بعثت نشاطات المنتديات الفكرية والاجتماعية التي انتشرت في إطار ما سمي ربيع دمشق، وتنامي روح النقد لتراث الديكتاتورية الدموية الثقيل، بعد رحيل حافظ الأسد عام ٢٠٠٠، الأمل في فتح آفاق التحول الديمقراطي السوري على مصراعه. لكن منطق القمع الذي قام عليه النظام القائم سرعان ما وضع حدا للنهضة السياسية والفكرية، وألقى بمعظم قادتها وملهميها في السجون لسنوات طويلة.
في هذا الكتاب الذي كتب بهدف الحفاظ على شعلة ربيع دمشق، وما ارتبط به من نهضة فكرية وسياسية قوية، حاول الكاتب أن يرد بشكل تفصيلي ومنهجي على الاعتراضات والحجج والذرائع المختلفة، التي كانت توجهها أوساط مختلفة، بعضها مرتبط بالديكتاتورية الدموية وبعضها الآخر بعيد عنها، يعكس مخاوف أوساط متعددة إسلامية ويسارية معا، على راهنية الخيار الديمقراطي. وكان من الطبيعي أن يتعرض الكتاب إلى القضايا الأكثر إثارة للجدل في مسألة التحول الديمقراطي، وفي مقدمها انعكاس الديمقراطية على المسألة الوطنية بما تشمله من الحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها وسيادتها، واستمرار التعبئة ضد تحدي الاحتلال الاسرائيلي للأراضي السورية والفلسطينية، ومسألة الخوف من القوى الاسلامية المتطرفة والمعتدلة معا، ومن سيطرة الكثرة العددية وعلاقتها بمصير الأقليات الدينية والقومية، ودور النخب الاجتماعية، ومضمون الخيار الديمقراطي وآفاقه ومتطلباته، وطبيعة النظام القائم وردود أفعاله واستعداده للإصلاح والرد على التطلعات الاجتماعية، والتحالفات الإقليمية والدولية، ومصير الديمقراطية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وأخيرا تبيان التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها مثل هذا الاختيار.
في مناقشته للطروحات المختلفة المعادية للديمقراطية أو الخائفة منها، يقدم الكتاب رؤية واضحة وبسيطة معا، ومعالجة دقيقة لأهم المعضلات التي تواجه مسيرة التحول الديمقراطي في سورية والبلاد العربية، على صعيد الدولة والمجتمع والثقافة، تلك المعضلات والقضايا التي شغلت السوريين والعرب عموما ولا تزال تشغلهم في بحثهم عن حياة سياسية وأخلاقية جديدة تؤسس معنى المسؤولية الفردية والجماعية، وتفتح باب المبادرة والعمل الجماعي أمام الشعوب، وتنهي حقبة الاستبداد الطويل.
لا يقلل الكتاب من حجم الصعوبات والعقبات، الداخلية والخارجية، التي تقف أماما مشروع التحول الديمقراطي في سورية، لكنه يشير بصورة واضحة إلى أن هذا التحول لم يعد خيارا بين خيارات، إذ سيكون البديل له لا محالة الفوضى والانفجار.
بعثت نشاطات المنتديات الفكرية والاجتماعية التي انتشرت في إطار ما سمي ربيع دمشق، وتنامي روح النقد لتراث الديكتاتورية الدموية الثقيل، بعد رحيل حافظ الأسد عام ٢٠٠٠، الأمل في فتح آفاق التحول الديمقراطي السوري على مصراعه. لكن منطق القمع الذي قام عليه النظام القائم سرعان ما وضع حدا للنهضة السياسية والفكرية، وألقى بمعظم قادتها وملهميها في السجون لسنوات طويلة.
في هذا الكتاب الذي كتب بهدف الحفاظ على شعلة ربيع دمشق، وما ارتبط به من نهضة فكرية وسياسية قوية، حاول الكاتب أن يرد بشكل تفصيلي ومنهجي على الاعتراضات والحجج والذرائع المختلفة، التي كانت توجهها أوساط مختلفة، بعضها مرتبط بالديكتاتورية الدموية وبعضها الآخر بعيد عنها، يعكس مخاوف أوساط متعددة إسلامية ويسارية معا، على راهنية الخيار الديمقراطي. وكان من الطبيعي أن يتعرض الكتاب إلى القضايا الأكثر إثارة للجدل في مسألة التحول الديمقراطي، وفي مقدمها انعكاس الديمقراطية على المسألة الوطنية بما تشمله من الحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها وسيادتها، واستمرار التعبئة ضد تحدي الاحتلال الاسرائيلي للأراضي السورية والفلسطينية، ومسألة الخوف من القوى الاسلامية المتطرفة والمعتدلة معا، ومن سيطرة الكثرة العددية وعلاقتها بمصير الأقليات الدينية والقومية، ودور النخب الاجتماعية، ومضمون الخيار الديمقراطي وآفاقه ومتطلباته، وطبيعة النظام القائم وردود أفعاله واستعداده للإصلاح والرد على التطلعات الاجتماعية، والتحالفات الإقليمية والدولية، ومصير الديمقراطية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وأخيرا تبيان التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها مثل هذا الاختيار.
في مناقشته للطروحات المختلفة المعادية للديمقراطية أو الخائفة منها، يقدم الكتاب رؤية واضحة وبسيطة معا، ومعالجة دقيقة لأهم المعضلات التي تواجه مسيرة التحول الديمقراطي في سورية والبلاد العربية، على صعيد الدولة والمجتمع والثقافة، تلك المعضلات والقضايا التي شغلت السوريين والعرب عموما ولا تزال تشغلهم في بحثهم عن حياة سياسية وأخلاقية جديدة تؤسس معنى المسؤولية الفردية والجماعية، وتفتح باب المبادرة والعمل الجماعي أمام الشعوب، وتنهي حقبة الاستبداد الطويل.
لا يقلل الكتاب من حجم الصعوبات والعقبات، الداخلية والخارجية، التي تقف أماما مشروع التحول الديمقراطي في سورية، لكنه يشير بصورة واضحة إلى أن هذا التحول لم يعد خيارا بين خيارات، إذ سيكون البديل له لا محالة الفوضى والانفجار.
"الاختيـار الديموقـراطي في سـوريـا" لبـرهـان غليـون
بشير العريضي : النهار 14/12/2003
منذ امد ليس بالقصير لم أقرأ كتاباً تفاعلت معه مثل كتاب الدكتور برهان غليون، "الاختيار الديموقراطي في سوريا" (اعداد وحوار لؤي حسين، دمشق، بترا للنشر والتوزيع 2003) بالرغم من ترداد هنا وهناك أقتضته طبيعة المقابلة وتدوينها. واقتراحي على الدكتور غليون ان ينقح الطبعة الثانية التي ولا شك ستظهر قريباً وفي اثرها طبعات وطبعات لأننا في العالم العربي عامة وفي سوريا ولبنان خاصة عندنا نهم شديد للديموقراطية النابعة من الارادة الشعبية والهادفة لمصلحة كل من الشعبين في بلديهما خلاف الديموقراطية الابتزازية التي يلوح الرئيس الاميركي بفرضها لتقضي حسب ادعائه على الارهاب في سوريا تدريبا كان ام مروراً ام تنشئة.
هذا في الوقت الذي صرح الرئيس بوش نفسه وعدد من المسؤولين الاميركيين بأن سوريا اثر احداث الحادي عشر من ايلول قدمت خدمات جليلة ومعلومات مهمة للولايات المتحدة لمحاربة الارهاب. فهل اعترض شارون على التصريحات الودية نحو سوريا حتى غير بوش رأيه مذكرا اياه بمصلحته الانتخابية التي اصبحت بعد مقتل الرئيس كينيدي هي العامل المقدم على المصلحة الوطنية لاميركا، كما يقول كميل نوفل مترجم الرؤساء الاميركيين في كتابه الجديد (الرأي العام 10/7/2003)؟ ام ان الاستراتيجيا الاميركية - الاسرائيلية تقضي بأثارة العرب وخلق المشاكل لكل بلد عربي لصرف اهتمامه عن سياسة شارون في ذبح الفلسطينيين وهدم منازلهم واتلاف حرثهم وزرعهم والبقاء في الجولان؟ وكيف لا يتأثر السوريون المعروفون بقوة عروبتهم بهذه المآسي التي يلحقها شارون بالفلسطينيين في الوقت الذي اثارت فيه حتى رؤساء الاستخبارات الاسرائيلية؟
الم يقتنع الصهاينة في واشنطن وتل ابيب حتى الآن بأن الموقف السوري المتمسك بالحق بتحرير الجولان والمساند لحق الفلسطينيين في تحرير بعض اوصال وطنهم هو موقف يؤيده جميع العرب والاكثرية بين شعوب العالم بمن فيهم اللبنانيون الذين يتطلعون فيه الى يوم لا تحفظ فيه تجاه سوريا، يوم الانسحاب الكامل من لبنان عسكرياً وسياسياً وخلافه، سيما ان لبنان قد شب عن الطوق بشهادة قيّمة من الرئيس بشار الاسد نفسه الذي قال ان الجيش اللبناني اصبح قادراً على حفظ الامن وان المجتمع اللبناني اصبح معافى (قناة "العربية" الفضائية 9/6/2003).
ومهما حاول بعض العرب اجادة النفاق حول الوجود السوري في لبنان فان الحقيقة هي انهم لا يرون في هذا الوجود خلاف ما ترى سوريا في اي افتئات على سيادة اية دولة بصرف النظر عما اذا كان المفتئت قريباً او غريباً. فكما يرفض العرب باجماع دولة فلسطينية ناقصة السيادة يرفضون دولة لبنانية ناقصة السيادة. وما يدركه الاخوة السوريون تمام الادراك هو حقيقة الوصوليين المنافقين اكلة الجنبة في لبنان. وحكمة السوريين اعمق من ان لا تدرك هذه الحقيقة. وقد بدأ اعتماد الحكمة جلياً بالسماح بنشر كتب مثل كتاب الدكتور غليون الذي يشكل تداوله في سوريا منعطفاً قومياً وانسانياً وقانونياً رائعاً. وفي حال الاخذ بما تضمنه من توصيات فأن ذلك سوف يدفع سوريا عشرات السنين للامام وسيقوي من اواصر الاخوة بين السوريين واللبنانيين، اذ عندئذ سيكون التعبير عنها حراً اي مخلصاً لانه قائم على المساواة وليس التبعية.
يعالج الكتاب نقاطا عدة بينها الكثير من التشابك سلبياً وايجابياً مثل العلاقة بين الديموقراطية والاشتراكية سياسياً واقتصادياً والعلاقة بين الديموقراطية والاصولية الاسلامية والتوازن الملائم بين الحرية والمساواة (...).
خلال مراجعتي لما حواه كتاب الاختيار الديموقراطي في سوريا سأتجاوز ما استطعت البحث في المفاهيم والنظريات وتحليل الفكر العقائدي مكتفياً بما يعتبره نقاط ضعف تعتور المجتمع السياسي السوري وما يراه من حلول آنية وبعيدة المدى. وتمشياً مع حرصه المخلص على العلم والموضوعية ووعيه للمعطيات السورية، سأعلق على كتاباته من وحي العلم والحرية واقتناعاتي، مشدداً في الوقت ذاته على ان العلاقات المميزة بين الشقيقين لبنان وسوريا عديدة وفي طليعتها تطلع الشعبين لتمتين اواصر التعاون والولاء بين الدولة والمواطن بصرف النظر عن الموالاة والمعارضة.
غليون الكاتب السوري يقترح ما يناسب وطنه سوريا والمعلق اللبناني يقترح ما يناسب وطنه لبنان دون تدخل اينا بشؤون وطن الآخر خصوصا ان معظم علل العالم العربي تعود الى تدخل عربي في شؤون عربي آخر باسم العروبة، تلك المتهمة البريئة، ولا يمكن أي عربي ان يخلص للعروبة اذا لم يكن مواطناً صالحاً في دولته. والولاء الاساسي هو للمجتمع المدني القائم. فان ضاق الولاء فليس على حساب الاتساع وان اتسع فليس على حساب الضيق، بل تكامل يقوم بين متساويين حقوقاً وواجبات.يعالج غليون موضوع الايديولوجية او بالتحديد الاشتراكية من خلال فهمه لتطور الفكرة في الغرب والازمة التي تتعرض لها الاشتراكية. وفي رأيه ان ازمة الاشتراكيات في العالم العربي متأثرة بالازمة العالمية. ويخلص الى القول "ولا نحتاج للحسم في امر الاشتراكية او الديموقراطية، بل ولا بلورة سياسات اقتصادية ناجحة وفعالة، حتى نسعى الى حد ادنى من التطبيق السليم والنزيه للقانون والقضاء، والى التخلي عن منطق العسف والاستبداد والاعتداء على حريات الناس وحقوقهم" (ص 14).
وبعد ان يشرح الكاتب مع شيء من التفصيل ما يتعلق بتحديد مفهوم الاشتراكية وموقف اليمين واليسار من القضايا الراهنة يقول: "فجوهر عقيدة اليمين السوري المحافظ والرجعي اليوم، سواء داخل الدولة او في محيطها وعلى هامشها، هو رفض الديموقراطية بكل معانيها والدفاع عن الوضع القائم، والسعي الى الحفاظ على الامر الواقع، ورفض اي تعديل في النظام المجتمعي والسياسي القائم، وينضوي تحت راية هذا التيار افراد ينتمون الى الفئات المسيطرة على السلطة وعلى موارد الدولة المادية والمعنوية، وهم يدركون ان اي تعديل في النظام المجتمعي يعني لا محالة تهديد الامتيازات المكرسة، والسيطرة الشاملة على موارد الدولة وحق التصرف بها كما لو كانت ملكية خاصة شرعية، وليس لدى هؤلاء اي سبب كي لا ينزعوا، في سبيل الدفاع عن امتيازاتهم هذه، الى استخدام وسائل العنف وتبرير ديكتاتورية الاجهزة، والعمل بجميع الوسائل من اجل تدعيم نزوعات النظام الفاشية" (ص 26).
اما معالجته مواقف اليسار السوري وبرامجه ونشاطه الاصلاحي فلا تمثل حقيقة الواقع بل تفتقر الى الموضوعية، خاصة ان حزب البعث الحاكم يعتمد الاشتراكية كشعار اساسي له. ودون اي تعرض للفكر اليساري السوري فانني اعتقد ان اليسار العربي عموما نشأ كرد فعل على الفكر التسلطي الاستعماري او بمثابة "موضة" سياسية اجتماعية اقتصادية عرفها القرن العشرون كضرورة من ضروريات التحدث او التغرب، ولنا في فرح انطون وشبلي الشميل وسواهما مثل على ذلك. ولو اخذنا وضع اليسار في لبنان لوجدنا بانه اتخذ منحيين بصرف النظر عن دساتير الاحزاب ونظرياتها: المنحى المناوىء للغرب بمبادئه الاقتصادية واستغلاليته، وفي ما بعد بمؤزارته اسرائيل وما استدعت محاربتها من تحالف مع المعسكر اليساري. والمنحى الثاني اعتقاد جمهور كبير من المثقفين بان الفكر اليساري ينسجم والتطلعات الثقافية. وبين هذا وذاك نشأ الحزب الاشتراكي الذي لا يختلف عمليا عن بقية الاحزاب اللبنانية التي هي تجمعات الانصار حول السياسي التقليدي الذي يتمتع باحتكار التعبير عن مواقف حزبه بصرف النظر عن مواءمتها ام عدم مواءمتها للفكر الاشتراكي. وليس لبنان شاذاً عن القاعدة بل بصورة عامة ان تصنيف الاحزاب اليسارية في العالم العربي لا يتبع الخطوط العقائدية المرسومة في الغرب بل انها في الغالب مزيج من يسار متطرف ومعتدل وفاشية حيث الحزب يفرض نفسه على المجتمع كما يسيطر الزعيم على حزبه. انها ديكتاتورية مغلفة بتنظيم حزبي. واليمين لا يختلف في تسلطيته واستغلاله الاقتصادي والسياسي عن اليسار بل قد يتنافسان في السوء.
يقول غليون: "وبالتأكيد عندما نتحدث اليوم عن التحويل الديموقراطي في بلد كسوريا فليس الهدف تطبيق وصفات جاهزة ولا اختراع ديموقراطية من العدم... ولكن الهدف هو تأكيد ضرورة التغيير وبناء هذا التغيير على مبادىء انسانية سليمة وناجعة، او بالاحرى التفكير بالتغيير الذي يفرض نفسه على الجميع ويقر بحتمية الجميع، على اسس ومن منطلقات سياسية واخلاقية صحيحة، اعني ديموقراطية" (ص 68) ويضيف شارحاً هذه النقطة بقوله: "ان المضمون العميق للبرنامج الديموقراطي في سوريا، ليس بناء الديموقراطية، بل وضع حد للنظام الشمولي... وفي مقدمها التصدي للفقر والتفاوت الطبقي والاستقلال السياسي والثقافي والتنمية الاقتصادية وبناء الانسان او الفرد الحر والمبدع... برنامج عمل متعدد الاوجه لتحرير الانسان في سوريا... ولا قيمة للديموقراطية في هذا البرنامج الوطني الا بقدر ما هي مفتاح لتكوين الانسان القادر على حل مشاكله بنفسه... فليس هناك شك اليوم ان تدهور الوضع السوري، في جميع المجالات، لم يكن سوى نتيجة عملية شل المجتمع وتحييد عناصره وتهميشه واخراجه من دائرة القرار... وتركه فقيراً يائساً وبائساً معاً" ( ص 72).
عند تحليل ما يقوله غليون ومحاولة مقارنته بالاوضاع في لبنان، او بالاحرى ربطه بها لوضوح التأثر، نجد ان ما يشكو منه الشعب في سوريا يشكو منه الشعب اللبناني مضافا اليه وقوع الحكم في لبنان تحت تأثير القرار السوري الذي يقول غليون فيه بانه ادى للتهميش والبؤس واليأس، مما يعني بأن ما تشكو منه سوريا تتضاعف الشكوى منه في لبنان حيث لا تفكير الا بالمناصب وما تجلبه من المكاسب المتراوحة بين الاعتداء على الدستور والقانون والقضاء وشراء ضمائر الناخبين للوصول الى السلطة لشراء الساسة وبيع الشعب. اوَليست الانتخابات الاخيرة اسطع مثل على ذلك خاصة انتخابات العاصمة؟
فعندما يقول غليون بوجوب توفير الحكم لتكوين الانسان القادر على حل مشاكله بنفسه فانه قطعا يعني لبنان الذي يعامل حكامه بارادتهم وشعبه بالاكراه، وكأن هذا البلد قاصر وغير جدير بحكم نفسه بنفسه! وكمواطن لبناني ينتابني الكثير من الخجل عندما يسألني احدهم في الكويت حيث اقيم وابتسامة صفراء تعلو وجهه، عما اذا كنت قرأت في الصحافة الكويتية تصريح رئيس الوزراء في لبنان بأنه باق في الحكم لان سوريا راضية عنه او ان التجديد يتوقف على الناخب الاول في لبنان الذي هو سوريا!! وهذا يعني بكل بساطة بأن الديموقراطية لا وجود لها لان ممثلي الشعب لا يقومون بواجباتهم الدستورية والوطنية والاخلاقية وفي ما يتعلق بانتخاب الرئاستين.
عندما اقرأ كلمات غليون اراها تقطر ولاء لسوريا، وهي الجديرة بولاء كل سوري وتأييد كل عربي حيال الشراسة الصهيونية والغطرسة الاميركية التي شجبها عقلاء العالم وفي طليعتهم المفكرون الاميركيون انفسهم بمن فيهم من عمل في مناصب مرموقة ادارية او امنية او في الجامعات.
امام كلمات غليون اشعر بالغيرة والمرارة في آن واحد لان لديه من يخاطبه، ولكنني انا اللبناني اذا اردت خطابا حرا فاعلا يعبر عن ارادة اللبنانيين فمن اخاطب ليتفاعل مع كرامة الوطن ومصلحته؟ المتنافسون على التبعية؟ المعترفون بالحاجة للوصي؟ الذين استساغوا الذل من اجل جاه فارغ او حفنة من مال فاسد؟ فلنأخذ كمثل قول هذا المفكر المرموق غليون: "حتى يستطيع مجتمعنا ان يواجه التحديات ينبغي ان يتحول الى مجتمع حي وفاعل وواثق من نفسه ومؤمن بذاته وبقدراته، والحال ان النظام المجتمعي مبني كله على اساس تيئيس الانسان من وضعه، وخلع المجتمع من ذاته، وتجريده من ارادته ونزع ثقته بنفسه، ومن هنا فان التحدي الاكبر والاول للمجتمع السوري هو ان يسترجع وعيه وارادته وثقته بنفسه، اي ذاته، كي ما يتحول الى ذات قادرة وفاعلة، ولا يمكن لهذا ان يحصل الا بتغيير كل اساليب ومناهج الحكم والادارة والتربية والتعليم والتأهيل، وجعل الحرية غاية النظام الاجتماعي، اي جعل بناء الرجال الاحرار هدف النظام في مستوياته المختلفة، واطلاق حرية التفكير والتعبير، وتشجيع الافراد على معرفة الواقع ومواجهة الحقيقة والتعامل بشفافية والتخلص من اساليب خداع النفس والالتفاف على الواقع والكذب على الذات والهرب من المسؤولية، فاذا لم يتعودوا شيئا فشيئا على ان يعاملوا انفسهم كرجال كاملين وليس كانصاف او ارباع او اشباه رجال، ولم يقارنوا انفسهم بغيرهم من الشعوب، بدل ان يعيشوا مع مشاعر استبطان الدونية والاستسلام للاعتقاد بالخصوصية السلبية التي تجعلنا ننظر الى انفسنا على اننا اقل درجة او درجات من المجتمعات الاخرى، ومختلفين عنها لا نعرف معنى الحرية ولا الحياة الجمعية السليمة، ولا المصلحة الوطنية ولا التفاهم ولا الاتفاق ولا التنظيم ولا التعاون ولا العمل الاحترافي السليم، ولا تحركنا الا غرائزنا ومصالحنا الفردية الضيقة وميولنا الحيوانية، فليس لنا اي امل في التقدم على اي مدرج من مدارج الرقي البشري، هذا هو التحدي الكبير" (ص 91).
اليس ايضا التحدي الاكبر والاول للمجتمع اللبناني هو ان يسترجع وعيه وارادته وثقته بنفسه؟ لا فضّ فوك يا غليون ولا عاش لبناني لا يتجاوب مع هذه "المسلات".
في بحثه عن المعارضة في سوريا يقدم غليون تحليلا علميا منصفا وواقعيا منطلقا من: كما يولي عليكم تكونوا، عوضا عن: كما تكونوا يولى عليكم. والابرز في كلامه هو ان المناظرات بين السلطة والمعارضة في عالمنا العربي تدور حول التخوين والتكفير. يقول: "واذا كانت اطراف من المعارضة الاسلاموية قد كفرت دينياً وتكفر فئات من السلطة ومن المعارضة غير الدينية ايضا، فان السلطة المطلقة كفرت سياسيا وعقائدياً المجتمع كله، واعتبرت ان المؤمنين الوحيدين بالوطنية والقومية والموثوقين في خدمة المصالح العليا للدولة والامة والمجتمع، هم المنتمون الى حزب السلطة الحاكم وعقيدتها فقط، وما تبقى من الشعب متهم ومجرد عمليا من حقوقه المدنية والسياسية ما لم يثبت العكس، ويعلن جهارا نهارا عن ولائه وخضوعه وتسليمه الامر للقيادة القومية او القطرية" (ص 100).
ما يؤكد صحة كلام غليون لبنانيا هو تصرفات اولئك اللبنانيين الملكيين اكثر من الملك الذين يصمون كل من يدافع عن الكرامة والسيادة والحقوق اللبنانية بأنه إما عميل اسرائيلي او متعاون مع الاستعمار الاميركي. والذي يحز في النفس انه يوجد في السلطات الثلاث من يتخذ هذا الموقف الباطل الذي اسوأ ما فيه ان من يتخذه يعرف في قرارة نفسه بأنه مخطىء ومتجن ويفتئت على حق وطنه ومواطنيه. وبئس كل ذليل شعاره: العين لا تقاوم المخرز.
هذا الواقع المرير وهذا التصنيف المنحرف يجعل من اللبنانيين اسوأ شعوب الارض حيث السلبية تغلف مجموعهم. اولا: فئة اكلة الجبنة المنافقين والمتهاونين بحق وكرامة بلدهم ومصلحة شعبه، سلبية هؤلاء واضحة حتى ولو كانت قلة ضئيلة مفروضة على لبنان. ثانيا: فئة الصامتين الذين يرون الحق ولا جرأة لديهم للوقوف الى جانبه وهؤلاء هم من عناهم الرسول الكريم بحديثه الشريف: "الساكت عن الحق شيطان اخرس" وفي ذلك ايضا سلبية واضحة تراوح بين اللامبالاة والجبن. ثالثا: فئة المخدوعين الذين لا يرون في لبنان الا وحوشاً طائفية هنا ووحوشا طائفية هناك تتحفز للانقضاض بعضها على البعض الآخر. هذا الوهم مزروع في نفوس الجهلة ويشكل سلبية كبرى مرتبطة بسلبية الحكم الذي لا يفقه معنى الحرية حتى يحرر المواطنين من الاوهام وغبار البدائية. رابعاً: فئة المعارضة، وهذه بدورها على شيء من الزئبقية حسب حرارة المصالح الا فئة تجرأت في قول الحق مطالبة به فوصمت بالتعصب الطائفي وخدمة اللوبي الاسرائيلي والاستعمار الاميركي. وهنا تكمن السلبية الكبرى. ولو كان يدرك من يوزعها على الناس معنى الوطنية لما تلفظ بها. هكذا حال اللبنانيين، قلة وصمت حقا وكثرة وصمت باطلا. وبعد تجاوز هذه السخرية المبكية نترك للقارىء اللبيب تقدير مَن من اللبنانيين فعلا صاحب القسط الاوفر من المهانة والسوء.
لا امل في شفاء الا اذا لاقى غليون اذانا صاغية في سوريا ولبنان فيشفي كلاهما، او في لبنان فيشفى وتشفى العروبة من بعض امراضها وفي مقدمها مرض المغفور لسواه صدام المتمثل في ابتلاع قطر عربي لآخر. ولعل هذا المقطع من غليون يختصر كتابه وتفكيري وما يجول في خاطر كل عربي مؤمن بحق العرب ايمانا ابعد من الشعارات والخطب والمصالح القطرية او الشخصية المغلفة بالقومية. يقول في جواب عن سؤال يتعلق باذابة القطرية بالمسألة القومية: "لسنا بحاجة لنعيد انتاج التاريخ، فأي بلد اليوم يحترم مبادىء الديموقراطية التي اوردناها يخلق شروط تحول الانسان فيه الى مواطن، فالمواطنة ليست ارثا بيولوجيا ولا حتى ثقافياً، انها وضعية سياسية يعززها القانون وتنميها الثقافة والقيم الجديدة، قيم الحرية والمساواة والعدالة، واذا كانت القاعدة المتبعة في البلد هي تكوين مواطنين احرار، فلا يمكن ان ينجم عن تلاحم او اتحاد الاقطار المكونة من مواطنين سوى مواطنين اقوى واشد، في العالم العربي ليس هناك ما يذاب طالما ليس هناك مواطنية اصلا، هناك اشباه مواطنين وحلماً بالمواطنة عند بعض فئات المجتمع المتمردة، واذا لم يكن العربي مواطناً في بلده فلن يكون مواطناً في اتحاد عربي محتمل، وليس هناك اصلا اي امل في ان يحصل مثل هذا الاتحاد بين بلدان الاقطاعية السياسية، والسؤال المطروح هو بالضبط كيف يمكن تحرير الفرد لكي يصبح مواطناً، وما هي فرص تكوين المواطن في العالم العربي" (ص 125).
اختتم بسؤال مستمد من هذا المقطع وهو: هل يعمل الحكام في لبنان على تحرير الفرد ليصبح مواطناً؟ وهل تطلب سوريا منهم ذلك كما تطلب امورا اخرى عديدة؟ وهل بقية العرب يشجعون اللبنانيين على تحرير فردهم وبلدهم؟ وهل يوجد عروبة تهتم بالعرب ام اصبحت العروبة والديموقراطية من مسؤولية بوش وشارون؟ هزلت!!!
حين تتمسك أحزاب السلطة بشعاراتها الثورية ويصبح تراث المعارضة هو تراث السلطة
برهان غليون يتحدث عن آفاق التحول الديمقراطي في سورية والاستحقاق القادم أمام المجتمع
الشرق الأوسط 31/8/2003
فيصل خرتش
كتاب «الاختيار الديموقراطي في سورية» هو عبارة عن أسئلة وجهها الباحث لؤي حسين، ليحاور بها المفكر برهان غليون، وهي تدخل ضمن مشروع تشارك فيه مجموعة من أهل الرأي في سورية، يكون بمثابة حوار جدي وموضوعي بين أنصار الاتجاهات الديمقراطية التي عبر عنها بعض المثقفين في ربيع عام 2001، من خلال الدعوة لإصلاح سياسي وإحياء هيئات المجتمع المدني من جهة، وأنصار الاتجاهات الاخرى التي تدعو إلى تأجيل الإصلاح السياسي إلى ما بعد الإصلاح الاقتصادي.
وهي بالطبع قضية ليس سورية فقط، وانما عربية ايضا بالنسبة للمجتمعات التى تمر بظروف مماثلة.
تثير ااسئلة هذا الكتاب موضوعات ذات أهمية كبيرة بالنسبة للنقاش الدائر في سورية لأنها تنطلق من التشكك بالمعارضة والديمقراطية معا، وهي تعكس التشكيك الطبيعي والمشروع لقطاع كبير من الرأي العام السوري الديمقراطي، او النازع نحو الديمقراطية، بجدارة القوى التي تتصدى لمهام التحويل الديمقراطي والمعارضة معا وصدقيتها اكثر مما تعكس التشكيك بمبادئ الديمقراطية والمعارضة ذاتها. من هذا جاءت الاجوبة موسعة بحجم كتاب لمساعدة الرأي العام السوري بجميع قطاعاته وتياراته، بما فيها الرسمية، على التعميق في فهم القضايا النظرية المطروحة، وتحثه بالتالي على اتخاذ موقف اكثر صحة من المطالب الديمقراطية، او على صياغة رأي عام ديمقراطي اكثر وضوحا.
دارت الاسئلة واجوبتها حول، اي خيار نريد: الاشتراكية ام الرأسمالية؟ اين الاشتراكية؟ ضرورة وجود برنامج ديمقراطي اوسع يضم الاشتراكيين وغير الاشتراكيين. ما هي الديمقراطية التي نريدها لسورية؟ العلاقة بين الديمقراطية والرأسمالية، مسؤولية السلطة ومسؤولية المعارضة واصل الخراب الاجتماعي.
ما هو الاستحقاق القادم امام المجتمع السوري؟ هل هو استكمال الدولة الوطنية الدستورية، ام المجتمع المدني، ام الاثنان بالترافق والتزامن؟ هل توجد علاقة بين العلمانية والمواطنة؟ وكذلك قضايا الديمقراطية والاصولية الاسلامية والمسألة الطائفية والحرية والمساواة بين جميع الافراد، والعدالة والتضامن والاخوة الانسانية. هذه القيم جميعا، كما نقرأ في الحوارات، ليست قيم الليبرالية، انها قيم الحداثة، وكما تسعى الليبرالية الى ترجمتها في الواقع العملي حسب مصالحها وتصوراتها، فنحن ايضا نحاول ترجمتها حسب مصالحنا وتصوراتنا، وبالعكس ان الديمقراطية تختلف في تحديد طبيعة التهديدات ذاتها، فلا تنظر الى نقد سياسات الدولة من قبل المواطنين اعتداء على اعراض الدولة والمسؤولين فيها، ولكن حقا مكفولا للجميع، بل واجبا على كل فرد.
يقول غليون: ان احزاب السلطة تقيم شرعيتها على التمسك بالشعارات الثورية، وليس لها مصلحة ان تقوم بنقد ذاتي لنفسها، وتكمن مصلحتها في ان تتظاهر بالاستمرارية والوفاء للشعارات القديمة، حتى عندما تنقلب انقلابا كاملا في سياساتها وتصبح الرأسمالية وجذب الاستثمارات الاجنبية وتشجيع الملكية الخاصة والعودة الى اسعار السوق، هي مطلبها ونموذجها المثالي المتبع، ومن دون ذلك ستضطر الى الاعتراف بالخطأ، وتفقد بالتالي الهالة المقدسة التي اضفتها على نفسها وزعامتها، وتضطر الى ايجاد مبررات شرعية لتشبثها بالسلطة واحتكارها لها، واستمرارها بالضرب بيد من حديد على من ينزع الى مساءلتها، او طلب كشف حساب لانجازاتها. اما احزاب المعارضة، اذا كان من الممكن الحديث بالفعل عن أحزاب، فقد كانت طموحاتها أن تحافظ على نفسها وتلملم جراحها خلال أكثر من ثلاثة عقود، ولم يكن لديها أي قدرة على التفكير أو ممارسة النقد الذاتي، ولم تبدأ بإصدار نشرات وبيانات إلا منذ أشهر معدودة.
ان قوى اليسار ما تزال فعلاً تحمل نفسية وعقلية وايديولوجية ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وما تزال في حيرة من أمرها، وربما غير مستعدة لقبول الحقائق الجديدة، وهذا الأمر هو السبب الرئيسي في العزلة التي يعيش فيها القادة والرأي العام السوري معاً، والتي تمنع الجميع من معرفة المعطيات التاريخية المتغيرة، ومن التفاعل مع الأفكار والمناقشات الدائرة في العالم الخارجي الذي شهد تحولات فكرية وسياسية استثنائية في العقود الثلاثة الماضية، وكما يذهب غليون، بقينا في معزل تام عنها، فنحن نعيش في الواقع في حلقة مغلقة منذ أكثر من أربعين عاماً ولا نزال غارقين إلى الرأس في لجة المنطق الدعوي والإيديولوجي القديم.
الدولة عموما تستخدم التعليم والإعلام والشارع والاحزاب لبث عقيدتها وأطروحاتها ولإقناع الناس بها، من دون نقاش ولا تساؤل ممكن ولا اعتراض، والمعارضة تدافع عن وجودها الرمزي من خلال التأكيد على قيمها وأفكارها الايديولوجية الخاصة ورموزها، وبالتشبث ايضا بتراثها العقائدي الذي هو تراث السلطة ذاتها. ليس هناك نقاش موضوعي ولا حوار ولا مناظرة. وفي ظروف غياب اي ممارسة سياسية وحسم السلطة ابديا، بالدستور، لصالح الحزب الحاكم، لم يعد هناك معنى ولا سبب لتطور أو تطوير اي مناقشة نظرية موضوعية وعقلية جدية في المجتمع ولدى النخبة السياسية، وفي مثل هذا المناخ الذي يلغي حرية التعبير ويفرض الرقابة على الضمير، ويحرك كل أشكال التفكير والبحث والحوار والتواصل وتبادل الرأي الحر والصادق في البلاد، لا يختفي اي فكر نقدي أو اصلاحي أو عقلاني فحسب، ولكن يزول الشعور بالمسؤولية الأدبية عند القيادة الفكرية والسياسية معاً. لقد عشنا ولا نزال في مجتمع الاستقالات الشاملة: السياسية والاقتصادية والفكرية والروحية الجماعية والفردية، أي مجتمع التسيب الكامل ايضا. وما يحقق المناخ السياسي العام في الوصول اليه في هذا المجال، يحققه النظام التربوي السائد، الذي فقد أهدافه العلمية والتأهيلية ليتحول الى كابح للشبيبة، أو وسيلة لتكوين أشباه المواطنين وأشباه الرجال، الذين لا رأي لهم ولا كيان ولا عقيدة، وهم يتنازعون على كسب بعض العلامات الإضافية بالتحايلات السياسية، ولا يهمهم سوى الوصول الى هدفهم مهما كانت الوسيلة، وهذا ما يسميه المؤلف الانتحار العقلي الجماعي، إنه يجمع بين الاختلاط الفكري والخراب الأخلاقي والتخبط الروحي، وغياب الأمل والتفكير في المستقبل.
هذا هو العمق الحقيقي للأزمة التي نعيشها، وما لم ننتبه الى ذلك فجميع الاصلاحات التي نتحدث عنها سوف تكون حبراً على ورق، اذا كان الإنسان ليس إنساناً والسياسة ليست سياسة والفكر ليس فكراً، فلن يكون هناك اقتصاد ولا دولة ولا ثقافة.
ويبقى، كي نخرج بالمجتمع من العصبيات التقليدية أن نضع الأفراد جميعاً في شروط ممارسة المواطنية، ونساعدهم على السلوك كمواطنين، وشروط المواطنية هي: الحرية والمساواة القانونية والسيادة أي المشاركة في القرارات العامة، ثم العدالة وآخرها الثقافة المدنية التي ينجم عنها تقديس الحياة البشرية والسعي الى تجنب الصراعات والحروب والعنف للحصول على المنافع الخاصة، وهذا هو الذي ينمي مشاعر الولاء والانتماء للجماعة (المواطنين الأحرار) المتساوين المتضامنين المتكافلين الأسياد المتعاقدين في إطار الدولة على تبادل المنافع المادية منها والمعنوية، وفي مقدمتها حماية حرية الأفراد وحقوقهم، وحماية هذه الحريات الفردية، وتلك الحقوق الانسانية هي مصدر شرعية وجود الدولة. وما من شك ايضاً ان حرمان المثقفين والمعارضة الديمقراطية من القيام بمسؤولياتها في هذا الميدان سوف يؤثر كثيراً على امكانيات تعزيز الانتماء الوطني والشعور بالمسؤولية الجماعية، ويزيد من احتمال الوقوع في شرك الصراعات العصبوية والنزاعات المرتبطة بها.
إن استكمال الدولة الوطنية الدستورية لا يتحقق من دون وجود المجتمع المدني، اذا كان المقصود بالدولة الوطنية، ودولة المواطنية والمواطنين لا دولة التماهي الجماعي في الايديولوجية والحزب الحاكمين باسم القومية، ولا ينبغي ان ننتظر من الدولة المطلقة ان تقبل بوجود مجتمع مدني او ان تتساهل معه كما بينت التجربة بصورة واضحة، وبالتالي لا يمكن لهذا المجتمع أن ينجح في تقييد السلطة المستبدة أو أن تمنع الاستبداد، فالمدنية لا تعيش في مناخ الاستبداد، والدولة التي تبنى على الاجهزة الأمنية ومن حولها تبقى دولة رجال الأمن ومن يدور في فلكهم، ولا يمكن لها ان تتحول الى دولة دستورية أو مدنية ولا ان تنتج قيما مواطنية، بل ولا أي شكل من أشكال القيم الانسانية، مهما وضعت على وجهها من حجب ومناديل. لا يوجد مجتمع مدني من دون دولة ديموقراطية ولا توجد دولة ديموقراطية من دون مجتمع مدني، وبالمقابل لا توجد ديموقراطية من دون جمعيات وتنظيمات وأحزاب أهلية، والعكس صحيح.
ويناقش د. غليون في مكان آخر الالتباس في كثير من المفاهيم المطروحة والذي يعود إلى رفض التفكير أو تقنينه ومنع الحوار والتعايش الوطني العلني والحر، والمجتمع السوري محروم رسمياً وقانونياً بمراسيم مكتوبة ووسائل مادية من ذلك. فالصحف ووسائل الإعلام لا تزال منذ أربعة عقود حكراً على رأي واحد، من هنا يصبح من الضروري العودة الى أصول المبادئ والمصطلحات والتذكير بها في سبيل بناء فكر موحد ومرجعيات واحدة، وهذا هو دور المثقفين والصحافيين والكتاب، فعليهم تقع مسؤولية السعي الى التغلب على هذه العقبات التي تعيق المناقشة الجمعية والتفاعل الذهني وتداول الأفكار من أجل التوصل إلى تفاهمات وأنماط مشتركة من النظر والمقاربة، وبالتالي إلى رؤية مشتركة أيضا وجماعية، وهذا هو المفهوم الحقيقي للثقافة. إن الانتقال الساعي أقل خطراً بكثير من الانتقال العنيف الذي يمكن ان يفرض أو ستفرضه الأحداث علينا، إنه أهون بكثير من أن نترك الآخرين من الأميركيين والأوروبيين والأمم المتحدة يفرضون ما شاؤوا منها علينا، عندما يجدون في ذلك وسيلة لتحقيق مصالح خاصة بهم، باسم محاربة الإرهاب أو ضبطه، وهذه سابقة ينبغي ان تحثنا على التفكير حتى نشرع في التخلص من بعض مظاهر الحكم التعسفي والسيطرة بالقوة العسكرية ومحاربة الاعتقالات اللاقانونية ومحاكمة المختلفين في الرأي.
ما هو الطريق الأسهل والأسلم الى ذلك ؟ يجيب غليون: إذا آمنت جميع القوى، داخل السلطة وخارجها بحتمية الانتقال للديمقراطية بشكل سلمي، يكون حينها لمفهوم العقدين السلطة والشعب معنى وجدوى ويكون قاعدة لميثاق سياسي، ليتم الاتفاق على تحديد شكل التعاون للانتقال الى الديموقراطية، خلال مدة معقولة، عبر تعددية حزبية وحرية رأي واحترام متبادل، واحترام الأقلية السياسية وغير السياسية، والاتفاق حول كيفية الوصول للانتخابات الحرة خلال سنتين أو ثلاث، بين جميع القوى، لا احد يدافع الآن عن شرعية السلطة المطلقة أو النظام الشمولي أو نظام الحزب الواحد، إن ما يجب مناقشته الآن: كيف يمكننا التحول نحو نظام آخر يتماشى مع المصالح الوطنية للمجتمع السوري، بضرورة التحديث والإصلاح.
من جانب آخر، علينا رفع مستوى التعليم ليمتلك أبناؤنا التفكير العقلاني والنقدي الحر، والعمل على رفع سوية حياتنا السياسية والعناية بالتربية المدنية، وواجبنا الضروري ايضا رفع مستوى أدائنا الأخلاقي والسياسي والثقافي والعلمي والاداري، وهذا الإدراك الواضح للمهمات التاريخية المحددة التي تنتظرنا، هو الذي ينبغي ان يميز تفكيرنا ورؤيتنا، نحن جيل الإصلاح والتغيير، عن الشعارات الفضفاضة والغائمة والسحرية التي يستخدمها محترفو الايديولوجيات.
"الاختيـار الديموقـراطي في سـوريـا" لبـرهـان غليـون
عمر كوش
لم تظهر الديمقراطية، بالمعنى الحديث للكلمة، الا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع جان جاك روسو، حيث يعتبر كتابه الشهير «العقد الاجتماعي» أول تنظير للنظام الديمقراطي وسيادة الشعب. وحاول فيه «روسو» وضع حد لدكتاتورية ملوك فرنسا وأوروبا الذين كانوا يزعمون أنهم يمثلون ظل الله على الأرض. وطالب هذا الفيلسوف الكبير بأن تكون السيادة للشعب، فهو الذي ينتخب ممثليه الذين يحكمونه من خلال القوانين العامة التي صوت عليها الشعب نفسه، وبالتالي فمشروعية الحكم انتقلت من القمة الى القاعدة، ومن شخص واحد الى جميع أفراد الشعب، وهذا ما بات يُدعى السيادة الشعبية.
وتعتبر الديمقراطية أحد أهم المسائل التي لا تزال مطروحة في الساحة الثقافية والسياسية العربية، وكثيراً ما يتم طرح السؤال حول امكانية تطبيق الديمقراطية في أي مجتمع، وعما اذا كان المجتمع في حد ذاته مؤهلاً لممارسة الديمقراطية بشكل صحيح، أم أنه لا يملك المستوى المطلوب من الثقافة السياسية الذي يؤهله لهذه الممارسة. وهناك أطروحة مزدوجة المصدر ذات مضمون واحد، مفادها أن المجتمعات العربية ليست مؤهلة للديمقراطية. وحقيقة الأمر أن هذه الأطروحة كانت حجة الخطاب التسلطي العربي، لكنها أضحت تتكرر على لسان عدد من المثقفين والسياسيين الغربيين وأشباههم، حيث يعتبر هؤلاء أن تطبيق الديمقراطية في البلاد العربية يعني أسلمتها وانتصار الأصوليين والمتطرفين فيها.
ويتجدد الحديث عن الديمقراطية، اليوم، في وقت اشتدت فيه التهديدات الأميركية لسورية، ودعوة عدد من المثقفين السوريين الى فتح حوار ديمقراطي بين السلطة والمواطن، بما يضمن الوقوف بقوة في وجه المخاطر التي تتهدد سورية. وفي سياق الاهتمام المتزايد بمسألة الديمقراطية في الساحة السورية، يؤكد برهان غليون، في كتابه «الاختيار الديمقراطي في سورية»، أنه ليس أمام السوريين سوى الخيار الديمقراطي، وذلك من خلال بحثه الواقع الاجتماعي الاقتصادي السوري المحدد، والذي يجيب من خلاله عن أسئلة كثيرة تهم مختلف قطاعات المجتمع السوري، مثل هل الديمقراطية تشترط اقتصاد السوق وثقافته الليبرالية؟ وما هي نقاط التلاقي أو التنافي بين الفكر الاشتراكي والفكر الديمقراطي، وهل للديمقراطية في البلدان العربية، وخاصة سوريا، مخاطر سيطرة قوى غير ديمقراطية على السلطة؟ وسواها من الأسئلة التي وجهها له محاوره، والتي تؤرق مختلف شرائح المواطنين في سوريا.
ويعتبر برهان غليون أن التساؤل الحقيقي الذي يبرز في مجموعة الاعتراضات والأسئلة المطروحة، هو ما هي الديمقراطية التي نريدها لسوريا؟ لكن الاجابة عن هذا السؤال يسبقها التمييز ما بين عدة مستويات للديمقراطية كما تطرح اليوم في سوريا وفي الكثير من المجتمعات المشابهة لها في ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية.
المستوى الأول هو المستوى النظري، أي مستوى المفهوم في صورته المجردة، وكما تبلور في الأدبيات السياسية العالمية، للتعبير عن مجموعة متباينة من النظم التي تجمعها خصائص مشتركة. وفي هذا المستوى للتناول تشير الديمقراطية الى نظام سياسي، أو الى أسلوب خاص في تنظيم المجتمع وادارة علاقاته الداخلية. ولتحقيق ذلك لا بد من تحقق جملة من المبادئ، أولها مبدأ سيادة الشعب التي تعني أن السلطة تصدر عن الشعب وتعود اليه، وهو مرجعها، ومن هذا المبدأ ينطلق كل تفكير ديمقراطي. فالشعب مصدر السلطات وليس العديد القبلي أو المذهبي ولا التفوق العسكري ولا الالهام الشخصي.
ويكمل مبدأ السيادة الشعبية قاعدة حكم الغلبية، فالديمقراطية تعطي الحق في الحكم للأحزاب أو للتآلفات الحزبية التي تحصل على أكثرية الأصوات، وتترجم بالتالي رغبة أغلبية الناخبين وارادتهم السياسية. والمبدأ الثاني، هو مبدأ سيادة القانون كي يعطي للديمقراطية امكانية التحقق، بما يعني خضوع السلطة ذاتها للقانون، فلا يمكن وجود دولة ديمقراطية يعتبر الحاكمون فيها أو المرتبطون بهم أو أجهزتهم الأمنية، أنهم فوق القانون وخارج طائلة أي عقوبة مهما فعلوا، فالحكم عقد بين الحاكمين والمحكومين، وبين المحكومين فيما بينهم أيضاً. والمبدأ الثالث هو المساواة، وهي تعني قبل كل شيء المساواة القانونية والأخلاقية بين الأفراد، بصرف النظر عن الطوائف والأديان والمذاهب والمناطق والعشائر التي ينتمي اليها هؤلاء الأفراد. فالمجتمع الديمقراطي مكون من أفراد، كل فرد فيه مستقل بذاته، ومساو لغيره في الحقوق والواجبات وأمام القانون، ويخضع مثله مثل أي فرد آخر لقوانين واحدة موحدة.
وتأتي الحريات الأساسية لتشكل المبدأ الرابع، حيث يرتبط مفهوم الديمقراطية بمفهوم الحرية الى حد يصعب التمييز بينهما، وسبب ذلك هو أن النظام الديمقراطي لا يمكن تصوره ولا تصور اشتغاله من دون حرية. أما المبدأ الخامس فهو مبدأ تداول السلطة الذي يعني أن الديمقراطية لا تقوم من دون اعطاء الفرصة للشعب في أن يعيد النظر في اختيار ممثله بصورة دورية، أي كل عدة سنوات، كي يقرر من جديد فيما اذا كان سيكلف من جديد الفريق الحاكم والقائد نفسه أم أنه سيغيره. ويهدف هذا المبدأ الى منع الانفراد بالسلطة واحتكارها، وبالتالي تأبيدها بأيدي فئة أو حزب أو أي قيادة. وأخيراً يأتي المبدأ السادس، وهو فصل السلطات، ويقصد به فصل السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. بل ان هذا الفصل هو شرط نشوء الحريات السياسية ومن دونه ليس هناك امكانية لوجودها.
ما ذكر سابقاً يعطي الديمقراطية مفهومها النظري المجرد، وقد استند فيه غليون الى أطروحات روسو وألتوسير ومونتسيكو وسواهم من المفكرين الذين أسهموا في البناء النظري للديمقراطية. أما أساس فهم الديمقراطية من حيث هي تجربة حية وتاريخية ملموسة، فان الواقع العملي أو التطبيق الواقعي هو الذي يحدد أساس التمايز في النماذج والنظم الديمقراطية التي تختلف من بلد الى أخر ومن حقبة الى أخرى. فالنظم السياسية ليست ثمرة عملية ارادية، بل هي نتيجة صراع مستمر بين قوى وجماعات وفئات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية عديدة.
ويؤكد غليون أن الحديث اليوم عن التحويل الديمقراطي في بلد كسورية، ليس هدفه تقديم وصفات جاهزة، ولا اختراع ديمقراطية من العدم، ولا تقليد أي بلد آخر، ولكن الهدف هو تأكيد ضرورة التغيير وبناء هذا التغيير على مبادئ انسانية سليمة وناجعة، وأن نسترشد في ذلك بالقيم والمبادئ الديمقراطية، وبالتالي أن نحدد هدفاً ومناهج لهذا التغيير الذي يمكن أن يأخذ وقتاً طويلاً. ويرى أنه منذ البداية أحدثت السلطات سوء فهم كبير بخصوص الاصلاح والتطوير والتحديث، بسبب غياب مفهوم واضح للاصلاح واللعب على الكلمات من أجل مقايضة الحريات السياسية بالقوة الشرائية. فالاصلاح يحتاج، بالعكس من رفع المرتبات، الى تضحيات كبيرة على مدى متوسط، حتى يمكن تشغيل الآلة الاقتصادية بالفعل وزيادة الانتاج.
وقد يحمل الخيار الديمقراطي في سورية مخاطر محتملة، ويحتاج الى جهد تنظيمي وتثقيفي وتنموي كبير، والمضمون العميق للبرنامج الديمقراطي في سورية، ليس بناء الديمقراطية، «بل وضع حدّ للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام، الذي أثبتت تجارب الشعوب العديدة، كما أثبتت تجربة العقود الماضية عندنا، أنه غير صالح لتحقيق الأهداف التي خطها لنفسه». ويرى غليون أن الناس الذين نادوا بالتغيير في سورية وطالبوا بالديمقراطية، كانوا يدفعون نحو الخروج من نظام السلطة الشمولية، ولم يطالبوا بالديمقراطية كما نشأت في الغرب، بل كانوا يناضلون من أجلها في أسيا اليوم. وعليه يعتبر أن دعوة الديمقراطية في سورية نشأت استجابة لحاجة أساسية «وهي التحرر من نير السلطة البيرقراطية الشالة والمجمدة. فهي مرتبطة مباشرة بالمشاكل الخاصة التي تعاني منها سورية، وفي مقدمتها حالة الاقصاء والتهميش التي يعاني منها الشعب منذ خمس وثلاثين سنة، والحاجة القوية الى الاعتراف بوجود مجتمع له وجود وحضور وحقوق وقيمة أمام سلطة تتصرف كما لو كان المجتمع أداة في خدمتها».
ان الوضع القائم في سورية يفرز انتماءات عصبوية تعرقل السير نحو مجتمع مدني، لذلك يطالب غليون بأن لا تتعامل السلطة ذاتها مع المجتمع من منظور العصبوية عندما تستبدل في البحث عن التوازن الاجتماعي داخل المؤسسات وأمام مناصب المسئولية، معيار الانتماءات الجهوية أو السياسية المذهبية، بدل أن تطبق معيار الكفاءة الفردية والأهلية. وللخروج بالمجتمع السوري من العصبيات التقليدية، ينبغي أن يكون هذا أحد أهداف أي نظام سياسي قادم، و«أن نفكر بالنظام السياسي المقبل من منظور مكافحة العصبوية هذه»، وبالتالي يتوجب احلال المواطنية محل العصبوية. ويحدد غليون خمسة شروط للمواطنية هي: الحرية، والمساواة القانونية، والسيادة، والعدالة، والثقافة المدنية؛ معتبراً أن كل السياسات التي قامت عليها نظم احتكار السلطة وما يتبعها من اقتسام غير عادل للثروة، وتقنين الامتيازات السياسية والمادية والرمزية وتحويلها الى مغانم قبلية من تفاوت هائل في المداخيل وتمييز في المراتب والمقامات،
وما رافقها من اخضاع الفرد للدولة وتسخيره لخدمتها، واحتكار المواطنية من قبل الفئات السائدة، واستسهال نزع صفة الوطنية عن غيرها. كل هذه السياسات تتضارب من التنشئة المدنية وتنمية حس المواطنية ومعرفة الأفراد بالحقوق والواجبات الاجتماعية. ويؤكد أن العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة في سورية اليوم على أساس العشيرة والطائفة والعائلة تعيق كثيراً، وأكثر من أي حقبة سائدة، الانتقال نحو الديمقراطية، التي تفترض وجود الفرد السيد والحريات الفردية في نفس الوقت، وهي تلقي بمسئولية كبيرة جداً على الحركة الديمقراطية.
وبخصوص الاستحقاق المقبل أمام المجتمع السوري يعتبر غليون أن استكمال الوطنية الدستورية لا يتحقق من دون وجود مجتمع مدني، اذ لا يوجد مجتمع مدني من دون دولة ديمقراطية، كما لا توجد دولة ديمقراطية من دون مجتمع مدني، وعليه لا تطرح فكرة المجتمع المدني بالاستقلال عن الدولة، حيث لا يسبقان بعضهما، وهما مرتبطان ببعضهما ويشكلان جزءاً من ثورة سياسية واحدة.
وتبقى المصالحة الوطنية من المهام الملحة أمام القوى الحية في المجتمع السوري، وهي تعني الخروج من مناخ الحرب الاجتماعية الدائرة داخل المجتمع، أو من الصيغة التي تقيم السلطة على الغلبة المادية، كما تعني الاعتراف الجامع بين كل الأطراف بالحقوق المتساوية للجميع في المشاركة على قدم المساواة في تقرير مصير البلاد، أو المصير الجماعي. كما أنه لا أمل في نجاح أي مبادرة مصالحة، من دون اقرار الجميع بأن سوريا وطن السوريين بالتساوي، وهذا يفترض الاعتراف بالحقوق الفردية والجماعية المتساوية لجميع السوريين بصرف النظر عن عقائدهم السياسية وأفكارهم وولاءاتهم الشخصية ونواياهم وما تحيكه ضمائرهم.
أخيراً، يطرح الكتاب في مجمله قضايا ملحة، تشكل استحقاقاً أمام مختلف قوى المجتمع السوري، وتشكل الديمقراطية بمفهومها الواسع الاستحقاق الأشد الحاحاً في وقت حرج، تزداد فيه المخاطر التي تواجه سوريا، وبالتالي ينبغي الانتقال من التفكير السابق الأحادي الى مرحلة تفكير جديدة، مرحلة يسود فيها التفكير السياسي العقلاني الواقعي، بما يضمن لجميع السوريين الحق في الانتماء الحر والديمقراطي للوطن، كي يذودوا عنه وينقذوه من المخاطر المحدقة به وبهم.
بعد ربع قرن على صدور كتاب بيان من أجل الديمقراطية
الحوار المتمدن - 2003 / 7 / 4
الكتاب الأخير لبرهان غليون لا يتناول مسائل العولمة والثقافة ومسألة الدولة في علاقتها مع الدين والمنظومة العالمية كما كانت كتبه السابقة ولكنه ينصب على موضوع محلي راهن ومشتعل ما هو دمقرطة المجتمعات العربية الذي أصبح يستخدم اليوم ذريعة من قبل الولايات المتحدة لإقامة سيطرتها الإقليمية الشاملة. وهو يأتي استكمالا لأول كتاب نشره برهان غليون قبل ربع قرن - عام 1976 - بعنوان بيان من أجل الديمقراطية. لكن الكاتب لا يتناول موضوعه المفضل في المطلق ولكن ضمن سياق تاريخي استثنائي عالمي ومحلي هو سياق حركة التغيير المطروحة منذ ثلاث سنوات في سورية بموازاة الحرب الأمريكية المعلنة لإخضاع النظم العربية وتطويعها للسير في ركاب استراتيجيتها الإقليمية والعالمية. وخلال ما يقارب المئتي صفحة من الحجم المتوسط يسعى عالم الاجتماع والناشط السياسي السوري إلى تقديم عرض دفاعي بنفس لا ينقطع عن الاختيار الديمقراطي بوصفه المشروع الوحيد الذي يمكن المجتمع السوري الذي دمرته أربعة عقود من القهر والتهميش والعزل من الخروج من نفق الجمود والاختناق والتقهقر والعودة الفاعلة إلى دورة الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية العالمية. بل هو يرى فيه أكثر من ذلك، وبعكس جميع أولئك الذين يشككون بقدرة المجتمع السوري والمجتمعات العربية عامة على الخروج من النظم الاستبدادية، المشروع الوحيد الذي توجد فرص حقيقية لتحقيقه اليوم بعد انهيار كافة نماذج الشمولية والديكتاتورية وأسسها النظرية والأخلاقية في العالم أجمع. لماذا الديمقراطية وكيف تتحقق في سورية هو الموضوع الأساسي لهذا الكتاب الحواري الذي تتناول فصوله الاحدى عشر مسائل مثل : مصير الاشتراكية والنظم الشمولية، اليسار واليسار الديمقراطي، الديمقراطية والديمقراطية السورية، الديمقراطية وعلاقتها بالرأسمالية والليبرالية، الخراب الذي طرأ على مؤسسات المجتمع السوري ومسؤولية السلطة ومسؤولية المعارضة فيه، الدولة والمجتمع المدني، العلمانية والمواطنة، الديمقراطية والأصولية الإسلامية، الديمقراطية والمسألة الطائفية، العلمانية والمواطنة، العقد الوطني، المصالحة الأهلية ثم مشروع التحول الديمقراطي في سورية في علاقته مع القضايا الخارجية والقومية.
والواقع أن الكتاب لا يعالج فقط أزمة التحولات الديمقراطية في البلدان العربية ومشكلاتها المختلفة، من خلال الحالة السورية، ولكنه يشكل، أبعد من ذلك، مساهمة في النقاش العالمي الدائر حول مسائل التطور النظري للفكر السياسي في حقبة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الشيوعية وصعود النزعة الامبرطورية. وهو يقدم إضافات نظرية أحيانا غير مسبوقة سواء ما تعلق بتجديد الفكر الاشتراكي الديمقراطي وإعادة تأسيسه أو ما تعلق بتجديد الفكرة الديمقراطية وإعادة تأسيسها على قاعدة بناء المواطنية في عالم يفيض أكثر فأكثر عن حدود دوله الجغرافية والسياسية.
وهنا بعض الاقتباسات لتعميم الفائدة.
في نقد الفكر اليساري السائد
"إن الخطأ الذي وقع فيه اليسار المعادي للديمقراطية, وينبغي القول إنه كان هناك يسار معاد بصراحة للديمقراطية في الحقبة الماضية, هو أنه كان ينظر إلى نظامها بوصفه النظام الذي يوافق مصالح الرأسمالية ويضمن سيطرتها. والسبب في ذلك هو أنه كان يلغي من حسابه أصلا مفهوم الطبقة الوسطى ولا يرى فيه أي قيمة تحليلية أو اجتماعية. إن المجتمع مقسوم في نظره إلى طبقتين أساسيتين متناحرتين والباقي فراغ أو برجوازية صغيرة متذبذبة أو أفراد لا قيمة لهم : طبقة المأجورين الذين لا أمل بحصولهم على أي مكسب وبالأحرى على حريتهم من دون قلب نظام الرأسمالية من أساسه ومنه نظام الديمقراطية الذي نما تاريخيا في سياقه, وطبقة أصحاب رأس المال التي لا هدف لها سوى تخفيض الأجر إلى حده الأدنى حتى تزيد من نسبة أرباحها. والواقع أن التجربة التاريخية أثبتت خطأ هذا التصور المانوي للمجتمعات وأن التكوين الطبقي للمجتمعات أكثر تعقيدا وتنويعا بكثير من ذلك, وأنه حتى داخل الطبقة المأجورة وتلك المالكة لرأس المال هناك تناقضات وتوترات وصراعات, وأن حل جميع هذه الصراعات وترتيب البناء الاجتماعي المتنوع وبث الانسجام فيه لا يمكن أن يحصل من دون هامش كبير من المرونة وإمكانية الحركة هو الذي تضمنه الديمقراطية, وتنشيء عليه الطبقة الوسطى أيضا, فتصبح مفيدة لأصحاب رأس المال كما هي مفيدة لغيرهم لأنها الوحيدة التي تضمن تحويل المجتمع من ساحة حرب بين طبقتين مجردتين إلى مجتمع موحد وقادر على البقاء والحركة والتقدم إلى الأمام بالرغم من الصراع والانقسام. والتجارب الشيوعية وشبه الشيوعية التي عرفها القرن العشرون دلت على أن إلغاء هذا الهامش من الحريات لا يساعد على خلق مساواة أفضل بين الناس وإنما يلغي قبل أي شيء آخر الطبقة الوسطى ويدفع بالفعل المجتمع إلى الانقسام العميق والكامل بين نخبة بيرقراطية مفصولة عن الشعب ومتماهية مع الدولة الاشتراكية وبالتالي مالكة للسلطة السياسية وللسلطة الاقتصادية والفكرية معا وشعب متساو في الهامشية والعبودية والاغتراب.
"ويكمن الخطأ الثاني لليسار في أنه كان يربط تطبيق العدالة التي هي قيمة إنسانية كبرى بمشكلة نمط الانتاج الاقتصادي ويجعل من إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج أو تعميم الملكية العامة والاقتصاد المخطط الشرط الضروري لتحقيق هذه القيمة. وكان هذا نابعا من اعتبار أن البنية التحتية هي التي تتحكم بالبنية الفوقية وأن الملكية الخاصة وما يرتبط بها من علاقات استغلالية وفي مقدمتها ملكية رأس المال لا يمكن ان تتماشى مع العدالة الاجتماعية. الآن نحن نعتقد أن من الممكن من خلال تطوير أليات الدولة القانونية وإخضاع الاقتصاد الرأسمالي لمنطق الحفاظ على الانسجام والاتساق الاجتماعي وبالتالي للحاجات والقيم السياسية من حرية ومساواة وعدالة وتضامن وطني, أن نقيم أشكالا من العدالة أكثر مرونة وفاعلية وتناغما مع حاجات الفرد الى الحرية والمسؤولية والمبادرة الذاتية. وبالعكس تبدو لنا الصيغة التقليدية المستندة الى التأميمات الشاملة صيغة بيرقراطية فاسدة تقضي على حرية الفرد وتقتل روح الاجتهاد والعمل والانتاج وتقود الى الروتينية والجمود والفساد ولا يمكن تصورها من دون نظام السيطرة الشاملة للحزب الحاكم.
هذا لا يعني التقليل من دور الدولة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية لكن يشير الى نوعية او نمط الدولة المتدخلة, هل هي دولة البيرقراطية التي تتصرف من دون مسائلة أم الدولة الديمقراطية المستندة الى انتخابات نزيهة والتي ترجع باستمرار إلى الشعب وتخضع لمراقبته وإشرافه وإرادته المعبر عنها بصورة دورية وليس مرة واحدة والى الابد. كما أنه لا يعني امتناع وجود قطاع عام في الاقتصاد. ففي بلدان مثل بلداننا لا يمكن لمثل هذا الموقف الليبرالي المجرد أن يعني شيئا آخر سوى استقالة الدولة الاجتماعية والوطنية والتخلي عن مسؤولياتها. فما دامت الرأسمالية المحلية ضعيفة وفقيرة في الرسالة والامكانات والموارد والعلاقات الدولية معا وما دام من الصعب تصور نشوء طبقة رأسمالية حية من النمط الليبرالي الذي عرفته البلدان الصناعية – بينما السائد هو طبقة من المافيات أو شبه المافيات التي راكمت رساميلها عبر وسائل السرقة والغش والمصادرة والاستيلاء المختلفة- يبقى على الدولة في هذه البلدان مسؤولية رئيسية في بناء الهيكلية الاقتصادية للمجتمع, لكن ليس بالضرورة بالاساليب والطرق البيرقراطية والتسلطية البدائية.
"لم يعد أحد يعتقد بعد فشل التجربة الاشتراكية البيرقراطية الشمولية أن تحقيق العدالة رهن بإلغاء السوق وملكية رأس المال والملكية الخاصة للشركات الاقتصادية. فالعدالة قيمة إنسانية تستمد حياتها وقوتها من الايمان بها والعمل المستمر لتعميقها, فهي مرتبطة بالحياة السياسية والاجتماعية في حين أن الإدارة الاقتصادية تستمد معناها ومضمونها من النجاعة وتحسين الانتاجية والاستغلال الأفضل للموارد, أي من الترتيبات العقلانية لا الاخلاقية والايديولوجية. إن السوق آلية اقتصادية لكن طريقة ضبط السوق والتعامل معها مسألة سياسية واجتماعية على أساسها تتحدد طبيعة النظام المجتمعي القائم.
معنى الديمقراطية اليوم بالنسبة للسوريين "والعرب" عموما:
"عندما نطرح مسألة الديمقراطية هنا في بلدنا، فنحن لا نطرحها بإطلاق كما أننا لا نطرحها في الفراغ ولا لذاتها وإنما لما ننتظر منها من آثار ايجابية في تحقيق جملة من الاصلاحات الهيكلية الأساسية والضرورية وفي سياق تاريخي محدد, أي من منظور ظرف دولي واجتماعي واقتصادي معين, وفي إطار الأزمة الكبيرة التي نمر بها وما تفرضه علينا من ضرورة البحث عن إجابات ناجعة على تحديات معينة ومختلفة, وبعضها جديد تماما بالنسبة لنا ولغيرنا. ومن المفروض ان تلبي الديمقراطية التي نطرحها مطالب تتعلق بإطلاق العملية الاقتصادية التي تكاد تتوقف تماما بسبب المثبطات المختلفة, واحياء المجتمع وإثارة فضوله وشحذ إرادته وتعزيز معنوياته حتى يستعيد شيئا من روح المبادرة المقتولة تماما, وتحرير لأفراد من منطق الإذعان والاستسلام والتسليم للدولة وللمعونة الحكومية وتنمية الشعور بالمسؤولية الجماعية والتاريخية وبالتالي تحرير الانسان من الكساح الأخلاقي والسياسي والاجتماعي الذي أحدثته فيه عقود طويلة من الإمعية والصمت ونزع الشخصية والإرادة وتخدير الوعي الجمعي في ظل أنظمة الوصاية الأبوية, وبالتالي تفجير طاقاته الابداعية والانتاجية. أي أننا نتحدث عن الديمقراطية في سياق البحث عن نزع الخوف العميق من قلوب الأفراد وتشجيعهم على الخروج من السلبية والاستقالة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تترجم باستفحال الفساد والفوضى والتسيب والاتكال. كما أننا نتحدث عن الديمقراطية اليوم في سياق الشعور المتزايد باغتراب الدولة عن المجتمع ومع الأمل بإعادة تأهيل الدولة وتقريبها, بما فيها من أجهزة ووسائل وإمكانيات, من الجمهور الواسع وجعلها أليفة لديه وعونا له وإطارا لتعبيره عن آماله وتنظيم نشاطاته والتنسيق بين جهود أبنائه لا عدوا يتربص به ولا أداة ومركزا لا تنفذ موارده للتنكيل والقمع والقهر وتكبيل طاقات الأفراد وتحييد
إراداتهم. ونحن نتطلع الى الديمقراطية في سياق إدراكنا المتزايد لما تمثله الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية من تحديات وحاجتنا في سبيل مواجهة ما هو قائم وما هو متوقع منها إلى دفع المجتمع الذي بقي عقودا طويلة منقطعا عن العالم ومنعزلا عن التطورات والمعارف والابداعات الكبيرة التي عرفها إلى المبادرة والانخراط المنتج والمبدع في هذه الثورة التي تتطلب وجود مجتمع مفتوح ومرتبط بالعالم القائم ومتفاعل معه أخذا وعطاءا. ونحن نتحدث عن الديمقراطية أيضا هنا في ظروف مجتمع يواجه منذ عقود طويلة وفي شروط شاقة صراعا مريرا وتاريخيا مع اسرائيل التي لا تزال تحتل جزاء من أراضيه والأراضي الفلسطينية وتسعى الى أن تفرض نفسها كدولة عظمى في المنطقة العربية ولديها من الامكانيات والوسائل العسكرية والسياسية والدولية ما يجعلها تطمح بالفعل الى أن تكرس نفسها القوة المهيمنة التي تخضع لها بقية الدول العربية وتسير حسب املاءاتها. وليس هناك في نظرنا وسيلة أخرى للرد على هذا التحدي إلا بالارتفاع بهياكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية إلى مستوى المواجهة المفروضة علينا, وهو ما يستدعي تخليص شعوبنا من الشلل الوطني والقومي والانساني الذي فرض عليها بسبب أنظمة التعقيم والإخصاء والتقزيم.
"وأنا أرى اليوم أنه من أجل التحول المطلوب لإصلاح الأوضاع ككل في سوريا، لا بد من بناء محور يستقطب كل الديمقراطيين حول ما نسميه برنامجا ديمقراطيا، اشتراكيين وأنصاف وأرباع اشتراكيين، ويمينين معتدلين، وليبراليين عقلانيين، ووطنيين يريدون الإصلاح وتطور البلد، وليس الاغتناء والإثراء الشخصيين على حساب المجموع. هؤلاء جميعاً يجب أن يضمهم قطب ديمقراطي يعطي للحياة السياسية في البلاد ثِقلا جديدا وقوة جديدة تساعدها على الانتقال نحو ما ذكرته سابقاً: إلغاء نظام الوصاية الأبوية أو السياسية أو الحزبية على المجتمع وإعلان عهد الحرية والمساواة بين جميع الافراد والاعتراف بحقوق الإنسان واستقلاله وحرمته, وتكريس المواطنة كوضعية قانونية متساوية ومشتركة قائمة على الاعتراف بالشعب كمصدر للسلطة والقبول بقاعدة الاحتكام الدوري والمنظم له, وفي النهاية, إلغاء الامتيازات القانونية وغير القانونية الاستثنائية وبناء دولة مواطنين لا عزبة إقطاعية يتحكم فيها وبمصير سكانها أسياد متوجون ومخلدون لا يسألون عما يفعلون تدعهم ميليشيات لا ترمي الطاعة لغيرهم ولا تخضع هي نفسها لقانون غير إرادتهم وأهواءهم.
"إن المضمون العميق للبرنامج الديمقراطي في سورية ليس بناء الديمقراطية بل وضع حد للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام الذي أثبتت تجارب الشعوب العديدة كما أثبتت تجربة العقود الماضية عندنا أنه غير صالح لتحقيق الاهداف التي خطها لنفسه وفي مقدمها التصدي للفقر والتفاوت الطبقي والاستقلال السياسي والثقافي والتنمية الاقتصادية وبناء الانسان أو الفرد الحر والمبدع.
في أصل الخراب الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي
"مصير الشعوب معلق بأساليب أدارتها وتنظيمها وقيادتها السياسية. والإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع البذل والموهبة الحية. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة والتنظيم الرديء وسياسة كرش المجتمعات كما يكرش قطيع الماعز أو الماشية على هدر الموارد وقتل المواهب وتهريب الكفاءات الحقيقية وتعظيم الفئة الوصولية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو. ولم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها لا بسبب العصا الغليظة التي كان يستخدمها قادتها لسوقها كالقطعان ولا بفضل الجزرة أو الرشوة التي كانوا يقدمونها على سبيل الإغراء. لا بد لنا أن ندرك في الحقيقة أن ما نعيشه اليوم من أوضاع هو من إنتاج مؤسساتنا وفي مقدمها نموذج الحكم وممارسة السلطة وأن هذه المؤسسات هي نفسها ثمرة اختيارات سياسية سواء أكان ذلك في الاقتصاد أو في المجتمع أو في التعليم والتربية أو في التكوين والتأهيل الفكري والديني. أحد أمرين إما أن المجتمع كان سيء التكوين والتأهيل ولم يستطع النظام الحاكم تغيير شيء فيه بالرغم من كل الجهود الجبارة التي بذلها, وفي هذه الحال ينبغي التسليم بأن مجتمعنا أو إنساننا بعكس جميع البشر الآخرين منقوص الانسانية وأنه يعاني من نقص أخفق النظام بعد ما يقارب الأربعين عاما من الحكم المطلق والسيطرة الشاملة على القرار والموارد معا في ايجاد حل لهذا النقص والقصور, بل في فهم أسبابه, وفي هذه الحالة عليه سحب الدروس من هذه التجربة واتخاذ الموقف المناسب المترتب عليها والبحث عن موقع آخر يستحق أكثر "التضحيات". أو أن سياسات النظام واختياراته الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة ولا عقلانية وما كان بإمكانها إذن أن تساعد المجتمع على الترقي والتقدم وتجاوز نقائصه البدئية. ولا يمكن رفض كلا الفرضيتين لأن ذلك يعني إلغاء التفكير العقلي بالشؤون الاجتماعية والتهرب من المسؤولية او الاستهانة بالوعي السياسي عند الحاكمين والمحكومين أو معاملتهم كقاصرين عقليا والتخلي عن مبدأ المحاسبة الجماعية والوطنية. وهذا يقود لا محالة الى الأخد بمبدأ عبثية السياسة ولا مسؤوليتها وإغلاق كل أفق التفكير في الماضي والمستقبل معا.
"والقصد أن تاريخ المجتمعات تصنعه المجتمعات نفسها والمسؤول في كل مرة عن هذا الصنع هي النخب التي تتولى مناصب المسؤولية فتتخذ القرارات وتتحكم بتوزيع الموارد المادية والبشرية وإدارتها وتخصيصها.
المجتمع المدني وأصل الانقسامات العصبوية
"ليس من قبيل الصدفة أن السلطة المطلقة التي تدفع بسياسات السيطرة الأحادية التي تمارسها إلى الانقسام والتشظي الاجتماعيين هي أكثر من يستخدم نتائج هذا التشظي لتبرير وجودها كسلطة مطلقة مفروضة من فوق والدفاع عن حقها في التمديد الأبدي لنفسها. فهذا التفكيك العملي للمجتمع هو الذي يسمح لها بالوجود والبقاء ويضفي على سياسة الاستبداد التي تمارسها قسطا من الشرعية الوهمية أو الكاذبة.
وهذا يعني أن سلوك المجتمع بقطاعات رأيه المختلفة بما فيها المعارضة تجاه الدولة وتجاه ممثليها أو المرتبطين بها أو المشتبه بارتباطهم بها, فالأمر واحد, لا يمكن أن يفهما بمعزل عن سلوك السلطة ذاتها تجاه المجتمع وقواه السياسية والفكرية المعارضة وغير المعارضة. لا يمكن مثلا لسلطة أن تتلقى مديح أصحاب الرأي وهي تخنف أي رأي يختلف مع تصورات منظريها وأصحابها. وبالمثل إن لكل سلطة أو نظام سلطة نمط المعارضة الذي يستحقه لأنه هو المسؤول عن وجوده في الظروف والأوضاع الذي يوجد فيها وأسلوب عمله معا. فالمعارضة التي تتربى في مدرسة الديمقراطية والنزاهة الوطنية والشفافية السياسية والاقتصادية وتقاليد الاحترام للقانون والقضاء المستقل والصحافة الحرة والتوازن الصحيح بين السلطات في إطار احترام الدستور وعدم التلاعب به وتحت إشراف صحافة حرة تعكس مختلف تيارات الرأي العام وتساهم في بلورتها وتقدم لها فرص التعبير الحر عن نفسها تختلف اختلافا نوعيا ومطلقا عن المعارضة التي تنمو كنبتة وحشية في مناخ من القهر والقمع والتهديد بالموت الدائم والتعذيب الجسدي والنفسي وسيف الاعتقالات والتجريم المسلط باستمرار والمحاكمة على النوايا والاعتقادات واستسهال الاتهام بالعمالة للسفارات الأجنبية وباللاوطنية لأبسط إختلاف في المواقف والآراء.
"وإذا كانت نظم اقتسام الغنائم بالرغم من قدراتها التحييدية الكبيرة للأغلبية الاجتماعية لا تخلو من تناقضات داخلية ولا من التنافس والصراع بين أطراف النخب النافذة وأحيانا من الحروب الذاتية والاقتتال الدموي فيما بينها إلا أنها عاجزة عن تجاوز منظقها والانفتاح على أي تغيير أو تبديل في قاعدة عمل النظام. إن الاقتتال يشكل فيها آلية طبيعية لإعادة ترجمة ميزان القوى الفعلي والمتبدل على الأرض في ساحة توزيع الغنائم وتقسيم الفيء. بل إن هذا الاقتتال يساعد على استقرار النظام ويدعمه بقدر ما يسمح للأطراف الجديدة الصاعدة من ايجاد سبيلها للنفوذ والحصول على نصيبها من الجنة بالوسائل الطبيعية أقصد حسب منطق التقاسم لا منطق التداول. وهذا الادماج المستمر للقوى الجديدة في دورة تداول المغانم هو الذي يمكن النظام من التغطية على انعدام تداول السلطة وتغيير قواعد الحكم كما يساعده على تهميش وتحييد القوى الأخرى التي تحولها قوى التحالف المسيطر نفسها الى قوى منشقة, أي خارجة عن القانون ومعادية للنظام وبالتالي مستبعدة من أي مسؤولية ومجردة من جميع الحقوق. إنها قوى إجرامية تعمل ضد النظام ولا يمكن إلا أن تكون متحالفة مع القوى الأجنبية.
"لا يوجد مجتمع مدني من دون دولة ديموقراطية ولا تنطرح فكرة المجتمع المدني بالاستقلال عن الدولة فهما مرتبطان ببعضهما لأنهما جزء من ثورة سياسية واحدة. فلا وجود للمجتمع المدني في الدولة الاستبدادية ولن توجد الدولة الاستبدادية المجتمع المدني ولا تستطيع أن توجده مهما وعدت أو فعلت لأنها النقيض المباشر له. إن وجودها لا مبرر له ولا مقوم إلا القضاء على المجتمع المدني, أي حرمان المجتمع من تنظيم نفسه خارجها, حتى لا يتمكن من مزاحمة القائمين عليها أو تهديد امتيازاتهم وسلطتهم المطلقة والاستثنائية والأبدية. وبالمقابل لا توجد ديمقراطية من دون جمعيات وتنظيمات وأحزاب أهلية. والعكس صحيح، فوجود هذه الجمعيات والتنظيمات والأحزاب لا يمكن أن يتحقق من دون دولة ديموقراطية. فأساس الديكتاتورية إلغاء التعددية بكل أشكالها ومنع المجتمع من الدفاع عن مصالحه ضمن أطر تنظيمية مستقلة وخاضعة لإرادته. وإذا وجدت مثل هذه القوى انصهرت الديكتاتورية كالجليد تحت أشعة الشمس الحارقة. ولا شك أن النقاش الطويل الذي دار في سورية حول هذا الموضوع وأيهما أسبق المجتمع المدني أم الدولة يعبر عن التخبط العميق الذي يعيشه الفكر الاجتماعي والسياسي التغييري في هذه البلاد كما يعكس ربما بشكل أكبر انعدام شفافية النقاش والمناظرة الفكرية التي تخضع هنا لضعوط أمنية وغيرها خارجة كليا عن دائرة المناقشة العقلية وتتطور عبر المزايدات والمماحكات والتنافس بين الأشخاص والخوف من التعبير الصادق والحر عن الأفكار.
في علاقة الديمقراطية بالعلمانية
"لا تكمن المشكلة في انعدام العلمنة ولكن، كما يقول البعض عن حق، في تغول الدولة على المجتمع. وكلمة تغول معبرة تماما عن الواقع الراهن لأنها مشتقة من غول. وعندما تحل هذه المشكلة وتكف الدولة عن أن تتصرف كغول, تغتال العقل وتلغي الضمير وتقتل الروح وتغل أيادي الأفراد وأفئدتهم وتبعث الغل في صدورهم, سنجد الناس يتعاملون بتسامح أكثر على المستوى الديني والمذهبي والسياسي. أما اليوم فالتعامل الإنساني مفقود على جميع الأصعدة : صعيد تعامل المجتمع فيما بين أعضائه، وتعامله مع الدولة وتعامل التيارات الفكرية المتعددة والمتباينة فيما بينها وتعاملنا جميعا مع الخارج المختلف عنا. و جوهر العلمنة في العمق ليس شيئا آخر سوى إخضاع جميع النشاطات والمؤسسات والقوانين والقيم والسلوكات الاجتماعية للنقد والمحاكمة العقليين وأزالة أي نوع من التقديس عليها. ومن هذا الإخضاع للعقل ينبع استقلال المجتمعات الانسانية وحرياتها تجاه واقعها ومصيرها. وهذا هو جوهر الحداثة التي تعني أن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه ليس قدرا ولا ثمرة منطق قدري لا يرحم ولا نستطيع معه شيئا وإنما هو ثمرة عملنا. ولذلك بقدر ما نحسن من مستوى وعينا وعلمنا بالواقع ونبني معرفة موضوعية لا رغبوية عنه, وبقدر ما ننجح في إخضاع سلوكنا الاجتماعي والفردي لقيم أخلاقية أي لمبدأ المسؤولية, نستطيع أن نتحكم بهذا الواقع وبالتالي أن نعظم من هامش حريتنا وسيطرتنا على مصيرنا الجمعي. والدولة التي لا تدرك ذلك ولا تعمل له لترتفع بمستوى معرفة أبنائها الموضوعية وترتقي بسلوكهم الأخلاقي وتسعى بالعكس إلى أن تحل محلهم وتتحول هي نفسها إلى قدر يسحقهم ويلغي حرياتهم تبقى دولة قرون وسطى مهما كان شكل أدوات التعذيب التي تستخدمها والكلمات التي تستخدمها في الحكم على السحرة وإحراقهم. ودولة كهذه لا يمكن إلا أن تثير ردود فعل عليها وضدها من النمط القرسطوي ذاته الذي تمارس به سلطتها. ومفهوم الدولة الاسلامية الشائع اليوم يؤكد تماما ذلك فهو ليس في الواقع إلا مقلوب الدولة الاستبدادية القائمة. فهو يهدف إلى إعادة بنائها على الأسس التغولية ذاتها لكن هذه المرة بمرجعية دينية.
في الديمقراطية ومخاطر السيطرة الطائفية
" الحياة السياسية والثقافية والعمومية بشكل عام لا يصنعها العدد والرقم الكمي ولكن حيوية النخب ووزنها وديناميكيتها. ولو قارنا بين حجم نخب الجماعات المذهبية لوجدنا الوزن الحقيقي لكل منها في الحياة السياسية والعمومية بشكل عام. وليس من المؤكد أنه في شروط الديمقراطية ووجود الضمانات الدستورية لحرية الافراد واعتقاداتهم أن لا تكون الغلبة في الوزن النوعي وفي التأثير الثقافي والفكري للنخب القادمة من أصول أقلوية أو ربما ريفية بصرف النظر عن المذهبية. فلا تمنع السيطرة العددية للبروتستنتية في الولايات المتحدة الأمريكية وللكاثوليكية في فرنسا مثلا النخبة الامريكية أو الفرنسية القادمة من أصول يهودية, سواء احتفظت بتقاليدها الدينية أم لا, من أن تمارس دورا ونفوذا أكبر بكثير من وزن جماعاتها الأصلية في هذه المجتمعات. حصل ذلك ويحصل في شروط حياة ديمقراطية لا ديكتاتورية. بل إن من المؤكد أنه من دون هذه الشروط الديمقراطية ما كان من الممكن لهذه النخب أن تمارس هذا الدور. ومثال روسيا هو الأفضل للتدليل على ذلك. فلم يكن دور النخبة الروسية من أصول يهودية تحت النظام السوفييتي يساوي شيئا أمام الوزن الذي أخذت تلعبه هذه النخبة نفسها اليوم بعد تغير النظام وتحوله نحو الديمقراطية. فهي تسيطر على اهم مراكز القرار الاقتصادي والسياسي والمالي والاعلامي معا, وبشكل ربما كان أقوى مما هو الحال في الولايات المتحدة نفسها. فالنظام الديمقراطي لا يضمن سيطرة الأغلبية المذهبية في أي مكان ولكنه يفتح الباب أمام النخب الديناميكية من أي منشأ كانت ويقدم لها إمكانية الارتقاء والتقدم من غير حدود. وهذه النخب هي التي كانت أكثر حماسا للديمقراطية في هذه المجتمعات لأنها تحررها من العزلة الطائفية وضغط الطائفة من جهة وتلغي قوانين التهميش التي تعمل على حرمانها من الارتقاء بنفسها ومواقعها السياسية والاجتماعية. فالدول الاستبدادية تسعى, بالعكس, إلى الموازنة بين الجماعات حتى تضمن التمثيل الشكلي والمظهري لجميع الأطراف في كل واحد زخرفي. وهذا هو الذي يفسر أيضا أن قوى العنصرية هي نفسها قوى الردة على الديمقراطية. وهي تتنامى في أوساط الجماعات الدينية الأكبر كما هو الحال بالنسبة للجبهة الوطنية التي يتزعمها لوبن في فرنسا في مواجهة تصاعد وزن النخب التي تنظر اليها كأجنبية أو غير ممثلة للروح القومية الاصيلة."
في السياسة الوطنية السورية
"إن من يتجاهل حقوق شعبه في الداخل ليس لديه أي سبب للدفاع عنها في الخارج, خاصة عندما يكلف هذا الدفاع ثمنا غاليا. فالذي يريد الدفاع عن مصالح شعبه وحقوقه ضد الأجنبي لا يفرط بها في الداخل أصلا. ولا أدري لماذا وكيف يساعد تحويل الناس الى مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم وحرمانهم من حرياتهم ومن حقهم في قضاء نزيه وعادل ومساواة في المعاملة أمام القانون على الصمود بشكل أفضل أمام اسرائيل أو توجيه مقاومة أشد وأمضى لها أو لأي عدوان خارجي؟ بالعكس من ذلك تماما إن المنطق يقول : يحتاج العمل الجاد لمقاومة اسرائيل والعدوان الخارجي الى تلاحم أكبر بين صفوف الشعب وبالتالي الى مزيد من الاحترام والحرية والعدالة والمساواة بين أبنائه جميعا. ولهذا السبب جرت العادة في النظم السابقة غير الثورية والثوريه معا, بما فيها الشيوعية الشمولية, أن تكون الحروب مناسبة لإعلان العفو العام عن جميع المعتقلين السياسيين بل عن المجرمين المدنيين كتعبير عن التسامح والمصالحة والصفح المتبادل الدافع إلى تعميق الوحدة الوطنية في مواجهة العدو القومي والوطني المشترك. ولم يحصل في أي حقبة وفي أي نظام أن عمدت حكومة الى القاء القيض على المعارضة في وقت الحروب أو المواجهات الوطنية لأن مثل هذا العمل يعني أن الحكم الذي يحتاج الى تكاتف كل أبناء الشعب حوله يقوم هو نفسه بتقسيم هذا الشعب ودفعه الى التفتت والتوتر والاحتقان ويضعف قدراته "ذاتها وصدقيته في أي مواجهة محتملة.
من الطبيعي إذن أن يجد الرأي العام في الاستخدام الشعاراتي المكرر للمسألة الوطنية وسيلة لإدارة الأزمة السياسية والاجتماعية الداخلية بطرق استثنائية أي غير قانونية. ومثل هذا الاستخدام للمسالة الوطنية هو سمة من سمات جميع الحكومات التي لا تتجرأ على مواجهة أزماتها الداخلية بجدية وتسعى إلى حرف الانتباه عنها ومنع الرأي العام من توجيه أي نقد لها ولأسلوب إدارتها.
في السياسة العربية
"من البديهي أن لا يكون هناك وحدة ولا تعاون ولا تفاهم بين الدول العربية قبل أن تتحول هذه الكيانات الهشة والمفتقرة هي ذاتها إلى الثقة بنفسها ومعرفة واجباتها وقدراتها إلى دول حقيقية, أي قبل أن تتحرر من القيود التي تفرضها على تطورها ولقائها مع أفرادها وأبنائها السلطة المطلقة البيرقراطية والمصالح الشخصية والفئوية التي تكبلها وتفسد جوهرها فتحولها من أداة تنظيم وتسيير وتواصل بين الناس إلى أجهزة أمنية أي قمعية فحسب. وعندما تتخلص الدولة القطرية من هذا المس الذي أصابها وتتحول إلى دولة شعبها ومواطنيها بالفعل سوف نكتشف بسرعة لا جدوى الحديث الطويل في عصرنا الراهن عن التناقض بين القطرية والقومية وعن أهمية تحقيق الوحدة العربية. والتجارب التاريخية التي تجري أمام أعيننا تدل بما لا يقبل الشك أن الدول والأممم الاوروبية المتكونة تاريخيا وبقوة لم تكن بحاجة إلى البرهان على هويتها المشتركة ولا إلى إختراع أسطورة قومية حتى تسعى إلى التعاون وتنجح في تحقيق الاتحاد فيما بينها. فلم يعد من الضروري من منظور تطور إشكاليات العصر, وفي مقدمها العولمة والانفتاحات الاقتصادية, إضفاء المشروعية التاريخية أو الثقافية أو الأقوامية على مشروع تعاون اقليمي حتى نبرر قيامه تجاه الدول والمجموعات البشرية الأخرى ولا من أجل ضمان استمراره وقبوله من قبل الجماعات المتعددة والمتباينة المشاركة فيه. وقد برهن تكوين الاتحاد الاوروبي في العقد الماضي على أن السعي المشترك لتعظيم المنافع والمصالح المتبادلة يشكل اليوم, بصرف النظر عن القرابة الروحية أو الأقوامية أو الجغرافية, مصدرا كافيا بل المصدر الأهم لمشروعية العمل الوحدوي أو الإقليمي. بل لقد أظهر أنه أقوى أثرا وفاعلية في تحقيق الاتحادات اليوم من أي مصدر مشروعية آخر قائم على تأكيد الروابط التاريخية أو اللغوية أو الثقافية. وبالعكس, دلت التجربة العربية على أن إنتماء شعوب عديدة إلى تاريخ واحد وامتلاكها لغة مشتركة وعيشها في إطار ثقافة واحدة ووجود مشاعر وآمال وآلام واحدة عند شعوبها بل ونزوع هذه الشعوب بشكل قوي وجامع إلى الاتحاد لم يقربها من الوحدة ولم يؤسس فيها عوامل الاتحاد, بل لم يحول بينها وبين التمزق والانفصال وتكريس الوطنيات المحلية وتقديس الحدود القطرية التي أثارت العديد من الحروب.
فالعامل الحقيقي والحاسم اليوم في الدفع نحو الاتحاد ليست العناصر التاريخية مهما كانت قوتها, وهي قوية جدا في البلاد العربية, ولا التراث المشترك مهما كانت عظمته, وإنما وجود قوى اجتماعية منظمة وواعية لحقيقة الأوضاع والتحديات الدولية وفي الوقت نفسه حساسة للمصالح العليا الوطنية لشعبها لاعتمادها عليه وعلى قبوله وموافقته في تحقيق أهدافها واستمرار سلطتها ولاستمداد شرعية حكمها وبالتالي وجودها كنخب سيادية منه. فهي تجد نفسها مدفوعة لا محالة في هذه الحالة إلى التقارب مع الدول القريبة منها, سواء أكانت منتمية لأصول واحدة ام لا, كما هو الحال في جنوب شرق آسيا, في سبيل تحسين شروط نموها وتعظيم مصالح شعبها وبالتالي تأكيد مشروعية هيمنتها وقيادتها.
"إن العروبة الاستهلاكية التي استمرت في الحياة بعيدة عن أي ممارسة عملية بعد انهيار الوحدة السورية المصرية أصبحت وسيلة سهلة للتغطية على انعدام الشرعية الشعبية ووفرت على الحكام التفكير بالتزاماتهم التي كان ينبغي أن تكون أساسية لبناء الوطن العراقي والليبي والسوري إلخ, أي لبناء الشعب المكون من أفراد أحرار، متساوين ومتفاعلين ومنتجين ومبدعين، قادرين على التواصل مع الشعوب العربية الأخرى بالفعل وتقديم إضافة للأمة العربية وللقضية الفلسطينية غير الشعارات والهتافات المجانية. ومن المؤكد أن تجاهل التزامات الدول تجاه شعوبها الوطنية لم يخدم القضية القومية أبداً. بل أدى فقط إلى تهميش الشعب داخل كل قطر، وخسارة المعركة القومية بالاضافة إلى معركة البناء الوطني كما قاد إلى إفساد صورة القضية الفلسطينية عند العرب والرأي العام العالمي معا. وهاهم الفلسطينيون يواجهون العدوان الاسرائيلي بأرواحهم بعد صدورهم وليس هناك أي شعب عربي قادر على أن يقدم يد العون الحقيقي لهم. ذلك أن الشعب الذي يفتقر هو نفسه للحرية لا يمكنه مساعدة شعب آخر, مهما كانت درجة قرابته منه, على التحرر. وعندما توجه الحكومات كل موارد البلاد لضبط شعوبها والسيطرة عليها لمنعها من الحركة، فلن تبقى هناك أية إمكانية لفتح جبهة خارجية. إذن, في بلادنا كما في الكثير من البلاد الأخرى غير الديمقراطية تستخدم السلطات باستمرار مسألة الحرب الخارجية ذريعة ووسيلة لتمتين السيطرة الداخلية لفئة على حساب الفئات الأخرى.
في العقد الوطني
"ليس المقصود بالعقد الوطني أن نوقع وثيقة فيما بيننا. فهذا جانب شكلي. لكن المقصود أن نتفاهم، عبر نقاش عميق وواسع، على غايات واضحة تحدد مبرر اجتماعنا، أي غاياتنا المشتركة, ولماذا نحن هنا كمجتمع, وما الذي يدفعنا إلى أن نعيش مع بعضنا؟ هل جغرافية المكان هي وحدها التي تجمعنا؟ أو أن ما يجمعنا هو أننا، فقط، ولدنا في سوريا ولا خيار آخر لنا في ذلك, ومتى وجد الخيار حملنا جوازات سفرنا وهاجرنا الى آفاق أرحب؟ أم تجمعنا مبادئ تشكل حدا أدنى من نقاط الاتفاق على أسس الحياة المشتركة فيما بيننا وتخلق روح الثقة وتشجع على التواصل والتبادل والتفاهم وتمكننا بالتالي من الوصول معا الى برامج عمل مشتركة. مجموع هذه المباديء والغايات والقيم التي توجه سلوكنا وتفكيرنا هي ما نطلق عليه اسم العقد الوطني وما ينبغي أن يجسده في كل بلد الدستور المصاغ بأسلوب ديمقراطي, أي من خلال جمعية تأسيسية منتخبة.
"لكن العقد الوطني لا ينشأ بأوامر عسكرية ولا يفرض من الخارج ولا يولد أيضا من تلقاء نفسه ولا يستمد من الثقافة سواء أكانت قديمة أم حديثة ولا يستخرج من أي نص مقدس أو حزبي. إنه النتيجة والثمرة الطبيعية للاتفاق والتفاهم الحاصل بين أفراد متعددين والتتويج لتفاعل واع وغير واع بينهم والتعبير عن خلاصة وعيهم الجمعي ومستوى نضجهم الفكري والسياسي والأخلاقي وعن متطلباتهم المشتركة لبناء حياة ايجابية منتجة يسودها السلام وتتوج بالسعادة والرضى. ولا يمكن الحديث عن توافق وتفاهم واتفاق من دون الحديث عن التواصل الحر والمفتوح بين الأفراد أو الحوار والنقاش وتبادل الآراء والمواقف والتشاور في الصحيح والأصح والسليم والأسلم للفرد والمجتمع بشكل عام. فالعقد الوطني والحوار الاجتماعي ركنان من أركان البناء الديمقراطي. فالعقد يؤسس للمباديء والقيم والغايات التي يقوم عليها النظام المجتمعي المنشود والحوار يضمن بناء السبل والوسائل السلمية لتحقيق هذه المباديء وخدمة تلك الغايات. فلا حياة سياسية سلمية وسليمة من دون اتفاق جماعي, ولا حماية لهذا الاتفاق والعقد من دون حوار مستمر, نسمبه اليوم في المجتمعات الديمقراطية النقاش الوطني, يتيح لجميع القوى التفاهم, في كل مرحلة وحقبة, على المضمون التاريخي الملموس لهذه المباديء والقيم والغايات.
"و نحن نفتقر اليوم بالتأكيد لمثل هذا المرجع الوطني الأساسي والشامل الذي يساعدنا على أن نحاسب أنفسنا كمجتمع أو أن نخضع بعضنا البعض أو سلوكنا الفردي والجماعي, أهالي وسلطات, للمحاكمة العقلية. وفي غياب مثل هذا المرجع الأول والمشترك لا يمكن أن نحاسب أنفسنا ولا أن نميز في كل حقبة أين كنا وأين أصبحنا. ولذلك ليس من الغريب في هذه الحالة أن تنزع النخب الحاكمة الى التماهي مع الدولة وأن تحلم بتخليد قيادتها مهما كانت نتائج عملها أو مهما كان رفض الشعب لسياساتها. فهي نفسها لا تملك معيارا تقيس به إنجازاتها وتحاسب من خلاله نفسها, بل لم يعد لديها مفهوما للسياسة ذاتها من حيث هي إدارة تاريخية مؤقتة ودورية وعقلية للموارد والشؤون الجمعية ولا للانجازات. فهي في السلطة لأنها نجحت في الاستيلاء عليها ولا تزال قادرة على تحقيق ذلك بالقوة العسكرية أو بالمناورات والتلاعبات العشائرية أو العصبوية.
وليس من قبيل الصدفة أن تتحول السياسة في إطار غياب أي مرجعية وطنية مشتركة وأي عقد أو تفاهم جزئي إلى طقوس عبادية وأن تتطابق مع الدين, بل أن تتحول إلى دين يقوم توحيد المجتمع المتناثر فيه من خلال الخضوع المشترك والكامل للاله-الملك الواحد والمشاركة في سره وتقديسه. فليس لهذه الإدارة الاجتماعية أي مرجعية عقلية, وليست مؤهلة لتصبح سياسة يشارك فيها الأفراد جميعا. إنها عبادة مشتركة فحسب.
في المصالحة المصالحة الأهلية
"المصالحة الوطنية لا تعني التفاهم بين قوى المعارضة والنظام الحاكم. ولو كان هذا هو معناها لما كان من الضروري الحديث عن العقد الوطني والمباديء والحرية والديمقراطية وكل ما يرتبط بالمجتمع السياسي الحديث. وكان الهدف سيكون اقتسام السلطة بين القوى الحاكمة وتلك التي توجد خارج الحكم غير راضية عنه. ولو حصل هذا التفاهم والتقاسم للسلطة بالفعل لما كان علينا ان نتحدث عن خطوة ايجابية على طريق الديمقراطية ولكن عن نكسة جديدة لهذا المسار السياسي الذي نريد له أن ينقلنا من مجتمعات إذعان إلى مجتمعات بشر تفكر وتناقش وتعي وتطالب وتقرر وتتحمل مسؤولية فردية وجماعية وبالتالي تنتج وتبدع ولا تكون كما نحن الآن عالة على الدولة في الداخل وعلى العالم الخارجي في الحضارة.
إن المصالحة الوطنية تعني الخروج من مناخ الحرب الاجتماعية الدائرة داخل المجتمع منذ عقود أو من الصيغة التي تقيم السلطة على الغلبة المادية كما تعني أو هي تعني الاعتراف الجامع بين كل الأطراف, أفرادا وقوى سياسية, بالحقوق المتساوية للجميع أيضا, أفرادا وجماعات, في المشاركة على قدم المساواة في تقرير مصير البلاد, أي المصير الجماعي. إنها مصالحة المجتمع مع نفسه بكل فئاته ومذاهبه وتياراته وقواه, ومصالحة الدولة مع المجتمع الذي أنكرته عندما أنكرت حقوقه في السيطرة عليها وتسييرها لصالحه العام, ومصالحة أخيرا للدولة مع ذاتها ومع مفهومها كدولة سياسية أي كإطار لتوحيد الإرادة الجماعية وخلق فرص التفاعل والابداع بين الأفراد لا كأداة لقهر المجتمع وإخضاعه وتركيعه لخدمة مصالح خاصة على حساب المصالح العمومية.
"ومن هنا لا يمكن التفكير في أي مصالحة وطنية من دون العودة الى حكم القانون وتعديل الموقف من الدستور بحيث يصبح أداة في يد الأفراد المحتاجين لضمانات قانونية لا في يد السلطة التي تملك أساسا كل الوسائل للضغط على الأفراد والحد من حرياتهم والتقليص من حقوقهم. كما أنه لا أمل في نجاح أي مبادرة للمصالحة, سواء أجاءت من قبل السلطة أم من قبل المعارضة, من دون إقرار الجميع بأن سورية وطن السوريين بالتساوي ولا ينبغي أن تفرق أو تميز بين أبنائها ولا أن تضمن لبعضهم من المصالح والامتيازات والفرص ما ترفضه لبعضهم الآخر, لا باسم الانتماء العائلي ولا الانتماء الاجتماعي ولا الأصول المناطقية ولا العقائد السياسية أو المذهبية, ولا أن تكرس سيادة قسم منهم على القسم الآخر, لا بالقانون ولا بالقوة ولا بالتربية ولا بأي وسيلة أخرى. وهذا يعني أن سورية ومواردها وقيادتها والمشاركة في بنائها وتحديد مصيرها ومستقبلها ليس فيهم ما هو حكر لأحد أو لفئة ما من دون الآخرين. ومن دون هذا القبول بالخضوع العام, من ابناء المسؤولية إلى أبناء أفقر الشرائح الاجتماعية, للقانون والاقرار بالمساواة التامة بين السوريين والنظر إليهم جميعا كمواطنين من درجة واحدة والتخلي نهائيا عن عقلية التفوق والابوية والأسبقية المستمدة من الروح الانقلابية السابقة, داخل الحكم والمعارضة معا, ستكون سورية مقسومة لا محالة بين أسياد وعبيد, وسيكون من الصعب الأمل بأي مصالحة ممكنة ومحتملة وستسير أكثر فأكثر نحو التفكك والخراب والانفجار.
إن المطلوب لخلق مناخ المصالحة الوطنية هو مبادرات عملية فعلية تظهر الرغبة في التخلي عن روح الوصاية وإرادة الإقصاء وقوانين التمييز بأي اسم جاءت ولأي سبب نشأت. وهذا العمل مطلوب من قبل السلطة أولا. وهو ليس مطلوب للتقرب من المعارضة أو للمصالحة معها. فالمصالحة كما قلت ليست إعادة اقتسام الغنائم ولكن إعادة بناء قواعد التعامل بين السلطة والمجتمع بحاكميه ومحكوميه. إن المصالحة الحقيقية المطلوبة هي مع المجتمع المقصى وفي سبيل إعادة الحياة له وتطمين الأفراد على أنفسهم وممتلكاتهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم, وإعادة الثقة إليهم في وطنهم وقيادتهم واستعادتهم لميدان العمل الجمعي والمسؤولية العمومية, أي إلى ميدان السياسة والمشاركة والبذل والانجاز والابداع ومن ثم الارتقاء بهم إلى مستوى الحياة الأخلاقية والانسانية الحقيقية.
نتائج
لا يبدو أن الايمان العميق بالاختيار الديمقراطي يجعل برهان غليون يتجاهل الصعوبات الكبيرة التي يواجهها مسار التحول الديمقراطي وبالتالي الجهود الثقافية والسياسية والاجتماعية الكييرة التي يتوجب على المجتمعات العربية بذلها للوصول إلى أهدافها. فالديمقراطية ليست بالنسبة له معطى جاهزا ولكنها مغامرة بالمعنى التاريخي للكلمة أي معركة مستمرة. وكما يمكن أن يربح المرء معركته يمكن أن يخسرها، لكنها معركة تستحق الخوض لأن على نتائجها يتوقف تحول الفرد المستعبد إلى إنسان حر كما يتوقف إخراج المجتمعات من عثرتها ووقف تدهور شروط وجودها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستمرة. فكما يختم برهان غليون :
"لا ينبغي علينا أن نتصور أن القوى التي ستعيد بناء المجتمع وتؤمن وظائف القيادة والتوجيه والتسيير والادارة الناجعة والمهمومة بالمصالح الجماعية سوف تولد واعية ومتعلمة ومؤمنة بالمصالح الوطنية ومستعدة للسلوك المدني السليم من تلقاء نفسها. إن ابن الانسان إذا بقي من دون تربية نشأ أشرس من أي حيوان وأكثر أنانية وعدوانية منه. والمجتمع الذي يفتقر لنخب قادرة على توجيه الأفراد وتنظيمهم, وقبل ذلك, ومن أجل ذلك, كسب ثقتهم, يبقى جثة هامدة لا قدرة له على اداء أي عمل مفيد من أي نوع كان اقتصاديا أم سياسيا أم فكريا, ولا يستطيع أن يوجه أي مقاومة تذكر لأي قوة خارجية أو داخلية تسعى الى السيطرة عليه وإخضاعة واستعبادة. ولا يستدعي بناء الانسان وتربية النخب الوطنية وتحسيسها بالمصالح الجمعية وتزويدها بقيم ومباديء وغايات إنسانية جهودا جبارة فحسب من قبل قادة الفكر والرأي والسياسة ولكنه يحتاج, أكثر من ذلك, وقبل ذلك, الى شروط وبيئة ومناخات مجتمعية تجسد شيئا من هذه المباديء والقيم والغايات. وقد يستدعي نشوء حزب سياسي قوي ونجاحه في صوغ برنامج متكامل وفي بناء علاقات ثقة مع الجمهور ومع الرأي العام، وتطوير قدرته على استيعابه لواقعه الاجتماعي والتاريخي وللمشاكل المطروحة على مجتمعه, أي كيما يتحول الى قوة قيادة وتوجيه وطني وتنظيم اجتماعي, إلى عشرات السنين.
وإذا أردنا أن نجنب بلدنا الأزمات الطاحنة القادمة، الداخلية والخارجية, فعلينا منذ الآن أن نهيّء الوضع وأن نسعى الى تفكيك نظام السلطة المطلقة تدريجياً، حتى نتيح للشعب أن يبني قوى جديدة ضرورية لضمان المستقبل وليست بالضرورة بديلة لما هو قائم اليوم. وبدل أن يسير المجتمع, كما هو عليه لآن, على قدم واحدة, ويعتمد في توجهه وبلورة خياراته على فكر واحد وحزب واحد ورجل واحد, ينبغي أن نعمل لمجتمع يسير على الأقل على قدمين حتى يحفظ توازنه ويتفدم بثبات أكثر، ويفكر برأسين إن لم يكن برؤؤس عديدة ويحلم ويبدع بملايين الأذهان والمخيلات.