ايران وحقبة ما بعد الثورة الاسلامية
2009-07-24:: الجزيرة نت
كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة في العالمين العربي والاسلامي سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بحقبة جديدة يمكن ان نطلق عليها ما بعد إسلاموية. وليس المقصود بما بعد هنا العودة عن إنجازات الحقبة الاولى وإنما تجاوزها، أي الاحتفاظ بما فيها من ايجابي وضم عناصر جديدة إليها، أو بالأحرى إعادة النظر في مكانة رجال الدين ودورهم في الحياة السياسية، انطلاقا من تجربة غنية وأساسية هي تجربة الجمهورية الاسلامية الايرانية، كما جسدتها ولاية الفقيه وأسبقيته السياسية، المعمول بها في طهران رسميا منذ عام 1979. وبعكس ما يبدو على السطح، لا تشكل حركة الاحتجاج الأخيرة نفيا للجمهورية الاسلامية الايرانية، وإنما تعبيرا عن انتصار فكرتها، والحلم المتنامي بتحريرها من أغلالها وإعادة تأسيسها.
من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية، وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها المجتمعات العربية، من دون أن تستطيع التعبير عنها، بسبب القهر والكبت السياسيين والفكريين، ومن باب أولى أن تتطلع إلى الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث، في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات إلى قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس، ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم، والمصالحة مع ذواتهم وتاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر بالعطالة والذل والمهانة الأبدية. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الشاه الذي عمل حارسا للمصالح الغربية، وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الشعب. وفي ردها الاعتبار للناس العاديين - الذين احتقرهم النظام الأسبق وهمشهم تماما ورفض أن يعترف بأهليتهم السياسية، أي بمعاملتهم كمواطنين متساوين، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى - ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي كانوا يحملونها، والتي تشير إلى هويتهم الثقافية، وتعبر عن شخصيتهم التاريخية، في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والفكرة الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
وقصدي ان ما حرك الجمهور الواسع في ايران ضد نظام الطغيان الشاهنشاهي لم يكن، كما سعى رجال الدين إلى تصويره في مابعد، إتاحة فرصة أكبر لممارسة الشعائر الدينية، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، ولا كان فرض الحجاب ومراقبة سلوك الأفراد الأخلاقي، ولا بناء جدران تعزل الشعب الايراني عن العالم باسم القومية أو الدين. ولا كان التسليم بسلطان الولاية الدينية وفرض وصاية رجال الدين على الحياة السياسية. ففي ما وراء المظهر الديني للحركة الشعبية التي أطاحت بالشاه ونظامه، كان محرك الثورة الاسلامية العميق الانعتاق من حياة الذل والهامشبة والتمييز الاجتماعي والثقافي وإسقاط الأهلية السياسية عن أغلبية الشعب بما تعنيه من من تكريس مبدأ المساواة واحترام الحقوق الانسانية في الحرية والمشاركة السياسية.
لكن الدور الذي لعبه الاسلام في تفجير هذه الثورة التحررية وقيادتها، قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. فقد غطت الايديولوجية الدينية، التي لعبت الدور الأول في بلورة الوعي بالمطالب السياسية والإنسانية من جهة، على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت لها الحركة الشعبية. كما عزز الدور المركزي الذي قامت به الحوزة الشيعية الايرانية في تنظيم قوى الثورة وتوجيهها وقيادتها من شرعية سيادة رجل الدين وأسبقيته على رجل السياسة من جهة ثانية. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي، واعتباره الأمين على السلطة، والقيم على حسن ممارستها، بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لم يساعد هذا الوضع الجمهورية الاسلامية على انتهاج الطريق الذي كان متوقعا لها. ودفعها إلى الانخراط بشكل متواصل في طرق مسدودة حطمت شيئا فشيئا جميع الآمال التي كانت معقودة عليها. وستعقب حقبة الانجازات الكبرى حقبة ثانية طويلة من الاحباط والعجز عن الوفاء بالوعود المعقودة والتورط المتزايد في سياسات لمزايدة القومية والدينية والمواجهة الخارجية. ولم تلبث الثورة الاسلامية أن فقدت بوصلتها. فصار الحفاظ على الهوية الدينية، التي تبرر سيطرة النخبة القائمة وتضفي عليها الشرعية، غاية بديلة عن تحرير الأفراد وتحسين شروط حياتهم الإنسانية، وصار البحث عن القوة والعظمة استراتيجية الدولة الأولى المقدمة على برنامج تحقيق المواطنة الحقيقية، وأصبح الحفاظ على النظام الثوري وضمان أمنه أولوية وجودية، وتعويضا عن الفشل في بناء شروط المساولة وتحرير الفرد من الاستلاب لسلطة خارجية. فلن يتأخر الوقت قبل أن تظهر الهرمية الجديدة في السلطة، مع ما يعني ذلك من إعادة بناء علاقات السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما سيحرم الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، الثورة الايرانية من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، سيساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة - الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي - في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات.
هكذا لم تكن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة هي السبب في تفجير حركة الاحتجاج الايرانية الواسعة، ذات الطابع الثوري أي القطعي، وإنما كانت الصاعق الذي فجر قنبلة موقوتة. ولا يغير في مغزى ما حصل عدم حصول تزوير في الانتخابات بل إنه يفاقمه ويبرز بشكل أكبر مدى الانكشاف السياسي والايديولوجي لنظام الملالي الايرانيين، ونفاذ صبر قطاعات واسعة من الرأي العام الايراني وتوقها الشديد إلى التغيير وقطعها تماما مع أوهام الجمهورية الاسلامية ووعودها.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وتنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند إلى أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام، وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة، أصبحت مستقرة بمعزل عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة الدينية والقومية. وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تراجع الثورة لصالح الدولة. وهذا بمعنيين، الأول تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام الثوري، والثاني بروز مطالب الحرية والمساواة والحياة القانونية السليمة التي تميز الدول الحديثة الناجزة، أي العودة إلى حياة دستورية طبيعية وعادية ونموذجية والقطع مع الأوضاع الاستثنائية المرافقة للثورات.
ومع تراجع شرعية النظام الثوري الذي أصبح استمراره يتناقض مع تحقيق مفهوم دولة المواطنة وقانونها، سيصبح من الصعب على أصحابه الحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها من دون توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية. وهذا هو الثمن الحتمي لانحسار الشرعية، أي لتراجع رصيد الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة، ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو الرصيد المعنوي والرمزي الذي يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية، وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، وذلك حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا يختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته في الخمسينات والستينات جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فهي تتعرض اليوم إلى مراجعة قوية وعميقة الجذور يصعب استئصالها. لكن بعكس ما حصل في البلاد العربية التي نجحت النخب القومية والثورية في تدجينها وفرض الموت السياسي عليها، لن تستطيع سلطة الملالي مقاومة المعارضة الشعبية لفترة طويلة. وسوف تضطر عاجلا أم آجلا إلى الانفتاح على مطالبها التحررية، أو تحكم على نفسها بالهلاك وعلى ايران بالتخبط في وحول ثورة انحرفت عن أهدافها، تماما كما تتخبط المجتمعات العربية منذ عقود طويلة في رواسب ثورة "قومية" مخفقة وتدفع غاليا ثمن إجهاضها. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وحتى تعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالاتها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها في سبيل إدامة أوضاع السيطرة اللاشرعية فترة أطول وزيادة فعالية الحكم بالقوة وردعيته معا.
وفي اعتقادي، ليس هناك أي حتمية في أن تنجح سلطة الملالي في قهر إرادة التحرر لدى الشعوب الايرانية وتعريض ايران إلى مخاطر التخبط والفوضى والاقتتال الأهلي الذي يميز دول المنطقة العربية. وإذا نجحت ايران في أن تشق لنفسها طريقا جديدة للمستقبل، فسيكون ذلك، من دون شك، فاتحة تحرر المنطقة برمتها من أزمتها الفكرية والسياسية التي لعبت الثورة الاسلامية الايرانية دورا رئيسيا فيها.