بين “الدولة الاسلامية” ودولة المسلمين
2014-07-19:: الحوار المتمدّن،
ليس هناك حاجة للانتظار حتى نعرف ماذا ينتظرنا تحت مسمى دولة الخلافة أو الدولة الاسلامية. ليس هناك دولة إسلامية. والدولة الاسلامية التي كانت موجودة من قبل لم تكن إلا الدولة الامبرطورية التي وجدها المسلمون في حضارة عصرهم وتبنوا نموذحها كجزء من الثقافة الانسانية المتحضرة السائدة في زمنهم. وكانت الحضارة أو الانخراط فيها يعني بناء الدول (الامبرطورية) على أنقاض النظم العشائرية والفوضى والقتال السائد آنذاك. كان لها تنويعات مختلفة فرعونية وساسانية وبيزنطية لكنها كلها ترجع إلى نموذج واحد هو حكم . الملك أو السلطان أو الكسرى أو القيصر أو الخليفة أو الأمير، سواء أكان أمير المؤمنين أم غيرهم.
وقد انتشر الاسلام، ونجح في الانتشار والاستمرار، لأنه قدم حلا لتفكك اللحمة العشائرية وانهيار النظام العشائري الذي دمرته الحروب الداخلية والخارجية وفقد النجاعة والفاعلية والشرعية. الاسلام جاء الاسلام في هذا السياق وكان دعوة للخروج من القبلية المتفسخة التي لم تعد تنتج غير الخراب والبؤس والدمار بعد أن كانت في أوج فعاليتها موطن التضامن والتكافل والالتحام لجماعات ا لسكان وإطار تنظيم تعاونهم وانتاجهم. فأعاد الاسلام على ارضية الدعوة الدينية الجديدة، تجميع القبائل المتناحرة تحت سقف إله واحد، وأرسى أسس السلم والمسالمة والمودة فيما بينها ووجهها نحو الفتوح الخارجية التي أقامت عليها القبائل العربية المنحلة أركان الامبرطورية الجديدة، أو بالأحرى التي سمحت بتجديد أسس الدولة الامبرطورية القديمة التي أصابها الانحطاط، وإعادة بناء أو إحياء نموذجها على أسس روحية وقانونية وجيوستراتيجية جديدة. فالدولة التي انبثقت عن الدعوة الاسلامية، والتي ورثت الامبرطوريتين الكبيرتين، الساسانية والبيزنطية، لم تكن في الواقع سوى الدولة الامبرطورية التاريخية ذاتها، بعد زوال سمتها الدينية الأولى وتحولها من خلافة والواقع من إمارة أمير المؤمنين إلى سلطنة، وهي التي كانت بوصفها نموجا للدولة عصارة ما طوره العقل والتجربة الانسانيتين على مستوى تنظيم شؤون الجماعات وإدارة شؤونها وتنسيق علاقاتها الداخلية والخارجية. فالسلطنة التي غطت القسم الأكبر من التاريخ الاسلامي بعد عقود الخلافة القليلة، هي نفسها الدولة الامبرطورية التي سيطرت على النظم السياسية الكبيرة في كل بقاع العالم المتحضر في ذلك الوقت. والشكل الذي اتخذته هذه الدولة السلطنة، وكذلك آليات عملها ووظائفها، لا يمكن فصله عن مستوى التطور الفكري والإداري والاقتصادي والاجتماعي ولا عن مستوى التواصل والاتصالات التي كانت سائدة لدى اكثر المجتمعات المنظمة في ذلك الوقت، وعن تراجع قوة الارتباطات الجمعية السابقة للدولة.
والحقيقة نحن نخلط عمدا، أقصد بعض التيارات الايديولوجية السياسية عندنا، بين الدولة الاسلامية كما لو كانت موجودة كنموذج مستقل ومختلف عن نماذج الدول الموجودة في عالم ذلك العصر، ودولة المسلمين التي هي من صنعهم وتحت سيطرتهم، لكن من دون أن تكون في جوهر آليات عملها ووظائفها مختلفة عن الدولة التي عرفتها الشعوب الأخرى المتحضرة إلا في بعض التفاصيل. لقد نجح المسلمون في الماضي في بناء دولة لأنهم استوعبو ادروس الدولة السلطانية وطبقوها، وهذا معنى ما قاله معاوية لأمير المؤمنين عمر كما لقب نفسه، لتبرير أخذه بابهة الملوك والقياصرة التي وجد آثارها البيزنطية في دمشق .
واليوم لن ينجح المسلمون في ان يكون لهم دولة خاصة بهم، وان يخرجوا من عهد الفوضى والاقتتال، من دون أن يتمثلوا قواعد عمل الدولة ومعاييرها في عصرهم الراهن، أي الدولة كما وصل إليها التطور الحضاري لعصرهم. وإذا كانوا متفوقين، عليهم أن يتجاوزوها، لكن في تطبيق قيمها ومبادئها لا في النكوص بها إلى دولة السلطنة التي تبدو اليوم بمعايير عصرنا ضيقة وبائسة وبدائية وعاجزة واستبدادية معا مقارنة بتطور مستوى ممارسة السلطة والقانون والمشاركة السياسية الشعبية في الدولة الحديثة. ولا يحتاج المرء إلى عبقرية استثنائية حتى يدرك أن هذه الدولة الحديثة، بالابداعات والتطويرات القانونية والادارية والعسكرية والسياسية التي احدثتها، هي التي تضمن اليوم، أكثر من أي سلطنة أو خلافة مزعومة قديمة، حقوق الافراد والعدالة القضائية والقانونية والأمن والسلام لهم، وتأمين شروط أفضل لازدهار أعمالهم وتكوين مهاراتهم والارتقاء بمستوى تعليمهم الأخلاقي والعلمي وتحسين نظرتهم لأنفسهم ولمجتمعهم، وبالتالي تكوين وعي جديد لديهم قائم على احترام انفسهم كبشر واحترام أخوتهم والتضامن معهم . ولا شك أن التأمينات الاجتماعية تعمل اليوم في الدول الحديثة الناجحة، أكثر بكثير من نظام الصدقة والزكاة، حتى في حال احترم جميع المؤمنين التزاماتهم، وهذا محال، في الحد من الفقر ومعالجة البؤس والتهميش والتفاوت الاجتماعي، حيث جميع الأفراد يتلقون العلاج والتعليم والدخل الضروري ليعيشوا باحترام، ولا يحتاجون للتسول ولا استدرار الشفقة والرحمة من الآخرين لتأمين لقمة عيشهم.
بل أكثر من ذلك، لم يعد من الممكن، حتى لو أردنا أن نقيم دولة سلطانية اليوم بعد ان تجاوزها الزمن وعشنا مرحلة انهيارها وزوالها بثورات غيرت مفهوم الدولة والسياسة والمجتمع معا في القرنين الماضيين. وإذا حصل وفكر بعضنا بإعادة إنتاج نموذجها فلن تكون النتيجة دولة سلطانية قوية كما شهدتها القرون الوسطى وإنما تماما ما نشهده عندنا من فوضى ومن تنازع بين الأفراد، بل داخل الجماعات والحركات والدعاة الاسلاميين أنفسهم، على الزعامة والقيادة. ذلك أنه بعد انبثاق النموذج الجديد للدولة الجمهورية والديمقراطية ومعايير المشاركة السياسية وحكم القانون وتداول السلطة وتقييدها، لم تعد السلطة المطلقة تثير غير الثورات والاحتجاجات بمقدار ما ستكون النبع الذي لا ينفد للفساد. ولن يكون هناك أي معيار واحد غير معيار الاقتراع العام الشعبي معيارا مقبولا من الجميع لمعنى العدالة في المنازعات السياسية، لا يمكن دحضه ولا يختلف عليه اثنان، لاقرار شرعية السلطة وضبط وسائل ممارستها وتداولها. فمن الطبيعي والانساني، في غياب منظومة موضوعية لضبط ممارسة السلطة وتداولها بالقانون، الذي يعرف بشكل موضوعي ودقيق الوظائف والمهام ووسائل والصلاحيات ووسائل تعيينها ومراقبتها، أن تتنوع التأويلات والتفسيرات للنصوص، وأن يتدخل الهوى عند هؤلاء وأؤلئك لدعم التأويلات التي تساير مصالحهم، وليس هناك مرجع ديني واحد ودائم يمكن أن يكون لديه من الشرعية والنفوذ ما يجعل كلامه، في شروط ثقافتنا الحديثة السائدة، يحظى بالقدسية، ويسمح له بفرض إرادته على الجميع.
دولة المسلمين الوحيدة الممكنة في عصرنا هذا هي دولة المواطنين التي يكون فيها كل فرد حر وله دوره ومكانه وصوته، والتي تحكم فيها الأصول الاجرائية الواضحة في تحديد من الذي يستحق هذا الموقع القيادي أو ذاك، من دون نزاع ولا استخدام البنادق والمتفجرات. أما تجميد تصور المسلمين للدولة عند الشكل الامبرطوري السلطاني لها، حيث يتنازع كل الأفراد الطامحين والطامعين، واحيانا المسيرين من الخارج، على منصب الرئاسة والخلافة، دون أن يصعب على أي واحد منهم، مهما كان وضعه، العثور على من يبرر له طموحه ضد منازعيه الآخرين، فلن يقود سوى إلى الفوضى وتأبيد الاقتتال المرتبط بها. وهذا ما نعيشه نحن اليوم بعد انهيار نظام الدولة الحديثة وفشلنا في بناء الروح الوطنية، في هذا العقد الأخير من القرن ٢١.
هناك من يعتقد بين الاسلاميين أن ما نعيشه هو مرحلة قتال انتقالية تسبق اقامة "الدولة الاسلامية"، لكن عندما تقوم هذه الدولة سيعم السلام والهدود والعدل والمساواة والكفاية. هذا وهم. ليس هناك “دولة اسلامية” غير ما نرى نماذج له ونعيش تخرصاته اليوم في مناطق داعش، ومن قبل في افغانستان والصومال. ولن يكون هناك أي انتقال او "تمكين" غير ما نشاهده الآن. وسيستمر القتال باسم التمكين وحتى التمكين بين الجماعات العديدة التي تزعم أن أميرها هو الأصلح وتأويلها للدين هو الأصح ومبايعتها هذا الأمير أو ذاك هي الموافقة للشرع، تماما كما يحصل اليوم وكما حصل في العهد الاول للمسلمين بعد وفاة الرسول قبل أن تستقر السلطة للامويين ومن بعدهم للعباسيين. لن يكون هناك في أي يوم منظر أفضل مما نراه اليوم من صراع على الزعامة والإمارة في ميادين سيطرة فصائل الاسلاميين، ما لم نأخذ بنظام الدولة الحديثة الوطنية ونقر بسيادة الشعب كله، أي بحق كل فرد فيه في المشاركة في انتخاب القيادات ومطالبتها ببرنامج عمل يتعلق بتأمين الحاجات الاساسية للحياة، وفي مقدمها السلام والأمن والعدالة وحكم القانون واحترام حق الحياة وقدسيتها، وبالطبيعة الاختصاصية للدولة كمؤسسة لإدارة الشؤون العامة، المادية والأرضية، لا تقويم اعتقادات الناس أو إصلاح دينهم أو حسم النزاعات الفكرية في ما بينهم ولا من باب أولى ضمان دخولهم الجنة وبيعهم صكوك الغفران. وهذا هو أيضا أصل الاعتراف الضروري باختصاص المؤسسة الدينية واحترام صلاحياتها وعدم التعدي عليها من قبل رجال السياسة والحكم.
والخلاصة لن نبني دولة، مهما كانت صفتها اليوم، أي سلطة مركزية تتمتع بحد أدنى من الشرعية، والكفاءة السياسية والإدارية، وتلبي حاجات اندماج المسلمين بعصرهم، والعيش على مستوى معاييره ومتطلباته، بالتخلي عن كل ما طورته البشرية من مباديء نظرية وقانونية وتشريعات سياسية، والعودة عن الآليات والصيغ التي ابدعتها العقول السياسية لضمان الإدارة العقلانية الرشيدة للمجتمعات وحل مشكلة النزاع السلطة بالطرق السلمية والتوازن بين المصالح وضمان الامن والسلام والمساواة وحكم القضاء والقانون لكل فرد بالتساوي. النكوص عن ذلك إلى نظم ونماذج بدائية في إدارة الدولة والمجتمع ليس من الدين، وإنما من الجهل الديني والعقلي. أهل كل عصر أدرى بطرق حكمهم وإدارة شؤونهم. والاسلام لم . يؤسس لا لنموذج الامبرطورية ولا لنموذج الدولة الوطنية ولا علاقة له بأي نموذج حكم
الاسلام أرسى قواعد وأوصى بقيم ومباديء تنسجم مع أي حكم يقوم على النزاهة والاخلاص والمسؤولية ويضمن للجميع العدالة والأمن والازدهار، ولم يرهن مستقبل المسلمين بنماذج أبدية متحجرة تنفي عمل الثقافة والحضارة والتاريخ.