اغتيال العقل الثقافة العربية بين السلفية والتبعية

يشكل هذا الكتاب الفصل الأول من مشروع مراجعة نقدية لتجربة النهضة العربية، ثقافية وسياسية وإجتماعية، التي نشأت من تصادم الحضارتين العربية الاسلامية والغربية وتفاعلهما، منذ القرن التاسع عشر، وطبيعة "الحداثة" والثقافة الحديثة التي ولدت منهما، والتحديات التي نشأت عنها، والمصاعب التي واجهتها المجتمعات لإعادة تشكيل هويتها وأساليب عملها ونظمها المختلفة والتناقضات التي رافقتها وسقف الطموحات التي تعلقت به وحدودها في الوقت نفسه.

ويقدم الكتاب منظورا مختلفا لفهم أسباب إخفاق هذه النهضة ومناقضا لتلك الطروحات التي سعت إلى البحث عن مفتاح فهم الطريق المسدود الذي وصل إليه جهد العالم العربي في التحديث والاندراج في مدنية العصر والحداثة خلال العقود الطويلة الماضية في نقائص التراث العربي الاسلامي أو في الجمود الفكري كما فعل الاصلاحيون الاسلاميون في نهاية القرن التاسع عشر. فيبين أن أصل هذا الأخفاق، بعكس ما يسعى إلى إشاعته أيضا بعض المستشرقين المعاصرين الذين يركزون على الطبيعة السحرية والانفعالية والشفوية أو المتكلسة للثقافة العربية وافتقارها لتراث الحكمة المنطقية والمحاكمة العقلية والبحث العلمي، موجود في العقل الحداثي أو التحديثي العربي الجديد نفسه، واقتدائيته وتبعيته وخضوعه للرهانات الايديولوجية وتصنيعه للآليات الدفاعية التي تسعى إلى تكريس سيطرة النخب الاجتماعية والتغطيشة على فشلها وتهربها من المسؤولية. وهذا هو "العقل" الذي قاد عمليات التغيير وبناء الدولة وقيادتها، وهو الذي صاغ السياسات والخطط واتخذ القرارات، بذريعة اللحقاق بالعصر المعلنة. أي أنه يكمن في تناقضات هذا العقل العربي الحديث وهشاشته واستلابه وبعده عن البحث الموضوعي وارتهانه لأجندة سياسية تهدف إلى تحييد الشعوب وتهميشها وضمان خضوعها أكثر بكثير مما تهدف إلى تحريرها والارتقاء بشروط حياتها وتفكيرها.

في هذه الحالة، لن نعثر على شيء ولن نخرج بشيئ من تكرار النقد الايديولوجي لتراث القدماء الذي لا يزال مستمرا منذ قرن، ولن نستطيع أن نكسر الحلقة المفرغة للتفكير الايديولوجي المرتهن للصراع السياسي وندخل في منطق المعرفة العلمية وفهم الواقع من جهة، والتقدم في اتجاه بناء أسس المستقبل ومبادئه من جهة ثانية، من دون أن نبدأ بنقد العقل العربي المحدث نفسه، العقل والفكر والنظريات والطروحات التي قادت بناء الدولة والمجتمع والفكر في العصر الحديث، في مجتمعاتنا، والتي يفسر إخفاقها وحده ما تشهده هذه المجتمعات اليوم من انبعاث ملفت للوعي القديم ولتصوراته الدينية والسياسية والاجتماعية الاكثر فقرا وسذاجة لمواجهة انهيار عالمهم الحديث.