الخسارة الثانية للجولان
2006-08-12::
ليس هناك أي شك في أن الحرب التي شنتها إسرائيل، بالأصالة عنها وبالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت مرحلة متقدمة على طريق حسم المواجهة التاريخية بين العرب وإسرائيل على السيادة في منطقة المشرق بأكملها وفرض قانون إسرائيل، أي سيطرتها فيها. فبعد الانسحاب الشامل لجميع الدول العربية من المواجهة، بما في ذلك تلك التي لا تزال تصدح بالممانعة والصمود اللفظيين، بقي حزب الله الشوكة الوحيدة في خاصرة إسرائيل، لما يجسده من رمزية للمقاومة الناجحة، منذ طرده قواتها في الجنوب عام 2000، ولما يملكه من أسلحة يستطيع أن يهدد بها العمق الاسرائيلي، ولما يمثله من ذراع حماية للنظام السوري، الذي يشكل حلقة الوصل التي لا بديل عنها في قيام محور الممانعة الاسلامية الايرانية.
وبالتخلص من هذه الشوكة كانت إسرائيل، ومن ورائها الإدارة الأمريكية المزاودة عليها في الشرق الأوسط، تأمل في أن تستكمل مشروعها الذي بدأ بحرب العراق عام 1991، و تفرض نفسها على العرب كما تريد هي أن تكون، وليس عبر أي تفاهم، أو مفاوضات محتملة تضطرها إلى اقتسام المصالح، أو حتى التفكير بمصالح الشعوب العربية، سواء أكانت مصالح أمنية أو اقتصادية أو سياسية. فقد قامت إسرائيل على مبدأ الأمر الواقع المكرس بالقوة العسكرية، وهي مستمرة في فرض سيطرتها وتفوقها الشامل كأمر واقع، وبوسائل أكثر عنفا من السابق. وفي هذا الميدان لا تقدم حرب لبنان أي مفاجأة أو تغيير في السياسات التي عرفتها البلدان العربية في علاقتها مع إسرائيل. فبهذه الطريقة فرضت الدولة العبرية نفسها على العرب الرافضين لها، وبها أيضا حققت توسعها وتغيير ترسيمة حدودها. وبها أخيرا أرادت أن تفرض واقعها أو أمرها الواقع على الشعب الفلسطيني، وهو ما سعت إليه أيضا في لبنان ومع حزب الله الذي يواجهها.
لم تكن المفاجأة في هذه الحرب، لا في العنف الاسرائيلي، ولا في ما تلقته تل أبيب من دعم أمريكي غير محدود، عسكري ودبلوماسي، ولا أيضا في تساهل المجتمع الدولي، أي في الواقع المنظومة الغربية التي تسيطر على مؤسساته، معها. كانت المفاجأة الوحيدة هي صمود مقاتلي حزب الله وبسالتهم. وهو ما فتح نوافذ فرص جديدة وآفاق لم تشأ الدول العربية المعنية، التي يبدو أنها يئست من مواجهة اسرائيل وتعسفها، أن تلحظها، ومن باب أولى أن تستفيد منها.
وإذا كان من المفهوم والمنطقي أن لا ترى دول عربية عديدة هذه الفرص ولا تسرع لاستغلالها، وهي التي اختارت طريق التسوية المنفردة، وحققت من خلالها مصالح أساسية، مثل استرجاع سيناء كما حصل بالنسبة لمصر، والاحتفاظ بالعلاقات التفضيلية مع الدولة الكبرى الرئيسية، أعني الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أزمة خطيرة أصابت هذه العلاقات وكادت تقضي عليها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما هو الحال بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فمن غير المفهوم أن تخفق بلدان مثل سورية، كانت ولا تزال تدعو إلى المقاومة، وتبذل جهودا دعائية كبيرة لاستمرارها في فلسطين ولبنان والعراق، في رؤية هذه الفرص، وأن لا تسعى إلى استغلالها.
ولا أعني بذلك أبدا أنه كان على النظام السوري أن يدخل المعركة تأييدا للمقاومة اللبنانية الحليفة أو دعما لها. فليس هناك سبب يدعو هذا النظام إلى أن يختلف في سلوكه عن الأنظمة والحكومات العربية الأخرى، التي لا تتذكر التضامن العربي إلا عندما تتعرض مصالحها الخاصة للخطر. وعندما لا تجد كثير صدى لاستغاثاتها تبدأ حملة الردح والندب على عالم عربي لم تبذل أي جهد لبنائه، ثم لا تلبث حتى تجعل من التقاعس العربي ذريعة لتبرير الفشل والتهرب من مسؤولياتها في حماية مصالح شعوبها أمام الرأي العام المحلي والعربي. ما أقصده هو أن المقاومة البطولية التي أظهرها حزب الله، وفرض على الجيش الاسرائيلي أن يعيد بناء خططه مرات عديدة بسببها، كانت المناسبة الوحيدة التي يستطيع فيها النظام السوري، التذكير بوجود الاحتلال الاسرائيلي في الجولان، وإعادة فتح ملف هذا الاحتلال، ودفع مطلب تحريره إلى طاولة المفاوضات من جديد. ولم يكن في حاجة لتحقيق هذا الهدف إلى أكثر من تقديم يد العون إلى لبنان، والانخراط الجدي وراء المقاومة، وترك إسرائيل ترد عليه قبل أن يرد هو في الجولان. ولم يكن من شان ذلك أن يكسر الجليد المتراكم حول قضية الجولان فحسب ولكنه كان سيمكن النظام السوري من استعادة صدقيته تجاه لبنان وعند الرأي العام اللبناني أيضا.
بالتاكيد كان مثل هذا الموقف سيجره إلى الحرب مع إسرائيل، وما تعنيه من احتمال تدمير جزء من البنية التحتية السورية، كما حصل في لبنان. لكن كان هذا هو الثمن الوحيد لإعادة طرح مسألة الاحتلال، وخوض الحرب من أجله، في أحسن ظرف يمكن لسورية أن تحقق فيه أهدافها الوطنية المشروعة. فالولايات المتحدة موحلة في العراق، وإسرائيل تخوض حربين واسعتين في فلسطين ولبنان، ولا أمل لها في حسمهما امام قوات غير نظامية، كما تبين ذلك بوضوح اليوم. والرأي العام السوري المعبأ وراء صمود المقاومة اللبنانية، كان مستعدا أيضا لتأييد أي تحرك سوري في الاتجاه نفسه، وقبول التضحيات المترتبة عليه. وكان بإمكان النظام السوري أن يتبع الاستراتيجية اللبنانية نفسها في دفع عناصر مغاوير وكومندوز إلى الجولان، واستخدام ترسانته من الصواريخ، المزودة بشحنات تدميرية تفوق بما لا يقاس ما يملكه حزب الله، لضمان بقاء الحرب في دائرة محدودة، أي لردع القيادة الاسرائيلية ومنعها من المبالغة في تدمير المواقع الاستراتيجية والبنية التحتية السورية، لأن ثمن ذلك سيكون تحقيق الهدف نفسه في إسرائيل. وعلى كل حال هذا هو مضمون المعادلة التي تبرر الاحتفاظ بهذه الترسانة من الصواريخ، والانفاق المستمر على القوات المسلحة. وإلا لا أحد يعرف ما وظيفتها ومتى سيكون من المجدي استخدامها، وما هي الحكمة في ترك إسرائيل تستفرد بالجبهات العربية واحدتها بعد الأخرى.
لو حدث ذلك لا ختلفت النتائج العسكرية والسياسية تماما للحرب الدائرة الآن. فمن جهة ما كان بمقدور إسرائيل أن تحقق نتائج على الأرض كالتي حققتها في جنوب لبنان، وهي قليلة على أية حال. أي لكان حرمان اسرائيل من النصر أقوى بكثير مما حصل. وهو ما يعادل تكبيدها هزيمة تضطرها إلى مراجعة جميع حساباتها الاستراتيجية. ومن جهة ثانية ما كان لمثل هذا الانفجار العام حول إسرائيل الذي يشمل سورية وفلسطين ولبنان في الوقت نفسه إلا أن يهز الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي، ويعيد طرح مسألة الصراع العربي الاسرائيلي برمتها، أي تصميم إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي المحتلة وتهويدها والدفاع عن حقها في تهويدها بالحروب والدمار، كما لم يحصل في أي وقت خلال العقود الثلاث الماضية، وأن يجعل من إعادة فتح المفاوضات لايجاد تسوية سياسية عامة وشاملة لهذا الصراع أولوية في أجندة السياسية الدولية جميعا. وهو ما نطالب به نحن العرب منذ عقود، والسوريين خاصة، مراهنين في ذلك على حسن النوايا الأمريكية، بينما كان علينا نحن أن نفرضه بجهودنا وتضحياتنا على الأمريكيين والاسرائيليين.
بالتأكيد كان هذا العمل سيكلف سورية خسائر كبيرة بالأرواح والأملاك. بيد أنه كان سيحررها أيضا من عبء الاحتلال ويحرر المنطقة من ارتهانها الطويل والقاتل للنزاع غير المتكافيء مع ا سرائيل، أي لطغيان القوة الاسرائيلية، ويعيد بناء الشرق الأوسط بالفعل على أسس مختلفة عن تلك التي تطمح إسرائيل والولايات المتحدة إلى بنائه عليها اليوم، من خلال الحرب في لبنان والعراق وفلسطين معا.
لقد رفضت سورية رهان المقاومة في اللحظة التاريخية التي كانت مقاومتها تشكل مفصلا وأداة حسم لوضع متفسخ، يقوض الأسس التي تقوم عليها المجتمعات العربية في المشرق، ويدفعها إلى الغوص والغرق في أوساخه كل يوم أكثر من قبل. وبدل أن يختار النظام السوري أن يكون شريكا في المقاومة وعاملا من عوامل انتصارها، سعى بالعكس إلى أن يظهر استعداده للتعاون والتدخل لإطفاء النيران. لقد اختار في الواقع أن يكون الحفاظ على النظام، من خلال تحسين صورته في نظر الدول الغربية التي قررت عزله ومقاطعته، هدفه الأول بدل تحرير الجولان أو حتى نصرة لبنان. وهكذا ما كان بإمكانه إلا أن ينزع إلى الصمت والسكون، ويظهر الاعتدال والحكمة والهدوء وضبط النفس، في الوقت الذي كانت اللحظة تتطلب منه الحركة والنشاط والحسم. وهو عكس ما اعتاد عليه من إظهار التهور وروح التحدي والاستعداد للقتال في وقت السلم والاستقرار.
هكذا لم ينجح النظام السوري في ترميم علاقاته مع الدول الغربية، و بالتالي في استعادة جزء من دوره الإقليمي الزائل في لبنان، كما كان يأمل، وخسر إلى الأبد صدقيته أمام الرأي العام السوري والعربي في ما يتعلق بالموقف من استعادة الجولان. ولهذا، خرج النظام السوري، بعكس ما يقوله بعض أعدائه، الخاسر الأكبر، داخليا وخارجيا، من حرب لبنان. وكما غاب عن ساحة المعارك استبعد أيضا من مائدة مفاوضات وقف النار. فكان منها لا في العير ولا في النفير.