المبادرة الديمقراطية ، من أجل وطن حر ومجتمع سيد

2004-08-16::

 

دخلت سورية منذ وفاة الرئيس حافظ الأسد في مرحلة تحول  حتمتها تطورات النظام الداخلية وتبدلات البيئة العالمية معا. وقد كان جوهر هذا التحول الانتقال، كما حدث في  العديد من بلاد العالم الأخرى، من اقتصاد الدولة المخطط إلى إقتصاد السوق. وقد ترافقت عملية التحول هذه بانبثاق حركة قوية في المجتمع تصدرها المثقفون وناشطوا حقوق الانسان. في سبيل فك الحصار القائم حول المجتمع وإطلاق حركة إصلاح شاملة داخل الدولة والمجتمع السوريين تفضي إلى إعادة النظر  بنمط توزيع السلطة العمومية ومن ورائها إلي العودة إلى التوازنات الوطنية والاجتماعية السليمة التي دمرتها سنوات الصراع العنيف على السلطة منذ الستينات. وقد زادت هذه الحركة من آمال الرأي العام في أن تكون عملية الانتقال فرصة لتغيير المناخ السياسي والاجتماعي وفتح آفاق ديمقراطية في البلاد تشكل مدخلا لعودة الحوار وتحقيق المصالحة الوطنية وقطع الطريق على قوى الجمود التي تريد أن  تجعل من التحول نحو إقتصاد السوق فرصة لنقل الثروة والسلطة من جيل الآباء إلى جيل الأبناء من أصحاب الحكم مع الإبقاء على الشروخ والاختلالات العميقة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي فرطت عقد المجتمع في العقود الماضية. وفي هذا الإطار نشأت حركة المنتديات في عام 2001 وحاولت أن تكسر حلقة الجمود السياسي وأن تعيد النشاط إلى الطبقة الوسطى على أمل تكوين قوة دافعة للتغيير داخل المجتمع تكون رديفا لتيار الاصلاح داخل النظام وتشكل رافعة لأي تحول سلمي وتدريجي نحو الديمقراطية في البلاد.

لكن السنوات الأربع الماضية قد أبرزت حقيقتين. الأولى عجز النظام القائم عن فرز أي تيار إصلاحي جدي قادر على بلورة برنامج واضح للاصلاح والدفاع عنه والعمل على تحقيقه بصورة منهجية وعلنية . والثانية عجز المجتمع والطبقة الوسطى بشكل خاص، بسبب تفككها السياسي والفكري والطائُفي والأقوامي والمناطقي، عن التحرر من تناقضاتها وتجاوز تشتتها من أجل تكوين قوة سياسية فاعلة قادرة على أن تحولها إلى شريك في صنع المصير الوطني والاجتماعي وفتح آفاق التحول الوطني والديمقراطي.

وبسبب هذا العجز المزدوج للسلطة والطبقة الوسطى الممثلة بالمعارضة عن الارتقاء إلى مستوى تحديات الاصلاح والتغيير لم يتحقق أي تقدم ملموس في حل المشاكل الصعبة التي تواجهها البلاد.  ولا يزال الفراع والدوران في الحلقة المفرغة مسيطران على حياة البلاد السياسية والمدنية، مع استمرار الحكم في الاصرار على رفض التعددية الفكرية والسياسية والتمسك بنمط السيطرة الكلية على المجتمع وتكريس  عناصر ورجال الحزب الواحد في جميع دوائر الدولة، والحذر من أي تغيير في دور المؤسسات والأجهزة المختلفة التي يعتمد عليها النظام القائم منذ عقود، مثل الحزب الحاكم والجبهة التقدمية والأجهزة الأمنية. وباستثناء ما حصل من تطعيم الإدارة ببعض العناصر التقنوقراطية المفردة، لم يبد العهد الجديد أي رغبة في  بناء قوى اجتماعية جديدة أو إعادة ترتيب القوى القائمة بما يسمح له بالاستقلال عن الأجهزة الأمنية والبيرقراطية لضمان استقلاله واستقراره وايجاد الأدوات التي تمكنه من تطبيق السياسات الجديدة التي وعد بها. وحتى على المستوى الاقتصادي الذي جعل منه العهد الجديد مركز اهتمامه ومحور التغيير المنشود، لا يزال التردد بين الاختيارات الاقتصادية والافتقار إلى أي خطة أو برنامح إصلاحي واضح وشامل، بالرغم من تشكيل العديد من اللجان والمشاريع النظرية، يعيقان أي تقدم. ولا يزال الجمود الاقتصادي وضعف الاستثمارات الخارجية وهجرة الرساميل المحلية إلى الخارج هي السمات الرئيسية لاقتصاد يفتقد إلى الحوافر والمؤهلات والمناخات الطبيعية القانونية والسياسية.  ولم يحل هذا الدوران في الفراغ دون معالجة إرث العقود الماضية الثقيل الذي قسم الشعب السوري ولكنه  أضعف أيضا مقاومته للضغوط والتهديدات الخارجية وجعل سورية مكشوفة تماما أمام التحديات الخطيرة التي يطرحها عصر العولمة ونظام القطب الدولي الواحد.

وهكذا نجحت فئات المصالح السائدة في أن تجعل من الانتقال إلى إقتصاد السوق وسيلة لتجديد أمل النظام القائم بالبقاء مع تشديد احتكارها للسلطة وتعميق سيطرتها المباشرة على موارد الدولة وتحويلها إلى ملكية خاصة لا ينازعها عليها أحد. وفي هذا السياق تفاقمت ظواهر الفساد المالي والسياسي والإداري أكثر من قبل واستشرت علاقات المحسوبية والزبونية والوصولية على حساب قيم الكفاءة والمسؤولية والنزاهة والالتزام الوطني. وتراجعت   الحريات الأساسية الفردية والجماعية وتدهورت الشروط المعيشية وتزايدت معدلات الفقر والبطالة مع انهيار آمال التسريع بالنمو الاقتصادي وتردد الاستثمارات في المجيء، والتخبط المستمر في السياسات الخارجية وتضييق هامش المناورة السورية الاستراتيجية مع تفاقم  الضغوط والتهديدات الخارجية التي تنذر بأسوأ العواقب وتضعف من فرص ضمان الاستقرار واستعادة الجولان المحتل وتحقيق التنمية الانسانية.

إن وقف مسار التطور السلبي الراهن وتجنيب سورية مخاطر الانفجار والفوضى والعنف وإخراج البلاد من الطريق المسدود الذي قادتها إليه السياسات الفئوية الضيقة واقتسام الغنائم وغياب المشاركة والمحاسبة الشعبية وانعدم الحس بالمسؤولية.، كل ذلك يستدعي نهضة وطنية حقيقية. ولا يمكن لاستمرار حالة الحيرة والتردد والانتظار التي تكاد تتحول إلى استقالة عامة أن تقود إلا إلى ترك مصير البلاد يقرر بالتفاهم بين شبكات المصالح الخاصة الفئوية وحكومات الدول الأجنبية.

لقد أصبحت الحاجة ملحة إلى مبادرة وطنية تضم جميع السوريين الحريصين على مصير سورية ومستقبل أبنائها وتسعى إلى توحيدهم  وذفعهم إلى تجاوز الانقسامات والشروخ الثقافية والاجتماعية والمذهبية والطائفية والأقوامية على طريق بناء تفاهم وطني حقيقي وإحداث ثورة مدنية وأخلاقية تعمل على استئصال الفساد المستشري وإعادة الثقة إلى الشعب والسلطة إلى المجتمع والحياة إلى المؤسسات وتسعى إلى تعزيز التضامن والتعاون بين أبناء البلد الواحد على أساس الحرية والعدالة والمساواة والإخاء ورفض الظلم والغبن والعدوان والتعاهد على الوقوف يدا واحدة في وجه كل ما يحول دون تطبيق هذه القيم والمباديء أو ينتقص منها بصرف النظر عن أصله ودينه وموقعه ونفوذه. 

وكما بينت خبرة الشعوب الأخرى، لا يمكن تحقيق مثل هذه المبادرة وتوحيد الشعب حول مباديء الاصلاح وكسب تأييده ودعمه لها من دون العودة إلى مباديء الديمقراطية التي تؤكد :

1- أن من المستحيل تحقيق أي تقدم على طريق إعادة بناء الدولة ومؤسساتها من دون إعادة إشراك المجتمع بفئاته وقطاعات رأيه المختلفة في الحياة السياسية والمدنية وتأهيله لتحمل عبء المسؤولية، وأن أي انفتاح اقتصادي يجري  خارج سيطرة المجتمع ومراقبته ومحاسبته لا يمكن أن يقود إلا إلى تكريس الأوضاع الاجتماعية والسياسية والنفسية القائمة ويضاعف من نزوع أصحاب الحظوة وشبكات المصالح الخاصة إلى المراهنة، في سبيل الحفاظ بالقوة على مواقعهم، على تخليد القوانين الاستثنائية وإلغاء الحياة السياسية والمشاركة الاجتماعية.

2 - أن بناء حياة سياسية سليمة في البلاد، بما تعنيه من تحرير المجتمع من الخوف وتشجيع المواطنين على تحمل المسؤوليات الوطنية، والتضحية في سبيل النفع العام هو  أساس  الإًصلاح وهدفه الأول. ويستدعي التقدم في هذا البناء رفع وصاية الحزب والأجهزة الأمنية عن المجتمع والدولة ويوجب على أي حكومة تعمل في هذا الاطار  إقرار الضمانات الدستورية التي يستند إليها بناء المواطنية  بما تعنيه من تأكيد مبدأ فصل السلطات وتكريس القانون وسيادته وتحقيق المساواة التامة بين المواطنين وإلغاء كل أشكال التمييز السياسية والعقائدية والحالات والأوضاع الاستثنائية التي تجعل من الدولة وأجهزتها ومنظماتها الشعبية أدوات في خدمة فئة محدودة من السكان. كما يستدعي التسليم بمبدأ المنافسة السياسية والتداول الطبيعي على السلطة بين حكومات تمثيلية تعكس رأي الأغلبية المنبثقة من انتخابات نيابية حرة ودورية. فالحكومة التمثيلية هي وحدها القادرة على نيل القبول الشعبي والثقة الضروريان لخوض معركة الاصلاح والنجاح فيها.

3- إن ضمان الأمن والاستقرار ومواجهة تحديات العدوان الاسرائيلي الذي يمثله الاحتلال المستمر للأراضي العربية في الجولان وفلسطين وجنوب غرب لبنان يتوقفان على التفاف الشعب حول الحكومة التي تتعزز بالشرعية كما يتوقفان على مصالحة البلاد مع محيطها والتفاعل معه.

ومن هذا المنطلق ستسعى المبادرة الوطنية السورية إلى تشجيع جميع الجهود التي تنمي روح التعاون والتضامن والتآلف داخل صفوف المجتمع وتدفع بعجلةالتحول والاصلاح الديمقراطي مهما كان حجمها كما ستحذر من أي تطورات سلبية تضر بالمجتمع وتحد من تمتعه بحقوقه وحرياته. ومن المنطلق نفسه سوف تدعم بالمثل كل جهد يساهم في تعزيز العلاقات العربية العربية ويزيد من تفاعل سورية الايجابي مع محيطها الإقليمي والدولي. وفي هذا الإطار تتطلع أيضا إلى مراجعة جدية وصريحة لإعادة بناء العلاقات السورية العربية والسورية اللبنانية بشكل خاص ووضعها في إطارها السياسي الصحيح الذي يسمح بإعادة توجيه حركة التعاون والتكامل على قاعدة من الحوار الدائم والشامل ومن الندية والمصالح المتبادلة.

-4 إن استقلال القضاء ونزاهته هما الشرط المسبق لنجاح أي بناء وطني حديث. فالوطنية تعني اليوم المساواة في الحقوق والواجبات أكثر مما تعني التماهي في الثقافة والهوية. ولا مساواة في الحقوق والواجبات من دون قانون واحد ومطبق بشكل متساو على الجميع. إن الدولة الوطنية هي دولة القانون وتكريس هذه الدولة  هو مصدر الولاء والانتماء الرئيسي والحقيقي في الدولة الحديثة. ولاتعني دولة القانون إخضاع جميع الأفراد لقانون واحد ومعاملة متساوية أمام القانون فحسب وإنما تعني، أكثر من ذلك، إخضاع الدولة ذاتها للقانون.

5 - أن الوصول إلى نظام اجتماعي فاعل قائم على التوافق الوطني والشرعية القانونية ومباديء العدل والمساواة والحرية واحترام الحرمة الشخصية هو الهدف الأسمى لأي سياسة عقلية.

وانطلاقا من هذه المباديء وعلى أساسها، وتلبية للواجب الوطني والالتزام الأخلاقي والوفاء للأمة والمجتمع، وتأكيدا للوحدة الوطنية في مواجهة التهديدات الخارجية التي زاد في خطورتها تطبيق قانون محاسبة سورية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وايمانا بقدرة الشعب السوري على الارتفاع إلي مستوى الفكرة الوطنية وتجاوز جميع الانقسامات  التقليدية،. تدعو المبادرة الديمقراطية  جميع الأفراد ، بصرف النظر عن اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، إلى الانخراط في حركة الثورة المدنية والمشاركة في تحمل المسؤولية العامة والخروج من موقف المراقبة والانتظار إلى موقف العمل والتعاون، والارتفاع بمستوى التزامهم الوطني والاجتماعي، وإلى أخذ  مصيرهم بيدهم وعدم التفريط بحقوقهم  أو التسليم بقدرهم.

لا تشكل المبادرة الديمقراطية حزبا ولا تختلط بأي تنظيم ولا تهدف إلى المشاركة في أي صراع على السلطة بقدر ما تطمح إلى أن تكون هيئة توجيهية أو مرجعية سياسية مفتوحة تساهم في توحيد إرادة جميع المعنيين بالشأن العام من مثقفين وسياسيين ورجال أعمال  وممثلي المجتمع المدني وتبلور رؤيتهم الاجتماعية وتؤكد دورهم في توجيه مسار وطنهم وتعبر عن التزامهم وقبولهم بتحمل مسؤولياتهم.

إن مستقبل سورية رهن يإرادة مواطنيها ومشاركة كل فرد منهم. وعلى نوعية هذه المشاركة في الحياة العمومية والتضحيات المرتبطة بها يتوقف مصير سورية وطبيعة نظامها الاجتماعي المقبل.

نعم من أجل سورية مستقلة، حرة، ديمقراطية.