لماذا يبدو الانفتاح السياسي مستحيلا في العالم العربي؟

2003-12-03:: الجزيرة نت

لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم أن هناك عملية تغيير عميقة جرت وتجري منذ عقدين أو ثلاثة داخل بلدان العالم بأجمعها وتتخذ من التكيف مع حاجات الاندماج في السوق العالمية ومع السياسات النيوليبرالية محورا أساسيا لها. هذا ما جرى في دول الكتلة السوفييتية السابقة وأوروبا الوسطى وأمريكا اللاتينية ولا يزال يجري في بلدان جنوب شرق آسيا وأفريقيا. بيد ان الذي يميز هذه العملية في البلدان العربية بشكل أقوى من أي منطقة أخرى هو الفصل الواضح بين التغيير الاقتصادي والتغيير السياسي، أو بمعنى آخر استبعاد السياسة من ميادين الاصلاح والسعي ما أمكن إلى الاحتفاظ بآليات نموذج الدولة البيرقراطية التسلطية على الطريقة السوفييتية أو على الطريقة الأبوية شبه الاقطاعية. وعادة ما يبرر أنصار السلطة هذا الاختيار بغياب مطالب الديمقراطية ونداءات الحرية والحقوق الانسانية واقتصار مطالب الجمهور العربي الواسع على تأمين لقمة الخبز وزيادة فرص العمل لعشرات ملايين الباطلين ورفع مستوى المعيشة المادية. ولن تكون نتيجة فتح الحقل السياسي في هذه الحالة سوى تعميم الفوضى والنزاعات في الوقت الذي تحتاج فيه المجتمعات العربية إلى ضمان الاستقرار ما أمكن لجذب الاستثمارات الأجنبية. ولذلك من الأفضل أن تقتصر أجندة التغيير في الدول العربية على بند واحد وحيد هو التحرير الاقتصادي، أي وضع الشروط القانونية والإدارية المحفزة على جذب الاستثمارات وتوطينها. وفي بعض البلدان العربية يقدم منظروا هذا الاختيار المثال الصيني كنموذج ناجح للتغيير الاقتصادي المحض في مقابل نموذج التغيير الروسي الذي أدى إلى عهد الفوضى، معتبرين أن ما ينطبق على الصين التي تشكل قارة قائمة بذاتها تتصارع الشركات الكبرى على وضع موطء قدم في سوقها ينطبق على أي بلد صغير مهما كان حجم اقتصاده وسوقه الوطنية وموارده البشرية والطبيعية.

والواقع ليس هذا الاختيار الاقتصادوي الذي يبدو وكانه يتماشى مع حاجات الاندماج في الاقتصاد الليبرالي مجردا عن الهوى. كما أن اختيار الإطار أو النظام السياسي ليس أمرا محايدا ومستقلا عن الاختيار الاقتصادي ولا مفصولا عنه. وكما أنه لا يوجد نشاط اقتصادي في الفراغ فإن كل اقتصاد يتكون ضمن إطار سياسي يعين قواعد العمل المتبعة وعلاقة الفئات الاجتماعية في ما بينها ومواقعها وقدراتها على العمل والمبادرة الجمعية وبالتالي آفاق تحولها وازدهارها. ومن هنا أطلق المنظرون المعاصرون اسم الاقتصاد السياسي على الاقتصاد الحديث واعتبروه بحد ذاته سياسة كبرى. ونحن لم نعد نتحدث اليوم إلا في السياسات الاقتصادية.

إن إغلاق المجال السياسي وتحريم العمل فيه للقوى الاجتماعية أو شلها والتضييق عليها لم يكن يهدف ولا يهدف إلى شيء آخر في البلاد العربية سوى قطع الطريق على أن يشكل التحول نحو اقتصاد السوق مناسبة لإعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل يقلل من سيطرة الفئات المحدودة المستفيدة منها في الحاضر، وفي ما وراء ذلك منع تعديل موازين القوة السياسية والحيلولة دون تغيير نموذج السلطة الاجتماعية في المستقبل. فهذا الإغلاق هو الذي يضمن وحده انتقالا سريعا وتلقائيا للثروة الوطنية من أيدي جيل الآباء الذي سيطر عليها باسم حماية الملكية العامة أو الاشراف عليها إلى أيدي جيل الأبناء الجديد باسم التنمية الاقتصادية المعتمدة على الاستثمارات الخاصة. ونحن هنا في الواقع في سياق طبيعي لإعادة تكوين طبقة ارستقراطية فقدت مبرر وجودها. فالفصل بين السلطة السياسية وأصحاب المصالح الاقتصادية هو من سمات الدولة القانونية ومصدر الحراك الطبقي في العصر الحديث بقدر ما كان الاندماج بينهما سمة أساسية من سمات الدولة أو السلطة الإقطاعية القديمة التي كانت تقوم على منع الحراك الاجتماعي وتثبيت السكان والفئات الاجتماعية في مراتب جامدة وتكريس السلطة والثررة معا كحق محسوم وثابت لارستقراطية وراثية محصورة في جزء محدود من العائلات التي نجحت عن طريق تفوقها في تنظيم الميليشيات المسلحة في وضع يدها على السلطة ولا تزال تملك القوة الكافية للاحتفاظ بها.

من هنا تستدعي إعادة تكوين الارستقراطية الجديدة التي تعيش على ريع الموقع في السلطة، في عصرنا الراهن، تفريغ الدولة الحديثة من مضمونها، أي من مفاهيم الوطن والمؤسسة والمواطنية والقانون والحرية الشخصية. وهو ما يفسر العودة القوية في إطار السلطة القائمة إلى تعبئة العصبيات العشائرية والعائلية وتكريس قانون القرابة والولاء والانتماء الخاص والتمديد له إلى ما لانهاية. فمن خلال اختراق الدولة الحديثة من قبل البنيات والقيم الزبائنية فقط تستطيع الارستقراطية الجديدة أن تحول مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية إلى ما يشبه ميليشيات القرون الوسطى التي تضمن لها التفوق والاستمرار. وهكذا تتحول الدولة الحديثة من إطار قانوني وسياسي يضمن للمجتمع تنظيم شؤونه وتجاوز تناقضاته وحلها بالوسائل السلمية، ومن ثم تحقيق وحدته وتضامناته مع تجنب الحرب والصراع الأهليين، إلى أداة لإخضاع المجتمع بالقوة واستخدام العنف الشرعي لقهره وتركيعه.

هذا هو في الواقع المغزى الرئيسي لإغلاق الحقل السياسي والابقاء على نظام السيطرة الشمولية المعتمد على تعليق القانون وإلغاء المراقبة والمساءلة الوطنية. وهو الذي يفسر أن الانفتاح الاقتصادي يسير هنا مناقضا بشكل مباشر للانفتاح السياسي وللاصلاح الإداري والقانوني والاجتماعي معا.

وفي البلاد العربية التي تشهد منذ السبعينات تحولا مضطردا في اتجاه اقتصاد السوق لم يعمل هذا الدمج بين السياسات النيوليبرالية الجديدة والنظام التسلطي على تفاقم مظاهر الزبائنية العائلية والعشائرية فحسب ولكنه حرم الانفتاح الاقتصادي من إمكانية إطلاق علمية التنمية أو خلق فرص عمل جديدة، وساهم، في ما وراء ذلك، في الإفقار المتواصل للمجتمع. فتكوين هذه الطبقة الزبائنية لا يتم على حساب نشوء الطبقة الوسطى المنتجة فحسب ولكنه يقطع الطريق أيضا على تكون طبقة رأسمالية نشيطة وحية من رجال الأعمال المنتجين والمبادرين، لصالح النمو السريع لرأسمالية المضاربة الطفيلية وغير المنتجة التي برزت في سياق عملية الانتقال البسيط للثروة، ومن دون جهد ومن دون منافسة، داخل قائمة العائلات والأسر نفسها التي سيطرت على الدولة واستغلت نفوذها فيها لتحقيق طفرتها التاريخية. ولذلك ما كان من الممكن للتحرير الاقتصادي أن يعني هنا تراجع الفساد بقدر ما عنى تفاقمه بموازاة تقدم عملية التحرير بل تحوله هو نفسه إلى قاعدة نمو الاقتصاد الجديد ومحركه.

أن أولويات الجيل القديم والجيل الجديد الذي يسعى إلى وراثته، في حقلي السلطة والاقتصاد معا، واحدة، هي نقل السلطة السياسية والمادية، أي الحكم ورأس المال معا، في نطاق الدائرة العائلية واستغلال آليات النظام القائم لتحقيقها على أكمل شكل وفي أسرع وقت. وكل يوم يمر من دون انفجار الأزمة العامة تعتبره هذه الفئات مكسبا لها. فما يهمها في الواقع ليس مستقبل البلاد ولا تطور الانتاج ولا توسع استثماراتها في الداخل وإنما جمع أكثر ما يمكن من الثروة قبل أن يحين وقت تصديرها على شكل ودائع واستثمارات إلى السوق العالمية. وبقدر ما يعكس هذا الوضع افتقار رأسمالية المضاربة الجديدة الناشئة في أحشاء بيرقراطية الدولة إلى أي حافز للتغيير السياسي يؤكد راهنية الإبقاء على أنماط الحكم العسكري والأمني وحتمية إعادة إنتاجها. فكما أنه لا أمل لهذه الطبقة في البقاء بوجود أليات ووسائل المراقبة والمحاسبة والشفافية والمساءلة القانونية والسياسية، فليس بإمكانها التطور والنماء من دون االاستخدام المعمم للعنف الذي يضمن لها وحده لجم القوى الاجتماعية المنتجة والعاطلة والمهمشة والاستمرار في الاستفادة من الميزات الاستراتيجية نفسها التي استفاد منها جيل آبائها للانتقال من حال البؤس إلى مصاف الطبقة الارستقراطية المكرسة.

وما لم يتعرض نظام الاحتكار المطلق للسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية الذي يمثله الحكم في إطار قوانين الطواريء وحرمان المجتمع من أي حياة مدنية أو سياسية للانهيار من تلقاء نفسه، كما حصل في البلاد الأخرى الشمولية، ليس لهذه الطبقة أي مصلحة في أن تعدل فيه أو تزيحه. فهو يقدم لها أفضل الشروط لتحقيق التراكم السريع أو بالاحرى لتمديد مرحلة التراكم البدائي القائم على استخدام القوة المجردة لرفع عوائد ريع الموقع السياسي إلى حدها الأقصى، وإذا أمكن، مراكمة الثروة ورأس المال من دون أي استثمار آخر سوى الرشوة الضرورية لكسب المحاسيب والأعوان. فكيما تضمن لنفسها الانطلاق من ضيق الاقتصاد الوطني الصغير نحو رحابة السوق العالمية التي تشكل منذ الآن امتدادا طبيعيا لها ليس عندها خيار آخر سوى تحقيق المعادلة الصعبة: أقصى معدلات التراكم بأسرع وقت وبأدنى تكلفة.

في هذا النمط الخصوصي والزيائني من الانتقال نحو اقتصاد السوق العالمية أو المعولمة نجد التفسير الاقتصادي السياسي والتبرير الوحيد للابقاء على نظام الوصاية الفكرية والمدنية والسياسية التي يجسدها نظام ا الحزب الواحد أو إلغاء الحياة السياسية ورفض إجراء أي تعديل أو تغيير أو إصلاح على قواعد العمل العمومي القائمة والتقوقع بشكل أكبر على مفهوم السلطة الأحادية والشاملة. وفيه نجد أيضا معنى حرص أصحاب المناصب بمختلف مستوياتها على البقاء في مناصبهم إلى الأبد قبل توريثها لأبنائهم. وهو انتقال خصوصي بالفعل بالمقارنة مع ذاك الانتقال الذي عرفته مجتمعات أوروبة الوسطى انطلاقا من انهيار النظام الشمولي. فهو انتقال تحقق ويتحقق داخل النظام القديم ومن دون المساس بقواعد عمله السياسية والاجتماعية بل تحت حراسة وإشراف الدولة نفسها. والفرق الوحيد بينهما هو أن الانتقال نحو اقتصاد السوق المعولم قد قاد، في حالة انهيار النظام الشمولي، إلى سيطرة شبكات المصالح الضيقة ذات الطابع المافيوزي لكن إلى جانب نشوء نظم تعددية وديمقراطية تسمح مع الوقت بتعديل الوضع الناشيء عن أزمة الانتقال، كما تشير إليه محاولة الرئيس الروسي بوتين الراهنة لمحاصرة امبرطوريات المال في روسيا الاتحادية. في حين يقود الانتقال نحو الرأسمالية الخاصة في ظل استمرار الحكم الشمولي في البلدان العربية نحو تخليد سيطرة شبكات المصالح العائلية نفسها والتمديد في عمرها مع انسداد أي أفق للاصلاح أي للتغيير في الأحوال المعيشية والسياسية والقانونية والأخلاقية للبلاد.

ويترتب على هذا التطور الاستثنائي نشوء رأسمالية من طبيعة خاصة يميزها وجود فئات فائقة الثراء لكن مع غياب طبقة رأسمالية ذات تقاليد ووعي وطني ومواطني ورؤية استراتيجية شاملة وطويلة المدى. وهي تميل إلى أن تتكون على شكل شبكات مصالح متضاربة ومتنافسة تتنازع للحصول على مناقصات الدولة التي تحدد هي نفسها هامش الريع المرتبط بها، أي تتصارع على تقاسم الثروة العامة واقتسامها لا على مراكمتها عبر تطوير الاستثمار وتوسيع دائرة الانتاج والانفاق لتطوير القاعدة التقنية والعلمية. وهذه هي إحدى آليات تكون الرأسمال العولمي انطلاقا من إلحاق أصحاب الرساميل وفئات البرجوازية المبتورة الرأس والمعدومة الانتماء أو الولاء به وضمها إليه. وهي كذلك مصدر الفوضى السياسية التي تعيشها وستعيشها بشكل أكبر المجتمعات الفقيرة باعتبارها الشرط الضروري لإعادة إنتاج سلطة أرستقراطية رثة وطبقة وسطى زبائنية مكونة من شبكات المصالح والولاء العشائري والعائلي والجهوي، غير منتجة ولا مبدعة ومفتقرة في سلوكها الفردي والعمومي لأي معايير موضوعية ووطنية وأخلاقيات عامة.