مقابلة مع ألترا سوريا: سوريا تولد من جديد وسط شروط صعبة ومعقدة

2025-04-18 :: الترا سوريا

 

تواجه سوريا تحديات داخلية وخارجية عديدة، تجعل المشهد الراهن شديد التعقيد، في ظل ذلك ما تزال الأسئلة الكبرى مفتوحة: إلى أين تتجه سوريا، كيف يمكن تحقيق الانتقال السياسي السلمي وبناء الدولة، ما الفرص الممكنة للسير نحو بناء سوريا الجديدة على أسس سليمة؟ وكيف يمكن تطبيق ديمقراطية حقيقية في ظل الانقسام والاستقطاب الحاصل بين السوريين؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نلتقي مع الأكاديمي والمفكر السوري، الدكتور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في “جامعة السوربون الجديدة” في باريس،  وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، وأحد أبرز الأصوات الفكرية المدافعة عن الديمقراطية والعدالة في سوريا. في هذا الحوار، نتناول تقييمه للمرحلة الراهنة، والتحديات التي تعيق الانتقال السياسي، وشروط بناء مستقبل تشاركي يليق بتضحيات السوريين.

    ما الانطباع الأبرز الذي أخذته عن الوضع السوري على الأرض خلال زيارتك الأخيرة؟

انطباعي كان ببساطة أن سوريا تولد من جديد، ويولد في كل سوري، انتظر طويلًا الخلاص، سوري جديد يتطلع إلى المستقبل ويرى “الوجود جميًلا” رغم الشروط الصعبة والمعقدة والمأساوية التي لا تزال تتخبط فيها البلاد ورغم التحديات التي تواجهها وسوف تظل تواجهها لزمن طويل.

    تبدو من خلال تصريحاتك الأخيرة متفائلًا بمستقبل سوريا، ما الأسس التي تبني عليها نظرتك التفاؤلية وفق المعطيات الحالية؟

أولًا، هذه مسألة مرتبطة بالطبيعة، طبيعة الإنسان. فكما هو الحال في أي ولادة هناك المولود وهناك ماء الولادة الذي يرافق خروجه. هناك من ينظر إلى المولود وهناك من لا يرى إلا ماء الولادة. أنا أنظر إلى المولود. وهذا ما فعله غالبية الجمهور السوري الذي رأى فيه ولادة جديدة له كإنسان، وخروجًا من القبر الجماعي الذي دُفن فيه حيًا إلى الحياة والنور.

وثانيًا، لأن هذا الشعور بالتفاؤل والمقدرة والانتصار على الخوف والضعف هو رأس المال الأبرز لدى السوريين في دفع إرادة الحياة والانخراط في العمل من أجل المستقبل، والاستعداد للتضحية بكل شيء لتحقيق الآمال والتطلعات التي غيّبها القهر وروح الشر والجنون. بمعنى آخر تشكّل هذه التجربة الإنسانية العميقة للاستعباد الطويل، والتحرر الناجز معًا، أكبر مصدر للتطلع نحو المستقبل وتجاوز الماضي الأسود وقواعد عمله وقيمه العبودية، والاستعداد للتضحية من أجل الحرية والكرامة والمساواة.

وثالثا، لأن إرادة التحرر هذه تتقاطع اليوم مع الحسابات الجيوستراتيجية للعديد من القوى الدولية والإقليمية التي ترى أن دعم الاستقرار في سوريا أصبح شرطًا للحفاظ على الاستقرار الإقليمي وهو يصب في مصالحها القريبة والمتوسطة أيضًا. ما يعني أن التقاء مصالح أغلب الدول الإقليمية والغربية مع مصالح السوريين يقدم فرصة للخروج من العدم السياسي والأخلاقي الماضي والتقدم نحو المستقبل وإعادة البناء. الشوكة الوحيدة التي تعيق هذا المسار هي السياسات العدوانية والتوسعية الإسرائيلية ليس في غزة وفلسطين فحسب ولكن في سوريا أيضًا. وهو ما يشكل تحديًا للجميع وتهديدًا للأمن والاستقرار الإقليميين، ويتطلب تعاونًا مع الأطراف الدولية والعربية المتضررة لتطويقه.

    كيف تصف التوتر الطائفي الحاصل بين السوريين، والاستقطاب الآخذ بالتزايد مؤخرًا، لا سيّما بعد مجازر الساحل، وما أبرز الممارسات أو الحلول برأيك للتخفيف من حدة هذا التوتر؟

التوتر الطائفي الذي شهدناه في الشهر الماضي هو ثمرة أكثر من نصف قرن من الاستخدام السياسي للتمايز الديني والإثني من قبل النظام السابق. وهو غير متجذر في المجتمع السياسي السوري الذي بني، منذ الاستقلال عن السلطنة العثمانية، على العقد الوطني والمساواة بين الجميع حسب مبدأ: “كل واحد على دينه الله يعينه”، والدين لله والوطن للجميع. وقد أثبت هذا المبدأ صحته في الأشهر الثلاث الأولى بعد سقوط النظام السابق حيث استقبل الجميع، بصرف النظر عن طوائفهم، التغيير بحفاوة لم يشهدها المجتمع السوري من قبل. لكن ما أعاد تفعيل التوتر هو محاولة الانقضاض على الوضع الجديد من قبل من سمي بفلول النظام القديم، والاعتقاد بأن السلطة الجديدة ضعيفة ومعزولة ومن الممكن الانقلاب عليها بسهولة.

وكانت النتيجة كارثية. أولًا لأن السلطة الجديدة التي اعتبرت أن الأمور مرت بأمان لم تكن تسيطر على الأرض تمامًا ولا على العديد من الفصائل التي تحالفت معها. هكذا انفلت الأمر وارتُكبت الكثير من المجازر البشعة بحق السكان المدنيين. وهذا ما صدم الوعي الجمعي واستدعى إدانة شاملة وتشكيل لجان تحقيق في الجرائم المرتكبة. وجميع السوريين متفقون على إنزال العقاب بمرتكبي الجرائم الوحشية والحيلولة دون تكرارها.

أما الحلول فهي تبدأ بتطبيق العدالة على مرتكبي جميع الجرائم، مهما كان قربهم أو بعدهم من السلطة، كما ذكر الرئيس أحمد الشرع نفسه، ثم الإسراع في تشكيل هيئة العدالة الانتقالية الموعودة، الأمر الذي تأخر كثيرًا، حتى يطمئن الأبرياء ويعودوا الى حياتهم الطبيعية وتقتصر العقوبة على المذنبين.

لكن بالإضافة إلى ذلك أعتقد أنه من الضروري سنّ قانون لمعاقبة العنصرية وحملات الكراهية وإثارة النعرات الطائفية. وفي ما وراء ذلك ينبغي دعم النشاط التوعوي عن طريق الحوار الأهلي، ومن خلال الندوات واللقاءات الفكرية والسياسية والتربية الوطنية في المدارس والنقابات والأحزاب، وفي وسائل الإعلام.

    ما أولويات المرحلة الحالية برأيك؟ ما أهم الملفات التي يجب على الحكومة الجديدة البدء بها في ظل التحديات الداخلية والخارجية الكبيرة التي تواجهها في الفترة الحالية؟ الوضع المعيشي، الأمن، وحدة البلاد، البنى التحتية، جلب الاستثمارات، إعادة الإعمار، ملف الحريات؟

تمامًا. الوضع المعيشي والأمن والسلم الأهلي وتوحيد البلاد الممزقة، وإطلاق عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل وإطلاق عملية إعادة الإعمار وجلب الاستثمارات. أما الحريات فهي الشرط الأول لتحقيق عملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، وهي البيئة الأساسية لتحقيق جميع ذلك. بغياب الحرية لا يبقى هناك أي معنى ولا أي أمل لتحقيق المهام المذكورة بل للعمل داخل النظام القائم. الحرية هي القوة الدافعة لتحقيق كل ذلك.

    يرى البعض أنه من الأهمية بمكان الاستفادة من تجارب دول أخرى وأخذ وصفة ناجحة للسير بسوريا نحو دولة ديمقراطية مدنية والنهوض بإعادة الإعمار، بينما يؤكد آخرون على ضرورة أن تبني سوريا تجربتها الخاصة، إلى أي توجه تميل؟

الدولة الديمقراطية المدنية لا تولد بالاقتداء والتقليد وإنما هي ثمرة التقدم في توفير شروط بنائها: الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضًا في كل بلد ومجتمع. فهذه الشروط ليست موجودة مسبقًا وفي الطبيعة، إنما ينبغي العمل على إيجادها. وهذا يرتبط بفهم أوضاع كل مجتمع والتحديات التي تواجهه، وحل تناقضاته الذاتية العدائية وتوحيد رأيه أو تحصيل حد أدنى من وحدة الرأي والاقتناع لدى أغلبية وازنة بالخيارات الديمقراطية.

باختصار لذلك، ليس هناك نموذج جاهز للدولة الديمقراطية يكفي أن نأخذ به ونطبقه وكفى الله المؤمنين القتال. الديمقراطية غاية يستدعي الوصول إليها تعبيد الطريق الذي لا يمكن أن يكون ذاته في كل الأمصار والبلدان والأزمان. وهي معركة أو مجموعة معارك تخوضها المجتمعات متعددة الآراء والاتجاهات داخل سياق اجتماعي وثقافي وسياسي وجيوسياسي محدد يختلف من بلد إلى آخر. وهي معركة ينبغي أن يخوضها كل مجتمع بإرادته ووسائله وقواه الخاصة على صعيد الرأي العام والعلاقات الدولية، والتوازنات الاستراتيجية، والشروط الاقتصادية أيضًا. ومن النجاح في هذه المعركة الخاصة في ظروفها وأولوياتها ومهامها تنبع خصوصية نموذج الديمقراطية الذي يميز الدول الديمقراطية هنا وهناك. وليس النجاح أمرًا محسومًا سلفًا كما هو الحال في كل المعارك التي تضع أطرافًا مختلفة في المواجهة.

لذلك أسوأ ما يمكن أن يصيب الحركات الديمقراطية ويحبط عملها أن يتصور قادتها أنها وصفة جاهزة وأن تحقيقها لا يتطلب سوى تقليد الآخرين والعمل بمنهجهم واستراتيجيتهم. فبالرغم من أنها غاية مشتركة إلا أن طرق الوصول إليها تختلف من مجتمع إلى آخر. إنها دائمًا تجربة خاصة لأنها معركة فريدة تخوضها الشعوب ذاتها وتجري في شروط ثقافية وسياسية وجيوسياسية خاصة أيضًا بكل مجتمع وشعب. من يعتقد أن المسألة تتعلق بنسخ نموذج ناجح سواء كان ذلك في السياسة أو في الاقتصاد أو في الثقافة يضل السبيل ويستمر في التخبط. لا تنجح الشعوب في الوصول إلى هدفها وبناء دولة ديمقراطية إلا إذا نجحت في استيعاب شروط تحقيقها الخاصة، وشقّت الطريق الخاص بها. واستنساخ تجارب أخرى مهما كانت ناجحة يعني تجاهل الظروف الخاصة والسير في طريق الفشل والإخفاق بالتأكيد. وأول هذه الشروط هو العمل مع الشعب وللشعب، أي تمكينه من المشاركة في السلطة لا فرض إرادة نخبة أو فئة متنورة عليه.

    كيف يمكن نقل النقاش الدائر حول الديمقراطية من مجرد أفكار إلى خطوات عملية تبدأ خلال المرحلة الانتقالية وتصعد خطوة بخطوة؟

هذه مهام النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية. يقع على المثقفين من كتاب وصحفيين ومفكرين مهمة بناء الرأي العام وتنوير المواطنين بالخيارات المتاحة وطرق الوصول إليها. ويقع على عاتق السياسيين تعبيد الطريق لترسيخ قواعد وتقاليد ديمقراطية في ميادين الاجتماع على مختلف مستوياتها. وأنا أعتقد أنه من الممكن للمجتمعات التي تمر بمراحل انتقالية كما هو الحال في بلادنا أن تبدأ، بموازاة إطلاق الحريات الفكرية والسياسية وتنوير الجمهور بالمعلومات والمفاهيم والقيم الديمقراطية، بانتخابات على مستويات مختلفة يتعلم المواطنون فيها ممارسة دورهم في المسؤولية العمومية. أولها على مستوى مجالس الإدارة المحلية، يختار فيها سكان المدينة أو البلدة أو القرية من يتولى إدارة شؤونهم المحلية. ومن الممكن أن يلي ذلك في فترة لاحقة انتخابات لمجالس نقابية حرة يديرها ممثلون منتخبون وخاضعون لمساءلة منتخبيهم وجمهور مهنتهم ومحاسبتهم. وإذا كان هناك رغبة شعبية في تعزيز السلطات المحلية يمكن للحكومة أن تنظم انتخابات للمحافظين أنفسهم يتنافس على منصب المحافظ فيها سياسيون من المحافظات، وتكون مدرسة لإعداد المرشحين المحتملين في المستقبل لمنصب رئاسة الجمهورية، والذين لديهم خبرة سابقة في إدارة الشؤون العمومية. وتكون هذه الانتخابات جميعها مقدمة أو تمهيدًا للانتخابات التشريعية التي ينبغي أن تشمل جميع المواطنين لإنتاج مجلس تمثيلي يعكس إرادة الشعب في وحدته وتنوعه معًا. يتبع ذلك انتخابات رئاسية لاختيار رئيس الدولة الممثل الأول للسلطة التنفيذية.

كما هو واضح ليست الانتخابات هدفًا في ذاتها، وإنما هي الوسيلة الرئيسة لإنتاج سلطة ممثلة لإرادة الناس أي أغلبيتهم السياسية، وكذلك لتدريب المرشحين على معنى المسؤولية وتنمية الكفاءات والمهارات اللازمة للطبقة السياسية والإدارية. وتقوم هذه العملية، أي إقامة سلطة ديمقراطية، والديمقراطية صفة للسلطة قبل ان تكون للدولة، في جميع مراحلها على ثلاثة مبادئ رئيسة:

ــ الاحتكام للشعب في اختيار القيادات على جميع هذه المستويات المحلية والعامة.

ــ إقرار مبدأ تداول السلطة من خلال انتخابات دورية.

ـــ تطبيق مبدأ المساءلة والمحاسبة الذي هو الضامن لإشراف الشعب أو الجمهور على أعمال ممثليه في السلطة، وهي المستهدفة من دورية الانتخابات.

هكذا تكون السلطات التي تستمد شرعية وجودها في كل مستوياتها من الشعب، والتي يكون هدفها وغايتها خدمة مصالحه ورعاية شؤونه وتقدمه الحضاري لا خدمة أصحاب السلطة وأزلامها مهما كانت أصولهم واعتقاداتهم.

حوار نينار خليفة

https://www.alsafahat.net/2025/04/17/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B9-%D8%AF-%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D9%88%D9%84%D8%AF-%D9%85%D9%86-%D8%AC%D8%AF%D9%8A/