هل يفتح يأس السوريين باب الحوار الوطني المسدود؟
2017-07-13:: العربي الجديد
1
لم يتعرّض شعب في التاريخ الحديث لما تعرّض له الشعب السوري في الأعوام السبع الماضية. ولم يحصل في أي وقت أن دولةً، بكل ما تملكه من قوةٍ وأجهزةٍ ومؤسسات، انقلبت على شعبها وتحولت من إطارٍ لحمايته وتنظيم شؤونه والدفاع عن مصالحه إلى أداةٍ لقتله بالجملة، وتشريد من أمكن من أبنائه وتجويعه وتقطيع أوصاله، وفتح أبواب بلاده للاحتلالات الأجنبية. ولم يكن من المنتظر، في أسوأ التوقعات الممكنة، أن يحظى نظامٌ سياسي، تخلى عن جميع مسؤولياته السياسية والأمنية، وانتهك، بشكل فاضح، وخلال سنوات طويلة، كل مواثيق الحرب الدولية وحقوق الإنسان، تجاه شعبه نفسه، وفي مقدمها الحق الأول في الحياة، واستخدم من دون رادع جميع أسلحة الدمار الشامل، بما فيها الأسلحة الكيميائية، بما حظي به نظام الأسد من الدعم العلني والواسع من مجموعةٍ واسعة من الدول المهمة. ولم يجد أي نظامٍ دموي في التاريخ الحديث من يدافع عنه، ويبرّر جرائمه الوحشية، ويتعاطف مع الجلاد ضد الضحية، من الأنظمة والمثقفين والسياسيين والصحفيين والفنانين، ما وجده في عصرٍ اعتقد الجميع أنه مثل نهاية الحرب الباردة، وفتح الأبواب أمام تعميم قيم الحرية والديمقراطية.
ولم يظهر المجتمع الدولي الذي قامت مؤسساته لما بعد الحرب العالمية الثانية على مبادئ حفظ الأمن والسلام الدوليين، والحيلولة دون العودة إلى نظام العنصرية، وتبرير المذابح الجماعية وجرائم الإبادة العرقية أو الدينية، وتمكين الشعوب من حقها في تقرير مصيرها، تحللا من التزاماته القانونية والأخلاقية، في أي حقبةٍ سابقةٍ، كما أظهره إزاء الانتهاكات والارتكابات الشاملة والمستمرة لحقوق الشعب وحقوق الإنسان، حقوق الفرد والجماعة التي حصلت، ولا تزال تحصل، منذ سنوات، على يد الطغمة الحاكمة في دمشق. ولم يظفر أي مجرمٍ في التاريخ الحديث بمن يبرّر جرائمه، ويزيّن أعماله له ولغيره، ويدعو إلى تأهيل القاتل، وتمكينه من شعبه، كما ظفر الأسد ونظامه. ولم يظهر الرأي العام الدولي تواطؤا مع قاتلٍ، أجمعت المنظمات الإنسانية والحقوقية على ضرورة تقديم ملفه للعدالة الدولية، واتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما أظهره أمام نظامٍ لم يتوقف عن التأكيد على تصميمه على الاستمرار في إبادة "شعبه"، وإخضاعه بالحديد والنار لشهواته وإرادته. ولا تكاد تكون هناك سابقةٌ في العالم على الغياب الكامل لأي رد فعل، رسمي أو شعبي، وانعدامٍ كامل للتضامن الإنساني، أمام صور ألوف البشر، من الاطفال والنساء والشباب والشيوخ، الذين قضوا تحت التعذيب حتى الموت، وأؤلئك الذين ماتوا خنقا بالأسلحة الكيميائية، أو تحت أنقاض المنازل والملاجئ المستهدفة بالبراميل المتفجرة، كما حصل مع جرائم الحرب الدائرة في سورية منذ سنوات. ولم يعامل احتلالٌ لبلد آخر بالتساهل، إن لم نقل بالتعاطف، ولم يحصل استهتار بمبدأ السيادة وحرمة الدم، وشرعنة لغزو المليشيات الطائفية، وإقامة للقواعد العسكرية في أراضي الغير، كما حظي به الاحتلال الإيراني والروسي للأراضي السورية.
بالتأكيد، ليست المذبحة السورية الأولى في التاريخ القديم أو الحديث، فقد سبقتها مذابح وحروب تطهير عرقي وإبادة جماعية في أكثر من منطقة، حتى بعد الحرب العالمية الثانية، لا تقلّ دمويةً عما شهده السوريون، مرت من دون أي محاسبةٍ أو عقاب. لكن ما يميز حرب التطهير العنصري السورية أنها لم تحصل في غفلةٍ من الرأي العام العالمي، ولكنها تكاد تجري مباشرة على الشاشات، في كل مراحلها وتفاصيلها. وربما لم تحظ حربٌ بالقدر الهائل من التصوير ونقل المعلومة ومعرفة الجناة والضحايا، أي بهذه الشفافية و"المعروضية"، كما حظيت المحنة السورية. فقد مرّت حروب الإبادة الجماعية السابقة جميعا من دون إعلام واسع، أي قبل الثورة المعلوماتية، ونجح مرتكبوها في إخفاء صورها الأليمة عن الرأي العام، كما أنها حصلت في عالمٍ لم يكن على الدرجة التي يعرفها اليوم من التواصل والتفاعل والاندماج.
2
حتى الحرب السورية، كان هناك افتراض واسع الانتشار بأن المجازر الكبرى التي شهدتها المعمورة في القرن الماضي حصلت لأن مرتكبيها نجحوا في إبقائها بعيدةً عن الأنظار، ونشأ شعور واسع، في المقابل، بأن مثل هذه المجازر لن يكون حدوثها ممكناً في عالم ثورة المعلومات، وأن المجتمع الدولي لا يستطيع أن يتحمل رؤية مشاهد المذابح الواسعة، من دون أن يتدخل أو يسعى إلى وقفها. ونشأ عن ذلك اعتقادٌ لدى الناشطين السوريين الذين كانوا يتعرّضون للقتل المنهجي واليومي أن خلاصهم يكمن في التوثيق اليومي، بالصوت والصورة، لكل ما يحصل من مجازر، حتى صارت وظيفة الإعلام الأبرز بين وظائف نشطاء الثورة جميعها، وهذا ما حوّل الناشطين الإعلاميين من الشباب إلى هدفٍ أول لرصاص النظام. وبانعدام وسائل أخرى لمواجهة عنف السلطة، راهن السوريون على تعبئة الرأي العام الدولي، وتمسّكوا بأمل أن يثير النشر الواسع لصور المأساة ومشاهد العنف الوحشي للنظام رد فعل عالمياً قوياً، ويبعث ديناميات التضامن مع الشعب المذبوح. كان شعارهم غير المنطوق به: لا يمكن للعالم أن يقول إنه لا يعرف كما حصل مع المذابح السابقة. اليوم نحن نقدّم يوميا، بالصور والأرقام، الأدلة القاطعة على ما يجري من انتهاكاتٍ غير مسبوقة لحقوق الشعب والأفراد. أدلة على القتل والتمثيل بالجثامين والتجويع والتشريد. لذلك لم تحظ أحداثٌ بالأرشفة اليومية التي حظيت بها الأحداث السورية. حتى ليكاد يكون هناك كل يوم سجلٌ كاملٌ بعدد القتلى والشهداء وأسمائهم وسيرهم، ومكان استشهادهم، وبمشاهد القصف والعنف والإبادة. لم يحظ الموت بسجلٍّ مفصل وجامع ويومي في أي حرب، كما حصل في الحرب السورية.
كان هذا هو الفخ الذي وقع فيه السوريون، ولا يزال أغلبهم، وفي مقدمهم الناشطون، غير متحررين من وهمه بعد، فقد اكتشف السوريون، على حساب أرواح أبنائهم، عدم صحة هذه الفرضية التي تستمد قوتها من الاعتقاد المثلث الخاطئ بأن ما منع العالم من التدخل لوقف المجازر الجماعية في الماضي هو غياب المعلومات أو تغييبها، وأن النزوع إلى الحرية والديمقراطية أصبح مطلبا عالميا وأخلاقيا معا، يوحّد بين جميع الأمم والشعوب، ويشكل مصدراً للتضامن في ما بينها، وأن العالم الذي نعيش فيه ارتقى بثقافته السياسية إلى ما فوق أنانية المصالح القومية، وولد بالتأكيد، في المعمورة المعولمة، ضمير جماعي، يدفع الدول والحكومات والرأي العام إلى العمل لوقف أي مذابح أو جرائم ضد الإنسانية. ما حصل في الحالة السورية أثبت خطأ هذه الافتراضات جميعاً.
فلم يؤثر التوثيق اليومي للأحداث على سلوك الجمهور العالمي، ولا أعارت الدول والحكومات الديمقراطية اهتماماً كبيراً للوثائق الدامغة التي قدّمتها منظمات حقوق الإنسان الدولية عن اتساع دائرة الانتهاكات والقتل بالجملة خارج القانون، والموت تحت التعذيب، أو في حصار التجويع وتحت قصف القنابل العمياء، أو حتى بالأسلحة الكيماوية والعنقودية المحرّمة. ولم يُحدث نشر هذه الوثائق والصور أي تغييرٍ في مواقف الدول المؤثرة، ولم يجعلها تتقدّم خطوةً عما كانت تفعله في أول أيام اندلاع الأحداث. وربما أكثر مما حصل في أي أحداث دولية كبيرة سابقة، لم يسد منطق المصالح الوطنية حسابات الدول الكبرى والصغرى على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية، كما ساد في الحالة السورية. ولم تشهد الساحة الدولية تظاهرةً مهمة واحدةً لإدانة القتل والضغط على الحكومات، لوقف المذبحة السورية المستمرة منذ سنوات. منذ البداية وحتى الآن، لم تغيّر الحكومات المعنية بالأحداث رؤيتها للمسألة وللمعادلة الأساسية التي توافقت عليها ضمنا منذ الأيام الأولى: معادلة لا غالب ولا مغلوب، والتي لا تعني شيئا آخر سوى مساواة الجلاد بالضحية، وشرعنة استمرار الحرب، والقبول بفكرة استمرار القتل والإبادة.
3
ظهرت معالم هذا الواقع واضحةً منذ إفشال النظام أول مسعىً دولي لطرح حل للمشكلة، والرد الباهت للمجتمع الدولي على إخفاق مؤتمر جنيف الأول الذي عقد في فبراير/ شباط 2012، لتطبيق المبادرة العربية الدولية التي لخصها كوفي أنان في ست نقاط، أبرزها وقف النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن، والسماح بدخول المساعدات الإغاثية، والبدء بإطلاق سراح المعتقلين، والبدء بمفاوضات الانتقال السياسي. وقد حاول بعضنا الهرب من مواجهة هذه الحقيقة التي سوف تتأكد أكثر مع الوقت، بافتعال قضيتين ثانويتين، والتذرّع بهما، هما غياب وحدة المعارضة، وفي ما بعد تسليح الثورة وأسلمتها. وساعدت الذريعتان على الإبقاء على وهم الرهان على تحريك المجتمع الدولي، وتدخله الإنساني أو السياسي قويا عند الأغلبية الساحقة من جمهور الثورة والرأي العام. وزاد من قوة هذا الاعتقاد أيضا عزلة موسكو في استخدامها حق الاعتراض في مجلس الأمن، حتى تقلصت خطة العمل السياسي الثوري بمجموعه تقريبا إلى البحث في وسائل ثني روسيا عن موقفها المعارض اتخاذ أي قرارٍ يفرض على النظام التحرّك في اتجاه الانتقال السياسي، أو يمكن، أقل من ذلك، من تشكيل ضغط قوي على النظام السوري. وشيئا فشيئا، وجدت الدول الصديقة، أو التي أعلنت عزمها على مناصرة القضية السورية، في اعتراض موسكو وتعطيلها مجلس الأمن أفضل ذريعةٍ لتبرير تقاعسها ورفضها الانخراط أو التورّط في أي خطوةٍ عمليةٍ للضغط على النظام، أو ثنيه عن سياساته الدموية.
هكذا اكتملت شروط المجزرة، وصار من الممكن للنظام السوري أن يستمر في قتل شعبه وتشريده وتدمير شروط حياته، بشكل علني ومنهجي. ومع سبق الإصرار أمام صمت العالم، وعطالة حكوماته، ورأيه العام معا. وفي المحصلة النهائية، قبول الجميع واستسلامه لما يحصل. ولم يعد لعرض مشاهد العنف المروّعة وتوثيقها أي أثر إيجابي على سياسات الدول والحكومات. بل تحولت القضية بسرعةٍ من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وتركّز الحديث فيها في مسائل الإغاثة ومساعدة اللاجئين واستقبالهم هنا وهناك، وترك الفاعل الرئيسي وموقد الفتنة والنار حرا طليقا، وصرف النظر عن تسليحه، وتعزيز قدراته من حلفائه. ومع مرور الوقت، لم يعد القتل الجماعي والتنكيل بالناس وتشريد الملايين وقتل الأطفال يثير أي رد فعل، أو حتى اعتراضٍ، من المجتمع الدولي. بل إن الصور والفيديوهات التي لا تحصى التي عرضت على شاشات العالم حوّلت حرب الإبادة إلى ما يشبه التمثيلية التي يلعبها أشخاصٌ مجهولون على مسرحٍ مفتوح على مستوى العالم، وحولت القتلة والضحايا ممثلين في تراجيديا يونانية، وساعدت في تخدير مشاعر الجمهور وتبليده، بدل أن تدفعه إلى التحرّك والوقوف في وجه مأساة حقيقية.
لم تكن هناك إرادة سياسية دولية لوقف الجريمة. لذلك، لم تكن هناك أيضاً مصلحة في إعطاء الصورة والشهادة الحية معنىً وتحويلها إلى فعل أو رد فعل على العنف المتصاعد. فما منع الرأي العام في حروب التطهير العرقي السابقة من التحرّك، حتى في أوروبا الوسطى سنوات طويلة، ليس عدم المعرفة الصحيحة بما يجري، ولا تعقيد الوضع، كما كان يقال بالنسبة للحالة السورية، وفي الواقع في جميع حالات الصراع، وإنما الاعتقاد بغياب المصلحة في وقف الحرب، وربما المصلحة في تسعير نارها، وتوسيع دائرة انتشارها. وهو موقفٌ نابعٌ من أمور مختلفة أهمها المراهنة على إمكانية الاستفادة من حروب الآخرين لتأمين مصالح أو ما يعتقد أنه مصالح قومية أو خاصة، بصرف النظر عن مصير الضحايا، وهو ما يندرج تحت بند الأنانية القومية، ومنها الخوف من التورّط في حروبٍ لا تنجم عن المشاركة فيها مصالح واضحة، وقد يترتب على هذه المشاركة خسائر ينبغي تجنبها، ومنها عدم الرغبة في تقديم تضحياتٍ لإنقاذ شعبٍ لا يثير مصيره التعاطف، أو لا يحظى بالثقة، إما بسبب ثقافته أو ديانته أو الإرث السلبي من العلاقات التاريخية.
كل هذه العوامل والمصالح المباشرة وغير المباشرة تفسّر ما ينبغي أن نسميه التواطؤ الدولي على تمرير المذبحة السورية، وهو تواطؤ يعكس، لدى جميع الأطراف التي التزمت الصمت على الجرائم ضد الإنسانية أن السياسة الدولية شهدت عودة ما يسمى مذهب الواقعية السياسية، أي البحث عن تعظيم المصالح لكل دولة، مهما كان الثمن، وخارج أي اعتبار أخلاقي أو سياسي، وبصرف النظر عن مصير العالم ككل، وشعوبه الضعيفة خصوصاً، إلى حقل العلاقات الدولية. وهذا يعني تحرير منطق القوة من أي قيد، وتحويل العالم إلى غابةٍ يفترس فيها القوي الضعيف، ويعني، في ما وراء ذلك، شرعنة الحرب الدائمة على حساب حلم إقامة سلامٍ عالميٍّ، وتعاون ناجع بين جميع الدول والشعوب من أجل التنمية، وتحسين فرص التقدم الشامل الذي راود المجتمع الدولي، بعد كوارث الحرب العالمية الثانية.
والقصد من ذلك أن كوننا ضحايا التحولات العميقة التي تحصل على مستوى ديناميات العلاقات الدولية لا ينبغي أن يدفعنا إلى الاستسلام لموقف الضحية، والغرق في الندب والشكوى، وإنما بالعكس إلى استعادة زمام المبادرة، وتحمل مسؤولياتنا تجاه شعوبنا. وبدل أن تقودنا خيبتنا من المجتمع الدولي إلى قبول الحلول الخادعة والعرجاء التي يقدّمها لنا أصحاب الانتداب الجديد، علينا أن نعود إلى تلمس إمكانية تفعيل نوابض القوة المادية والمعنوية في مجتمعاتنا، والعمل على تعزيز فرص الحلول الداخلية، وربما البدء بتكوين لجنة اتصالٍ وطنية، مهمتها القيام بالمشاورات الأولية لاستكشاف إمكانية فتح حوار وطني منتج، على مستوى المجتمع المدني، يمهد في المستقبل لبناء تفاهمات والإعداد لعهد وطني جديد، يختم حقبة الحرب، ويؤسس لحقبة ما بعد الأسد وإنهاء التدخلات والاحتلالات الأجنبية جميعا. وربما وجدنا في هذا المسار، بعد معاناة الجميع من ويلات الحروب الداخلية والخارجية المهولة، ونهاية مشروع إيران وقرب التخلص من "داعش"، فرصا جديدة لإعادة التواصل بين أطياف المجتمع المختلفة، وبدء الخطوة الأولى على طريق التحرّر من وهم الحلول الخارجية، والعودة إلى منطق التفاهم الداخلي والحوار الوطني.