لم تسعف عشرات آلاف الصور والفديوهات لتظاهرات ملايين السوريين في طول البلاد وعرضها، من أكبر مدينة إلى أصغر قرية، ولا الحرص خلال أشهر طويلة على سلمية وسائل الاحتجاج، ولا رفع الشعارات الوطنية الجامعة المؤكدة على وحدة الشعب والرافضة لأي تمييز طائفي أو إتني، في حماية ثورة السوريين من التشويه المغرض والتشويش على هويتها وأهدافها.ولا شك في أن آلة التسميم الإعلامي التابعة للنظام وحلفائه في الحرس الثوري الايراني، بالتعاون مع التيارات المتطرفة التي أطلقها وغذاها، بالمال والسلاح خصوم الثورة أنفسهم، قد نجحت في تغيير صورة ثورة كانت من أنصع الثورات وأكثرها تمسكا بالقيم الإنسانية وتحررا من الماضي وتطلعا نحو المستقبل. وكان يكفي تعميم صورة سلبية لأحد مقاتلي المعارضة حتى تخفي صور مجازر جماعية يومية للنظام وتزرع الشك في أهداف الثورة وتشرعن اختطافها من قبل التيارات المتطرفة، بعد أن كان النظام قد نجح في اختطاف الدولة ومؤسساتها وحولها إلى متراس يقاتل من ورائه الشعب. هكذا حل محل التأييد الكامل الذي كانت تحظى به لدى الرأي العام العربي والعالمي، بسبب تطلعاتها ومطالبها النبيلة، جدل لا ينتهي في حقيقتها، طائفية هي أم سياسية، مدنية أم إسلامية، بل مؤامرة كونية أم ثورة شعبية ضد مغتصبي حقوق الناس ومزوري إرادة الشعب.
تأتي دراسة المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، بعنوان اتجاهات الرأي العام السوري للمهجرين واللاجئين السوريين تجاه الانتخابات والأوضاع السورية الراهنة، في الوقت المناسب لتعيد الأمور إلى نصابها وتظهر بالدليل العلمي حقيقة الموقف الشعبي مما حصل منذ ثلاث سنوات حتى الآن. وتنبع أهمية هذه الدراسة من التزامها معايير البحث العلمي وعدد الباحثين الذين تعاونوا عليها وقد تجازوا ال 400باحثا، وضخامة العينة التي سبرتها، والتي ضمت5267 فردا، موزعين على ٣٧٧ مركز تجمع للسوريين داخل مخيمات اللجوء وخارجها، في سورية و لبنان والاردن وتركيا، ينتمون لكل المحافظات السورية، ومن أصول ومستويات دخل وتعليم متباينة أيضا. وتشكل هذه الدراسة ردا قاطعا على ادعاءات إعلام الأسد الذي أراد أن يجعل من مهزلة انتخابات تزوير إرادة السوريين في الثالث من حزيران الماضي، غطاءا لاغتصابه السلطة وفرض الأمر الواقع على الشعب السوري بالتفاهم مع حكم الحرس الثوري الايراني في طهران.
صحيح أن الدراسة لا تشمل كل قطاعات الرأي العام السوري وهي لا تدعي ذلك عندما تشير بشكل واضح إلى انتماء العينة التي تدرسها إلى المهجرين واللاجئين السوريين. لكن لا أعتقد أن هناك ما يمنع من الاستهداء بنتائجها لمعرفة اتجاه الرأي العام السوري عموما. فإذا كان من الصحيح أن المهاجرين واللاجئين لايمثلون كل شرائح المجتمع السوري، وان خروجهم يعكس موقفهم أصلا من النظام، بعكس الموالين له الذين لم يكن لديهم سبب للخوف والهجرة، فمن الصحيح أيضا أنهم هم الذين يشكلون الكتلة الأكبر في مجتمع تحتكر فيه السلطة والموارد نخبة صغيرة مغلقة، وبالكاد يعرف (أعني المجتمع) معنى الحراك الاجتماعي.
كذلك، لا يحد من امكانية تعميم نتائج هذه الدراسة حصولها بعد أكثر من ثلاث سنوات من بدء الثورة. بل إن اللافت هو أن نصيب المواقف الايجابية تجاه الثورة لا يزال هو الأكبر، بالرغم مما تعرضت له الحاضنة الشعبية من أمتحان غير مسبوق في تاريخ الثورات، من مجازر بالجملة، وحرب تطهير عرقي، وحرب إبادة وتهجير وتشريد لملايين البشر، وما رافق ذلك من انهيار في شروط الحياة المعيشية والانسانية للقسم الأعظم من السكان.
تقدم الدراسة ثلاث مؤشرات رئيسية تبين اتجاهات الرأي العام السوري إزاء الثورة، والتمسك بها، بعد ثلاث سنوات من اندلاعها، وبالرغم من كل ما طرأ على مسيرتها من تشوهات وانزلاقات وما ارتبط بها من صراعات ومنازعات إقليمية ودولية.
الأولى تتعلق بحقيقة المطالب التي دفعت السوريين للثورة والتي تفسر أيضا استمرارهم في التضحية من أجل انتصارها، بالرغم من كل المصاعب والمؤامرات. والثانية تشير إلى حجم القوى النسبي التي وقفت وراء الثورة ودعمتها، سواء بالنزول إلى ساحات التظاهر أو بالدعم المعنوي والسياسي والمالي، والثالثة بالموقف من النظام نفسه من حيث الثقة بقادته أو المراهنة على إصلاحه.
لعل أهم ما يلفت النظر، في ما يتعلق بالمؤشرات الاولى، هو رسوخ فكرة الدولة المدنية في ثقافة الثورة.فبعد ثلاث سنوات من العنف والفوضى، وبالرغم من استراتيجية الشحن الطائفي التي اتبعها النظام، لا تزال فكرة الدولة المدنية تحظى ب 50% من الإجابات، مقابل30% للدولة الدينية و18% لقطاع الرأي الذي لافرق عنده بين النموذجين، و 2% من دون جواب. ليس من المؤكد أن من يقول بالدولة الدينية أو الدولة المدنية يعرف تماما مضمونهما أو ترجمتهما السياسية في الواقع. لكن هذا مؤشر على التوجه السياسي الواضح لدى أغلبية الشعب السوري ضد الإدعاءات التي أراد النظام وداعميه ترويجها عن مؤامرة ارهابية كونية أو حرب طائفية لم يكن الهدف من ترويجها سوى طمس الهوية التحررية لحركة الاحتجاج الشعبية.
أما في ما يتعلق بالموقف السلبي من النظام فهناك مؤشران مهمان لمعرفته. المؤشر الأول هو مؤشر الثقة.يقدم استقصاء المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أرقاما معبرة عن فقدان الثقة بالنظام. فعلى سؤال عن درجة ثقة المستجوبين بمؤسسات الدولة التي استعمرت من قبل السلطة والحزب نالت المخابرات كما هو متوقع النسبة الأعلى 81% من عدم الثقة، مقابل79% للحكومة ومجلس الشعب، و78% لبشار الأسد والجيش، و77% للمحافظين، و76% للشرطة والقضاء.
والمؤشر الثاني تقدمه الإجابات حول الموقف من تغيير النظام ومن انتخابات ٣ حزيران الأخيرة. فقد أفاد77% بأن هذه الانتخابات لا تمثل الشعب السوري لأنها تقتصر على انصار النظام مقابل 18% قالوا أنها تمثل الشعب ، كما أفاد 70% بأنها ليست شرعية لأن المرشحين هم الذين وافق عليهم النظام، وتوقع 73%أن تشجع هذه الانتخابات النظام على المزيد من تصعيد العنف، مقابل نسبة من 16% و18% ترى أنه سيكون لها نتائج ايجابية.
وتبرهن الاجابة عن سؤال من يتحكم بالسلطة في سورية اليوم على المشكلة ذاتها، أعني تفتت صدقية النظام وشرعيته، إذ تشير الارقام إلى أن أغلبية المستجوبين، أي 66% من العينة، يعتبرون أن ايران هي الممسكة بالسلطة بنسبة 28%، مقابل 22% لبشار الأسد، و16% لروسية. ولا يعتقد إلا 4% أن الحكم بيد الجيش، بينما يعتبر 6% أنه لا أحد يحكم سورية.
من المنطقي بعد ذلك أن لا يتأثر مؤشر التأييد للثورة، بل يزيد. فإذا كانت نسبة المؤيدين لها 52%مقابل نسبة 19% للمؤيدين للنظام والمعارضين للثورة عام 2011و 28 % على الحياد، فقد أصبحت نسبة المؤيدين بين المستجوبين60% مقابل 13% للمعارضين للثورة، بعد مرور ثلاث سنوات على الثورة .
تعكس هذه النتائج بشكل جلي تراجع الثقة بالنظام بالرغم من كل ما شهدته الحاضنة الاجتماعية للثورة من معاناة، وربما من قبيل رد الفعل على عدوانية النظام أيضا. مما يعني أن النظام لم يجن أي مربح من خسارة المعارضة خلال السنوات الثلاث الماضية بسبب عجزها عن رد هجومات النظام الوحشية على حاضنتها الشعبية وتدمير شروط حياة السوريين الأساسية. الثورة على النظام هي الوحيدة التي لا تزال ثابتة وفي تقدم أكثر.
وهذا ما يؤكده أيضا جواب افراد العينة عن تصورهم لما يمكن ان يساهم في الخروج من الأزمة. فقد اعتبر 64% منهم أن الحل يكون بتغيير النظام، مقابل 23% رأى هذا الحل في التوافق بين جميع أطراف الأزمة ونسبة 6% فقط رأته في انتصار النظام على المعارضة.
بالتأكيد، لم نكن بحاجة للاستقصاء للرأي لمعرفة أن السوريين يعيشون في ظل نظام مفروض عليهم بالقوة والإكراه، لم يختارونه ولا اعتقدوا يوما بأنه يعبر عنهم ويدافع عن مصالحهم الاجتماعية أو الوطنية. لكن أهمية هذه الارقام أنها تقدم دلائل علمية على عمق الشرخ الذي كان قائما بين النظام والشعب قبل الثورة والذي تحول بعدها إلى حرب بين النظام والشعب لا يزال لهيبها يأكل الأخضر واليابس منذ ثلاث سنوات ويفتح مصير البلاد على أسوأ الاحتمالات.