الدين والسياسية في مواجهة تحديات العصر
2007-10-25:: الجزيرة نت
بعكس ما بثته الايديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، تظهر أحداث العقود الماضية تجدد الطلب على الدين في الحياة السياسية والمدنية بشكل عام. فقد كان للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية دورا رئيسيا في التعبئة التي قادت إلى الإطاحة بالنظم الشيوعية، سواء عن طريق ما قام به البابا يوحنا الثالث عشر، الذي أظهر نشاطية استثنائية في الدبلوماسية الدولية، أو عن طريق الكنائس المحلية التي نشطت لدعم قوى المعارضة السياسية وشكلت رافعة لها، في بولونيا وروسيا وبلدان أوروبة الشرقية عموما. ويسرى الامر نفسه على ما قام به المجاهدون الاسلاميون في أفغانستان، الذين كبدوا النظام السوفييتي هزيمة عسكرية وسياسية لن ينجح في التغلب على آثارها أبدا. ولعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسيا أيضا في هزيمة الديكتاتورية وتعبئة شعوب أمريكا اللاتينية أو بالأحرى طبقاتها الفقيرة لتأكيد حقوقهم الاجتماعية، بعد انحسار العقيدة الماركسية. وفي منطقتنا ما كان من الممكن تصور نجاح المشروع الصهيوني الرامي إلى بناء دولة يهودية صافية في فلسطين من دون إحياء الذاكرة الدينية والخلط المتعمد بين القومية والدين. وبالمثل ما كان من الممكن الإطاحة بحكم الشاه الايراني المدعم بقوة من الولايات المتحدة لولا التعبئة الدينية الهائلة التي عملت عليها، خلال عقود، الحوزة الشيعية. ولا يزال النظام الذي ولد مع الثورة الايرانية يدين بوجوده واستمراره إلى حد كبير للروح الدينية التي فجرتها هذه الثورة. وتستند معظم حركات المعارضة العربية والاسلامية وأكبرها اليوم على الذاكرة والتعبئة الدينية في نشاطها الرامي إلى تغيير الأوضاع او مواجهة النظم القمعية والفردية. وقد حلت الحركات التي تستلهم العقائد الدينية محل الحركات القومية واليسارية في تعبئة الجمهور وقيادة الرأي العام في صراعه من أجل تحسين شروط معيشته أو ضمان مشاركته في الحياة العامة أو طرد المحتلين من أراضيه، كما هو الحال في فلسطين ولبنان والعراق وبلدان عديدة أخرى. وأجبرت الحركات الاسلامية الناشطة في كل بقاع العالم، والتي تبنى بعضها استراتيجية مواجهة صدامية ومباشرة مع الغرب، العواصم الغربية والأطلسية إلى إعادة بناء استراتيجيتها الدفاعية على أساس مواجهة الحرب الإرهابية. وقد أصبح مقر البابا ممرا إجباريا لجميع أولئك الديلوماسيين الذين يأملون في إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، بما في ذلك قادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما ينطبق بشكل أكبر على المرجعية الشيعية التي تشكل اليوم، في العراق وإيران مصدر التوجيه الأول للسياسة وللقادة السياسيين الحاكمين. ومن آخر تظاهرات هذا النفوذ الديني المستعاد في سياسات عصرنا انتفاضة رجال الدين البوذيين في بورمة أو مينمار.
يصدم هذا الدور المتجدد للدين، أو للأديان، في صنع السياسة وبناء المجتمعات، بقوة الأفكار المسبقة التي سودتها حقبة طويلة من التفكير الاجتماعي الوضعي، الذي بدأ مع عصر الأنوار العقلاني في القرن الثامن عشر، وآمن بالعلم كمصدر لخلاص الإنسان، وعارض بينه وبين الدين الذي نظر إليه كنتاج لجهل الانسان بالطبيعة أو كتعبير عن طفولته الفكرية. كما تصدم بشكل أقوى أولئك الذين اعتقدوا، على خطى ماركس والفلسفات المادية، بأن الدين أفيون الشعوب، وأنه سينحسر لا محالة مع انهيار نظم السيطرة والاستعباد الطبقية، وزوال استغلال الانسان للانسان، والحاجة إلى عزاء من طبيعة سحرية. وبالنسبة للجميع كانت الحداثة تفترض انتصارا مؤكدا لأشكال الوعي الوضعي والعلمي وتراجعا مضطردا للوعي الديني وللأديان بشكل عام.
ليس هناك شك في أن الثورة الصناعية، وما تبعها من انقلاب في أساليب إنتاج المجتمعات وحياتها وتفكيرها معا، قد ترافقت بتحول كبير في عقائديات الناس وتطلعاتهم وغايتهم من العمل والحياة، أضعف من دور الأديان الكلاسيكية في التأثير على السياسة لصالح عقائديات جديدة آمن الناس بها، ليس بالضرورة بديلا عن الأديان السماوية ولكن إلى جانبها، من بينها القومية والشيوعية والوضعية التي انتشرت بقوة في القرن التاسع عشر، وفاضت عنه إلى القرن العشرين. وارتبط انتشار هذه الايديولوجيات ذات الطابع الزمني بتطور منظومات من القيم والتطلعات تركز على تحسين شروط حياة الإنسان على الأرض، وتؤكد على سعادته الجسدية والعقلية، مقابل تأكيد العقائد ومنظومات القيم الدينية السماوية على الخلاص الروحي والتطلع إلى حياة الآخرة الأبدية.
لكن الأمر بدأ يتغير منذ السبعينيات. وهناك ثلاث عناصر تفسر هذه المفاجاة أو ما يمكن أن نسميه مفاجأة تنامي أثر الدين في الحياة السياسية والمدنية عموما. الأول هو سوء تأويل ظاهرة انحسار الفكر الديني وتوحيدها مع فكرة حتمية زوال الدين أو تلاشيه بوصفه نموذجا عتيقا للتفكير تجاوزه العلم. وهو ما يعكس الطابع التبسيطي والخطي لأطروحات الفلسفات الوضعية والمادية التي بشرت بانحسار الدين لصالح الفكر والوعي العقلاني والعلمي. فانحسار نمط من التفكير والقيم الدينية لا يعني بالضرورة انحسار الدين. كما أن تطور المعرفة العلمية وسيطرة العلم على الحياة العملية، لا ينفي وجود صيغ أخرى لتمثل الواقع أو الوجود والكون لها أيضا قسطها من العقلانية التي تختلف في معاييرها عن العقلانية التي أطلق عليها أصحاب الفلسفة النقدية اسم العقلانية الأداتية. فعلاقة الفرد مع الوجود ليست علاقة معرفية موضوعية فحسب، كما يظهر ذلك الفن والأخلاق والعاطفة، وإنما هي علاقة متعددة المستويات والأبعاد. ومن هذه المستويات علاقة الايمان الذي يشكل جوهر المنطق الديني أو التجربة الدينية. وبقدر ما يعبر الايمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود، في صوره المادية أو الذهنية، يدفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني، ليتحد بالمطلق، أي ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة او القيمة او الرمز الذي يتعلق به. والايمان، أي الانخراط الكلي والتسليم كأسلوب للتعامل مع العالم والتصالح مع الذات، كجزء من الكون، تجربة إنسانية أصيلة ليست مرتبطة بمستوى تطور المعرفة البشرية ولا بالاستلابات الناجمة عن السيطرة الخارجية او الاستغلال الطبقي ولا بالتدين الكلاسيكي فحسب. بل يمكن لكبار العلماء أن يعاينوها. وقد كان بين الشيوعيين من تمثل الفكرة الشيوعية بطريقة ايمانية، وكان يتصرف تصرف المؤمنين الذين يهبون أنفسهم للفكرة ويموتون في سبيلها. وقد مات منهم الكثير في السجون والمنافي من دون أن يرف لهم جفن. وبهذا المعنى فإن الدين، كالفن، صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه. ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى، كما كانت تجسدها بشكل أوضح بعض المذاهب الصوفية الإسلامية.
يشكل التدين بهذا المعنى نمطا من أنماط العلاقة بين الفرد والفكرة التي يتمثلها ويتعامل بها مع غيره من الأفراد. فالمجتمعات لا تعيش من دون عقائد توجه سيرها وتضمن تفاعل عناصرها في ما بينهم. وكما أن من الممكن للفرد أن يتعامل مع عقائده وأفكاره بطريقة استعمالية، أو أداتية، يستخدمها حسب مصالحها وحاجاته الأنانية، حتى لو كانت عقائد دينية سماوية، من الممكن له أيضا أن ينظر إليها كوسيلة للسمو بذاته والارتفاع عن شرطه المادي الفاني وفرصه للاتحاد مع المطلق الإلهي أو الإجتماعي، حسب طبيعة العقيدة. والواقع أن كثيرا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المحدثين كانوا قد رفضوا النظرة التبسيطية التي سيطرت على الفلسفة الوضعية عموما، واعتبروا الدين نظاما رمزيا مرافقا لوجود المجتمع. وكان إليكسي دو توكفيل أول من أشار إلى أهمية الدين في استقرار النظام الديمقراطي الحديث الذي نشأ في أمريكا في القرن التاسع عشر لما ينطوي عليه من ذخيرة أخلاقية. كما أن دوركهايم الذي كان أول من سعى إلى تأسيس علم الإجتماع على أسس علمية يعتبر أن الدين ضروري لتحقيق الاندماج الاجتماعي، بما في ذلك في المجتمعات الحديثة. أما ماكس فيبر فقد أكد على أهمية المنظومات القيمية في قيام النظم الاقتصادية نفسها، كما أبرز ذلك في كتابه عن المناقبية البروتستنتية وروح الرأسمالية. ونظر جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفه معطى أساسيا في حياة المجتمعات.
والعنصر الثاني الذي يفسر هذه العودة ما شهدته الأديان التوحيدية المنحسرة سابقا من تحولات داخلية عميقة، ربما كان من الصعب على المراقب الخارجي وغير المختص أن يتعرف عليها، لأنها تقع في قلب منظومة القيم والتطلعات العميقة للأفراد. وقد استعادت هذه الاديان دورها بقدر ما غيرت من دلالاتها وتحولت إلى أطر فكرية للاحتجاج على حداثة إشكالية، مخربة، تمييزية، مفقرة وسالبة، وأحيانا مستحيلة، بالنسبة لجميع أولئك الذين خرجوا من تقاليدهم الفكرية والدينية القديمة، من دون أن يجدوا ما يملأ عليهم فراغهم الروحي والفكري والاجتماعي معا. فليس من المبالغة القول أن تبرير الاحتجاج وتأطيره هو اليوم الوظيفة الرئيسية للأديان التوحيدية المستعادة.
والعنصر الثالث هو إزمة الحداثة أو نمطها الكلاسيكي، وانكشاف عجز هذا النموذج، وريث المرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، في استيعاب الكتل المتزايدة الخارجة من انماط حياتها التقليدية، وإدماجها في نموذج الحياة الداعية لها. وبالتالي تبين المآزق التي تقود إليها هذه النماذج القائمة على التنافس في رفع معدل الانتاجية والمزاودة في القيم الاستهلاكية. كما أن التطورات التقنية والعلمية والعولمة التي أفرغت المجتمعات من روابطها الحميمية، وعمقت الشكوك في المستقبل، ربما كانت أحد الدوافع الرئيسية للإحياء الديني الراهن. وهذا ما يفسر كيف بدأت العقائديات الزمنية أو الدهرية التي رافقت تقدم الحداثة، كالقومية والشيوعية، تتراجع وتنحسر شيئا فشيئا، ومعها السياسة ذاتها، لصالح العقائد الدينية وروابطها القائمة على الأخوة والقرابة الروحية، التي بدت في الحقبة السابقة وكأنها الضحية الحتمية لعملية التحديث والتنمية الفكرية والتقنية.
هكذا شهدنا منذ السبعينات تقاربا مطردا بين حركات الاحتجاج والتغيير والإحياء الديني. وربما كانت الثورة الاسلامية الايرانية هي النموذج الأكثر تعبيرا عن هذا التقارب الذي سيستمر وينتشر ويعبر عن نفسه بصور مختلفة في معظم مناطق العالم النامي، بل في أوساط شعبية متزايدة من العالم الصناعي المتقدم. لا يختلف الأمر عن ذلك بالنسبة للاهوت التحرير الذي شهدته مجتمعات أمريكا اللاتينية، وحركة رجال الدين البوذيين في مينمار اليوم.
والواقع أن ما يسمى بالصحوة الدينية لا يعبر عن عودة إلى أشكال التدين القديمة ذاتها ولكنه يعيد استثمار جدلية الإيمان أو ما يسميه البعض بالشعور الديني، الذي هو مزيج من نكران الذات والتفاني – الذي يمكن أن يكون منزها لذاته، أو للمباديء التي يتعلق بها، أو لحساب الجماعة القومية أو الطبقية أو الطائفة - في المعارك التي أثارتها وتثيرها عمليات التحديث نفسها. فهي أقرب إلى أن تكون توظيفا للفكر الديني الكلاسيكي في هذه المعارك الحديثة بالفعل، من أن تكون استعادة للمعارك الدينية والعقائدية التقليدية. وهذا ما يفسر الطابع السياسي لهذا الإحياء في كل مكان. فالدين يستعاد هنا كمورد أو مصدر لتعزيز موقف فئات اجتماعية معينة في صراعها ضد البؤس أو الفقر أو البطالة أو التهميش أو العدوان الخارجي. ويشكل الدين هنا مصدرا لتاكيد هوية جمعية أو عقيدة كفاحية تشجع على التضحية، أو تفعيلا لقيم التضامن الاجتماعي والانساني. ومن هنا يمكن القول إن الدين لم يعد بعد أن انحسر وإنما أعيد تاهيله وتجديد أفكاره وقيمه ليقوم بأدوار جديدة. فالمادة التي يستخدمها الدين المجدد قديمة، تتعامل بالأفكار والمفاهيم والمصطلحات والطقوس ذاتها، لكنها وضعت في صورة جديدة أوحت بها حاجات المجتمعات وتحديات الحداثة. من هنا لم يعد هناك معنى لوصف هذه الأديان، كما فعل ماركس، بأنها أفيون الشعوب أو أداة تخديرها، ولا لعزو انتشار الفكر الديني إلى جهل العامة أو غياب المعرفة العقلية.
لا يتناقض هذا الإحياء المتزايد للدين مع الحداثة وقيمها إذن ولكنه يصب فيها. فهو يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة. بيد أن المشكلة التي يطرحها تظهر بشكل رئيسي على مستوى إعادة بناء المجتمع والدولة. فالسياسة تعتمد بشكل متزايد في هذه الحالة على تعبئة المشاعر والقيم والموارد الدينية، لكن الدولة بوصفها دولة مواطنين متساويين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا، وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية، أي إلا بالارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية،غير الايديولوجية. وربما هنا تكمن مفارقة السياسة المعاصرة في بلداننا. كيف نوفق بين متطلبات ممارسة سياسية تنجذب أكثر فأكثر نحو استلهام العقائدية الدينية، ومتطلبات بناء الدولة كمؤسسة جامعة، يتساوى في ظلها أصحاب العقائد والمؤمنين جميعا من كل المذاهب والأديان، أي تحويلها إلى دولة قانونية لا ايديولوجية؟ إلا يفسر هذا التحدي الانقسامات العميقة التي تسم مجتمعاتنا وتجعلها تتخبط في معارك ونزاعات مستمرة، تدخل السياسة في طرق مسدودة وتفرغ الدولة من مضمونها كؤسسة قانونية جامعة؟
في نظري، لا يكمن الجواب على هذه المفارقة التاريخية في الدعوة إلى استبعاد الدين من السياسة، وإنما في السعي إلى تعميق مفهوم الدين بمعنى الإخلاص، بوصفه نكرانا للذات في سبيل المباديء الإنسانية، التي هي مقاصد إلهية أيضا، على حساب استغلاله لتأكيد نفوذ الطائفة أو القببلة أو الامة، مما يشكل مصدر الخطر الرئيسي على أي تجرية سياسية دينية معاصرة. عندئذ يمكن للدين المساوي للإخلاص والقائم على مباديء الحق والعدالة والمساواة، أن يكون عاملا رئيسيا في بناء دولة القانون والديمقراطية العربية او الاسلامية المنشودة.