نقاشات في الديمقراطية ربيع دمشق
الحوار المتمدن-العدد: 1235 - 2005 / 6 / 21 - 11:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
تحرير الديمقراطية من فلسفة الليبرالية شرط تعميمها
لا تبرز فلسفة الليبرالية في العالم العربي المعاصر كتعبير عن ولادة روح فردية قوية ومستقلة ومبادرة بالفعل بقدر ما تعبر عن خيبة أمل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم انبثقت خلال نصف القرن الماضي وفرضت نفسها باسم الدين أو القومية أو الاشتراكية واتسمت بما يشبه عبادة الدولة وتقديس دورها الاجتماعي على حساب الفرد وحريته واستقلاله وكرامته. ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة أوسع من الديمقراطية ولكن كتيار فكري مكمل لها أو كالجناح المغالي في الحركة الديمقراطية.
ومن يقرأ الأدبيات السياسية العربية الأحدث يدرك بسهولة الاختلاط العميق الذي يسيطر على الثقافة السياسية العربية في ما يتعلق بمفهومي الديمقراطية والليبرالية وأحيانا عن استخدامهما بمعنى واحد. بيد أن الأمر لا يتوقف على مجرد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما وإنما يذهب أبعد من ذلك فيطابق بين الديمقراطية والليبرالية أو ينزع إلى تفسير الديمقراطية تفسيرا ليبراليا. ولا يحصل ذلك بسبب معرفة قيم الليبرالية نفسها وإنما نتيجة الاعتقاد بأن هذه القيم هي جزء لا يتجزأ من الديمقراطية أي من تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع الأفراد بوصفهم أفرادا أحرارا وأسياد أنفسهم خارج أي إكراهات مجتمعية أو حكومية. ومن نتائج هذه المطابقة السلبية والمضرة بالديمقراطية نزوع من يطلقون على أنفسهم اسم الليبراليين العرب، وانطلاقا من جعل الحرية الفردية قيمة مقدسة والقيمة الأولى بل أحيانا الوحيدة للنظام الاجتماعي ككل وليس في الممارسة السياسية فحسب، إلى التضحية بقيم أساسية لا تستقيم الديمقراطية العربية من دون احترامها ولن يكون لها أي أمل في الوجود مع الاستهتار بها. ومن هذه القيم ما هو نتاج الخبرة الانسانية جميعا مثل قيم العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية وتكافؤ الفرص الفعلي والتضامن الاجتماعي. ومنها، بالنسبة للمجتمعات العربية التي لم تنجح بعد في الخروج من سياق الهيمنة الاستعمارية، القيم الوطنية المرتبطة بمهام تحقيق أو حماية الاستقلال والسيادة الوطنية التي ركزت عليها النظم السابقة وبشكل خاص تجاه الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة وأوروبة. ومنها ما يتعلق بمسائل التأكيد على الهوية العربية وما ارتبط ويرتبط بها من نزوعات إلى بناء مشاريع الوحدة أو الاتحاد أو التعاون الإقليمي الخاص بين البلدان العربية. ومنها أيضا وأحيانا التضامن مع قضايا الأمة العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية. ويرتبط هذا النزوع عند الليبراليين العرب الجدد إلى التخلي عن هذه القيم الإنسانية العميقة وفي مقدمها التطلعات الإقليمية والوطنية بتأكيد قيم احترام التنوع العرقي والديني والتركيز على قضايا المعيشة وتحسين مستويات الدخل والتنمية والتعاون مع الدول الأجنبية من دون ايلاء اهتمام كبير لمسائل السيادة والحساسيات الشعبية التاريخية. ويخشى أن تتماهى الليبرالية أكثر فأكثر في البلاد العربية مع التأمرك أو حب التماثل مع أمريكا والاقتداء بنموذجها الاجتماعي والسياسي بل في بعض الأحيان مع التقليل من مخاطر التهاون مع إسرائيل أو التحالف معها معا كما حصل مع بعض تيارات الليبرالية المصرية بعد التوقيع على اتفاقات كمب ديفيد.
ولا شك في أن قيم الليبرالية الجديدة، كما يعيد اكتشافها فريق من المثقفين العرب في سياق صراعهم المشروع ضد النظم الاستبدادية القاسية من جهة وفي مواجهة القيود التي تفرضها التقاليد الاجتماعية والدينية المحافظة والمتفاقمة، تميل إلى وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع القيم السائدة. ويخشى أن يكون مصير التيار الليبرالي العربي الجديد ومن ورائه مصير النخب المثقفة العربية قريبا في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين من مصير التيار الماركسي الذي نشأ وتصاعد نفوذه في أوساط المثقفين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. فكلا التيارين ينزع إلى أن يعكس تمرد فئات من المثقفين على القيود القاسية والمتعددة التي يضعها المجتمع والدولة على حرية الفكر والاعتقاد والمشاركة السياسية ويهدد لهذا السبب نفسه بدفع المثقفين أو جزء منهم إلى تبني موقف يشبه موقف المنشقين على الدولة والمجتمع. وكما يقود هذا الموقف إلى تفاقم شعور المثقفين بالعزلة والتهميش والانفصال يشجع لدى بعضهم المراهنة بشكل متزايد على التعاون مع القوى الخارجية بل على التدخلات الأجنبية في سبيل تحقيق تحولات ديمقراطية فعلية داخل مجتمعات تبدو غير قادرة في نظرهم على تحقيقها بعناصرها الذاتية.
إن التطلع الايجابي إلى بناء الذاتية الفردية الحرة والمتحررة من القيود، ومواجهة الأطراف الاجتماعية المختلفة التي تشكل مصدر سلطة أو صلاحية خاصة، سواء أكانت مجتمعا شاملا أم طبقة أم قبيلة أو طائفة أم عشيرة أم عائلة، في سبيل تأكيد موقف الفرد الحر ومسؤوليته وحقيقته، قد يفتح الباب أمام التقليل من قيمة الذاتية الجمعية ومن مسؤولية الدولة والمجتمع معا تجاه الفرد إذا لم يخضع لمعايير أخلاقية أخرى. وقد يقود التطرف الليبرالي في موضوع الحرية الفردية وميله إلى جعلها معيار الحياة المجتمعية كافة إلى عكس ما يهدف إليه، أي إلى تهديد الذاتية الفردية، وفرض الوصاية وخلق الظروف التي تحول دون تعميم الحريات ودون تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس من العدالة والمساواة والاعتراف بمركزية الانسان وقيمة وجوده الأصيلة.
باختصار لم تعد الديمقراطية رديفا لليبرالية التي تتماهى مع نظريات التكيف مع السوق العالمية ونظريات العولمة الجديدة الخاضعة لهذه السوق ومنطقها كما تتماهى مع التخلي عن الانتماءات والالتزامات الجمعية الوطنية أو الحضارية لحساب الاندماج والتفاعل الفردي الحر مع هذه السوق، أي في الواقع مع تحويل الجميع إلى مستهلكين أو إلى تحريرهم من جميع القيود الفكرية والسياسية والمجتمعية التي تمنعهم من هذا التفاعل المباشر والحر. إنها تتحول أكثر فأكثر إلى نموذج مناقض تماما لليبرالية وتؤسس لرؤية جديدة تجعل من التحكم بمنطق السوق ورفض الخضوع لمعاييره وحدها وللالتزام الأخلاقي والسياسي قاعدة لبناء حكم صالح معياره الرئيسي الاتساق الاجتماعي والتضامن الإنساني في ماوراء حدود الدول. وهذا يعني أن الحريات الفردية والجماعية صلب الديمقراطية وغايتها لكنها لا تتحقق من دون تأمين شروط أخرى. كما أن هذه الحريات التي تشكل جوهر الديمقراطية لا تنفصل عن القيم الإنسانية ولا يمكن النظر إليها بشكل تجريدي يفصلها عن الإرث الثقافي العالمي ولا عن القيم الخصوصية التي تعكس المسارات الخاصة بالمجتمعات المختلفة وظروف تطورها. وهذا ما يبرر الحديث بالفعل عن نماذج مختلفة لتطبيق الديمقراطية منها نموذج الديمقراطية الاجتماعية ومنها نموذج الديمقراطية الإسلامية التي نتوقع أن تزدهر في العالم العربي كما حصل مع الديمقراطية المسيحية وعلى شاكلتها في أوروبة الغربية ومنها أيضا نموذج الديمقراطية الليبرالية التي تقدم أفضل مثال عليها الحالة الأمريكية. وهذا يعني أن هناك، في ما وراء الهياكل الإجرائية وآليات ممارسة السلطة التي تجسد الديمقراطية ولا تقوم هذه إلا بها رؤى مختلفة ومتباينة لطبيعة الأهداف والمهام التي يتعين على الديمقراطية القادمة أن تعمل عليها وتقوم بتنفيذها. فالديمقراطية الاجتماعية تعتبر التحويل الديمقراطي وإعادة إدخال الشعب في السياسة وإقامة سلطة تعددية على أسس الشرعية الانتخابية هو وسيلة من أجل تحقيق مساواة أكبر بين الأفراد أمام القانون وفي مجالات الحياة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وشروط المعيشة، أي من أجل عدالة أكثر أيضا. فنظام التسلط والديكتاتورية لا يعمل اليوم بشكل واضح لصالح تركيز الثروة المتزايد فحسب ولكن أيضا لصالح تهميش الشعب وإخراجه من دائرة القرار كما يعمل لصالح تعميق الإفقار الثقافي والفكري وجعل المعرفة والعلم والتربية والتعليم حكرا على الخاصة من المجتمع. فالخيار الديمقراطي الاجتماعي يجعل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الغاية الأولى للسلطة السياسية وبالتالي ينظر بعين أكثر استعجالا لتحقيق الوحدة والتعاون الإقليمي والدفاع عن القيم الوطنية.
وهناك ديمقراطية اسلامية تنظر إلى التعددية وما تتضمنه من اعتراف بالحريات والحقوق الأساسية للفرد المواطن على أنها وسيلة لإضفاء طابع القيم الاسلامية واحترام الطقوس والتقاليد الشعبية على الحياة العمومية وبث درجة أكبر من الأخلاق في حياة الأفراد والجماعات، في الدولة والحياة الخاصة معا، أي بناء العلاقات والحياة العمومية على أسس أخلاقية. وهناك مشروع الديمقراطية الليبرالية الذي يرى في التعددية إطارا لتنمية الحريات الفردية التي يعتبرها قيمة أساسية وذات أسبقية في الثقافة الوطنية تنطلق من تقديس الفرد وضمان استقلاله أمام مختلف السلطات التابعة للدولة أو للمجتمع أو للأجهزة البيرقراطية.
لكن بينت التجربة التاريخية أن فصل مسألة الحرية، التي هي مسألة جوهرية في الديمقراطية بمعنى أن الأخيرة لا تقوم من دونها، عن القيم الإنسانية الأخرى النابعة من التضامن الاجتماعي يمكن أن يقود إلى تفريغ الفلسفة الليبرالية نفسها من روحها الإنسانوية التي كانت هي الأصل في نشوئها. وفي هذه الحالة يمكن لليبرالية أن تتحول وهي تتحول بالفعل إلى عائق أمام الديمقراطية ليس بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب وإنما أكثر من ذلك لأنها تعمل، بقدر ما تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخل السلطة أو الدولة الممثلة لها ولعموم الشعب وإرادته العامة، على تشجيع سيطرة أصحاب النفوذ من رجال المال والأعمال والمصالح على الحياة العمومية وتدفع إلى تهميش القسم الأكبر من المجتمع وحرمانه من وسائل التعبير والمشاركة السياسيين معا. وفي هذه الحالة يمكن لليبرالية التي تقوم باسم السعي إلى أقصى درجة من الحرية الفردية أن تؤثر سلبا على شروط انبثاق الحرية الحقيقية وتعميمها وتهدد بأن تغطي على فلسفة نخبوية لا إنسانية ولا أخلاقية.
الحوار المتمدن-العدد: 1249 - 2005 / 7 / 5 - 12:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
أثار مقالي الأخير حول ضرورة التمييز بين الديمقراطية والليبرالية ردودا كثيرة من قبل ناشطين سياسيين وأصحاب رأي ربما كان أكثرها إثارة الانتقادات التي نشرها الزميل كمال اللبواني صاحب المبادرة إلى تأسيس حزب ليبرالي سوري والذي حصل لي شرف التعرف عليه قبل أن يلقى القبض عليه ويقدم لمحكمة أمن الدولة خلال الندوة اليتيمة التي أقامها منتدى الحوار الديمقراطي في 5 سبتمبر 2001 في منزل النائب رياض سيف في دمشق. وكنت قد أعجبت بنفاء فكره وشجاعته وروحه النضالية كما كان في الواقع حال القسم الأكبر من الذين التقيتهم تلك الليلة التي ألقيت فيها أول محاضرة لي في دمشق منذ خروجي من سورية عام 1970. وقد سررت بالفعل لقراءة هذه الردود أولا لما عكسته من انطلاق الحوار الجدي بين تيارات الفكر العربي المعاصر الأساسية وثانيا لأنها نقلت الحوار من سياق المماحكة مع نظم الحكم العربية التي ترفض أي شكل من أشكال الحوار باستثناء ما تعبر عنه محاكم أمن الدولة والأجهزة الأمنية التي تخدمها من أحكام، نحو أرضية النقاش بين أطراف المجتمع العربي نفسه وفي سبيل بناء مستقبله. فلم يعد الحوار حوار طرشان يقف فيه فكر نقدي معارض وليد محروم من كل وسيلة تعبير مشروعة في مواجهة حملات التشهير والتزوير والتضليل المنظمة لفكر السلطة المطلقة الذي لا يهمه من عناصر المنطق والحجة العقلية إلا ما يساهم في إخراس الخصم ووصمه بالخروج عن الاجماع وتجاوز الثوابت والخطوط الحمراء والسقوف الوطنية التي لا تكف عن الانخفاض حتى لم يبق نفحة هواء لحياة ممكنة في بيت الوطنية. لقد أصبح نقاشا بين أصحاب رأي، أي حوارا بناءا يهدف إلى بلورة منظومات القيم والخيارات السياسية والاجتماعية الكبرى لعالم ما بعد الشمولية والاستبداد ويجري بين أشخاص أحرار تدفعهم الرغبة المشتركة في بناء حياة ديمقراطية وإنسانية تختلف تماما عن الأوضاع الراهنة ولا تعميهم المصالح الخاصة والأنانية.
لكن إذا كنا ننتمي نحن الديمقراطيين والليبراليين إلى معسكر واحد هو معسكر الحرية أو الدفاع عن الحريات الفردية فعلى ماذا نختلف إذن؟ بالتأكيد نحن لانختلف حول تقدير قيمة الحرية واعتمادها كأساس لأي حياة سياسية واجتماعية سليمة. إن خلافنا يقوم حول مسألتين أخريين. أولا حول شرعية المطابقة النظرية بين الديمقراطية و الليبرالية مما يعطي للتيارات الليبرالية الحق في الاستحواز على رصيد الديمقراطية كله ومصادرتها الكاملة له، وثانيا حول نجاعة مثل هذه المطابقة من الناحية العملية أو الاستراتيجية التي تعنى بنقل الفكرة الديمقراطية إلى الواقع الاجتماعي وممارستها على الأرض..
1– مسألة الشرعية وتطابق المفاهيم النظرية
في البداية ينبغي القول إن الليبرالية والديمقراطية وغيرها من المفاهيم ليست مفاهيم ثابتة وجامدة وإنما تولد ثم تغتني بالمعاني مع الزمن ومن خلال الخبرة العملية التاريخية. فالليبرالية مطلقا تشير إلى فلسفة جديدة ارتبطت منذ البداية بالنزعة الانسانية والرفض المطلق لكل أشكال التقييد من حرية الفرد وحقوقه، أي لكل أشكال الاضطهاد السياسي سواء أجاء من طرف السلطة أم من طرف الهيئات الاجتماعية. وفي هذا المستوى تشير الليبرالية إلى فكرة وفلسفة ايجابية في الاستخدام اليومي مقابل النظم الدينية أو القومية التي تنكر الفردية الحرة وتركز على الحقوق الجماعية.
بيد أن معنى الليبرالية لم يجمد على هذا المستوى خلال التاريخ الماضي بأكمله. فقد قادت النظم الليبرالية الكلاسيكية التي عرفتها البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر إلى أزمات اجتماعية كبرى بسبب تجاهلها أثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ممارسة الحرية. وكان التعبير الأعمق في نظري عن هذه الأزمات، نشوء الشيوعية نفسها بوصفها فلسفة النقد الجذري والشامل للمسلمات الرئيسية لليبرالية وكنقض منهجي وعملي لها. وفي مقدمة هذه المسلمات فكرة التطابق التلقائي أو العفوي بين الحريات الاقتصادية والحريات السياسية وفكرة الانسجام الطبيعي بين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. فقد بينت الماركسة، وكانت هنا على حق، أن الليبرالية تقود حتما كما أظهرت ذلك التجربة العملية إلى نقيض ما تقول في أمرين أساسيين على الأقل: أولا احتكار القرار السياسي من قبل فئات معينة من السكان وسيطرة قلة من أصحاب المصالح الكبرى على الحياة الاقتصادية ومن ثم السياسية والاجتماعية والمعنوية مما دعا البعض إلى اتهام الحريات بأنها أصبحت شكلية. وثانيا اشتغال نظام الليبرالية على المستوى الاقتصادي كليا لصالح القلة المنعمة ضد مصالح الأغلبية الاجتماعية التي لم تعد تملك لا سلطة ولا موارد اقتصادية كافية ولا وعي مستقل بذاتها. وهذا ما يفسر نشوء ظواهر الفقر والحرمان والتهميش الجماعي الذي شهدته الحقبة الصناعية الاولى وهي الظواهر التي شكلت التربة الخصبة لتغذية مشاعر وأفكار الثورة الشيوعية والتي جاءت كرد فعل عنيف على عيوب النظم الليبرالية التي تجاهلت المسألة الاجتماعية تماما كما تأتي الليبرالية العربية اليوم كرد فعل عنيف على النظم الاشتراكية السوقية التي انتجت الاستعباد السياسي ومن دون أن تقدم أيضا أي مكافأة اقتصادية.
لكن في إطار الرد على الشيوعية ومواجهة الثورة الاجتماعية التي فجرتها في الدول الصناعية حصلت أول طفرة داخل الفكر الليبرالي نفسه في اتجاه الاعتراف بخطأ الاعتقاد بالتطابق التلقائي والانسجام الطبيعي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية وبين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. وقام الاقتصاديون وعلى رأسهم كينز بتطوير نظرية تدخل الدولة في الاقتصاد عن طريق التوجيه والانفاق وسياسات الأجور فكسروا لأول مرة " تابو" أو محرم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وفي موازاة ذلك حصل تحت تأثير الكفاح اليومي للمنتجين والطبقات العاملة تطور مماثل في الفكر السياسي الليبرالي في اتجاه القبول بتطوير نظام من الحقوق والضمانات الاجتماعية التي أصبحت شرطا من شروط المشاركة في الحياة الوطنية والاندراج فيها. ومنذ ذلك الوقت تطور المصطلح السياسي في الدول الصناعية حتى لم يعد هناك تشكيلات سياسية كثيرة تربط اسمها بالليبرالية بينما سمت الأحزاب التي قادت أوروبة للخروج من أزمة الثلاثينات الطاحنة نفسها بأسماء الديمقراطية، سواء أكانت ديمقراطية اشتراكية أم ديمقراطية مسيحية. والهدف من ذلك أن تشير إلى أن هذه التجارب السياسية الكبرى تجاوزت الليبرالية الكلاسيكية التي تجرم وتحرم تدخل الدولة في عملية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي لصالح مفهوم الحرية الفردية الذي يترجم مع غياب شروط المنافسة المتكافئة بين الأفراد إلى حرية الأقوى. وقد تجاوزتها باسم الديمقراطية، أي باسم تعميم قيمة الحرية نفسها وترسيخها وليس باسم إلغائها أو استبدالها بالشيوعية أو الاشتراكية. ومن هنا لم يعد الخلاف بين الليبراليين والاجتماعيين الديمقراطيين خلافا مبدئيا يدور حول قيمة الحرية في النظام السياسي الاجتماعي وإنما هو خلاف سياسي يتعلق بتحديد أفضل وسيلة لتحقيق الحرية وضمان استمرار نظامها السياسي وتعميم ممارستها في الوقت نفسه. ولا ينبع انتقاد التيارات الديمقراطية الراهنة لليبرالية من التشكيك بالحرية الفردية أو من كونها تتحدث عن أولوية قيم الحرية وإنما بسبب ما لا تتحدث عنه من وقائع اجتماعية واقتصادية تهدد أو قد تهدد ممارسة الحرية، أي أنها تنتقدها انطلاقا من التمسك بمبدأ الحريات الفردية. فبتجاهل الليبرالية الشروط الاقتصادية والاجتماعية لممارسة الحرية تهدد بأن لا نحصد من الدعوة للحرية المجردة إلا أشكالا جديدة من التهميش والحرمان. لم تخطيء الماركسية في تشخيص نقاط التناقض في الفكرة الليبرالية ولكنها أخطأت في تحديد الدواء لها. فإذا كانت الحرية المجردة أو المنظور إليها من خارج شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرد لا تقيم ديمقراطية فعلية، فلا يمكن أيضا إقامة مثل هذه الديمقراطية بنفي الحرية أو الحريات الفردية. إن الديمقراطية تستدعي الحرية بالماهية لكنها تحتاج كي تتحقق إلى إحاطة نظام الحرية بمنظومة من الاصلاحات السياسية والاجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تحفظ حق ممارسة الحرية للجميع ولا تترك فئة صغيرة من أصحاب السلطة المالية أو الاقتصادية تسيطر سيطرة مطلقة على موارد السلطة السياسية أو الثقافية أو الإعلامية. ومن هنا تستدعي الحرية المساواة وأن المساواة لا تستقيم من دون حد أدنى من العدالة الاجتماعية.
لكن هناك لحظة ثالثة لا يمكن تجاهلها عندما نتحدث عن معنى الليبرالية والديمقراطية ومفهومهما اليوم وأعني لحظة الردة الراهنة على الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. فمما لا شك فيه أن الركود الاقتصادي وتراجع معدلات النمو وانتشار البطالة والأزمة المالية والتضخم، كل ذلك قد حضر لانقلاب فكري جديد ضد الديمقراطية الاشتراكية أو النزعة الاجتماعية وفي سبيل العودة إلى مباديء الليبرالية الأولى. وكان على رأس هذا الانقلاب مارغريت تاتشر ثم دونالد ريغان ثم انتشرت الفكرة في ما بعد في العالم أجمع الذي يعيش اليوم عودة الليبرالية وانتصارها كما قال فوكوياما على كل ما عداها من عقائد اجتماعية باستثناء الاسلام الذي لا يزال على زعمه يقاوم الحداثة وأصولها. ما هي أطروحات النيوليبرالية أو الموجة الليبرالية الجديدة؟ ثلاث رئيسية. لقد اعتبر النيوليبراليون أولا أن سبب الأزمة الاقتصادية الرئيسي هو تدخل الدولة الكبير في تنظيم الحياة الاقتصادية خاصة عن طريق المشاركة بقطاع عام واسع وزيادة الانفاق العام وتمويل مشاريع الضمانات الصحية والاجتماعية. وطالبوا الدولة بالرجوع عن ذلك وترك قوانين السوق الاقتصادية التنافسية المعتمدة على العرض والطلب تعمل بصورة طليقة أو شبه طليقة، مما يعني التقليل من الضمانات الاجتماعية المقدمة خلال الحقبة الماضية للعمال والمنتجين والتي جمدت حسب اعتقادهم التنافس وفرضت أعباءا كبيرة على أرباب العمل. وهذا هو مضمون برامج الخصخصة والتكييف الهيكلي الذي فرضته المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي على البلاد النامية من أجل الاستمرار في تقديم القروض والتسهيلات المالية. أما الأطروحة الثانية فهي العمل على توسيع دائرة التبادل التجاري وخلق سوق اقتصادية عالمية هي وحدها التي تستطيع أن تقدم الإطار الذي يسمح باستمرار النمو والتراكم الاقتصادي العالمي وتقديم حلول للأزمات التي تعاني منها الدول الصناعية وفي مقدمها تضاؤل النمو وتفاقم البطالة. والأطروحة الثالثة هي تلك المتعلقة بالتحرر من عقدة الذنب القديمة تجاه الشعوب المستعمرة سابقا والعودة من جديد إلى تأكيد تفوق الثقافة الغربية وقيمها كما عكسه كتاب هنتنغتون. وفي هذا السياق تستعاد التجربة الاستعمارية التي حصلت في سياق ليبرالي أيضا كتجربة ايجابية كما تتبلور نزعات متجددة لفرض الوصاية بطريقة أو أخرى من قبل الدول الكبرى باسم مباديء الليبرالية والديمقراطية على الشعوب الأخرى.
وهكذا ترتبط اليوم فكرة السياسة الليبرالية بتحرر الدولة من التزاماتها الاجتماعية والسعي لتخصيص كل القطاعات العامة في التعليم والصحة والمجتمع المدني عموما وإخضاعها لقانون العرض والطلب والسوق، كما ترتبط بسياسة بناء السوق العالمية الكبرى التي تفتح المنافسة على أشدها بين جميع البلدان في الميدان الاقتصادي والتي تستفيد منها بشكل أكبر الدول الأكثر قدرة على المنافسة، فتصبح سوقا مقتسمة عمليا بين الدول الصناعية ولا أحد يعرف ما ذا سيكون عليه مصير الدول الصغيرة الأخرى في شراكات لا تزال محدودة وغير مضمونة النتائج. كما ترتبط أخيرا بتنامي نعرة تفوق غربية ونزعة محورة إتنية أوروبية قوية تبخس الثقافات العالمية قيمتها بل تحول الثقافة إلى سلعة تجارية وتميل إلى نشر الفكر الواحد وتصفية بقايا سياسات دعم التعدد والتنوع الثقافي الذي كانت تدافع عنه اليونسكو في الحقبة الماضية. وهو ما يثير في المقابل كرد فعل تمسك الشعوب الصغيرة بثقافاتها ونزوعها إلى التقوقع حول مفاهيم وقيم الهوية والسيادة الرمزية والاستقلالية.
ليس هدفي من هذا العرض إدانة الليبرالية كنزعة فلسفية وسياسية وإنما إظهار ما تعنيه اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين. فعندما تستخدم كلمة ليبرالي في الفكر العالمي المعاصر فليس ذلك للإشارة إلى مضمونها الأول الذي يجعل منها فلسفة الدفاع عن حرية الفرد في وجه الإكراهات الجمعية أو السلطوية العديدة التي كانت تعيق نمو الذاتية الانسانية باسم الدين أو الدولة أو العلم. وإنما تستخدم بمعناها المعاصر الذي يشير إلى مذهب سياسي يركز على أسبقية المنطق الاقتصادي في التنظيم الاجتماعي على حساب منطق المجتمع والسياسة والثقافة معا ويشير إلى سياسات تميل إلى التقليل من تدخل الدولة لتحقيق التوازنات الاجتماعية والتقسيم العادل للثروة لصالح التأكيد على منطق المنافسة الحرة بين الأفراد والبقاء للأصلح كما تميل إلى مسايرة استراتيجيات الدول الصناعية الكبرى في مسألة بناء سوق عالمية واحدة خاضعة للمنافسة الدولية وتجاهل ما يمكن أن ينجم عن هذه السياسات من آثار سلبية على حياة ملايين البشر من أصحاب الدخول الضعيفة أو المنتمين إلى الدول النامية. إنها تستخدم لتشير إلى سياسات يمينية تساير مصالح الأقوياء والمتنفذين وأصحاب الأموال من طبقات ودول. ويكفي للتدليل على انفصال الليبرالية عن الديمقراطية النظر إلى ما يدور في بلداننا نفسها. فلا تكف الحكومات العربية عن الحديث عن الليبرالية وسياسات الانفتاح الاقتصادي في الوقت الذي ترفض فيه أي تحولات سياسية ديمقراطية.
ويبدو لي أن من الضروري أن يكون الرأي العام العربي العادي والمثقف على دراية بهذا الاستخدام الثاني للكلمة حين يدعو إلى تكوين أحزاب ليبرالية. وأعتقد أن ما يقصده المثقفون العرب بالليبرالية هو في الحقيقة الديمقراطية وليست السياسات اليمينية هذه التي تميل إليها الدول الصناعية الكبرى وشبكات المصالح المافيوزية التي تعمل على هامش ممارستها التجارية ودعما لها في البلدان العربية. لكن إذا كان هناك فريق عربي يميل إلى أطروحات الليبرالية الجديدة بالفعل بما تعنيه اليوم من سياسات اقتصادية واجتماعية مقابل سياسات الديمقراطية الدولية التي لم تعد سياسات شيوعية ولا ماركسية ولكنها تتركز على الدفاع عن الضمانات الاجتماعية بالدرجة الأولى وعن دور أكبر للدولة في تحقيق التوازن بين المصالح المختلفة، فله كامل الحق والشرعية في تبني هذا المصطلح والدفاع عنه، تماما كما أن هناك العديد من تيارات الفكر السياسي العالمي التي تتبنى اليوم عقيدة الليبرالية الجديدة. لكن شرعية هذا الفريق في تبني أطروحات الليبرالية لا تلغي شرعية الأطراف الأخرى في تبني شكل آخر من الديمقراطية الاجتماعية أو التي تولي أهمية كبرى لقيم المساواة والعدالة وتعميم ممارسة الحرية، ولا تبرر اتهام من لا يقول بالسياسات اليمينية والعولمية بالستالينية والشيوعية. فجوهر النقاش الدائر اليوم في الفكر السياسي العالمي لا يتعلق باليمين واليسار بالمعنى القديم أي بمواجهة معكسر الرأسمالية مع معسكر الاشتراكية أو الشيوعية وإنما بالضبط بالديمقراطية والسبل الأنجع لتوسيع دائرتها وتعميقها. وللتبسيط يمكن القول إن الصراع يدور اليوم بين ليبرالية توسم أحيانا بالمتوحشة لأنها تنزع إلى القضاء على كل التراث المعاصر من حماية بيئة العمل والطبقات المنتجة لحساب تأمين حرية أكبر لأصحاب رأس المال وتحقيق التنافس الأمثل في الانتاجية من جهة ومن جهة ثانية ديمقراطية تسعى إلى إخضاع قوانين السوق في ميدان البضاعة والخدمات وميدان العمل معا لحد أدنى من الضبط والتنسيق باسم المزيد من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وليس ضد الحرية الفردية أو الجماعية. وبشكل عام هذا ما يدفع إلى التمييز بين نموذج الديمقراطية الأوروبية عموما ونموذج الديمقراطية الأمريكية التي لا تزال تخضع لإرث كبير من الليبرالية البدائية.
بالنسبة لي لا أرى أن حل أزمة الرأسمالية العالمية يكمن في العودة إلى تقديم منطق السوق على منطق الاتساق المجتمعي أو في إعادة بناء المجتمع والعلاقات الاجتماعية كلها انطلاقا من فكرة السوق الاقتصادية التنافسية وعليها. وليس هناك ما يمنع في نظري من بلورة سياسات اقتصادية وطنية ودولية بديلة من دون تهديد الحريات ولا الخروج من الديمقراطية الحقيقية وليس الشعبية النافقة.
2- مسألة النجاعة العملية أو في بناء استراتيجية الممارسة الديمقراطية
لكن في ما وراء التفاهم حول أهمية وصلاح قيم الليبرالية وفي مقدمها الحرية الفردية والحريات العامة جميعا، ومن وراء الخلاف النظري حول مضمون الديمقراطية التي نريد لمجتمعنا أن يبنيها، يطرح موضوع الديمقراطية قضايا استراتيجية جوهرية لا يمكن الحديث في الديمقراطية، ليبرالية كانت أم اجتماعية، المرور عليها من دون مناقشة. والمقصود بهذه القضايا مسائل الاستراتيجية العملية التي تعنى بتأمين شروط التحول الديمقراطي التاريخية. وهذه هي ملا حظاتي الثانية التي تتعلق بقضية النجاعة العملية وليس بالمسائل النظرية والتحديدات المفهومية. وأول ما يخطر في قضية النجاعة، أي تحقيق المشروع الديمقراطي هو مسألة بناء منظومة القوى الديمقراطية القادرة على التغيير والتحويل الديمقراطي للدولة والمجتمع معا، وهي عملية طويلة ومركبة وشاقة تستدعي جهودا سياسية وفكرية وتنظيمية متعددة. وعلى هذا المستوى لا يتعلق الأمر بتأكيد شرعية قيام حزب ليبرالي أو تعميم ونشر الفلسفة الليبرالية أم لا وإنما ببناء قطب ديمقراطي واسع قادر على التغيير. وأشك في أن ينجح التيار الليبرالي الذي يعزل نفسه عن هذه النخب في أن يتجاوز موقع الأقلية السياسية وأن يكون قادرا على التغيير المنشود. إن نجاحنا يتوقف على قدرتنا على أن نضم إلى هذا القطب الديمقراطي، بالإضافة إلى النخبة الليبرالية الناشئة والمتنامية في وسط المثقفين والطبقة الوسطى وما تميل إليه من نزعة علمانية وتحررية، النخب الأخرى الجديدة والقديمة التي بدأت تقطع مع النظام الشمولي وتبحث هي أيضا عن مخرج لها من المأزق الذي وضعها فيه هذا النظام. وفي اعتقادي أننا لن نتمكن لا في سورية ولا في العالم العربي من تأمين شروط التحول الديمقراطي الحقيقي وبناء القاعدة السياسية والفكرية الضرورية لاستقرار الديمقراطية وقطع الطريق على احتمال مصادرتها من جديد من قبل مجموعات المصالح والأجهزة البيرقراطية والأمنية ما لم ننجح في جذب هذه النخب نحو المنظومة الديمقراطية التي تستطيع وحدها أن تقدم لها المخرج من مأزقها، سواء ما تعلق منها بالنخب الاسلامية أو النخب القومية أو النخب اليسارية. ولن يمكن تحقيق ذلك من دون إعادة بناء هذه المنظومة بما يسمح باستيعاب الفكر الديمقراطي لكل الحساسيات المناوئة للاستبداد والنازعة إلى الارتداد عليه.
بالتأكيد ليس من المنتظر أن يتحول القسم الاكبر من النخب الاسلامية إلى ما نطمح إليه من ديمقراطية إسلامية، أي إلى إنزال برامجها الاسلامية في قالب الديمقراطية وقيمها الأساسية. وليس من المؤكد أيضا أن ينجح قسم كبير من النخب القومية التي اختارت الشعبوية ولا تزال رهينتها في أن يواكب في تحوله قيم الديمقراطية الحقيقية. كما أنه ليس من المؤكد أن يهجر اليسار أو قسم كبير منه هواجسه الدولوية ويتوافق مع قيم الديمقراطية. لكن بالمقابل ليس من حقنا ولا من حق أحد أن يصادر مثل هذا الاحتمال ولا أن يقطع الطريق عليه حتى لو كان احتمالا ضيئلا. وليس هناك ما يدعونا إلى قطع الأمل من مثل هذا التحول في ظروف الانهيار الكامل الذي عرفته الفكرة الشمولية في العالم أجمع وتحت تأثير التحولات الفكرية والسياسية والجيوسياسية المتسارعة أيضا. ولا شيء يدعونا إلى أن نحكم بالإدانة المطلقة والنهائية على أصحاب هذا الفكر أو ذاك وتناقضهم الحتمي والدائم مع قيم الديمقراطية وروحها. بالعكس إن كل العوامل الراهنة تشير إلى أن الجميع يتطلع إلى الفكرة الديمقراطية كمخرج من الأزمة الطاحنة التي يعاني منها. ولا يحق لنا أن نغلق الباب أمام أحد كما لا يتوجب علينا عدم السعي بكل ما نملكه من وسائل نظرية وعملية من أجل توسيع قاعدة الحركة الديمقراطية الاجتماعية.
هل يؤثر دخول هذه التيارات التي لم تكن ذات اختيارات ديمقراطية في الماضي، وليس من المؤكد أن تكون خياراتها الديمقراطية الجديدة متسقة ومتكاملة في المستقبل، على قوة التيار الليبرالي أو اتساقه؟ بالعكس إنها ستعززه بقدر ما تجعله تيارا ديمقراطيا بين تيارات عديدة يشكل وجودها وتميزها وتعبيرها عن الحساسيات الاجتماعية المختلفة أساس توازن النظام الديمقراطي القادم. وبفضل هذا الإغناء لفكر الديمقراطية وجمهورها معا نستطيع أن نضمن أن تصب جميع النضالات وجميع المعارضات في الخيار الديمقراطي كما نضمن أن يظل الصراع داخل النظام القادم في الإطار الديمقراطي أي السلمي. وبالمقابل لن يخدم استعداء التيار الاسلامي أو القومي بالرغم من عدم اتساق أفكارهما ولا تهميشهما ووضعهما في المعكسر المعادي للديمقراطية أو في تناقض معه القضية الديمقراطية ولن يساهم في مساعدتهما على تطوير استجابات سلمية وسليمة للمشاكل الوطنية.
المسألة الاستراتيجية الثانية المهمة تتعلق بتحديد طبيعة برنامج الديمقراطية العربية والسورية القادمة. ذلك أن الديمقراطية ليست بحد ذاتها برنامجا قائما بذاته أو مكتفيا بنفسه. إنها إطار سياسي يقبل تطبيق برامج متعددة ومختلفة قد تتباين في خياراتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية العليا أو الاستراتيجية. وفي الولايات المتحدة يتنازع حزبان ديمقراطيان على الحكم بسبب هذا الخلاف بين البرامج لا بسبب الاختلاف في تقدير أهمية القيم الديمقراطية أو قيم الحرية. ومع تحول الديمقراطية إلى ديمقراطية عالمية أو عولمية تصبح الاختيارات أكثر تنوعا وتعقيدا معا. إن بلورة برنامج ديمقراطي فعلي، أي تأسيس نظام الحريات السياسية والفكرية وتعميمها يختلف باختلاف البلدان والمهام المطلوبة لتحرير الانسان أي باختلاف العوائق التي تحول دون هذا التحرير.
إن الليبرالية هي برنامج واحد من برامج الديمقراطية الممكنة اليوم وليس برنامجها الوحيد. والتنافس داخل الديمقراطية العربية المنشودة سيكون بين هذا البرنامج الذي يعكس تطلعات قطاعات من الرأي العام الأكثر حساسية لمسائل التحديث الفكري والاجتماعي والبرامج الأخرى الميالة إلى التركيز على مسائل توزيع السلطة والثروة والجاه، أي على المزيد من المساواة في شروط الوجود التي لا تقوم الحرية من دونها.
أما المسألة الاستراتيجية الثالثة فتشير إلى دور المثقفين كفاعل اجتماعي مهم جدا في مرحلة التحول الديمقراطي الراهن للمجتمعات العربية. ومن أكبر الأخطار التي تهدد هذا التحول نزوع المثقفين إلى التقوقع على ذواتهم وتشربهم بالفكرة الأصنافية "الكوربوراتية" التي تجعل منهم فريقا منغلقا على ذاته وغارقا في همومه الخاصة ومتطلباته الخصوصية التي تشده نحو قيم الحداثة ومفاهيمها وتضعه في مواجهة أغلبية اجتماعية مشدودة بالقدر نفسه أو أكثر نحو قيم التراث وتقاليده. وأخشى أن تدفع الليبرالية التي تنطوي على قسط كبير من الاعتداد بالنفس وتأكيد قيم التفوق والمبادرة إلى فصل المثقفين من جديد عن مجتمعهم كما حصل في النظام السابق وبالتالي تحييدهم والحؤول دون تأثيرهم القوي في إعادة تفعيل هذا المجتمع وتثقيفه بالثقافة الديمقرطية بل بالثقافة عموما.
وأخيرا، ومهما كان الحال من أمر الليبرالية والديمقراطية، ليس الكلام في الاجتماع والسياسة ليس علما محضا ولا يمكن أن يكون. إنه في الوقت نفسه بناء أو إعادة بناء للفكر السياسي في السياق الخاص التاريخي ومن وجهة نظر المصالح العديدة الحاضرة التي لا يمكن للديمقراطية أن تقوم من دون أخذها جميعا بالاعتبار. وغاية كل ذلك أن لا تتحول الديمقراطية إلى شعار يقتصر رفعه على أولئك الذين يأخذون بفلسفة المجتمع الليبرالية وهم بالضرورة الآن وسيبقون لفترة طويلة أقلية بالمقارنة مع التيارات العريضة للرأي العام العربي عموما والسوري خصوصا. مما يعني دفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الاسلامي والقومي واليساري التوجه إلى معاداة الديمقراطية ونظامها ومفهومها بوصفها تجسيدا لقيم فريق اجتماعي محدد ومنافية بجوهرها لقيم أساسية غير مرتبطة بها أو غير مستمدة منها. وغايته كذلك أن لا يتحول التيار الليبرالي المتنامي في وسط النخبة العربية الجديدة إلى شرك يوقع بالنخبة العربية نفسها ويجعلها تنقطع عن المجتمع أو تنحو نحو توجيه اللوم إليه بسبب طبيعة القيم التي تحركه وتنافيها بشكل أو آخر مع قيم الليبرالية وفلسفتها وبالتالي تحول الليبرالية إلى فلسفة لمعارضة المجتمع والثورة عليه كما حصل مع الفكرة الماركسية في الماضي، مع ما يحمله هذا التوجه من خطر تحولها إلى ايديولوجية نخبوية معادية للمجتمع وعزل النخبة المرتبطة بها عن الرأي العام وانعدام قدرتها على التأثير فيه.
ليس هناك من يعارض أو يعترض على إنشاء حزب سياسي يحمل على عاتقه نشر وتعميم أفكار الليبرالية وفلسفتها بالمعنى الكامل للكلمة. بل لقد قلت في مرات سابقة إنني مع نشوء هذا الحزب مثل ما أنا مع نشوء أي حزب آخر لأن الحياة السياسية لا تستقيم من دون وجود تيارات فكرية سياسية متعددة ومتباينة تعكس المصالح المختلفة داخل كل مجتمع وتساهم في خلق التوازن المطلوب في القيم السياسية والأخلاقية أيضا. إن ما أردت أن أقوله هو أن من مصلحة الديمقراطية أن لا تكون حكرا على تيار فكري وايديولوجي وسياسي معين وأن تصبح مشاعا للجميع، وفي مقدمهم أولئك الذين كانوا البارحة يرفضونها أو يتأففون منها. بل إن التحدي الحقيقي للديمقراطيين على مستوى الاستراتيجية يكمن في تحويل الديمقراطية إلى فكرة سياسية جامعة لا قصرها على فريق من دون غيره من الفرقاء. فبذلك ننجح في تحويلها إلى إطار سياسي مقبول من كل الأطراف للتوصل إلى حلول متفاوض عليها في جميع المسائل التي تتعلق بحياة الجماعة الوطنية من مسألة تداول السلطة وحسم النزاع عليها بالطرق السلمية إلى مسألة تطبيق القانون بالتساوي مرورا بتقرير السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الديمقراطية باختصار هي من تلك الأفكار والنظم النادرة التي يزداد رصيدها بقدر ما يعم انتشارها ويقتسم رأسمالها بين البشر.
الحوار المتمدن-العدد: 1255 - 2005 / 7 / 14 - 13:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
ضرورة الخروج من التبسيطية الايديولوجية
اشتراكية كانت أو ليبراليةرد أخير وختام النقاش حول الليبرالية والديمقراطية
كنت أعتقد أن النقاش حول علاقة الليبرالية بالديمقراطية قد انتهى بعد الرد التوضيحي الذي نشرته بعنوان رد على الليبراليين العرب. ولكن الذي أعادني إلى الموضوع من جديد عدد كبير من الأسئلة تمنى على الأستاذ كمال عباس الإجابة عنها على سبيل التحديد الدقيق لنقاط الاختلاف ونقاط الالتقاء في إطار العمل في سياق مشروع التحويل الديمقراطي المشترك في سورية. ومن هذه الأسئلة ما يتعلق بموقفي من الاشتراكية والماركسة وتقييمي تجربة الاتحاد السوفياتي وبقية التجارب الاشتراكية وما مدى اشتراكيتها الفعلية، وفي ما إذا لم يكن من الأفضل لهذه البلدان لو أنها عمقت الرأسمالية على الطريقة الليبرالية بدل بنائها على الطريقة الماركسية التي أدت إلى ما نعرفه من إخفاق. ومنها ما يتعلق بالاختراق الذي شكلته الراسمالية على هذا الكوكب والمكان الذي يمكن أن تحتله في التاريخ الديمقراطية الاجتماعية. ومنها أيضا ما يتعلق بمشروع الشرق الأوسط الكبير ودور الولايات المتحدة الأمريكية. وأخيرا ما يتعلق بما ذكرته في مقالي السابق عن إمكانية بلورة سياسات اقتصادية وطنية ودولية بديلة في ظل العولمة الحالية.
ومن الواضح أن هذه الأسئلة ليست هي المقصودة بالذات ولكنها استخدمت كمدخل من أجل تأكيد أطروحتين. الاولى أن الطريق الرأسمالي الليبرالي يخدم العمل والطبقات الشعبية وربما يقود إلى المساواة والعدالة التي تطلبها الاشتراكية أكثر من الاشتراكية الفاشلة نفسها والتي لم تكن في النهاية إلا رأسمالية بمظهر آخر. والثانية أنه، بعكس ما يمكن أن يفهم من مقالي السابق، لا يوجد خيار ثالث أمام السوريين بين الاستبداد والديمقراطية. فليس هناك سوى نهجين لا ثالث لهما: نهج قديم لا يزال يفكر بمنطق الحرب الباردة والصراع ضد الأمبريالية يشترك فيه البعثيون والناصريون والاسلاميون ويعبر عنه بشكل أفضل فكر طيب تيزيني، ونهج جديد يرى ان سوريا تعاني من الاستبداد وتحتاج الى دفعها بشكل سلمي وتدريجي نحو دولة تعاقدية وتداولية يعكس موقف الليبراليين. أما النهج الثالث أو أي نهج ثالث محتمل فهو في نظره وهم بالمعنى النظري ولا وجود له.
بداية أود أن أفصح عن حقيقة أنني لم أكتب مقالي حول الليبرالية والديمقراطية اعتراضا على الليبراليين العرب الذين كنت أعتقد دائما أنهم يستخدمون مصطلح الليبرالية بمعنى الديمقراطية التي هي حافزهم الرئيسي للعمل، كما هو واضح من وضعهم جميعا لها في مقابل الاستبداد وليس في مقابل السياسات الاقتصادية الاجتماعية، وإنما كتبته كرد فعل على انتقادات مثقفين يساريين عرب يعتقدون هم أيضا أنه لا يمكن تبني الفكرة الديمقراطية من دون تبني الفلسفة الليبرالية. أردت أن أبين لهؤلاء اليساريين من ماركسيين وقوميين يساريين وإسلاميين أيضا أن ما يعتقدون أنه مترادفات ليس كذلك تماما، من دون أن يعني ذلك أنه ليس هناك علاقة تاريخية أو منطقية بين الديمقراطية والليبرالية. وللمفارقة جاء رد اليساريين العرب ايجابيا جدا على المقال بعكس رد الليبراليين. فبقدر ما شعر اليساريون أن تمييز الديمقراطية عن الليبرالية يسمح لهم بالانفصال عن النظم الديكتاتورية التي لصقت بهم بالفعل وأودت بحركاتهم السياسية ويمكنهم من استعادة روح العمل من دون التضحية بالقيم الرئيسية التي تميز سياستهم أعني العدالة والمساواة، شعر الليبراليون أن فصل الديمقراطية عن الليبرالية يفرض عليهم القبول بالاشتراك مع الأطراف اليسارية والقومية والاسلامية الأخرى المنافسة في الساحة السياسية في رأسمال الحرية وقيمتها. وبالتالي يحرمونهم من إمكانية الاستحواز لوحدهم على هذا الرصيد المعنوي ومن الشرعية الاستثنائية التي يمكن أن يقدمها لهم احتكار شعار الحرية في حقبة يسود فيها الإجماع على إدانة الاستبداد والديكتاتورية. هنا أيضا يمكن أن نلحظ روح الانتصارية التي تطبع الحركة الليبرالية العالمية منذ انهيار التجربة السوفييتية ونزعتها إلى أن تجب ما قبلها أو تتجاوزه وتفرض منطق الرأي والفكر الواحد من جديد.
ومهما كان الأمر، تستحق الأطروحتان اللتان تركز عليهما الليبرالية المنتصرة خاصة العربية منها أعني تلك التي تقول ببساطة : الليبرالية هي الحل وتلك التي تقول إن ما هو مطروح على السوريين هو أمر واضح تماما ولا يحتاج إلى نقاش أعني الاختيار البديهي بين الاستبداد والليبرالية أو الديمقراطية.
والمشكلة في مثل هذه التأكيدات ليس خطأها بالمطلق ولكن اختلاط مضمون المفاهيم المستخدمة من جهة وعموميتها التي تجعل منها تبسيطا كبيرا لا يفيد التأكيد عليه شيئا باالمطلق أي خارج إطار الزمان والمكان. وقد اعتقدت دائما ولا أزال أننا لن نستطيع أن نجد طريقنا نحو الحرية ولا نحو التنمية الاقتصادية ولا نحو الوحدة الوطنية أو القومية من بالتمسك بأدوات تفكير أو مجموعة مفاهيم قديمة تنتمي للقرن التاسع عشر لم يعاد العمل عليها من جديد على ضوء التجربة البشرية لما يقارب القرنين شهدا تحولات علمية وتقانية وجيوسياسية واجتماعية واقتصادية هائلة. ويبدو لي أن من الصعب أيضا استيعاب المشاكل التي تواجهها مجتمعاتنا اعتمادا على الاشكاليات التقليدية ذاتها التي تعارض بين الاشتراكية والليبرالية كما لو كانتا أشياء بديهية تجريبية لا مفاهيم يقصد منها ترجمة مسارات ووقائع تاريخية واجتماعية معقدة ومتطورة أيضا. وفي اعتقادي أن هذه المفاهيم وتلك الاشكاليات قد أصبحت معيقة للفكر أكثر مما هي مساعدة له في حركته وتطوره. وكنت منذ عام 1977 قد سعيت إلى شق طريق آخر عندما كتبت كتابي الأول "بيان من أجل الديمقراطية" من دون أن أغير قناعاتي اليسارية. فقد بدا لي بالفعل أن ما تدعو له الاشتراكية قبل أي شيء آخر ليس نمط تنظيم إقتصادي قائم على ملكية الدولة، حتى لو أثبت هذا النمط جدارته ودفع إلى معدلات تنمية عالية، وهو لم يثبت ذلك في النهاية، وإنما هو مجموعة من القيم الإنسانية لا يمكن أن تتحقق من دون الحرية، أعني قيم االعدالة والمساواة. فالمساواة القانونية والأخلاقية مستحيلة بين الأفراد إذا كان بعضهم حر وبعضهم الآخر فاقدا للحرية، بعضهم يتمتع بحقوقه كاملة ويتحكم بالسلطة العمومية وبعضهم الآخر محروم حتى من حق التعبير أو التنظيم أو الاحتجاج أو الاعتراض. وبالمثل إن ممارسة الحرية وتحقق المساواة أمام القانون وفي القانون مستحيلان من دون الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، أي من دون ضمان شروط حياة إنسانية للفرد بصرف النظر عن موقعه وقدراته الانتاجية. وهذا هو الذي جعلني أكتشف قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بعقود أن الاشتراكية القائمة على القهر السياسي والفكري ونظام الحزب الواحد ليست حلا لمشاكل المجتمعات العربية وأنه من دون بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية لن يمكن تحقيق أي هدف من الأهداف الانسانية التي نشأت من أجلها وفي ظلها النظريات الاشتراكية بما فيها النظرية الماركسية والشيوعية. وقد بينت في هذا الكتاب أن التهميش السياسي للأفراد والجماعات هو المدخل لاستعبادها وتحدثت فيه لأول مرة في ظاهرة الاستعمار الداخلي التي ستصبح إحدى المقاربات الرئيسية في النظرية الاجتماعية لما بعد الحرب الباردة.
وما قلته في السبعينيات وسمح لي بالتحرر من النظرية الفاسدة للاشتراكية الواحدية أقوله الآن بخصوص النظرية الليبرالية التي تجعل من الرأسمالية كلمة السر والمفتاح السحري لجميع الخزائن الحضارية من تنمية اقتصادية وحرية سياسية وضمانات دستورية وقانونية. وفي كتاب "الاختيار الديمقراطي في سورية" الذي نشرته العام الماضي ميزت منذ البداية بين نظام السوق الذي هو نظام سابق بكثير على نظام الرأسمالية ومتجاوز له والرأسمالية التي هي نمط إنتاج إقتصادي يقوم على آلية تراكم رأس المال المرتبطة هي نفسها بمنطق السعي وراء تعظيم الأرباح من قبل طبقة مشاريعية واستثمارية تعرف أن بقاء رأس المال من دون توظيف يقضي عليه كرأس مال ويحوله إلى ثروة مصيرها الكنز أو الاستهلاك والانفاق. فالرأسمالية علاقة اجتماعية وليست نظاما آليا أو منطقا يتجاوز الشروط الخصوصية التي تعيش فيها المجتمعات. ومنها أشكال وتشكيلات مختلفة ومتعددة بتعدد المجتمعات والسياقات الاجتماعية والاقتصادية. ولا شك أن التقاء السوق بآلية تراكم رأس المال قد غير في محتوى السوق وآلياته معا لكنه لم يلغ استقلاله وتنوع الأشكال التي يمكن أن يتخذها إقتصاد السوق.
وكما أن الحديث عن الاشتراكية بشكل مجرد ومن دون رؤية الظروف والشروط التي تتحقق فيها، شروط احترام الفرد وحرياته الأساسية ووجود الضمانات القانونية والصيغ الدستورية التي تتيح للمجتمع ان يعيد النظر في سياساته وخياراته ويصححها عند اكتشاف الخطأ، كذلك فإن الحديث عن الرأسمالية لا يعني شيئا كبيرا من دون النظر إلى شروط تحقيقها أو وجودها داخل مجتمع معين، من شروط سياسية واقتصادية واجتماعية واستراتيجية أو جيواستراتيجية. فالرأسمالية بهذا المعنى هي مجموعة السياسات الاقتصادية التي تصوغها وتطبقها حكومة أو سلطة تؤمن بأن توظيف الأموال أو تشجيعها على الاستثمار هي الوسيلة الرئيسية لتحقيق النمو في الناتج الوطني. لكن هذه السياسات لا يمكن أن تكون قياسية أو من نموذج واحد لأن ما يصلح في سياق تاريخي واجتماعي معين لا يصلح بالضرورة، كما هو، في سياق آخر. كما أن السياسات الليبرالية المرتبطة بتشجيع الاستثمار الخاص ليست واحدة ولا متماثلة. فهي تختلف من فترة إلى أخرى وتتبدل بتبدل الأحوال والاوضاع، أي الشروط التي تتحكم بتوظيف رأس المال وبالاستثمار. ولو كان الامر بالبساطة التي يتصورها الايديولوجيون لكان من المفروض أن تحقق جميع السياسات الليبرالية نتائج واحدة ايجابية. والحال إن كثيرا من السياسات الليبرالية لا تحقق أهدافها وربما أدت إلى استفحال الأزمات الاقتصادية بما في ذلك أزمات الركود والتقهقر الاقتصادي. فجميع بلدان العالم تطبق اليوم سياسات اقتصادية ليبرالية، من الصين الشيوعية إلى الولايات المتحدة. لكن قسما منها يحقق نتائج كبيرة مثل الصين، بالرغم من افتقار سياساتها الاقتصادية إلى نظام الحرية السياسية، بينما لا ينجح القسم الثاني من البلدان الصناعية القديمة في أوروبة من تجاوز أزمة البطالة وضعف النمو بل أحيانا انعدامه. وداخل البلاد التي تطبق الرأسمالية ولم تطبق غيرها خلال تاريخها كله تتنافس وتتصارع نماذج مختلفة من السياسات الليبرالية. فسياسة الإدارة الامريكية الراهنة هي سياسة ليبرالية تماما كما أن سياسة إدارة الرئيس السابق كلينتون لم تكن اشتراكية. والفرق بين السياستين أن كل منهما يركز على عوامل مختلفة لتشجيع حركة الاستثمار وإطلاق ديناميكية النمو.
من هنا، لم يعد يجدي كثيرا الاستمرار على معارضة الليبرالية بالاشتراكية وإنما لا بد أيضا للمتحدثين في الليبرالية أن يميزوا في أنماط السياسات الليبرالية نفسها. فلم يعد يكفي في الطور الذي وصلنا إليه لتعريفها بمعارضتها البسيطة والتي لا تعني شيئا كثير في ذاتها بالاشتراكية. وفي هذه الحالة من الممكن أن تكون السياسات الليبرالية حلا لمسألة الركود الاقتصادي الذي يعاني منه الاقتصاد السوري بالفعل بسبب الآفة البيرقراطية التي أصابته لكن من الممكن أيضا أن تكون ذات نتائج كارثية. فليس هناك شك في أن الاندماج في اقتصاد السوق العالمي والمشاركة فيه هو المدخل الرئيسي اليوم للتراكم الرأسمالي بسبب ما يقدمه من فرص الاستثمار ونقل الخبرة والتقنية وتامين أسواق واسعة لكن من المؤكد في الوقت نفسه أنه إذا لم يترافق هذا الاندماج بتأهيل حقيقي يمكن الاقتصاد الضعيف والصغير من مواجهة رياح المنافسة الدولية العاتية فستكون النتائج إفلاسا كاملا للصناعات والشركات القائمة وتعميما للبطالة وتعميقا للتبعية والاعتماد على المعونات الخارجية التي ستصبح ضرورية لمواجهة مخاطر التمرد والثورات الاجتماعية.
فليس من المبالغة القول إن أخطر ما يواجه شعوبنا هو الوصفات الجاهزة، سواء اكانت ليبرالية أم اشتراكية، وعدم النظر إلى الواقع كما هو واستنباط الحلول منه، أي الاستغراق في نماذج ثابتة معروفة من دون السعي إلى معرفة القدرات المتوفرة والفرص الواقعية الموجودة. ويتطلب هذا ذهنا مفتوحا ورفضا لكل أنواع الدغمائية والوصفات المبسطة السهلة وقدرة على التركيب بين الخيارات المتوفرة بهدف الحصول على أفضل نتائج ممكنة، أي القدرة على إبداع حلول ووصفات وسياسات وخيارات ليست بالضرورة تقليدا لما هو قائم هنا وهناك ولكن استجابة لحاجات ومتطلبات التنمية المحلية. وفي هذه الحالة سيطرح موضوع المعيار الأساسي الذي يجدد هذه الحاجات الاجتماعية والمتطلبات التنموية : هل هو معيار التراكم الرأسمالي نفسه بأي ثمن ومهما كانت النتائج الاجتماعية والسياسية والوطنية ام هو الانسجام المجتمعي والتفاهم الداخلي الذي يتطلب حدا ادنى من احترام معايير التضامن والتكافل الاجتماعيين. عندئذ لن يعود المهم اختيار نهج الليبرالية بدل نهج الاستبداد ولا الرأسمالية بدل الاشتراكية، فهذا الخيار غير مطروح بتاتا لأن الاستبداد ليس خيارا يدافع عنه وليس هناك من يدافع عنه بل هو الماضي السائر نحو الزوال تماما كما أن الاشتراكية لم تعد موضوعا مطروحا لا في سورية ولا في غيرها بالمعنى الذي كانت مطروحة فيه، أي كنظام اقتصادي قائم على التخطيط وإلغاء آليات السوق. إن المطروح اليوم هو أي سياسات ينبغي تطبيقها في سورية القرن الواحد والعشرين في إطار تبني إقتصاد السوق - من دون حتى كلمة اجتماعي لأنها لا معنى لها ولا تعبر إلا عن خجل مطلقيها من العودة إلى منطق الاقتصاد العادي والطبيعي نفسه وهو منطق السوق - وعلى أساس الأخذ بالنظام الديمقراطي كنظام سياسي. باختصار إن السؤال المطروح لا يتعلق بالاختيار بين اقتصاد السوق والاقتصاد المخطط ولا بين الديمقراطية والاستبداد ولكن بمعرفة أي إقتصاد سوق وأي نظام ديمقراطية وحريات فردية؟ أي ما هي الصيغ والمعادلات والتوافقات التي نحتاج إليها أيضا حتى لا يتحول إقتصاد السوق الذي نريده إلى إقتصاد نهب منظم هذه المرة باسم القطاع الخاص بعد أن كان يدور حتى الآن باسم القطاع العام والاشتراكية وحتى لا يتحول نظام الحرية والحريات الفردية إلى نظام الأنانية المعممة بامتياز.
والسبب في ذلك أن اشتغال الرأسمالية ا ينفصل هو أيضا عن طبيعة النظام السياسي القائم ولا عن العقلية والثقافة والأخلاقيات السائدة. كما أن النتيجة لن تكون هي ذاتها عندما تطبق السياسات الرأسمالية دون تمييز في بلاد صغيرة وفقيرة كالصومال أو في بلاد عظيمة وكثيفة الموارد البشرية والطبيعية كالصين. فمن الأسهل للصين تحقيق نتائج كبيرة نظرا لحجم السوق الذي تمثله والفرص المفتوحة. وبالمثل لن تكون النتائج واحدة عندما تكون البلاد الصغيرة مدعومة استراتيجيا من قبل دولة صناعية كبرى أو عندما تكون معزولة ومحاصرة. ولو كانت المسألة مسألة تطبيق الرأسمالية أو الاشتراكية والمفاضلة بينهما لكانت جميع الدول التي لم تطبق الاشتراكية في نصف القرن الماضي صارت بمستوى أوروبة وأمريكا وجميع الدول التي طبقت الاشتراكية صارت مثل الاتحاد السوفييتي أو روسيا الاتحادية التي تبقى دولة كبرى بالرغم من إخفاق تجربتها الشيوعية.
مسائل تنمية المجتمعات وتحريرها يحتاج إذن إلى أكثر من النقاش في المسائل الايديولوجية البحتة ويتطلب التقليل أيضا من قيمة النقاشات الايديولوجية نفسها عندما تكون منفصلة عن الحيثيات العينية ويستدعي كذلك قبل هذا وذاك التحرر من الدغمائية اليسارية واليمينية. فليس هناك شك في أن سورية بحاجة إلى إطلاق ديناميكية المبادرة الفردية التي حطمتها عقود طويلة من الإدارة البيرقراطية العقيمة والمعقمة. لكن لا ينبغي لهذا الخيار السليم والمطلوب بأسرع وقت أن يتحول إلى عقيدة دينية تجعل من أي مسعى تقوم به الدولة لدفع عجلة الاقتصاد وتطوير الاستثمار كفرا اقتصاديا أو سياسيا أو محرما أو خطا أحمر يمنع عبوره كما تعلمنا نظمنا الراهنة. إن الدولة تبقى في جميع البلدان التي لم تتطور فيها رأسمالية قوية ولم يحصل في داخلها تراكم كبير لرأس المال فاعلا رئيسيا إن لم تكن الفاعل الرئيسي في الحياة الاقتصادية. فعليها تقع مهمة العناية بالبنى التحتية والخدمات العمومية وتشجيع الاستثمار وربما المشاركة الفعالة فيه لما تملكه من موارد طبيعية وريوع استثنائية وتطوير علاقات التعاون والمشاركة التي تسمح بتطوير الاستثمارات الخارجية بالإضافة إلى دورها الذي لا غنى عنه في تأمين الأطر التعاقدية بين المنتجين وأصحاب الرساميل والاهتمام بنظم الرعاية والضمانات الاجتماعية للعاملين. ولا يتناقض هذا مع اقتصاد السوق ولا يلغي منطق الشفافية والمنافسة الذي يراهن عليه لدفع عجلة التنمية والتحسين الاقتصادي. بالتأكيد تملك سورية كما نعرفها اليوم وبما يميزها من تشكيلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتقانية وثقافية فرصا أكبر للتقدم في ظل نظام اقتصادي يتحرر من عقدة الاقتصاد المخطط الذي تحول إلى حقل للنهب والسلب من دون رقيب ولا حسيب لصالح النخبة الحاكمة وربيبتها البيرقراطية العسكرية والمدنية. لكن نجاح اقتصاد السوق أو الانتقال إلى اقتصاد سوق ناجح يفتح بالفعل أفق الاستثمار والتنمية ولا يصبح مرتعا للصوصية من نوع جديد يتوقف أيضا على وجود طبقة من رجال الأعمال النشيطين والأكفاء الذين يقبلون بان يلعبوا اللعبة على أصولها، أي يقبلون باحترام قواعد الاستثمار الرأسمالي وأخلاقياته ولديهم القدرة والذكاء للتكيف السريع مع السوق العالمية وضمان حد أدنى من التفاهم فيما بينهم لمكافحة الفساد والمحسوبية وروح الإثراء السريع والفاحش القائم على منطق السرقة واضرب واهرب الذي ساد وترسخ في العقود الماضية داخل القطاع الخاص والعام معا. ومن دون ذلك يمكن أن يكون التحرير الاقتصادي مأساة حقيقية للآغلبية الاجتماعية وللاقتصاد الوطني بشكل عام.
إن ما هو مطروح على السوريين اليوم، كما هو مطروح على جميع شعوب العالم بعد انهيار التجربة الشيوعية وتعميم سياسات الليبرالية الاقتصادية، هو الاختيار بين نهج ليبرالي أو نيوليبرالي يؤكد مركزية تراكم رأس المال ويركز على تامين الشروط القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا التراكم الذي يهدف إلى تعزيز موقف الشركات الصناعية الكبرى المنخرطة في منافسة عنيفة في ما بينها في إطار السوق العالمية الواحدة. وهو النهج الذي يسيطر أكثر فأكثر في الدول الصناعية الداخلة في هذه المنافسة التي ستحسم موقع ومكانة كل منها في العقود القادمة وحجمها في الاقتصاد العالمي. ونهج اجتماعي ديمقراطي يؤكد، في سياق اقتصاد السوق نفسه وبهدف تعظيم الاستثمار وخلق فرص العمل وتحقيق التراكم الرأسمالي السريع، على مركزية المجتمع ويركز على تأمين شروط تحقيق التكافل والتضامن العميق بين أفراده كأساس لتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وإشراكها في تخفيف الأعباء عن الدولة وأخذ المبادرة ومن ثم إطلاق دينامية العمل والابداع الجماعي. وهو ينظر إلى الاتساق الاجتماعي بوصفه عاملا أكثر أهمية من عامل رأس المال في إطلاق دينامية الجهد والابداع في بيئة عمل تسيطر عليها أكثر فاكثر عوامل المعرفة والمبادرة والمشاركة المدنية والحرة. وفي هذه الحالة نحن لا ننظر إلى رأس المال نظرة مالوية أو مادية ولكننا ندخل فيه أيضا رأس المال الاجتماعي وقوة التماسك الوطني والتفاعل الانساني أيضا.
لا يعني الاختيار المطروح أن لدينا ثقة كاملة بأن هذا النهج أو ذاك هو الذي سيقدم النتائج المرضية والمطلوبة. ولو كانت الامور واضحة إلى هذا الحد لما كانت هناك حاجة للحديث عن اختيار. فالاختيار يعني بالتحديد أننا لا نعرف جميع العوامل الفاعلة ولا نملك السيطرة الكاملة على الأوضاع ولا المعرفة الحقيقية بالواقع وأننا نسعى حسب ما نمتلكه من معلومات وتحليلات إلى بلورة النهج الذي يتفق بشكل أكبر مع قيمنا الأساسية التي تلهمنا وتتحكم بسلوكنا. وليس هناك شك في أن للخيار الليبرالي منطقه. ذلك أن تعزيز موقف الشركات الصناعية تجاه الشركات المنافسة الأخرى يتطلب تقليل كلفة العمل سواء بتجميد الأجور أو تقليل الضمانات الاجتماعية وتوسيع هامش حرية أصحاب المشاريع في تسريح العمال وتبديلهم بسهولة وسرعة أكبر. بيد أن من الممكن أيضا لمثل هذا النظام أن يقود إلى عكس ما يهدف إليه إذا استغل الرأسماليون ضعف قوة المفاوضة عند المنتجين في سبيل تأمين هامش ربح كبير يعوضهم عن بذل الجهد الضروري لتطوير الإدارة والتقنية وتوسيع الاستثمار. وبذلك يكونوا قد حققوا بقاءهم ونجحوا في المنافسة مع شركات البلدان الاخرى على حساب تضحيات العمال والمنتجين بالدرجة الاولى لا بسبب قدراتهم التطويرية والتحديثية. وفي هذه الحالة يمكن لارتفاع مطالب المنتجين واحتجاجاتهم أن تشكل سوطا يدفع أصحاب المشاريع إلى الإبداع وشحذ العزيمة والهمة.
بالمقابل يشكل التضامن الاجتماعي والمشاركة النشطة والفعالة في الحياة العمومية السياسية والمدنية كما تفترض الديمقراطية الاجتماعية، وهي لا علاقة لها على الإطلاق بالديمقراطية الشعبية سيئة الصيت، ولكنها تشير إلى أهمية رؤية المجتمع ككل وليس رأس المال كفاعل رئيسي في تنظيم الحياة العمومية وتأمين شروط التنمية، وما يرتبط به من تطوير عمل هيئات المجتمع المدني التطوعية، محركا قويا لبذل الجهد والارتفاع بمستوى التعاون بين الأفراد للوصول إلى أهداف تنمية اقتصادية أسرع وأكمل. لكن ليس هناك شك أيضا في أن ثمن تحقيق مجتمع التضامن قد يكون كبيرا بالنسبة لبناء قدرة الشركات الصناعية على المنافسة في سوق مفتوحة وهمجية. وهذا هو الذي يفسر لماذا تميل الحركات الاجتماعية المعاصرة إلى التشكيك بسياسات العولمة وإلى التمسك بشكل أكبر من أصحاب المشاريع الصناعية الكبرى بالأطر الوطنية للسوق الاقتصادية. وهذا ما عبر عنه التصويت السلبي على الدستور الاوروبي في فرنسا وهولندا الشهر الماضي والذي لم يكن يستهدف الاتحاد الأوروبي كمشروع تاريخي وإنما سياسات الحكومات الليبرالية التي أجبرتها مهام التكيف مع السوق العولمية المفتوحة على التقليل من مكاسب المنتجين والعمال التقليدية او تجميدها. وأنا أعتقد ان النموذج الاجتماعي للديمقراطية الذي يراهن على التضامن الاجتماعي وتعزيز دور الفرد ومكانته في الحياة السياسية والمدنية هو الذي يتفق بشكل أكبر مع الأوضاع التي تعاني من ضعف الهياكل والمؤسسات الصناعية وغياب طبقة رجال الأعمال القوية والنشيطة التي يمكن المراهنة عليها لتحقيق المنافسة في السوق العالمية بقدر ما يجعل من المجتمع المدني ومبادراته الجمعية الخاصة وانخراطه الواسع في عملية البناء المؤسساتي والاقتصادي المحور الرئيسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن هذا لا يعني أن تعزيز المجتمع المدني ينبغي أن يتم على حساب تأهيل وتطوير الشركات الصناعية أو أنه يشكل بديلا عنها. إنه المكمل لها والمخفف من آثار ضفعها على مسيرة الاندماج الصعبة المطروحة الآن على البلاد في الاقتصاد العالمي.
وفي الختام أود أن أقول إن الموقف من الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية يتوقف على ما نعنيه بكليهما. هل نعني بالليبرالية مجموعة السياسات الاقتصادية التي تخضع شروط حياة المجتمع وأفراده لمنطق التراكم الرأسمالي أو منطق الربح أم نعني بها التوسع في الحريات الفردية وفي الضمانات القانونية لهذه الحريات. وحتى في المعنى الأول ليس من المؤكد أن التوسع في الحريات الاقتصادية، أي تحرير أرباب العمل من القيود القانونية على حساب الضمانات الاجتماعية والحريات السياسية، يستطيع أن ينشيء نموذجا قادرا على البقاء في بلدان صغيرة مثل سورية تعاني من تأخر استثنائي في عناصر تراكم رأس المال على جميع المستويات كما تعاني من تأخر كبير في تقاليدها القانونية والاجتماعية. ومن الممكن أن لا تكون الرأسمالية التي تطمح الليبرالية إلى إنعاشها في هذه الحالة أكثر من رأسمالية فجة قائمة على المضاربة وبعيدة كل البعد عن أن تستقل بنفسها عن تلاعبات السلطة السياسية. وليس النجاح الاقتصادي الذي عرفته بعض الدول الحديثة التصنيع مثل نمور آسيا راجع للسياسات الليبرالية فحسب ولكن إلى توفر شروط أخرى عديدة مثل أخلاقيات العمل ومستوى التأهيل العلمي وقبل هذا وذاك في نظري العلاقات الاستراتيجية الدولية. فمن الممكن لبلد أن يتبنى نظاما اقتصاديا ليبراليا من دون أن ينجم عن ذلك أي نمو جدي لرأسمالية نشيطة وتنافسية.
وكما أنه لا يوجد تطابق بين مفهوم الرأسمالية والليبرالية كذلك ليس هناك تطابق بين السوق والرأسمالية من دون ان يعني ذلك انه لا توجد بينهما جميعا علاقات تواصلية. فليس من الضروري أن ينجم عن اقتصاد السوق رأسمالية بالمعنى الحقيقي للكلمة أي نمط انتاج ديناميكي يحركه البحث العقلاني عن الربح وتراكم رأس المال. وربما بقي اقتصاد السوق اقتصادا تابعا ومعتمدا اعتمادا كبيرا على علاقات الزبائنية أو على منطق المكاسب الريعية ولا ينشيء أي رأسمالية فعلية.
وبالمثل ليست الاشتراكية ونظام اقتصاد الدولة شيئا واحدا. فمن الممكن أن تعني الاشتراكية الاهتمام بقيم العدالة الاجتماعية مع تحقيق هذه العدالة كما فعلت الديمقراطيات الاشتراكية الأوروبية التي قادت مع الديمقراطية المسيحية مشروع إعادة إعمار أوربة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال برامج إجتماعية وسياسات ضرائبية وخدمات عامة ومعونات اجتماعية ساهمت بشكل كبير في إعادة توزيع الثروة لصالح قيم العدالة والمساواة من دون أن تمس آليات عمل السوق ولا أن تقضي على اقتصاد الرأسمالية.
المهم أن نؤمن أن التاريخ لا يكرر نفسه ولا يستنفد أو يستغرق في ما أبدعه. فهو منتج أبدي لصيغ وتركيبات وتوليفات لا نهاية لها هي أساس إبداعه. وعلينا وحدنا يتوقف أمر إخراج هذه التوليفات من رقادها وتكييفها مع الواقع الذي تستجيب لمعطياته. ولا يتطلب منا ذلك سوى أن نظل منفتحي الذهن مستعدين لتقبل الجديد واحرار الضمير.
التاريخانية وترف التفكير في الديمقراطية العربية
الحوار المتمدن-العدد: 1291 - 2005 / 8 / 19 - 11:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
في رده على مقال كنت قد كتبته في موضوع التمييز بين مفهومي الليبرالية والديمقراطية كتب الزميل عبد الرزاق عيد مقالا عنيفا بعنوان "النخب السورية وترف الاختيار بين الديموقراطية والليبرالية!" ( كلنا شركاء 8/8/2005 ) اعتبر فيه أن هذا التمييز هو من نوع الترف العقلي في بلد يعيش منذ أكثر من أربعين عاما تحت نير الشمولية والنظم الاستبدادية. والحجة الوحيدة التي يقدمها لتبرير موقفه من هذا التمييز الذي يندرج في مناقشة المسائل النظرية والاستراتيجية المتعلقة بعملية التحول الديمقراطي في سورية والبلاد العربية، هي أن "المجتمع السوري بحاجة، من منظور تاريخانية ماركس ذاته، إلى مرحلة انتقالية ليبرالية (عارية بلا لبوس) وبدون شروط بمعناها القاع ، الخام (الحرية كذات دون صفات ) ، بمعناها الطازج بدون أية منكهات ، تماما مثلما استلهمها الفكر الليبرالي العربي التنويري منذ بداية القرن العشرين من الكتاب الشهير لجان ستيوارت ميل "في الحرية" الذي لا يزال يمارس مرجعيته النظرية حتى اليوم ، حتى في المجتمع الأمريكي ذاته الأكثر تفننا وتفكها بأنواع الليبراليات القديم منها والجديد". فلا يملك المجتمع السوري المبتلي بالاستبداد ترف النقاش في موضوع الحرية ولا التفريق والتمييز ومن باب أولى كما يذكر في عنوان مقاله الاختيار بين الليبرالية والديمقراطية.
وهذا يفترض أن الليبرالية والديمقراطية آتيين إلينا على حصان التاريخ الأبيض من تلقاء نفسهما ومن المحتمل أن تؤدي اشتراطاتنا عليهما إلى تجفيلهما ومنعهما من الوصول. فعلينا أن نقبل بهما كما هما ولا نصعب الأمور علينا وعليهما. بل يفهم من كلامه أن مثل هذا التفكير بشروط تحقيقهما هو من قبيل التدلل أو حتى البطر الذي يؤدي بصاحبه إلى الخسارة لا محالة. وهذا يعني أن عبد الرزاق قد فهم أن معركتنا كانت ضد الليبرالية وما تعنيه من اعتراف بالحريات الأساسية وأن تمييزنا المفهومي لم يكن سوى ذريعة للجم هذه الحريات الفردية التي تعد بها الليبرالية باسم قيم لا حاجة إلى التذكير بها مثل المساواة والعدالة الاجتماعية.
والحال أن مشكلتنا ليست كما يعتقد عيد في تقليم أظافر الليبرالية السياسية التي تتجه إلينا ولا في رفضنا لها وإنما بالعكس في عدم قدومها أو صعوباته الجمة، مما يحتاج إلى عمل ضروري لتذليل العقبات التي تحول دون قدومها وتوسيع دائرة الاستقطاب الديمقراطي الذي يحتاج إليه بناؤها أكثر مما يحتاج إلى مديح ظلها أو الاختيار بين أشكالها. ولو كنا ضامنين لحركة التاريخ التلقائية التي تدفعنا نحو الليبرالية الديمقراطية ومؤمنين بها لأصبح التفكير النظري في إشكالية الديمقراطية ترفا عقليا بالفعل. بيد أن المشكلة هي أن الليبرالية والديمقراطية ليستا تحصيل حاصل ولا يمكن الوصول إليهما من دون السعي إليهما. فهما نتيجة عمل المجتمع وكفاحه النظري والعملي وليس ثمرة حتمية تاريخية. ومن الممكن في غياب مثل هذا العمل أو بسبب عدم اتساقه أن لا نعرف أيا منهما، أقصد لا الليبرالية الاقتصادية المحركة لاقتصاد السوق الرأسمالي المنتج ولا الديمقراطية المكونة لمواطنية حقيقية حرة ومتساوية. فلا شيء يمنع من أن يأتي الانفتاح الاقتصادي كما حصل حتى الآن في صورة إعادة بناء للسوق الاحتكارية العائلية أو المافيوية. كما لا شيء يمنع من أن يترافق اقتصاد السوق الاحتكارية المافيوية بديكتاتورية عسكرية أو مدنية. فكلاهما ثمرة بناء اجتماعي. وطبيعتهما مرتبطة بنوعية هذا البناء واتساقه النظري والعملي. ومن دون هذا العمل البناء لن يقدم التاريخ بذاته شيئا، لا رأسمالية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية، وإنما الفوضى والخراب فحسب.
ومن الواضح أنه من الصعب فهم ذلك إذا بقينا مشدودين إلى فكر ما قبل نهاية الحرب الباردة ولم نستوعب دروس الثورة المعرفية الجديدة التي قادت إليها أزمة الحداثة. وهذا ما يقودنا إلى جوهر موضوع الخلاف أعني الاختلاف المنهجي. فبعكس ما تشير إليه المدرسة التحديثية التاريخانية والوضعانية العربية التقليدية التي وجهت لها النقد في كتاب "المحنة العربية"، وهي المدرسة التي يجسدها على أفضل وجه عبد الله العروي ويسين الحافظ وكثير من التنويريين الحاليين الذين يستشهد بهم الزميل عبد الرزاق عيد، أنا لا أعتقد أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ مراحل متعاقبة حتمية. ولا ينبع ضعف التجربة العربية من أننا لم نمر بالمرحلة الليبرالية التي لا بد منها حتى نستطيع الوصول إلى المرحلة الاشتراكية. كما أنني لا أعتقد أن الأصل في مشكلة الاشتراكية كما كانت مطروحة في الستينات والسبعينات في بلادنا نقص التقاليد الليبرالية ولكن بالعكس تماما، انعدام شروط إعادة إنتاج الليبرالية "الأصلية" أو "الحقيقية" ذاتها. ولم تكن الاشتراكية التي طرحت نفسها بديلا عنها سوى التعبير المباشر عن هذه المشكلة والهرب من مواجهتها معا.
وهذا يعني أن الخطأ لا يكمن في تقدير أولوية المراحل وإنما في تاريخانية المراحل ذاتها. وما يستحق النظر في "بيان من أجل الديمقراطية" الذي صدر في السبعينات، ليس تقديمه مرحلة الديمقراطية على الاشتراكية وإنما نقد مفهوم الاشتراكية نفسه ومن ورائه مفهوم المراحلية التاريخية وبالتالي سعيه إلى إعادة طرح قضية التحول التاريخي من منظور رفض النماذج والمراحل الجاهزة لا رفض نظرية حرق المراحل وحدها. وفي هذه الحالة لن يمكن حل المهام التاريخية، أو المشاكل التي تطرحها الحداثة على المجتمعات الفقيرة والصغيرة والمتأخرة، من دون إعادة نظر جذرية في نظريات الفكر السياسي ومفاهيمه نفسها وفي الاستراتيجية الاجتماعية أيضا وبالتالي من دون قدرة على العمل من خارج الصيغ التي عرفتها الدول الليبرالية الأولى. فالتاريخ ليس تعاقبا للحقب المماثلة وليس تكرارا لنماذج واحدة وإنما هو إبداع مستمر لصيغ ونماذج وبالتالي لمفاهيم ورؤى واستراتيجيات جديدة مركبة تخترق المراحل والنماذج نفسها وتعيد تركيبها على أسس وحسب معايير مختلفة. وهذا ما يرهن طبيعة التغيير الحاصل في بلد ما بالكفاح النظري والعملي الذي يخوضه المجتمع وينفي عن كلاهما صفة الترف أو عدم اللزوم.
باختصار إن المشكلة لا تكمن في تهذيب الليبرالية السياسية وتشذيبها وإنما بالعكس في بناء الرؤية النظرية والعملية الضرورية لايجادها وتمهيد الطريق لقدومها. فهي لا يمكن أن تأتي من دون هذا الوعي الصحيح بشروط "قدومها" ذلك أنها لن تأتي من تلقاء نفسها ولكنها تحتاج كي تتحقق إلى عمل اجتماعي كبير أي انخراط المجتمع كله في عملية تحول نظرية وسياسية معا. فهي ليست مرحلة قادمة لا محالة بقوة التاريخ والطبيعة وإنما هي بناء اجتماعي قد يحصل وقد لا يحصل وقد ينجح وقد يخفق أيضا. لكن على جميع الأحوال لن تأتي من دون بناء فكرتها بشكل متسق وهو ما يتطلب الدقة في التفكير والتدقيق في المفاهيم وفي استراتيجية العمل والصراع لتذليل الطريق الموصل إليها.
وكما أنني لا أعتقد بوجود مراحل ثابتة في تاريخ مرسومة في ترسيمة تاريخية كونية سابقة على قيامها فأنا لا أعتقد أيضا بوجود مقدرات مجتمعية ثابتة أو نموذجية. فالمجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والعالمية. ونظرية المراحل التاريخية الماركسية الخماسية المعروفة تجريد عمومي محض. ولذلك قلنا عنها أنها ترسيمة فحسب ولا علاقة لها بالتاريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات. ففي الواقع لم يتطور أي مجتمع حسب المراحل الخمسة على الإطلاق. فالمجتعات التي تشهد تطورا نموذجيا لصيغة تنظيمية، أو لمرحلة من المراحل الماركسية، وتكون موطنها الأول تنطبع بها وتخفق عادة في التكيف مع مرحلة لاحقة ومن باب أولى في توليدها. ومتى ما مر وقت المرحلة على مجتمع انعدمت شروط إعادة إنتاجها كما هي ودخل هذا المجتمع في سياق مختلف يفرض عليه إعادة نظر جذرية بشروط تحقيقها حتى يستطيع استدراك المهام التاريخية المرتبطة بها. فالتصنيع الذي شهدته وتشهده بلدان العالم الثالث يختلف اختلافا جذريا في مضمونه وآليات تحقيقه وشروطه عما حصل في المجتمعات التي حدثت فيها الثورة الصناعية الأولى ولا يعطي الثمار ذاتها ولا الهياكل نفسها. وقد ارتبط تعميم الليبرالية الاقتصادية والنجاح في الثورة الصناعية في القارات الثلاث الفقيرة بنشوء نظم ديكتاتورية قوية لم تكن قادرة على البقاء والانجاز أيضا إلا بقدر ما كانت حليفة للولايات المتحدة والحلف الأطلسي عموما في الحرب الباردة. ولا شك في أن دخول بلدان جديدة صغيرة وفقيرة كالبلدان العربية في نظام الليبرالية الاقتصادية في عصر السوق العالمية والعولمة وفي عصر الثورة التقنية والعلمية لن يتم بالشروط اليابانية والصينية ذاتها ولن يقدم النتائج السياسية والثقافية نفسها التي قدمها للدول التي دخلت فيه في عصر الثورة الصناعية الأولى والسوق الوطنية. وكما أنه لا توجد في نظري مراحل مماثلة وثابتة تمر بها الشعوب أو تفرض نفسها على الشعوب من دون إرادتها ومن دون عملها، لا مشاعية ولا عبودية ولا إقطاعية ولا رأسمالية ولا اشتراكية، كذلك لا توجد في نظري في التاريخ الاجتماعي حتميات صارمة. ومن الممكن لبعض المجتمعات أن تموت وتزول من الوجود أو أن تنحل كمجتمعات وتذوب في غيرها قبل أن تعرف الليبرالية أو الديمقراطية.
ومن هنا لم يذهب "بيان من أجل الديمقراطية" مذهب القائلين بضرورة المرور بالمرحلة الليبرالية كما ذهب العروي ولكنه انتقد مفهوم الاشتراكية نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة لكتاب الخيار الديمقراطي في سورية الذي سعى إلى تمييز فكرة السوق داخل الرأسمالية كي يعيد تفكيك مفهوم الليبرالية نفسه. فهما لا يتحدثان عن مرحلة تاريخية حتمية أو ضرورية ينبغي التسليم لها أو بها وإنما عن كفاح المجتمعات بفئاتها المختلفة من أجل بناء نظام إجتماعي يحترم الإنسان، أي بناء النظام المدني الأساسي الذي يمكن المجتمعات من إنجاز جميع "مهام" المراحل التاريخية التي أخفقت من قبل في تحقيقها، لكن في إطار إبداعي أي تركيبي يدمج بين هذه المهام المختلفة وحسب جدول أعمال خاص بها وبتاريخها الذاتي، واللحاق بالمسيرة التاريخية العامة والمتواصلة. فلا توجد مراحل متعاقبة هنا ولكن صيغ تركيبية تخترق المراحل وتتجاوزها وتعيد صياغة المهام وتجدد فيها وتختصر منها. ولا توجد حتميات تاريخية وإنما رهان على وعي البشر أنفسهم وكفاحهم. وهذا هو الذي يميز مفهومنا للديمقراطية، التي تقوم على اجتهاد المجتمعات وجهدها وترتبط بهما، عن مفهوم الليبرالية التي تفرض نفسها كمرحلة تاريخية تسبق الاشتراكية وتؤسس لها كما توحي به بعض تأويلات الماركسية المتأخرة ، وهو كذلك الذي يميز منهج النقد والابداع التاريخي عن منهج التاريخانية التبسيطية والتجريدية. فالمراحل التاريخية من وحي التاريخ النظري أما النظم الاجتماعية الحية فهي من صنع المجتمعات وثمرة كفاحها. ولذلك فإن صلاحها يرتبط بصواب تفكيرها وحسن سياساتها. ويخشى على المجتمعات التي لا ترى في الجهد النظري النقدي سوى إضاعة للوقت ومعارضة للتاريخ أن لا تعرف من حركة التحول الاجتماعي سوى الاستقرار على تلك النماذج الدنيا من التنظيم الاجتماعي التي لا تعتمد معيارا للتراتبية وتقدير المسؤولية سوى معيار العنف وإرادة القوة. وهو ما يسود اليوم مجتمعاتنا على مستوى الدولة ومستوى النخب الاجتماعية وما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة تحكم علينا بأن نأكل بعضنا البعض وتحرمنا من إطلاق أي ديناميكية تاريخية إبداعية.