عندما يتحول الاصلاح إلى معضلة
2006-05-10:: الاتحاد
لا ينجح الاصلاح إلا داخل نظم سليمة بالاجمال، أي في بنياتها الأساسية، وتتميز بحد أدنى من المرونة والتعددية والتنافسية وآلية المفاوضة الاجتماعية. وهو يهدف في هذه الحالة إلى تحرير النظم التي تعرضت لعوامل الهرم والتدهور أو البيرقراطية من العوائق التي تحول دون اشتغالها الأقصى، أو إلى تعديل جزئي في قواعد اشتغالها للرد على تحديات طارئة أو جديدة تواجهها. ولذلك فهو يتحقق على أيدي الأفراد والجماعات الأكثر إخلاصا لروح النظام وتعلقا بالمباديء التي يقوم عليها، وتكون نتيجته تعزيز هذا النظام والحفاظ عليه بتحسين أدائه وتعميق الاتساق في حركته. هكذا يشكل الاصلاح وسيلة للتجديد، أي لإعادة تأسيس النظم التي فقدت فعاليتها لكنها لا تزال تنطوي على قيم ثابتة ومقبولة لا يزال من الممكن الرهان عليها.
وبالعكس، يؤدي الفساد البنيوي للنظام إلى جعل التغيير شرطا لأي إصلاح. ويعني التغيير استبدال نظام بنظام آخر،، يستند على مؤسسات وقواعد عمل مختلفة ويستدعي قيامه وجود قوى منظمة تحقق هذا الاستبدال، سواء أجاءت من خارج النظام، أو من خارج المجتمع والبلاد، أو عن طريق الانقلابات والثورات المدنية.وقد بينت التجارب التاريخية أن النظم القائمة على غير اختيار شعبي، وتلك المستندة إلى تغييب الشعب والرأي العام، مهما كانت عقائدياتها وفي أي مكان وجدت، لا تستطيع تحمل أي إصلاح وذلك لأن الاصلاح لا يعني شيئا آخر هنا سوى العودة إلى تطبيق حكم ا لقانون وإلغاء الامتيازات والأفضليات، وتعميم قاعدة الشفافية والكفاءة والمسؤولية، واحترام حقوق الأفراد ودفعهم إلى تحمل المسؤولية، من دون تهديد الأسس التي تقوم عليها، وهي الولاء والزبونية والرشوة المعممة والتعسف وطمس المسؤولية وإخفاء الحقائق عن المجتمع والاستهتار بحقوق الأفراد ومستقبلهم وفرض الأحادية الفكرية والسياسية عليهم. وأي فتح جدي للنظام، ولو ضمن حدود، بما يعنيه من القبول بالتعددية والاختلاف، والعودة إلى حكم القانون، يشكل مخاطرة كبرى لما ينطوي عليه من إضعاف احتكار موارد القوة ومصادرها، ويخلق ديناميكيات تنافسية تهدد عاجلا أو آجلا بتقويض أسس النظام القائم. فهو يلغي آليات القمع الرئيسية التي تحفظ توازن النظام، في الوقت الذي يفتح فيه الطريق أمام تمظهر تيارات الاحتجاج والمعارضة المحبوسة منذ عقود طويلة، والتي لا تنتظر إلا إشارة بسيطة أو ثغرة صغيرة كي تنفس عن احتقانها الطويل. وفي هذه الحالة، من المحتمل جدا أن تقود أي خطوة تبدو ضعيفة في طريق الاصلاح إلى إطلاق إشارة الانطلاق لحركة تغيير شامل، بل لحركات قوية تالية وغير منتظرة، كما دلت على ذلك تجارب دول أوروبة الشرقية الشيوعية.
سيكون التغيير على سبيل المثال النتيجة الحتمية لإلغاء الخلط المتعمد والبنيوي بين السلطات، مباشرة أو عن طريق رفع الرئاسة إلى مقام قدسي وتكليفها بمهام استثنائية وجعلها فوق القانون والنقد والمساءلة، كما هو سائد في معظم الأنظمة الشمولية. وسيكون التغيير أيضا النتيجة الحتمية لإلغاء حالة الطواريء والأحكام العرفية وسيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية في الكثير من البلدان العربية. وسيكون التغيير النتيجة الحتمية كذلك لإطلاق ديناميكية المساءلة والمحاسبة والشفافية، ليس في الأمور السياسية فحسب، ولكن أيضا في المجالات الاقتصادية، وليس في ميدان القطاع العام الخاضع للدولة وإنما، أكثر من ذلك، في ميدان القطاع الخاص. فالشفافية هي العدو اللدود لنوعية الرأسمالية المضاربة التي تستند إلى التداخل بين حيازة الثروة والعلاقات السياسية الرسمية وغير الرسمية.
والواقع أن الرأسمال الأول في هذه النظم، الذي يشكل المصدر الرئيسي لتراكم الثروة ورأس المال معا، ليس رأس المال بالمعنى الحرفي للكملة، وإنما جملة العلاقات السياسية المجسدة في علاقات النفوذ، أو في التحالفات مع أصحاب القرار، على جميع المستويات الرسمية والأهلية. ومن هنا لا تنبع قوة المشاريع التجارية الخاصة، حتى الصغيرة والعائلية منها، من نجاحها في تطبيق المعايير الاقتصادية والإدارية السليمة، أو في تجديدات أساسية في نمط الإدارة أو التقنية المتبعة، بقدر ما يكمن في ما يملكه أصحابها من علاقات تفاهم وشراكة أحيانا مع ضباط أو مسؤولين يقدمون الحماية لهم ويغطون على خروقاتهم القانونية.فلا يتفق استمرار هذا النمط من النظم، ولا إعادة إنتاجها، إذا أخذت بالفصل الفعلي بين السلطات، واستقلال القضاء، ووجود سلطة تشريعية ممثلة بالفعل لقطاعات الرأي العام، وتطبيق حكم القانون، وتعزيز دور المؤسسات، خاصة مؤسسات الرقابة، واحترام قواعد المحاسبة والشفافية، والاعتراف بالمواطنية المتساوية للجميع. فجوهر هذه النظم هو التلاعب بالقانون في سبيل إعادة إنتاج طبقة طفيلية كطبقة أرستقراطية وارثة ومالكة معا، وغير قابلة بالتعريف لأي تغيير أو تعديل. ولا يمكنها أن تنجح في ذلك إلا بإلغاء الحراك الاجتماعي وتثبيت المواقع والمكانات، وإعادة إنتاج فكرة التراتبية الطبقية-الطائفية التي ميزت في الماضي جميع النظم التقليدية. فإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة كطبقة ارستقراطية يستدعي إعادة إنتاج المجتمع ضمن مراتب ثابتة ومتفاوتة أيضا، وبالتالي إلغاء مفهوم المواطنية والمساواة القانونية والأخلاقية وتكافؤ الفرص، لحساب تأكيد الأسبقية لفريق اجتماعي على فريق آخر، وتغذية عقيدة التفوق الطييعي لنخبة ثقافية على أخرى، بوصفهما شرطان ضروريان للمحافظة على الاستقرار وضمان الأمن والسلام الاجتماعيين.
باختصار، ليس من الممكن تغيير هذا النوع من الأنظمة إلى أنظمة تعددية ديمقراطية، كما حلم الاصلاحيون، لأن وجودها نفسه يتوقف على تغييب شعوبها وإخراجها من دائرة الفعالية السياسية، وأحيانا المدنية، ودفعها نحو الكساح، في سبيل فرض الوصاية عليها، وإبعادها عن المشاركة في تقاسم الريع الذي يشكل مصدر الثروة الرئيسي فيها. فبعكس ما تحتاجه النظم الرأسمالية، ليس الاستثمار المنتج لفائض قيمة هو السائد والمطلوب هنا، ولكن عمل السخرة والشغل غير المدفوع وغير المقدر بثمن. وهذا ينطبق على مجتمعات بكاملها. وكما أن اقتصاد الريع يجر اقتصاد الاستهلاك والتبذير والانفاق الاحتفالي والرمزي الباهظ، لا يمكن للرأسمال المكون عن طريق المضاربة، إن لم يكن عن طريق السلب والنهب مباشرة، أن يتحول إلى وسيلة للاستثمار والتجديد والتطوير. إنه يجر المجتمعات بصورة متزايدة نحو القرون الوسطى، ويعيد إنتاج قيم المحسوبية والتبعية الشخصية والإمعية، ويعممها على نطاق واسع، بحيث يختفي المجتمع والرأي العام الحديثين بالفعل عند الفرد، لصالح التابع والعبد المأمور. والواقع ليس هناك في المجتمعات التي تسود علاقاتها هذه الصيغ الناشزة من الحكم إلا سيد إقطاعي واحد، أما بقية البشر فهم عبيد مأمورون، بصرف النظر عن مسؤوليتهم السياسية ومكانتهم الاجتماعية وموقعهم الديني أو الثقافي أو المدني.هذا يفسر لماذا أخفقت جميع خطط الاصلاح العربية في العقود القليلة الماضية. فالمساس بقواعد اللعبة السياسية القائمة على خرق القانون وتعليقه، وإلغاء هوية المجتمعات السياسية، أي حل البنية الوطنية والمواطنية، وتخليد المواقع والمناصب والمرتبيات، هو شرط بقاء أنظمة الإقصاء الجماعي واستمرارها.