من المسؤول عن دمار الشرق الأوسط؟
2006-08-01:: الجزيرة نت
لا ينبغي لعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها القوات الاسرائيلية في لبنان، والتي كانت مجزرة قانا الثانية نموذجا حيا لها، أن تخفي المأزق الذي وصلت إليه نظرية الأمن القومي الاسرائيلي القائمة على اعتبار التفوق العسكري الساحق أساس الردع الشامل والوقاية المؤكدة من احتمالات تعرض المصالح الاسرائيلية الاستراتيجية للخطر. بل إن هذه العمليات التي تشير إلى العودة إلى منطق الانتقام والقتل والإرهاب البسيط، ليست سوى التعبير عن هذا المأزق والرد الهمجي واللاعقلاني عليه. فما كانت تخشاه اسرائيل وتعمل جاهدة لابعاده عن الحدوث قد حدث بالفعل. فقد كشفت ضربات المقاومة اللبنانية، التي وجهت للأراضي الاسرائيلية في سياق المواجهة المستمرة منذ أسابيع ثلاثة، عن هشاشة هذه الاستراتيجية وانهيارها أمام صواريخ حركة مقاومة بسيطة لا تكاد تزن شيئا في موازين القوة الاستراتيجية العالمية. وأصبحت المدن الاسرائيلية، التي بقيت في منأى من ضربات الجيوش العربية منذ عقود، على مرمى الصواريخ القريبة والبعيدة. وحتى لو لم يشارك أي بلد عربي في هذه الحرب، قدمت معركة الصواريخ صورة مصغرة للحروب المحتملة الممكنة، وبينت الهشاشة البنيوية لاسرائيل ودفاعاتها الاستراتيجية في مواجهة أي قوى منظمة ومحدودة، تمتلك حدا أدنى من التصميم والإرادة. والدرس الرئيسي الذي يبنغي على اسرائيل أن تأخذه مما حصل هو أنها لن تستطيع الحصول على السلام والاستقرار بالقوة العسكرية، مهما بلغت هذه القوة من التقدم التقني، ومهما كانت درجة تفوقها على الدول العربية منفردة أو مجتمعة. فلم تكن هناك حاجة حتى إلى تدخل هذه الدول ولا إلى جمع قواتها معا كي يمكن اختراق حاجز الردع والرعب الذي حاولت إسرائيل أن تشيده خلال العقود الماضية، بتكرار الحروب التدميرية والانتقامية المتواصلة وعمليات الاجتياح والعقوبات الجماعية والتدمير المتواصل.
وما ينطبق على إسرائيل ينطبق على الإدارة الأمريكية نفسها. فلم تعد مشاركة واشنطن في الحرب الراهنة سرا على أحد، لا من حيث القرار ولا التخطيط ولا التصميم ولا الرعاية السياسية والدبلوماسية. لا بل إن هناك من المحللين من اعتبر أن إسرائيل تخوض حربها في لبنان بالوكالة عن الولايات المتحدة. لكن بصرف النظر عن ذلك، لا يختلف سلوك الإدارة الامريكية في سعيها إلى الدفاع عن رؤيتها للاستقرار العالمي وعن مصالحها الحيوية عن سلوك إسرائيل عموما. فهي تبني استراتيجيتها القومية أيضا على نظرية التفوق العكسري والاستراتيجي الحاسم، وتعتقد أن زيادة قدرتها على خوض الحرب في أكثر من مكان وعلى أكثر من جبهة، وانفرادها في ذلك، يشكل أو ينبغي أن يشكل رادعا يمنع أي قوة أخرى، رسمية أو أهلية، من التعرض للمصالح الأمريكية خوفا من عواقب الانتقام. لكن إذا كان هذا المبدأ يسري على الدول والجيوش الرسمية التي لا تستطيع إلا أن تحارب في مسارح مكشوفة، فهو لا يسري على القوى غير النظامية وغير الرسمية التي لا تعبأ كثير بنتائج عملها على المستوى الرسمي، بل تجد في انتقام القوة المتفوقة من المدنيين وتدمير البنى التحتية للدول والمجتمعات فرصتها لتعبئة ما تبقى من الرأي العام، وجره معها إلى معركة الكرامة والدفاع عن النفس. وكما ولد حزب الله ومقاومته من أنقاض المنازل والبنى التحتية المدمرة بالقصف العشوائي وعمليات الاجتياح الاسرائيلية المتكررة في جنوب لبنان، منذ ثلاثة عقود، نشأت قوى التمرد الاسلامية على أنقاض المشاريع السياسية الوطنية التي دمرتها سياسة القوة والتفوق العسكري الاسرائيلي والأطلسي في أكثر البلاد العربية، وفي مقدمها فلسطين والعراق.
فالقاسم المشترك بين اسرائيل والإدارة الأمريكية الحالية هو الرهان على القوة، وعدم الاعتراف بالطرف الآخر، ولا احترام مصالحه الرئيسية. وسبب هذا الرهان ومصدره واضح للعيان. إنه الطمع والأنانية والسعي إلى الاستئثار بالمصالح جميعا، وفرض الأمر الواقع والإذعان على الخصم، أي رفض الحلول السياسية، القائمة بالضرورة، وبقدر ما هي سياسية تحتكم إلى القانون والأخلاق لا إلى القوة المادية المدمرة، على القبول بتوازن المصالح وتقاسم المنافع بين الأطراف، بصرف النظر عن ضعفها أو قوتها.
وبعكس ما تردده تحليلات الدبلوماسيين والمراقبين الامريكيين والغربيين عموما، ليل نهار، لا ينبع الإخفاق في ايجاد حل لأزمة الشرق الأوسط، التي لا تزال الدبلوماسيات الامريكية والأوروبية ترسل المبعوثين لمعالجتها منذ عقود، من صعوبة المشاكل التي تطرحها، ولا من تعقد النزاعات التي تكمن في أساسها، وإنما من رفض هؤلاء مبدأ التسوية السياسية الذي هو مفتاح أي حل، في الشرق الأوسط وفي جميع مناطق العالم أيضا. فاسرائيل تريد الأمن والاستقرار المطلق على حدودها، لكن من دون أن تتخلى عن أهدافها التوسعية، سواء ما تعلق منها باحتلال الأرض أو حجز الأسرى أو ممارسة الحق في قصف المدن والقرى وتدمير بنيات المجتمعات، جراء أي مساس، مهما كان تافها او رمزيا، بأمنها أو سيادتها. وتريد إسرائيل استيطان الأرض الفلسطينية، وتقطيع اوصالها، وتحويل الفلسطينيين إلى مهجرين داخل وطنهم، وأن تقيم نظاما عنصريا أسوأ بما لا يقاس من النظام العنصري الذي كان قائما في جنوب أفريقيا، وترفض الاعتراف بأي حق مقاومة لهذا الاستيطان وذاك النظام، وتعتبره مساسا بسيادتها وأمن مواطنيها. وتبرر بذلك الاستخدام الدائم والشامل للعنف بكل أبعاده ضد الفلسطينيين. وهي تريد السلام كذلك مع سورية والعالم العربي، لكن مع ضم الجولان السوري كأمر واقع، وتحويله إلى أرض للاستيطان اليهودي المتوسع باستمرار. والنتيجة أن أمن اسرائيل واستقرارها لا يمكن ضمانهما إلا بتقويض الأمن القومي لجيرانها، وزعزعة استقرار مجتمعاتهم، حتى في حده الأدنى. بل إنها تطلب أن تجعل الدول العربية من هاجس الأمن القومي الاسرائيلي مركز اهتمامها، وتحوله إلى البند الأول في أجنداتها "الوطنية" نفسها إذا وجدت.
هذا التصور العصابي للأمن القومي والمصالح القومية عند إسرائيل، كما هو الحال عند الإدارة الامريكية، الذي يخفي طمعا لا حد له في السيطرة على مصالح الآخرين وحقوقهم، هو منبع الحروب ومفجر النزاعات في الشرق الأوسط، بما في ذلك النزاعات داخل البلاد العربية نفسها، التي تمثلت العديد من نخبها الحاكمة منطق السيطرة الاسرائيلية والامريكية القائم على الاستخدام المفرط للقوة، وطبقته على شعوبها. وجوهر هذا المنطق الاحتكام الدائم والأعمى للسلاح، بدل الحوار والتفاوض والتسوية. ولا يمكن لمثل هذا المنطق إلا أن يقود إلى طريق مسدود، أي إلى تخليد الأزمة وجعل الحروب والمعارك العسكرية والانقلابات اللغة السائدة في علاقات الشرق الأوسط الدولية والوطنية على حد سواء.
وهذا الانسداد، بما يعنيه من عجز مستمر عن ضمان الأمن، بالرغم من الاستثمار المفرط فيه، هو الذي يحول النزاع الخارجي إلى تنافس على انتاج العنف بين طائرات قوى الاحتلال والسيطرة الأجنبية، من جهة، ومجموعات المقاومة الوطنية أو شبه الوطنية، من جهة ثانية. وهو نفسه الذي يحول الصراع على السلطة بين الأطراف السياسية وجماعات المصالح، داخل المجتمعات، إلى مزايدة في العنف وتصعيد متبادل فيه، بين أجهزة الأمن، التي لا تكف عن تجديد وسائل القهر والبلطجة وتدمير البنيات المجتمعية المدنية لفرط الشعب وإخضاعه، وجماعات المعارضة، السياسية والأقوامية والمذهبية، التي تجد نفسها أكثر فأكثر مكرهة، للحفاظ على البقاء، إلى استخدام العنف، كما تفعل بعض الحركات الاسلاموية، أو إلى تبريره أو حتى استدعائه من جانب القوى الأجنبية.
من هنا، لا تترك الهمجية الاسرائيلية، مضافة إلى الأمبريالية الأمريكية، والعماء الأوروبي، خيارا للشرق العربي غير الاتجاه نحو العنف والفوضى والاقتتال الداخلي والإقليمي، ومن وراء ذلك تدمير النظم الاقتصادية والمدنية معا. فهذه السياسات اللاأخلاقية واللا إنسانية هي المسؤولة عن دمار نظام العلاقات الإقليمية بين دول المنطقة والتضحية به لصالح قانون الحرب المستمرة. وهي المسؤولة أيضا عن دمار نظام السياسة والقانون داخل الدول ذاتها، وتكريس نظام الحكم بالقوة وبالأحكام العرفية، بقدر ما أغلقت وتغلق الباب أمام أي سلام او استقرار إقليميين، أي بقدر ما تصر على إقامة هذا السلام والاستقرار على حساب الحق والقانون، وتراهن على العنف المستمر لفرض نظام الاغتصاب والبلطجة كأمر واقع على الأطراف الأخرى.
من هنا، لن تكون هناك قيمة للتدخلات الخارجية الإنسانية، ولا لقرار وقف إطلاق النار، ولا لقوات الفصل الدولية، ولن يكون بإمكانها وضع حد لمسلسل العنف والدمار، ما لم ترتبط بمعالجة أصل المشكلة. وأصل المشكلة ليس وجود حزب الل،ه ولا حكومة حماس، ولا تمرد نظامي دمشق وطهران وخروجهما عن الطريق المرسوم، وإنما في تجاهل المجتمع الدولي لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة التي نص عليها قرار الأمم المتحدة نفسه الذي أضفى الشرعية على قيام إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن، وقبوله سياسة الاستيطان وتهويد الأرض والاستعمار المكشوف فيها، وتساهله مع سياسة ضم الأراضي بالقوة، كما حصل بالنسبة للجولان السوري المحتل ومزارع شبعا، وقبوله بمعاملة إسرائيل كدولة فوق القانون، والتغطية، المقصودة أو غير المقصودة، على جرائمها المستمرة.
وإذا ما أردنا إنقاذ الشرق الأوسط وإخراجه من محنته، فمن واجبنا أن نعمل جميعا، عربا وغير عرب، حكومات ورأيا عاما، على أن نجعل من محنة لبنان الحالية منعطفا في وعي الساسة الغربيين لهذه لخطيئة الأصلية، التي حولت الشرق الذي يتوسط العالم ويشكل عصبه، منطقة الزلازل السياسية والأخلاقية الرئيسية.