النخب المارقة
2009-08-26:: الاتحاد
في ما وراء النزاعات الأهلية والاضطرابات والتخبط والتطرف وانعدام التنمية ورفض التغيير تكمن أزمة السياسة، أي أزمة نمط الإدارة والتسيير والقيادة التي تسود القسم الأعظم من البلاد العربية، وفي صلبها أزمة النخب الاجتماعية. وتطلق أدبيات العلوم الانسانية اسم نخبة على تلك المجموعات التي تتمتع، بقدر يزيد او ينقص، من النفوذ إلى الموارد المجتمعية، من سلطة وثروة ومواقع اجتماعية ومعرفة، والتي تتعدد أشكالها بين نخبة اقتصادية، واجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وعسكرية. ويضمر ذلك أن وصولها إلى الوضع الذي تحتله في المجتمع مرتبط بكفاءاتها ومقدراتها الخاصة. ومن هنا سمة النخبة التي التصقت بها.
بيد أن الواقع العملي يقدم غالبا أمثلة لا يكون وصول الأفراد فيها إلى مواقع النخبة، أي حق النفوذ إلى الموارد الرئيسية في المجتمع والإشراف عليها، مرتبطا بكفاءاتها أو جدارتها ودرجة تأهيلها أي بفضائل خاصة تميزها، وإنما بوسائل أخرى لا علاقة لها بالمواهب والمقدرات الشخصية الاستثنائية أو المتميزة. وأوضح مثال على ذلك النخب التي توضع بدعم من احتلال أو نفوذ خارجي، أو تلك التي تصعد إلى مواقع المسؤولية عن طريق الانقلابات العسكرية، أو تلك التي تحتل مكانها أخيرا بأسلوب الوراثة، الارستقراطي القديم أو الزبائني الحديث، الذي يميز نظام سلطة لا يتيح التنافس النزيه والموضوعي بين أصحاب المواهب، ويقدم الولاء على الكفاءة، في جميع أشكالها العلمية والإدارية والسياسية. بل حتى في حالات غير استثنائية، يلعب الإرث العائلي، المادي أو السياسي أو الاجتماعي دورا كبيرا في تقديم بعض الأفراد على البعض الآخر، ودفعهم إلى احتلال مواقع المسؤولية أو السيطرة على الموارد الاجتماعية.
من هنا ينبغي استخدام مفهوم النخبة بروية ومع الكثير من التحفظات. من هذه التحفظات عدم تجاهل الالتباس الحاصل في المفهوم بسبب الربط العفوي وغير المفكر فيه بين طابعه الوصفي الذي يقصر استخدامه على تحديد أو تعريف جميع أولئك الأفراد الحائزين على الثروة ومواقع المسؤولية والمعرفة والوجاهة الاجتماعية، واعتبارهم يشكلون نخبة اجتماعية، بصرف النظر عن خصائصهم الشخصية وكفاءاتهم الذاتية والطريقة التي أوصلتهم إلى سدة المسؤولية وحيازة الموارد الاجتماعية، وطابعه المعياري الذي يبرز بشكل واضح في المعنى اللغوي للفظ النخبة، والذي يشير إلى فئات متميزة بكفاءاتها وأهليتها، وهو ما يبرر تنسمها مراكز المسؤولية وتقلدها مقاليد القيادة والثروة. وهذا ما يميز النخبة عن الصفوة. والتطابق بينهما ليس أمرا عفويا وإنما هو موضوع صراع داخل المنظومات الاجتماعية، بل هو ملخص برنامج المساواة السياسية، أي الوصول إلى تحقيق قاعدة تكافؤ الفرص. من هنا يشكل التوتر الناجم عن الخلط بين المفهومين مصدر الحراك الاجتماعي والتطور السياسي.
والتحفظ الثاني يتعلق بالفصل بين الوجود المادي للعناصر الحائزة على النفوذ والسلطة والوجود السياسي الذي يعني مقدرتها على التصرف كنخبة، أي كجماعة واحدة متسقة. فالحديث عن عناصر أو مجموعات أو أفراد تمكنهم كفاءاتهم أو ظروف استثنائية من احتلال مواقع المسؤولية في ميادين النشاط المختلفة يقصر عن فهم جدلية علاقات السلطة الاجتماعية. والقصد، لا يمكن أن يستقيم الحديث عن نخبة ما لم تتجاوز هذه العناصر التي تسيطر على الموارد الاجتماعية أو تستحوذ على حق الإشراف عليها مستوى الوجود المادي الذي يسمها بالضرورة بالتنوع والتشتت، وتنجح في توحيد رؤيتها أو إنتاج رؤية مشتركة، وأسلوب عمل واضح ومعروف، أي في الاتفاق على مجموعة من القواعد المستبطنة من قبل الجميع والمرتبطة هي نفسها بتحقيق غايات مشتركة.
وهذا ما يفسر نجاح العناصر المنبثقة من قلب القوى المختلفة وأحيانا المتنافسة والمتنازعة، أي من الطبقات الاجتماعية العديدة والمخترقة هي نفسها بتناقضات داخلية، في تجاوز انتماءاتها وانحيازاتها الطبقية أو بالأحرى الفئوية الضيقة، لبناء انتماء جديد مشترك، يسمح بتكوين جماعة قائمة بذاتها ومتميزة عن أصولها المختلفة، تتمتع بحد كبير من التفاهم أو الانسجام، وتسعى إلى تعزيزه وتعميقه من خلال الخيارات الإيديولوجية والسياسية التي تتبناها وتفرضها على المجتمع ككل.
والتحفظ الثالث هو أن النخبة، بالمعنى الوظيفي للكلمة، لا يمكن أن توجد وتستقل نسبيا عن انحيازاتها الاجتماعية البدائية، ولا أن تعمل كفريق واحد، وترتفع، اكثر من ذلك، إلى مستوى المسؤولية العمومية والرؤية الكلية والنظرة المستقبلية، إذا لم تتمتع بحد أدنى من القيم ومعايير السلوك وأساليب الأداء التي تؤهلها للعب دور المنسق والموجه والمحفز للمجتمع. ومن دون ذلك لا تتجاوز عناصر النخبة أو ما يسمى كذلك شرط وجودها المادي كقوى مسيطرة لا تسعى إلا إلى تعظيم مصالحها الخاصة والضيقة والدفاع عنها، من دون مراعاة أي مصالح ثانية، بما في ذلك مصالح فئات النخبة الأخرى. فالسيطرة البدائية من قبل مجموعة من المرتزقة مثلا، كما حصل في بعض الأقطار الصغيرة، على الدولة وموارد المجتمع، لا تسمح بالحديث عن نخبة اجتماعية، ولا عن نظام سياسي اجتماعي تكون النخب حاملته وصاحبة الفضل في تشغيله وتسييره لصالح المجتمع عموما ولصالحها خصوصا، ولا يستمر إلا بقدر ما تتقاطع فيه مصالح الطرفين إلى هذا الحد او ذاك.
هذا يعني أنه لا يمكن لنخبة أن تنشأ وتكون فاعلة وقادرة على بناء جماعة سياسية من دون تحقيق شرطين: الاستقلال عن أصحاب المشاريع والأعمال والمال من جهة، وتكوين وعي واضح بالمسؤولية تجاه المجتمع والرأي العام من جهة ثانية. وعلى درجة هذا الاستقلال وقوة الشعور بالمسؤولية لدى النخب تتوقف مقدرتها على تأسيس جماعة سياسية مستقرة وفاعلة. في هذه الحالة يمكن الحديث عن نخبة بالمعنى السياسي والفكري تحتل مواقع المسؤولية في توجيه المجتمع داخل الدولة وعلى مستوى الرأي العام معا. وهي التي نقصدها هنا عند الحديث عن النخبة الاجتماعية، لتمييزها عن الفئات التي تعيش شرطها الوجودي من دون طموح إلى لعب دور في قيادة المجتمع أو توجيه شؤون الدولة.
ويعني أيضا أن النخب السياسية والثقافية المعنية بوضع رؤية عامة، والسعي إلى تحقيقها، لا تشكل امتدادا مباشرا للطبقة المالكة أو المسيطرة على الثروة المادية والرمزية، من دون أن يعني ذلك أنها لا ترتبط بها، أو لا تنتمي إليها ولا تولد في حجرها. لكنها ليست نفسها. فهي تدخل في دينامكية خاصة بها منذ اللحظة التي تحتل فيها موقعا مختلفا، يتعلق بالقيادة والتوجيه العموميين.
ومن هنا تشكل دراسة النخب، وطريقة تكوينها، وأسلوب إعادة إنتاجها، ونوعيتها، مدخلا أساسيا لفهم قيام الدول ومصير المجتمعات السياسية، وأسلوب ممارسة السلطة وتطبيق السياسات العامة الكبرى، وخصائص نظم الحكم، وهو ما ينعكس على النظام العام وعلى الطبقات المالكة ذاتها. فهذه العوامل هي التي تحدد طبيعة علاقات النخب بالطبقات الاجتماعية وتصورها الذاتي لدورها وهويتها والمهام المطلوبة منها. فارتباط النخبة الأمريكية بطبقة رجال الإدارة والأعمال، وسيطرة القيم الليبرالية القوية على إيديولوجيتها، يعكس هو نفسه سيطرة مجتمع الإدارة والأعمال ونفوذه الواسع في المجتمع ككل، بما في ذلك على تكوين النخب السياسية والثقافية، حيث تسيطر منظومة الجامعات الخاصة الحرة المرتبطة هي ذاتها بنظام المشروع الخاص والممولة منه. بالمقابل يغلب على النخبة الفرنسية التي نشأت في سياق تأكيد دور الدولة القومية ومركزيتها، والتي تعتمد في تكوينها على نظام تعليمي عمومي (مندراني أو شبه مندراني نسبة إلى المندرينا الصينية الكلاسيكية) تموله الدولة وتشرف عليه، طابع النخبة التقنوقراطية. وهو ما يدفعها إلى إظهار استقلالية أكبر تجاه أصحاب المشاريع وبلورة رؤية مختلفة لدور الدولة ومكانتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية أيضا. لكن تظل النخبة في الحالتين أداة التواصل والتوحيد بين جميع القوى والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.
بالتأكيد يجري الحديث هنا عن نموذج مثالي، أي مجرد، لا ينطبق على الواقع إلا جزئيا وتاريخيا. وهو يعكس نزوعا سائدا لا حالة جامعة. فاستقلال النخب عن أصحاب الثروة والمال، وشعورها بالمسؤولية تجاه المجتمع، وتمثلها مفهوم المصلحة العامة، يبدو أكثر وضوحا اليوم في المجتمعات الديمقراطية الحديثة التي أنجزت ثورتها السياسية والصناعية، وتمثلت قيم المساواة والعلاقات الفردية والمواطنية. أما في المجتمعات التي لم تتحول إلى مجتمعات صناعية، ولم تحل علاقات العمل الرأسمالي عرى تشكيلاتها الجماعية التقليدية، العشائرية أو الطائفية أو العائلية، فالأمر يختلف. إذ
لا يكاد التطابق هنا بين أصحاب السلطة (الذين يحتلون مركز المسؤولية والقرار)، وأصحاب الثروة والجاه، يترك مجالا ولو محدودا لأي حراك اجتماعي. وهو يدين أبناء الطبقات الدنيا بالبقاء في موقعهم مهما بذلوا من الجهود، باستثناء حالات نادرة ترتبط بالحظ والصدفة والحذاقة الشخصية وأحيانا كثيرة الانتهازية والخيانة الطبقية. ومع هذا، حتى في المجتمعات الصناعية، تبقى العلاقة قوية بين الثروة وفرص احتلال مناصب المسؤولية، نتيجة تأثير الحالة الاجتماعية والمادية في تكوين الأبناء وتأهيلهم للحصول على المهارات الفنية والمهنية.