أنعش انهيار جدار برلين وإعلان نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، الآمال في انتفاء الدافع للحروب والنزاعات الدولية واستعادة الامم المتحدة مركزها المتقدم والتفرغ الدولي لمعالجة مشاكل التنمية والفقر والبيئة والأمراض التي تهدد بكوارث إنسانية وتزعزع استقرار الدول في أكثر من منطقة. لكن سرعان ما خاب أمل العالم في قيام مثل هذا النظام العالمي الجديد بعد أن برزت إرادة القوة والسيطرة الاحادية للولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا السياق جاء هجوم ١١ ايلول على مركز التجارة العالمية ليؤكد حقيقتين : من جهة أنه لم تعد هناك دولة مهما كانت قدرتها بعيدة عن تلقي آثار ما يحصل على مستوى المعمورة، وأن مصائر الدول أصبحت مترابطة، ومن جهة ثانية ليقدم ذريعة لقادة الولايات المتحدة ليعززوا خيار القطبية الأحادية بدل الانتقال من القطبية الثنائية إلى عالم متعدد الأقطاب. فقد استغلت واشنطن ذريعة الحرب ضد الارهاب التي تعرضت لها من أجل إعطاء شرعية لانتزاعها قيادة العالم وتمسكها برسم اجندة السياسة العالمية. وفي سبيل تأكيد هذه القيادة خاضت الولايات المتحدة حرب العراق وزاد اعتمادها على القوى الحليفة لقطع الطريق على ولادة قيادة دولية قائمة على التعاون والتشاور بدل المنافسة والنزاع.
أنعش انهيار جدار برلين وإعلان نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، الآمال في انتفاء الدافع للحروب والنزاعات الدولية واستعادة الامم المتحدة مركزها المتقدم والتفرغ الدولي لمعالجة مشاكل التنمية والفقر والبيئة والأمراض التي تهدد بكوارث إنسانية وتزعزع استقرار الدول في أكثر من منطقة. لكن سرعان ما خاب أمل العالم في قيام مثل هذا النظام العالمي الجديد بعد أن برزت إرادة القوة والسيطرة الاحادية للولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا السياق جاء هجوم ١١ ايلول على مركز التجارة العالمية ليؤكد حقيقتين : من جهة أنه لم تعد هناك دولة مهما كانت قدرتها بعيدة عن تلقي آثار ما يحصل على مستوى المعمورة، وأن مصائر الدول أصبحت مترابطة، ومن جهة ثانية ليقدم ذريعة لقادة الولايات المتحدة ليعززوا خيار القطبية الأحادية بدل الانتقال من القطبية الثنائية إلى عالم متعدد الأقطاب. فقد استغلت واشنطن ذريعة الحرب ضد الارهاب التي تعرضت لها من أجل إعطاء شرعية لانتزاعها قيادة العالم وتمسكها برسم اجندة السياسة العالمية. وفي سبيل تأكيد هذه القيادة خاضت الولايات المتحدة حرب العراق وزاد اعتمادها على القوى الحليفة لقطع الطريق على ولادة قيادة دولية قائمة على التعاون والتشاور بدل المنافسة والنزاع.
في كتابه «العرب والعالم بعد 11 سبتمبر»، يحاول برهان غليون استقراء وتحليل طبيعة التحولات التي حدثت في العالم بعد مرور أربع سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، طارحاً أسئلة مهمة حول أثر هجوم سبتمبر عليها، وحول تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على تطور الوضع السياسي في أميركا نفسها، وبالتالي فيما وراء الوضع الجيوسياسي العالمي، وتحديد نوعية الاستجابات الدولية لها، وفي مقدمتها استجابة العالم العربي، والبحث في شروط وإمكانية الردّ الفعال عليها.
ويمكن القول أن الحادي عشر من سبتمبر، بوصفها حدثاً، يشكل نقطة تحول في تاريخ العلاقات الدولية، وربما في تاريخ النظم السياسية ذاتها، إذ يرى غليون أن هذا الحدث قطع الطريق على نشوء عالم متعدد الأقطاب، وفتح طريقاً آخر لطفرة حقيقية في حقل العلاقات الدولية، جعلت من كلمة إمبراطورية الاسم الجديد للولايات المتحدة الأميركية.
كما تجدد الرهان التقليدي على الدولة ودورها المركزي في حياة المجتمعات واستقرارها بعد أن قفزت الترتيبات الأمنية إلى مقدمة الأولويات السياسية الوطنية والعالمية. وأسوأ ما نجم عن هذا التحول، وارتبط به، هو تراجع معايير الديمقراطية، وتدهور ممارستها في العديد من البلدان المركزية.
يضاف إلى هذا النكسة الكبيرة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص قطاع التقنية الذي اعتمد على النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة بشكل رئيسي. وكذلك التوتر والتصدع والانقسام في مجال العلاقات الدولية بين الدوائر الثقافية والحضارية.
إن ما حدث في أميركا، في الحادي عشر من سبتمبر 2001، كان تعبيراً عن عالم واقعي ومشهدي مغّيب، بكل خيوطه وآلياته، من التخطيط إلى التنفيّذ مروراً بالأهداف والغايات وصولاً إلى النتائج والعواقب، فالحدث عالمي بكل ما يحمل من معان وتجليات، إذ طال البلد المهيمن الأول على سياسة ومقدرات العالم، طاله من الداخل، المركزي منه والحساس، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.
ولقد أنتجت سياسات أميركا، منذ الربع الأخير للقرن العشرين وحتى أيامنا هذه، أحداثا معولمة، لم يتوقع راسموها انقلاب أي منها عليهم، إذ كان ذلك خارج إطار التغطية الأمنية والتكنولوجية والعسكرية، انطلاقاً من فهم يقوم على اعتبار أن العدو "المتخيل" يأتي على الدوام من «الخارج» الأميركي، هناك حيث يعيش الآخر ملعوناً بلوثته الدينية والاثنية والقومية.
وقد كان اللاعبون الأساسيون في البنتاغون والبيت الأبيض ومن في حكمهم، يتزودون بالكثير من الحقائق المفصلية حول أعداء العالم الحر «الحقيقي». هذا العدو المتخيل كان دوماً يُخلق حين تلحّ الحاجة إليه، وهو اليوم إرهابي مطلق بعد أن كان شريراً ومارقاً وخارجاً عن القانون الدولي وفق المعيارية الأميركية.
غير أن حدثاً بحجم ما جرى في نيويورك وواشنطن يفترض مراجعة الخطط والسياسات الاقتصادية والعسكرية، ومعرفة الأسباب الكامنة وراء ما حدث، ويفترض عدم الوقوع ثانية في التضليل المحترف الذي مارسته مراكز القرار في أميركا، والتضليل الذي روجته وسائل الإعلام الأميركية المهيمنة مرات عديدة في أحداث عالمية جسام، وفي حروب جلبت الويلات لكثير من شعوب العالم.
وما حدث في أميركا، بوجه ما، سوى معادل واقعي لسياساتها الخارجية في العالم، ولن تستطيع المبادئ البراغماتية الجديدة، ولا نصيّتها المزعومة، أن تأتي بالحقيقة من «اللا واقع»، كون هذا «اللا واقع» هو في أميركا، أي في أذهان معظم الأميركيين، بمثابة مكان «تخيلي»، جرت عمليات خلقه حتى غدا أي مكان يقع خارج حدود أميركا، وربما خارج إسرائيل وبعض الدول الأوروبية.
مع العلم أن هنالك شعوباً وبلداناً لا يمكن بالنسبة إلى الأميركيين تخيلها على أنها "حقيقية"، ومع ذلك فإن أممها تملك أحاسيس ومشاعر وطنية، وفيها أطفال ورجال ونساء يموتون كل يوم بسبب سياسات أميركا ضد قضايا بلدانها وشعوبها.
ويرى برهان غليون أن الإدارة الأميركية لم تكن بحاجة لهجوم سبتمبر حتى يتبلور لديها شعور عميق بشرعية فرض إرادتها على العالم، لكن من المحزن أن يجري تحليل هذا الحدث بأفكار قديمة، فالملاحظ أن أفكار الصراع والفصل الميتافيزيقي سيطرت على أغلب مناهج التحليل، بل وصادرت نزاهة التحليل وأفقدته علميته، حيث تحدث البعض.
خصوصاً من تأثروا بالأفكار القديمة ـ الجديدة للصراع بين الغرب والشرق ــ عن صراع حضاري بين الإسلام والغرب، بين حضارة الغرب المتقدم وحضارة الشرق المسلم أو الشرق المتخلف، أو كما بسّط الرئيس بوش حملته ضد الإرهاب حين اعتبرها معركة بين الخير والشر، فيما اعتبر البعض أحداث سبتمبر هجوماً على العالم المتحضر من طرف البرابرة.
وذهب آخرون إلى اعتبار ما جرى في أميركا مرده العداء لأميركا، لكن لماذا؟ فيما صوره بعضهم بمثابة إخفاق لتقبل الحداثة في العالم الإسلامي.
ويعتبر غليون أن هجوم سبتمبر قدم للإدارة الأميركية فرصة لا تعوّض، كي تفرض نفسها على العالم، لذلك أرادت لحربها على العراق عام 2003 أن تكون مناسبة لوضع أسس النظام الدولي الجديد، أي لفرض قاعدة الخضوع لإرادة الولايات المتحدة الأميركية القوية، والقبول بما تقرره من أهداف وترتيبات.
لذلك فالتاريخ لم يعرف صراعاً بين الحضارات حول القيم والأخلاق، ولا أحد يمكنه أن ينكر أن الحروب والصدمات بين الشعوب والأمم لم تكن في يوم من الأيام حول الحضارات ومبادئها، بل كانت صراعات مصالح من أجل السيطرة والنفوذ والهيمنة، وما صورة العالم اليوم سوى تعبير عن الاختلالات الاقتصادية والسياسية التي تراكمت ومست حياة الملايين من البشر في العالم، وعن مسعى أصحاب السطو والنفوذ في تضييق الفضاء المشترك الكون الذي يتسع للجميع.
أما الخطابات التي تصدر اليوم عن النظرة الصراعية القديمة فإنها تستند إلى خطاب أحادي شمولي حول التاريخ، يؤسس لتاريخانية أخروية جديدة، ولقيامة أخروية.
ويلتقي خطاب الصراع، بوصفه خطاباً بلاغياً للحدود، مع أصوليتين: إنجيلية جديدة ترفع راية النموذج الأميركي وإسلامية طالبانية ترفع راية الجهاد، حيث تنزع كل منهما نحو انغلاق كليّ، ينتفي فيه التنوع والاختلاف، أي كل ما يخالف النموذج الأخروي الخالد والمؤسس لما بعد القيامة.
وقد دشنت الولايات المتحدة الأميركية استراتيجية جديدة، تنهض على الحرب الكونية ضد الإرهاب، وقُدر للعالم العربي أن يحتل المسرح الرئيسي للعمليات، وأن يكون احتلال العراق المدخل إلى إعادة ترتيب الشرق الأوسط، لذلك يعتبر برهان غليون أن ضرب العراق لم يكن سوى مقدمة لمحاصرة العالم العربي، وفرض الطاعة العمياء على جميع الدول العربية، بما يعنيه من إلغاء أي هامش مبادرة لدى حكوماتها تجاه واشنطن.
وقد أخطأ القادة العرب حين اعتقدوا أن الولايات المتحدة ستحقق لهم ما يطلبون لمجرد أنهم أعطوها الغطاء السياسي للحرب على العراق. وأخطأوا كذلك حين اعتقدوا أنها قد تابت، وأصبحت أكثر ميلاً لتطبيق قاعدة الحق والقانون في الشرق الأوسط، ويخطئون أكثر إذا اعتقدوا أن الولايات المتحدة ستساعدهم على تصفية حركات الإرهاب.
ذلك ان قانون الإمبراطورية يرتكز إلى أنه إن كان من غير الممكن ضمان الاستقرار الذي يضمن المصالح الإمبراطورية، فإنه ليس هنالك وسيلة أفضل لتأكيد القوة وتحقيق السيطرة من نشر الفوضى وتعميمها.
إذن، فالواقع مختلف عما تتمناه القيادات العربية، فالتصريحات المطمئنة للمسؤوليين الأميركيين تهدف إلى تنويم الرأي العام عن النتائج الحتمية والمتطلبات المنطقية لحملة ما يسمى الحرب على الإرهاب إذ يعتقد المسؤولون في الولايات المتحدة الأميركية وقسم كبير من المسؤولين الغربيين أن العلاقة وثيقة، بل أكثر من وثيقة بين الإرهاب والإسلام.
وأن العرب يتحملون قسطاً رئيسياً من المسؤولية عن الإرهاب المتفجر في العالم المعاصر، حيث أن أنظمتهم ترعى الإرهاب، وتستخدمه في سياساتها الداخلية والخارجية. وهم مسؤولون كذلك، شعوباً وأفراداً، لأنهم يؤمنون بالعنف ويشجعونه ويؤيدون من يقوم به.
ويعتبر برهان غليون أن من الخطأ أن تتوقع الدول العربية موقفاً أميركياً إيجابياً منها، قائماً على الحوار والتعاون، وهذا يدل على هشاشة الرؤية والممارسة الاستراتيجية العربية، بل وغيابها، نظراً لأنها حلمت بان تقوم الولايات المتحدة بإيجاد حلول لمشاكلها المختلفة، بما في ذلك قضية فلسطين.
وبالتالي لم ترَ النخب العربية الحاكمة الطوفان الأميركي قادماً، ولم تحضر لمواجهته شيئاً. وعليه يطالب برهان غليون باسترجاع الصدقية الداخلية والخارجية، من خلال تغيير السياسات القائمة، وتحقيق التفاهم الوطني والتعاون الإقليمي، والتحسس بمشاكل الآخرين في العالم، وتفهم مصالحهم وهومهم، والإصغاء إلى صوت الضمير، وعدم الرد على الخطأ بالخطأ، ولا على تحدي القانون الدولي بتحدي القانون.
إن هذه الخيارات تشكل اليوم الإطار الوحيد لتحرير الروح وبناء المواقف الإيجابية من العالم ومن الذات أيضاً، وهي كفيلة بإطلاق حركة التغيير، فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وإعادة تفعيل ديناميات الحداثة ودفع عجلة التطور العلمي والتقني والأخلاقي، ومن ثمّ اكتساب الوسائل التي تمكننا من إقامة نظم ديمقراطية مستقرة قابلة للحياة وللتحول إلى قطب مستقل للتنمية الإنسانية والمشاركة في عالم اليوم.
عمر كوش