سياسة أوباما العربية
2009-06-17:: الاتحاد
بالرغم من بعض الشكوك التي أثيرت حوله، أثار خطاب أوباما الموجه إلى العالمين العربي والاسلامي تفاؤلا كبيرا لدى الرأي العام العربي عموما. فهو لم يظهر تعاطفا واضحا مع القضايا العربية والاسلامية ويعترف بمعاناة الشعب الفلسطيني التي لا يمكن أن تتجاهل فحسب، ولكنه عرض، أكثر من ذلك، نهجا جديدا للتعامل مع قضايا المنطقة المشرقية من ضمن القضايا العالمية الأخرى. والنتيجة المتوقعة لهذا النهج أن تحل واشنطن لغة الحوار والتفاوض ومفهوم الشراكة في المصالح والتمسك بالالتزامات الدولية في فلسطين وغيرها، محل لغة الإملاء والضغط والتهديد وتوتير الأجواء مع الدول والأطراف العربية.
وإذا كان من الصحيح أن خطاب أوباما لا يتضمن جديدا بالحسابات الأخلاقية لأنه وضع المعتدي والمعتدى عليه على نفس المستوى من الرعاية، وساوي بين الضحية والجلاد، إلا أنه شكل، بالحسابات السياسية، نقلة مهمة في الاستراتيجية الأمريكية والغربية في المنطقة. وتتجسد هذه النقلة في التراجع عن تكريس إسرائيل وحاجاتها التوسعية مرجعية لإعادة بناء نظام الشرق الأوسط المنهار أولا، وفي إعادة تأهيل العرب دوليا والاعتراف لهم بدور ووجود سياسي إقليمي ثانيا. ولا يقدم البيت الأبيض هذا التنازل للعالم العربي من قبيل الصدقة أو التعاطف أو الصحوة الأخلاقية المفاجئة، وإنما نتيجة مقاومة العرب وما بذلوه من تضحيات خلال العقود الثلاث الأخيرة في مواجهة المخططات الاسرائيلية وإحباط مساعي الإدارة الجمهورية السابقة، في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، وما قاد إليه ذلك من تقويض رؤية جورج بوش للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، على حساب العرب والفلسطينيين.
لقد أدرك الرئيس أوباما، كما أدرك الجمهور الأمريكي الذي انتخبه من قبل، أن سياسة التدخل العسكري والدعم غير المشروط لإسرائيل في سياستها الاستيطانية، لم تعد ناجعة ولا قادرة على أعادة بناء النظام وضمان الأمن والمصالح الأمريكية الحيوية في الشرق الأوسط. هكذا لم يعد هناك بديل آخر لضمان هذه المصالح في المنطقة غير التفاهم مع العواصم العربية، وفي موازاة ذلك إكراه إسرائيل التي تنامت أطماعها في إطار استراتيجية استخدام القوة الأمريكية تجاه العرب، على التخلي عن أطماعها التوسعية والقبول بإقامة دولة فلسطينية، حال دونها منذ أكثر من عقدين الرهان المباشر والواسع على إسرائيل وتفوقها الاستراتيجي لضمان الأمن والاستقرار بالمفهوم الغربي في المنطقة. لا يعني هذا بالتأكيد تخلي الولايات المتحدة عن مصالحها القومية، ولكن بالعكس تنامي الاعتقاد في الإدارة الامريكية بأن هناك حظا أكبر لضمان هذه المصالح بالمراهنة على تعزيز العلاقة مع الدول العربية والتفاهم معها، بدل المراهنة على إسرائيل واستخدامها كآلة حرب وتهديد ضد البلدان العربية.
من هنا، لا أعتقد أن من الحكمة التقليل من قيمة ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي للعالم العربي، ولا التفريط في ما يمثله من كسب سياسي لصالح العرب، ولا الاستهتار بفرص تحول السياسة الأمريكية عن الدعم غير المشروط لتل أبيب في المستقبل. وإذا صدقت النوايا سوف تفقد تل أبيب بالتأكيد من حظوتها الخاصة في واشنطن، على الأقل في الحقبة الراهنة، وحتى تتبين نتائج المبادرة التصالحية الأمريكية. يرتب هذا الوضع على العرب مسؤوليات جديدة، وفي مقدمها تعزيز هذا المكسب وعدم السماح بالارتداد عنه أو ترك إسرائيل تستعيد الدور الذي كانت مكلفة فيه حتى الآن.
ويحتاج تحقيق هذا الهدف أولا إلى أن يسترجع العالم العربي ثقته بنفسه ويوفر إطارا فعالا للعمل الاستراتيجي الجماعي، يسمح ببناء قطب عربي قادر على ملء الفراغ الذي سيتركه تحييد إسرائيل أمريكيا او سحب الوكالة الشاملة عنها لإحلال "الاستقرار في الشرق الأوسط". ولا تشكل الجامعة العربية بديلا لهذا الإطار، ولا تستطيع في ظروفها الراهنة أن تفوم بهذا الدور. وربما كان من الضروري أن يفكر العرب، في إطار الجامعة، بإنشاء مجلس للأمن القومي يشارك فيه قادة وزعماء وخبراء من بلدان متعددة، ويمثل إطارا لبلورة رؤية استراتيجية عربية للحقبة القادمة، ويؤمن لها وسائل تحقيقها.
ويحتاج ثانيا إلى مجهود جديد لإعادة فحص العلاقة مع الولايات المتحدة وأوربة المعنيتين بشكل كبير بشؤون المنطقة، والراعيتين لعملية التسوية السياسية الإقليمية، ومحاولة إعادة بنائها على أسس أكثر شفافية وايجابية معا. وربما كان من المفيد في هذا المجال أيضا السعي إلى فتح مفاوضات عربية أمريكية جماعية تؤسس لعلاقات جديدة، وتطرح على بساط البحث جميع القضايا العالقة: من الأمن الإقليمي إلى التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحل النزاعات القائمة. فلا يستطيع العرب أن يطرحوا أنفسهم شركاء في إدارة النظام الإقليمي القائم من دون أن يظهروا حدا أدنى من التفاهم والتعاون والقدرة على التنسيق في ما بينهم. وإذا سلمنا منذ البداية بأن العرب، بسبب انقساماتهم، وسيطرة التفكير الآني على سياساتهم، بدل النظر نحو المستقبل، وخوفهم على رموز سيادة دولهم الشكلية، غير قادرين على بلورة سياسة جماعية والتنسيق فيما بينهم كي يتحولوا إلى شريك إقليمي، بما تعنيه الشراكة من التزام ومقدرة على المبادرة وحمل المسؤولية، فلن تكون هناك أي ضمانة في أن لا تنجح إسرائيل في استعادة موقعها السابق كحصان رهان غربي وحيد لضمان ما يسمونه الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
وعلى الأغلب أن إدارة الرئيس أوباما سوف تنحو، في حال استمرار الضعف الاستراتيجي العربي، وبالمقابل تزايد ضغوط مراكز القوى الأخرى، نحو العواصم الاوروبية التي اعتادت منذ سنوات طويلة استخدام لغة مزدوجة تحافظ فيها على علاقات طيبة وعادية مع الطرفين العربي والاسرائيلي من دون أن تغامر بتغيير سياستها العملية. فقد درجت هذه العواصم، في الوقت الذي تظهر فيه مراعاتها الجزئية للمصالح العربية والفلسطينية، على الاستمرار في دعم إسرائيل بصورة طبيعية، ورفض أي إجراء عملي، حتى لو كان رمزيا يضعف نقوذها أو تفوقها. وقد جاء التقرير الذي نشر مؤخرا، من إعداد مجموعة الأبحاث والمعلومات عن السلام والأمن، وهي مركز دراسات إستراتيجية مستقل في العاصمة البلجيكية بروكسل، ليفضح هذه الازدواجية. فبالرغم من الانتقادات المتكررة التي كان يوجهها لإسرائيل في السنوات الخمس الأخيرة، حتى بدا وكانه غير متفق مع مشاريعها الاستيطانية،، لم يتوقف الاتحاد الأوروبي عن تزويدها بأسلحة ومعدات ضخمة ومتطورة لاستخدامها في حروبها ضد العرب. حتا بلغت "قيمة مشتريات إسرائيل من مبيعات الأسلحة الأوروبية عام 2006 وحده 11 مليار دولار، ساهمت فرنسا بالنصيب الأكبر منها. ولم يوقف تصدير الأسلحة الفتاكة لاسرائيل، كما جاء في التقرير، تعاهد دول الاتحاد الـ27 فيما بينها على ما سمي بالميثاق الأخلاقي لبيع الأسلحة، الذي يحرم تصدير السلام إلى مناطق النزاع التي يحتمل أن تستخدم فيها ضد المدنيين أو في انتهاك لحقوق الإنسان. وليس من المستغرب أن تكون إسرائيل هي وحدها التي استثناها الاتحاد الأوروبي من تطبيق هذا الميثاق.