في ما بعد الجماعة الدينية والأمة السياسية
2008-12-17:: الاتحاد
حررت السياسة، بما أبدعته من ادوات، في مقدمها الدولة الحديثة القانونية والديمقراطية، الفرد من الوصاية الدينية والقبلية والعائلية، وأنتجت نظما اجتماعية استثنائية في ما طورته من قيم التسامح والتضامن والشفافية والعدالة والحرية والمساواة، وما قدمته من فرص الازدهار المادي والاجتماعي، لم تعرفها البشرية من قبل. وهكذا حصلت إعادة بناء العالم بسرعة مذهلة في القرن الماضي على أساس نموذج الدولة الأمة التي تحول جميع الأفراد إلى مواطنين، أي شركاء سياسيين.
بيد أن نظام الدولة والسياسة هذا الذي راهنت جميع الشعوب عليه لتخليصها من ذل القرون الوسطى وجوعها وخوفها وإحباطها المادي والروحي، لم يلبث، في موازاة التوسع في تطبيقه، أن ولد نظاما عالميا، جامعا لدول لا تتمتع جميعا بالفرص نفسها ولا بالموارد والخبرات ذاتها. فأصبح هذا النظام هو نفسه المولد لنظام دولي تراتبي، يقسم العالم بين دول مسيطرة ومسيطر عليها، دول حرة تملك أدوات التحكم بالسياسة ونظامها الدولي، وتوجهه لخدمة مصالحها الوطنية، فتصح دول شعوبها، ودول تابعة، مسلتبة الإرادة لا قدرة لها على التعبير عن نفسها، ولا تملك فرص توليد جماعة سياسية حقيقية، أي في الواقع بين دول سيدة مؤسسة لأمة واخرى مفتقرة لأي سيادة، وغير قادرة على تأسيس أي جماعة وطنية.
ولأن إخضاع الدول الضعيفة لصالح الدول القوية يشكل في هذا النظام شرطا أساسا لتحقيق السيادة وضمان الوحدة الداخلية وتوسيع دائرة التنمية الاقتصادية في المركز، قادت إعادة تنظيم العالم على حسب نموذج نظام الدولة الأمة منذ ولادته في اتفاقية وستفاليا في القرن السادس عشر، إلى تعميم نوع جديد من الحروب والنزاعات، تختلف عن حروب الفتح والغزو التقليدية، وهي ما نسميه بحروب الاستعمار والامبريالية. وأصبح التنافس بين الدول الحديثة على عناصر السيادة والاستقلال والتنمية البشرية أكبر مصدر للاقتتال والتدمير المتبادل لبني الانسان. وبعد أن كان نظام السياسة نظام انعتاق للأفراد من أسر الولاءات الدينية، واتحادهم في بوتقة القيم والقوانين والمؤسسات القانونية الجامعة والزمنية، أصبح النظام الدولي الذي نشأ عن تعميم نموذج الدولة الوطنية الحديثة نفسه يقوم على استعباد القسم الأكبر من المجتمعات الانسانية، وإقصائها وتكريس تخلفها وانحطاطها.
وهكذا ما كان من الممكن لنظام الدولة الوطنية المعمم إلا أن يولد، بموازاة عملية انتشاره، في مواقع وعبر سياقات مختلفة ومتباينة، وكنقيض له، كيانات شبيهة بالدولة ولكنها ليست في الواقع إلا مقلوبها، أي "نيغاتيف" الدولة. وصارت هذه الدولة المضادة أو مسخ الدولة أقوى أداة لاستعباد الشعوب وتكبيلها ونزع هويتها الجمعية نفسها على مستوى العالم. فبدل أن تكون مؤسسة لأمة وجماعة وطنية تتحول هذه الدولة المسخ هي نفسها إلى مولدة لعصبية خاصة موازية للعصبية الجمعية ومسيطرة عليها. وعلى المجتمع الخضوع لمنطق دولة العصبية واحتياجاتها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية وليس العكس.
في هذه الحالة المجتمع هو الذي يضع نفسه في خدمة الدولة، أي في خدمة العصبة التي تسيطر عليها وتنتظم من خلالها في عصبية خاصة، وليست الدولة هي التي تضع نفسها، عبر السياسة، في خدمة المجتمع الذي تسيره وتستمد منه القوة والشرعية. بالمقابل لا يمكن للدولة المضادة أن تقوم إلا بقدر ما تنجح في السيطرة على مجتمعها من الخارج وضد إرادته المستقلة وعلى أنقاض استقلالية عناصره. ويستدعي قيامها بالضرورة حيازة مصادر للقوة من خارج مجتمعاتها، سواء عنينا بالتخارج الالتحاق بعصبية "طبيعية" لا سياسية، أو التعلق بمصادر قوة أجنبية ناجمة عن الالتحاق باستراتيجيات الدول الكبرى المهيمنة. وتكمن في هذه الخارجية أهم موارد الدولة المضادة ورصيدها وشرعيتها. وغالبا ما يتحد العاملان، العصبية الطبيعية والتبعية الخارجية، فتتحول الدولة المذكورة إلى وكالة خاصة تستخدمها الدول السيدة الحقيقية في سبيل ضبط المجتمعات وجماعات اللادولة، أو التي أخفقت في بناء دولة أمة بالمعني الفعلي للكلمة، أو التي لا تسمح لها مواردها وشروط وجودها بالوصول إلى مستوى الجماعة الدولة. فهي كيانات تتأسس على التقاء قانون الغزو القديم (في الداخل) وقانون الخضوع للقوة على صعيد النظام الدولي الذي يحدد وظيفتها ودورها ورسالتها.
من هنا أصبحت الدولة الحديثة، في الجزء الأكبر من المعمورة، أكبر مصدر للقهر والاستلاب وانعدام الأمل والأفق معا. وهي السجن الأكبر لغالبية سكان الأرض، ومصدر الآلام والمعاناة والقهر الدائم لمليارات البشر. وبعد أن كانت حلما عند كل الشعوب، باعتبارها منبع الحرية والسيادة والتنمية والتقدم، كما عبرت عن ذلك حركات التحرر الوطني التي غطت أكثر من قرن من التاريخ، أصبحت كابوسا لمعظم الشعوب. فهي مصدر العنف الرئيسي الذي تستخدمه الدول الكبرى في محيطها لفرض وجودها ومواجهة الدول الأخرى، كما تستخدمه الدولة المسخ في مواجهة شعوبها التي خاب أملها فيها، ولم تعد تنتظر منها توفير أي حقوق وحريات أو تحقيق مكتسبات لا مقدرة لها عليها في ظروفها القائمة.
من هنا تولد الحاجة إلى ثورة ما بعد سياسية، تتجاوز السياسة القومية ومنطقها التنافسي، لتؤسس لسياسة عالمية تتفق وتنامي ترابط المصالح بين الشعوب وتعاظم التداخل في المصائر البشرية. ولا يعني تجاوز السياسة ونظامها الدولوي تدميرها، تماما كما لم يعن تجاوز نظام الجماعة الدينية نحو الدولة القانونية القضاء على الدين، وإنما عنى فتح سجل جديد للتواصل والتعارف والتعاون والتضامن بين البشر، بموازاتها وعبر حدودها، مع الإبقاء عليها كآطر إسناد وتدعيم لسياسة شمولية تقوم على تطبيق برامج ذات مضامين ودائرة تنفيذ ومعايير عقلانية أكثر شمولا وأوسع أفقا، تضع في مجال العمل المشترك والتعاون شعوبا أو أجزاءا وأطرافا من شعوب متعددة، وتدفع إلى بناء مصالح مشتركة عابرة للحدود لا يمكن نشوؤها بالبقاء في حدود منطق الدولة (التي لم يعد لها علاقة فعلية بالأمة) ومعاييرها وتحديداتها القانونية والدستورية.
فليس هدف السياسة العالمية إلغاء الحريات والحقوق الإنسانية التي ولدتها الثورة السياسية، وإنما بالعكس، التحقيق الواسع لقيم السياسة، من حريات وحقوق وعدالة ومساواة وتعاون وسلام، أي زيادة فرص الاختيار عند الناس جميعا، لم يكن من الممكن تعميمها في إطار نظام الدولة القومية. فلا يشكل بناء النظام الجديد بالضرورة قطيعة مع الدولة القانونية الديمقراطية، ولا يتناقض معها. بالعكس إنه يستخدمها ويحتاج إلى تعزيزها بشكل أكبر، باعتبارها أداته الرئيسية في بناء مصالح ومؤسسات ومسؤوليات عالمية مشتركة تجمع بين أفراد ينتمون إلى شعوب متعددة وتوحدهم عبر العالم.
هذا ما يستدعي اكتشاف صيغ لتنظيم الجهد الانساني من وراء حدود الدول، ويناء شبكة علاقات عابرة للدول ومولدة لوعي إنساني وآليات تعاون وتضامن مختلفة عن الآليات القومية المعروفة. ومن الواضح أن الاتجاه العفوي الذي اتخذه الرد على أزمة الرأسمالية العالمية الجديدة كان تطوير التفكير على مستوى عالمي، والنزوع إلى إشراك جميع الدول في ايجاد الحلول. وربما بشر مثل هذا الرد بولادة مجتمع عالمي بدأت ملامحه بالتبلور منذ بضعة عقود، عبر نشاط الجماعات المدنية التي تلتقي عبر الحدود وتدافع عن قضايا وقيم ومباديء وغايات واحدة، بصرف النظر عن أصول أعضائها القومية وولاءاتهم السياسية والدينية. لكن المطلوب اليوم هو استكمال النشاط المدني العالمي الذي نما في الماضي عبر الحدود بنشاط سياسي عالمي، منظم ومنسق، لا يستبعد أن يقود في المستقبل إلى إقامة نوع من الحكومة العالمية التي تطبق سياسات متجاوزة للوطنية، أي لا تقتصر في اعتباراتها وحساباتها على خدمة مصالح الجماعات التابعة للدول، كما في الدول الصناعية الكبيرة، ولا من باب أولى على خدمة مصالح النخب المسيطرة عليها، كما هو حال أشباه الدول، ولكن توجهها اعتبارات وحسابات إنسانية كوكبية. وربما لم تكن النزعة الامبرطورية الامريكي التي قادت، بمساعدة سياسات الرئيس بوش الابن، إلى الأزمة العالمية الأخطر التي عرفها الاقتصاد الدولي منذ نشوئه، والتي فجرتها عوامل التنافس والنزاع لتأكيد أسبقية الولايات المتحدة وقيادتها العالمية وتفوقها في جميع الحقول على منافسيها وخصومها، إلا برهانا على وجود هذه الحاجة إلى سياسة عالمية بديلة ومصادرة لها في الوقت نفسه.