الخيار العربي الجديد

2024-09-02:: العربي الجديد

ما من شك في ان "العربي الجديد" تمثل قصة نجاح ربما لم يكن اصحابها انفسهم يتوقعونها. فقد تحولت خلال اعوام قليلة إلى واحدة من ابرز الصحف اليومية المتداولة عبر الحدود العربية والمفتوحة لكتاب ومثقفين ومناضلين من مختلف الاقطار والاتجاهات والافكار. وفرضت نفسها كأفضل منبر للحوار بين نخبة من مثقفي جيل الثورات العربية. 

لم يكن هذا النجاح وليد الصدفة وإنما نتاج رؤية متجددة للأحداث ومحاولة جريئة للرد على التساؤلات والاشكالات التي طرحها ولا يزال يطرحها فشل أنظمة الحكم والإدارة  العربية خلال نصف القرن الماضي في تلبية تطلعات الشعوب، وما ادى الى انهيارها، كما تشير ثورات العقد الثاني من هذا القرن. 

بالنسبة لي، وقد عايشت مشروع صحيفة "العربي الجديد" منذ نشأتها، كانت أو كنت ارى فيها محاولة مزدوجة لمراجعة اخطاء خيارات واستراتيجيات الحقبة السوداء التي عاشتها الشعوب العربية خلال نصف القرن الفائت وتهافت طروحاتها واخفاقها من جهة، ولتجديد ما اسميه الخيار العربي الذي ظهرت اول محاولات تجسيده في الستينيات من القرن الماضي عندما توافقت شعوب العالم العربي لأول مرة على برنامج عمل واحد بنوده الرئيسية : انتزاع القرار المستقل وتصفية ما تبقى من آثار السيطرة الاستعمارية القديمة واجلاء القواعد العسكرية الاجنبية البريطانية والامريكية والفرنسية التابعة لها، ومواجهة الاحلاف العسكرية المفروضة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا (حلف بغداد ومبدأ أيزنهاور) التي هدفت الى زج الشعوب العربية في الحرب الباردة، والاستعاضة عنها بالتضامن العربي وبقدر الإمكان بتجمع الاقطار العربية بعضها او اكثرها في وحدة او تحالف يساعدها منفردة وجمعا على تعزيز استقلالها بالاضافة الى تدشين ثورة صناعية واجتماعية تهدف الى التغلب على التفاوت الطبقي الصارخ وتحرير الريف من السيطرة الاقطاعية وشبه الاقطاعية وادماج نخبه المهمشة في الدورة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وهو الشرط الأول لتكوين جماعة سياسية حديثة، اي امة موحدة ومتفاعلة ومتساوية. 

لا يعني تجديد الخيار العربي وليس هدفه في نظري العودة الى خيارات ومشاريع الخمسينات والستينات الوحدوية او الاشتراكية التي اظهرت فشلها. إنه يعني اعادة تقييم، اي نقد وتقويم، هذا الخيار، بهدف بناء مشروع جديد يرد على السؤال الذي يطرح علينا بعد نصف قرن من التخبط والفشل والاخفاق: هل يمكن ان نستفيد من ارثنا المشترك التاريخي والثقافي والموقع الجيوسياسي، ليس للاحتراب والتناحر وتغذية العداوات ومشاعر الكراهية بين الشعوب وانما لتعزيز التعاون وزيادة فرص نجاحنا، منفردين ومجتمعين، في مواجهة حالة الانهيار الاستراتيجي والاقتصادي والسياسي والثقافي التي صرنا اليها ولمواجهة التحديات الضخمة التي تواجهنا؟

من الواضح ان الأمر لا يتعلق هنا بالدفاع عن هوية قومية او تأكيد انتماء مشترك او البرهان على وجود أمة واحدة او أمم متعددة، وكلها اشكاليات عفا عليها الزمن، وانما بوجودنا: شعوبا  مستقلة حية وفاعلة تدعم بعضها بعضا في منطقة اصحبت مسرح صراع مفتوح تتقاذف فيه الامبرطوريات الضخمة الأقطار الصغيرة باقدامها كما يتقاذف اللاعبون الكرة في ملاعب كرة القدم الشعبية. 

يكفي لإدراك اهمية إعادة طرح هذا الخيار أن نقارن بين ما عرفته حقبة الخمسينات والستينات من تضامن فاعل بين الشعوب العربية في مواجهة الضغوط الأجنبية، ومن ارادة قوية للتقدم على صعيد التنمية الصناعية وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية وانتشار القيم والأفكار التحررية وانحسار الأيديولوجيات السلفية والانطوائية، و ما شهدناه بعد السبعينات من أزمات وطنية واجتماعية وسياسية كان لها الأثر الأكبر في انتشار الفوضى وتعميم الفساد واستفحال العنف واليأس والخراب. 

لقد كانت اهم منجزات خيار الانفصالية وتسعير الخلاف بل العداء بين الأقطار العربية:  العودة المظفرة لعقود الوصاية والحماية الخارجية واعادة زرع المنطقة بالقواعد العسكرية الاجنبية اكثر من قبل، وانتشار الحروب الداخلية والاهلية بما في ذلك الحروب التي تشنها اسرائيل لتوسيع دائرة استيطانها ونفوذها الاقليمي، وتجذر حكم الاوليغارشيات العسكرية وتخالف المافيات الى حد الاعتقاد بحقها في توريث الدولة كملكية عقارية. ومن هذه "المنجزات" دخول طهران وجمهوريتها الاسلامية في التنافس على السيطرة الاقليمية عبر ميليشياتها الخاصة التي اصبحت تهدد مصير شعوب عديدة في المنطقة من العراق الى اليمن الى سورية الى لبنان. ومنها على الصعيد الاقتصادي التراجع عن مشاريع التنمية لصالح سيطرة الاقتصاد الريعي وأسواق المضاربة وهدر الموارد المحلية، ومن ثم تردي الاوضاع المعيشية وتفاقم الاستقطابات الاجتماعية الى حد القطيعة بين القلة الغنية المحتكرة لجميع الثروات، المادية والمعنوية، والأكثرية المهمشة والمستبعدة من كل قيمة ومستقبل واعتبار.

لم يعزز خيار الالتحاق من جديد بالسياسات الغربية وتبني الخيارات النيوليبرالية اليمينية وتسفيه فكرة التعاون والتضامن العربيين كما كان يدعي أصحابه  تقوية شرعية النظم السياسية وتعميق الولاءات الوطنية وإلهام الشعور بالمسؤولية العمومية لدى الحاكمين والمحكومين، ولا ساهم في تأكيد حكم القانون وزيادة فرص الانتقال نحو الديمقراطية كما لم يقدم اي حل للمسألة الفلسطينية. لقد انتج بالعكس مزيدا من الهزائم والنكسات العسكرية والأطماع التوسعية الاسرائيلية. ومن انتشار الحروب الداخلية والقلاقل والاضطرابات ومن تغول لا سابق  له لانظمة الحكم الاستبدادية. وهذا ما اطلق ثورات الربيع العربي التي كانت الرد الشعبي على فشل الخيارات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية والايديولوجية التي تبنتها النخب الحاكمة في العقود الخمس الماضية. 

بالتأكيد، ما كانت مراجعة هذه الخيارات ضرورية لو كان التحدي يتعلق ببناء فنادق سياحية سبع نجوم. لكن الأمر يختلف اذا كان هدفنا الرد على الخراب العميم الذي طال منظوماتنا الإنتاجية والسياسية والثقافية وتفاقم العجز عن تأمين الحاجات الأساسية لأغلب السكان وتجنب الثورات الدورية، التي تنذر بان تكون اكثر دموية بكثير في المستقبل،  ومواجهة مخاطر التصحر والشح المائي والارتفاع الكبير في درجات الحرارة، التي تتهدد منطقتنا، اكثر من اي منطقة اخرى، ومعالجة الجوائح والأوبئة وانعدام الأمن الغذائي وتنامي معدلات البطالة والهجرة ونزيف الأطر العلمية والتقنية. وليس أقل من ذلك اهمية توفير وسائل الدفاع الذاتي وتطوير الصناعات الدفاعية التي تضمن الحفاظ على الأمن والسلام والاختراقات الامنية في منطقة حساسة تتنازع السيطرة عليها التكتلات الدولية والإقليمية، القديمة والصاعدة، من الصين الى ايران مرورا بالولايات المتحدة وروسيا واوروبا والهند وغيرها. 

تحتاج مواجهة كل ذلك إلى خيارات كبرى وخطط طويلة المدى وتنسيق السياسات بين الأقطار، وتجميع الطاقات المادية والصناعية والعلمية والتقنية على مستوى مناطق بأكملها وتجاوز الانكفاء على حدود وطنية اصبحت ضيقة جدا لتوفير شروط التنمية الحضارية وتطور قوى الانتاج في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. 

للأسف، استخدم فشل الوحدة المصرية السورية ((1958-1961) في العقود الماضية لتسفيه الرهان على اي شكل من اشكال التعاون او حتى التضامن بين أقطار تنبض شعوبها بعواطف واحدة وترى في تضامنها قوة لها جميعا، وذلك في وقت سعت فيه أكثر الدول، وفي مقدمها الدول الصناعية الأوروبية، لتجاوز خلافاتها ونزاعاتها التاريخية وتشكيل اتحاد ضمن لها البقاء والمنافسة في سوق عالمية مفتوحة والحفاظ على الاستقرار والامن والسلام في بيئة دولية مضطربة. هكذا وضعت الشعوب العربية الفقيرة  والضعيفة امام خيارين فاسدين لا ثالث لهما: الوحدة الشاملة التي تعني الانصهار وتغييب الهويات القطرية او المحلية وهي مستحيلة او الانفصال الكامل وتغذية مشاعر العداء والكراهية المتبادلة للحفاظ على النظم القائمة وانفراد كل منها بتقرير مصير شعبها وإخضاعه بجميع الوسائل بمعزل عن اي ضغوط شعبية خارحية عربية. وهذا ما نعاين بعض تجلياته في ردود الشعوب العربية او بالاحرى انعدام ردودها على ما يتعرض له شعب غزة من حرب ابادة جماعية ومن مذابح الاسد الوحشية في سورية.

والواقع ان استبعاد هذا الخيار الذي تسعى الى تطبيقه الدول الاكثر تقدما، في اسيا وافريقيا بعد اوروبا، لتواجه تحديات المنافسة الدولية المفتوحة، لم يرتبط بأي هدف وطني كما يدعي أنصاره وكما برهنت خمسة عقود ماضية عليه. لقد كان هدفه إجهاض الحركة الشعبية واستعادة النخب المحلية السلطة المطلقة بمعونة وحماية القوى الأجنبية وقطع الطريق على اي فرصة للتقدم نحو الديمقراطية، بل حتى المشاركة الشعبية في ادنى صورها باختلاق الحروب والعداءات الدائمة مع الشعوب العربية المجاورة. هكذا أمكن لهذه النخب المحلية التي سرعان ما تحولت الى عصبة من المنتفعين ان تستعيد مواقعها في السلطة وتدحر شعوبها، كما أمكن للقوى الغربية أن تستعيد نفوذها وتضاعفه في البلدان التي أجبرت سابقا، تحت ضغط الشارع الشعبي، على الرحيل عنها. وقد لا قى هذا الخيار ولا يزال يلقى للأسف الترحيب والاستحسان من قبل كثير من المثقفين ورجال السياسة العرب الذين ارتبط الخيار العربي في وعيهم بالناصرية أو الذين اعتقدوا ان قطع أواصر القربى بين الشعوب العربية شرط ضروري لتقوية الدولة الوطنية وتحقيق الديمقراطية وجذب الاستثمارات الاجنبية. وهذا ما اظهر التاريخ القريب نقيضه، تماما كما اكد ان بديل الخيار العربي هو الخيار الغربي أي الإسرائيلي. ولا يستدعي الخيار العربي الجديد العداء للغرب او للشرق وانما يسعى الى تحويل  الصفر العربي المكرر إلى رقم فحسب.

باختصار، ان إعادة طرح مسائل التحرر والتنمية والتحول الديمقراطي والمشاركة في بناء أجندة السياسة العربية للسنوات القادمة لا تقتصر على  نقد خيارات الحقبة السوداء الماضية. فلم تنجم هزيمة الحركة الشعبية في الخمسينات والستينات عما واجهته من مقاومات داخلية وما تعرضت له من حروب وانقلابات وتحالفات خارجية أجهزت عليها بعد اقل من عقدين من الزمن فحسب، وانما ايضا وربما بشكل اكبر عما اعترى تكوينها من ضعف الرؤية ونقص الخبرة وسوء التحليل وغلبة العاطفة على العقل الذي ميز معظم القوى التي تصدت لمهام هذه المرحلة ولعملية التغيير والتحديث التي كنا ننتظرها منها. هذا ما كنت ولا ازال  أرى فيه الرسالة الرئيسية لصحيفة "العربي الجديد".  

واخيراً، لا الدولة ولا الوطنية ولا الديمقراطية ولا السلام والاستقلال والتقدم مكتسبات ناجزة، انها معارك دائمة لا نتوقف عن خوضها، والصحافة هي احد ابرز ساحاتها. لذلك، لا يسعنا في الختام إلا ان نحيي صحيفتنا المتميزة ومحرريها وكتابها الذين يدافعون بأقلامهم عن حريتنا ويحيون الأمل في .مستقبل بلداننا

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF