من أجل نزع فتيل الحرب الكردية العربية في سورية
2018-12-15:: العربي الجديد
هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي الولايات المتحدة بشن هجوم واسع خلال الأيام القادمة في منطقة شرق الفرات السورية لإبعاد خطر ميليشيات قوات سورية الديمقراطية الكردية "قسد"، وذلك في إطار تطبيق خطة تركية ترمي إلى منع قيام كيان تركي مستقل شمال البلاد، الأمر الذي تعتبره أنقرة أكبر تهديد لأمنها القومي. وتشكو أنقرة من تهرب واشنطن من تطبيق الاتفاق الذي توصلت إليه العاصمتان منذ بداية العام حول منبج، واستمرار الولايات المتحدة في تسيير دوريات مشتركة مع الميليشيا الكردية في المدينة، كما تشكو من استمرار الدعم الأمريكي لها، ومن مشروع واشنطن الجديد القاضي بإقامة نقاط مراقبة على الحدود السورية التركية، بالتعاون مع الميليشيات الكردية. وهذا ما ترى فيه تركيا خطة لحماية هذه الميليشيات من الهجمات التركية، بينما تقول واشنطن أن هدفها منه، بالعكس، حماية الحدود التركية. ولعل ما أثار مخاوف الأتراك أيضا تصريح السفير الامريكي الخاص للمنطقة، جيمس جيفري بأن الحضور العسكري الامريكي سوف يستمر، وأن من المحتمل أن تطبق واشنطن في شرق الفرات، إذا احتاج الأمر، ما طبقته من قبل في شمال العراق، بما يعني إعلانها فيها منطقة حظر جوي.
تترافق هذه التهديدات المتبادلة التركية الأمريكية بتحذيرات روسية جاءت على لسان رئيس هيئة الأركان الروسية، الجنرال فاليري غيراسيموف، الذي اتهم، حسب وكالة روسيا، الأربعاء الماضي، الولايات المتحدة "بمحاولة إنشاء كيان كردي مستقل عن دمشق شمال سوريا"، و"المراهنة على الأكراد السوريين لإنشاء كيان شبيه بدولة، مستقل عن دمشق شمال البلاد، ويقومون بتشكيل حكومة ما يسمى بفدرالية شمال سوريا الديمقراطية".
أما الأمريكيون الذين يجمعهم مع الأتراك حلف شمال الأطلسي فجاء جوابهم على لسان الناطق باسم البنتاغون، سين روبيرتسون بأن القيام بعمليات عسكرية في مناطق يتواجد فيها امريكيون أمر مقلق، "ونحن نعتبر مثل هذا العمل غير مقبول".
من الواضح أن الجبهة الرئيسية للمواجهة الدبلوماسية والعسكرية على الأراضي السورية قد انتقلت أو هي في طريقها للانتقال إلى منطقة شرق الفرات، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى ترسيخ حضورها في المنطقة وربما تحولها إلى منطقة نفوذ دائم اعتمادا على القوى الكردية، في سياق غياب حل سياسي، واستمرار التقسيم، وحرمان "سورية الروسية" من 60 بالمئة على الأقل من موارد البلاد، وأهمها: موارد الطاقة والمياه والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية.
وفي المقابل تدرك موسكو أنها تفقد أكثر فأكثر قدرتها على التحكم بأورواق المناورة الاستراتيجية والدبلوماسية السورية، بإبقاء الأمريكيين أجزاء كبيرة من سورية خارج سيطرة نظام الأسد، الذي جعلت منه حصان طروادة لفرض وصايتها العليا والكاملة على البلاد، وبعد تأكد فشل الرئيس فلاديمير بوتين في إقناع أوروبا والدول الصناعية الغنية بتمويل إعادة الإعمار، على أمل طي صفحة الانتقال السياسي الذي تؤكد عليه جميع القرارات الأممية، وتخفيف العبء عن حلفائه السوريين والايرانيين. وتتأكد مخاوف موسكو أكثر إزاء التحذير الأمريكي من أن مسار أستانا وسوتشي قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لا مهرب من العودة بالمحادثات السورية من جديد إلى جنيف.
من هنا تبدو المواجهة حقيقية وربما حتمية. فتركيا تشعر بانها تدافع عن امنها القومي، وأنها في سباق مع الزمن لقطع الطريق على ولادة كيان كردي يشكل موطئ قدم لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تخوض حربا دموية معه منذ عام 1984. وهي فقدت الثقة بواشنطن التي تتهمها بانها خدعتها في منبج ولا تزال في شرق الفرات. ويزيد من قلقها الحديث عن حضور عسكري سعودي في هذه المنطقة لما يعنيه من ربط امن تركيا بمواجهة إقليمية تتجاوز الميليشيات الكردية. وتشجعها على أخذ المبادرة في شرق الفرات موسكو التي تطمح إلى تعديل موقف واشنطن فيما يتعلق بالحل السياسي ومن تطبيق قرارات الامم المتحدة ومجلس الامن الداعية إلى انتقال سياسي جدي، والتي لا يمكن تفسيره بإعادة تأهيل الأسد أو نظامه بأي شكل.
أما بالنسبة لواشنطن فهي ليست على استعداد في اعتقادي لأي مواجهة جديدة، وتستطيع ان تناور مع جميع الاطراف الاقليمية من أجل الاحتفاظ بوجودها الاستراتيجي في أكثر المناطق حساسية وأهمية ليس في سورية فحسب ولكن في المشرق، على حدود دول ثلاث رئيسية، تركيا وايران والعراق، بالإضافة إلى سورية.
لكن هناك دائما مخرج آمن للقوى الأجنبية المتنازعة على "اقتسام" سورية، يضمن متابعتها رهاناتها الخاصة من دون الذهاب إلى درجة الصدام فيما بينها، وذلك ببساطة من خلال توجيه الميليشيات السورية، التابعة لها بعضها ضد بعض، وهنا "الجيش الوطني" الخاضع للنفوذ التركي ضد ميليشيا قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، وترك السوريين يقتلون بعضهم بعضا. سوريون يقتلون سوريين، من دون ايذاء "أحد". هذا ما يحصل منذ ثمانية سنوات، في عموم سورية، حتى يتمكن كل طرف من الأطراف الدولية والإقليمية من تحقيق مصالحه من دون أن يحرق أصابعه بالنار.
لهذا من حق السوريين، والكرد منهم خاصة الآن، أن يقلقوا على مصير آلاف المدنيين المهددين بالتعرض للكوارث نفسها التي تعرض لها أشقاؤهم من قبل، ممن خبروا حرب الميليشيات وحكمها، في حلب وغوطة دمشق والرقة ودير الزور وإدلب وعفرين، والعديد من المدن والبلدات السورية الأخرى. وأن يسعى نشطاء ومثقفون كثر منهم إلى مناشدة الأطراف المختلفة بايجاد وسيلة أخرى لفض النزاع الدولي وفتح مفاوضات جماعية من أجل البحث عن مخرج سياسي يطمئن الجميع ويحقن دماء أخوتهم ويوفر على السوريين المزيد من الموت والدمار. لكن سيكون أيضا من السذاجة الاعتقاد بأن أيا من الدول المتنازعة، وأولها نظام الطغيان الأسدي البغيض، يعيرون اهتماما من أي نوع لمصير الشعب والمدنيين.
في المقابل، ليس لدى السوريين، المتنازعين على الهرب من المركب السوري الغارق، حل آخر في اعتقادي سوى التحرر من الوهم الذي سمم وجودهم ودمر بلادهم، وهو اعتقاد أي فرد وأي مجموعة وأي طبقة وأي مذهب وأي قومية أنها تستطيع ان تهرب بنفسها، وتبني على أنقاض المركب الغارق وطنها الخاص، من دون اعتبار لمصير الآخرين أو التفكير بمصالحهم، وأن تعمل على إغراقهم مع المركب المحطم وبمساعدة القوى الأجنبية أو بتطبيق سياسات شمشونية.
انتزع الطغيان الوحشي من السوريين، جميع السوريين، وطنهم، وتركهم في العراء، عربا وكردا، مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة وعلويين واسماعيليين وموحدين، عشائر وحضريين، مدنيين وريفيين، لقمة سائغة في فم الميليشيات المحلية والأجنبية. فلم يعد أحد منهم يشعر أنه في بيته، أمين على حياته ومستقبل ابنائه. جميعهم يشعرون بأنهم في خطر الموت، وجميعهم يركضون وراء سراب مراكب من خيالهم ويتعلقون بقشة الدعم الأجنبي، من أجل قطعة وطن تحميهم وتحتضنهم وتطمئنهم بينما يتركون المركب الذي يحملهم يهرب من بين أيديهم. وكلما اقتتلوا عليه خرج عن سيطرتهم أكثر، ووجدوا أنفسهم موزعين بين غرقى ومشردين ومهجرين ونازحين في أرضهم، بما فيهم أولئك الذين يعيشون على حطام وطن لم يعد له من اسمه نصيب.
يحق للكرد أن لا يثقوا بسلطة عربية مركزية بعد ما عاشوه من تشرد واضطهاد، ويحق للعرب أن يشكوا بنوايا سلطة ميليشيات كردية لا تتردد في قتل الكرد الذين يخالفونها وتتبنى سياسة فرض الأمر الواقع على الجميع، تماما كما فعلت وتفعل الميليشيات الأخرى السورية وكل ميليشيات العالم. الخطوة الأولى للخروج من المقتلة السورية وتفكيك قنبلة الحرب "الأهلية"، التي تدور رحاها منذ ثمانية سنوات، بين الطوائف والقوميات والأحزاب والطبقات والنخب السورية اليسارية واليمينية، الاسلامية والعلمانية، برعاية دولية، ولصالح بقاء الأسد ونظام طغيانه، هي الشفافية. فهي وحدها التي يمكن أن تضع حدا لسياسة "الغموض البناء" التي تتبناها جميع الدول الأجنبية المنخرطة في الحرب، للعب على جميع الأطراف السورية واستخدامها أدوات لخدمة أغراضها الاستراتيجية فحسب.
وبالنسبة لما يجري من حرب مقنعة ومكشوفة في الشمال السوري، وفي سبيل نزع فتيل حرب عربية كردية يراهن على إشعالها العديد من دول التدخل الأجنبي، ينبغي أن يؤكد جميع السوريين، أحزابا وهيئات وشخصيات وطنية أيضا، اعترافهم الثابت بالهوية القومية والحقوق المترتبة عليها للكرد السوريين، في إطار سورية ديمقراطية تعددية يقرر الشعب، عبر ممثليه الشرعيين، أي المنتخبين، شكل إدارتها السياسية وتسييرها. وينبغي أن يعلن القادة الكرد، أحزابا وميليشيات وشخصيات وطنية، بعكس ما فعلوه حتى الآن، أن مصير المناطق التي يسيطرون عليها بمساعدة خارجية، سواء أكانت ذات أغلبية كردية او عربية، لاتقرره الأحزاب الكردية، مهما كانت قوتها العسكرية، ولا حلفاؤها الأمريكيون، وإنما يقرره جميع السوريين، في إطار مؤسسات الدولة الشرعية السورية الجديدة التي ينبغي التفاهم على إرسائها، وأن يكفوا عن الحديث عن الفيدرالية المفروضة من طرف واحد، حتى لو كانت في اعتقادهم العميق، وربما في اعتقاد الكثير من السوريين، هي الحل الأمثل على المدى المتوسط أو البعيد. فلا يمكن لشعب أن يقبل أن يملى عليه تقرير مصيره من طرف واحد، حتى لو كان حكامه. استبطان هذه القاعدة وتقبل مبدأ الحوار، هو المدخل للمسار الطويل الذي يقود إلى بناء وطن فعلي لا غابة وحوش، وولادة شعب، يحترم إرادة جميع أبنائه وجماعاته، لأنه يحترم نفسه. هذا هو مختصر ثورة الكرامة والحرية التي ضحى من أجلها ملايين السوريين.
https://www.alaraby.co.uk/opinion/2018/12/14/%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D9%86%D8%B2%D8%B9-%D9%81%D8%AA%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-1