الرديكالية خيبة أملها من بطء التقدم في هذه المسيرة، وربما شاركها في ذلك قائد المسيرة نفسه، بعد أن اكتشف بعد قليل من الوقت ان التوافق لا يعني الاتفاق. وفي جميع الأحوال، لا يزال مسار المصالحة الذي يامل الجميع في أن يقود إلى بناء حياة ديمقراطية راسخة وتعميق اسس العدالة الاجتماعية في المغرب لم يكتمل بالتأكيد بعد. والمغاربة هم وحدهم الذين يستطيعون أن يحكموا، بعد ربع قرن على تجربة التناوب، أو التوافق،  فيما إذا كان رهان اليوسفي يستحق الجهد الذي بذل فيه، وفيما إذا كان قد حقق النتائج التي كان يطمح إليها، أم أنه تحول، كما يجادل البعض، إلى مصيدة ساهمت في احتواء المعارضة وتذويبها في السلطة القائمة وإضعاف شوكة الحركة المدافعة عن المزيد من العدالة لملايين المغاربة من العمل والفلاحين والحرفيين.
لكن بصرف النظر عن مآل هذه التجربة، لا جدال في أن ما حققه المغرب كان تجربة سياسية رائدة في العالم العربي، انتقلت بالبلاد إلى مرحلة أصبحت الديمقراطية فيها عنوانا واضحا ومبدأ للحكم، وجنبتها، وربما كان هذا هو الأهم، المخاطر والمواجهات الكبرى التي تشهدها اليوم أكثر الأقطار العربية، والتي قوضت في الكثير منها أركان الدولة ومزقت النسيج الاجتماعي. فقد خفف هذا الانتقال، مهما كانت حدوده، من وقع الأزمة التي تشهدها مجتمعاتنا بعد نصف قرن من الجمود وتراكم المشاكل العالقة والحرمان، وامتص جزءا من الصدمة التي أحدثها ولا يزال يحدثها الانشطار الايديولوجي الذي يعيشه اليوم العقل العربي بين الاسلاموية والعلمانوية، والحداثة والمحافظة.
لهذه الريادة ولكل ما جمعه في شخصه من روح نضالية وإرادة لا تتزعزع بحقوق الشعوب وحكم القانون، ومن استعداد لا يجارى لتفهم الآخر وفتح الحوار مهما كانت الظروف، والابتعاد عن المواقف المتصلبة والشعبوية، يستحق اليوسفي ان يكون قدوة لجميع النشطاء والجيل الجديد من السياسيين والحقوقيين العرب، وليس في المغرب وحده. فبقدر ما عبر في ممارسته وفي تفكيره ايضا عن روح التوافق والاعتدال كان رائدا في تفكيك فتيل النزاع والحرب، الطبقية والسياسية، ومبدع فكر توافقي أكسبه احترام الجميع وتقديرهم بما في ذلك خصمه السياسي الرئيسي نفسه. وبمقدار ما نجح في دفع المغرب إلى تجاوز اربعة عقود من القطيعة والصراعات الدامية والانكار المتبادل بين المعارضة الشعبية ونظام الحكم المطلق، ساهم في مصالحة المغرب مع نفسه وتاريخه. وإذا لم يحقق التوافق الانتقال الى ديمقراطية مكتملة، فقد نقل المغرب من دون شك إلى العتبة التي تقوده إليها وأكد حتمية هذا الانتقال.