الثورة الديمقراطية السورية ومخاطر غياب القيادة السياسة
2011-03-27:: الجزيرة نت
واضح أن النظام السوري لا يزال يرفض فهم ما يجري، ومن باب أولى فهم ما ينبغي فعله لمواجهةمطالب ثورة الكرامة والحرية في سورية الجديدة التي خرجت من ركامها، أو من الركام الذي تحولتإليه، سورية الشجاعة والنبيلة والأبية.
لم يفهم النظام مايجري لأنه لا يزال يردد على لسان مستشارة الرئيس السياسية الكلام الخطيروالمؤسف نفسه عن أن الأزمة الراهنة هي من صنع فئات مدسوسة أو عصابات محلية فلسطينية أوأجنبية، مؤكدا رفضه الاعتراف بأن ما يحصل هو ثورة شعبية حقيقية، ومن وراء ذلك رفض المطالبالشرعية لهذا الشعب، وفي مقدمها نزع الوصاية، ونقل السلطة من القيادة القطرية التي لا نكاد نسمع لهاحسا ولا إنسا، رغم أنها قيادتنا الرسمية العليا بل الأعلى، إلى برلمان وطني يتم انتخابه من قبل الشعببنزاهة وشفافية وحرية.
ولم يفهم ما يجري لأنه لا يزال يلعب مع الشعب، بعد مرور عشرة أيام على الأحداث الدامية وسقوطمئات الشهداء وآلاف الضحايا، لعبة المستخباية الطفولية. فهو يدفع إلى الواجهة مستشارة الرئيسللشؤون السياسية، وهي أكثر من يتمتع بعدم الثقة بين جميع شخصيات النظام، عدا عن أنها لا تملك أيشرعية، لا انتخابية ولا شعبية. في الوقت الذي اختفت فيه كل شخصيات النظام ذات المسؤوليةالسياسية المباشرة، بدءا بالقيادة القطرية التي تعتبر نفسها مصدر السلطة في الدولة البعثية، إلى رئيسالجمهورية " مرورا بنائبيه الدائمين ورئيس وزرائه ووزرائه للداخلية والخارجية، ومسؤولي مجلس أمنه الوطني وقادة أجهزة الأمن الغائبين الحاضرين، الذين كانوا، خلال العقود الطويلة الماضية،"المحاورين" الوحيدين للناشطين السياسيين ووكلاء النظام في تركيع جميع أبناء الشعب. كل شيء يجري كما لو الأمر لم يصبح بعد على درجة من الخطورة تستدعي دخول شخصيات سياسية كبيرة إلىساحة السياسة السورية الداخلية، أو أن دخول هؤلاء يضفي طابعا جديا على الأحداث، وربما علىالوعود التي يقدمها النظام لكسب الوقت ولا يريد أن يلتزم بها إذا ما نجح في قلب اتجاه الريح لصالحه،كما كان يفعل خلال عقود طويلة ماضية.
وهو لم يفهم لأنه لا يزال يراهن على إخماد ثورة الشعب السوري بالقوة المسلحة، ولا يزال يعتقد أنبإمكانه ردع السوريين عن المشاركة في ثورة الحرية بتهديدهم بالقتل وترويعهم، لا بمخاطبتهم بمنطقالسياسة والعقل. فيضيف كل يوم شهداء جددا على قائمة الشهداء السابقين.
ولم يفهم أيضا لأنه لا يزال يعتقد أن بإمكانه النجاح في إجهاض الانتفاضة السورية عن طريق اللعبعلى وتر الطائفية، الذي لعب عليه طويلا، والابتزاز بالفتنة المذهبية، أو بالفوضى، بل بنشر الفوضىبالفعل من خلال إطلاق يد البلطجية، أو الشبيحة بالعامية السورية، حتى يظهر للرأي العام السوريوالعالمي أن القتل لا يأتي على يد قوى الامن وإنما على يد عصابات لا يستطيع هو السيطرة عليها، منمؤيدي النظام أو أنصاره. وهو بذلك يدين نفسه ، بمقدار ما يظهر استفراسه تجاه المتظاهرين العزل وقدرته على إنزال العقاب الدامي بهم، وشلل أجهزته وقادته أمام قناصة البلطجية الذين يرمون الناس، كما تقول وسائل إعلامه، من على الأسطح القريبة.
وهو لم يفهم لأنه لا يزال يردد، وربما لا يزال يعتقد بالفعل، وهذا أخطر، أن بإمكانه ايقاف مسيرةالثورة الشعبية بالتلويح بالخطر الأجنبي، أو باستجداء العطف على سياسات النظام الخارجية. ولا يدركأنه عندما يرجع ثورة الشعب إلى مؤامرة جديدة تستهدف المواقف السورية الممانعة والمقاومة، كما جاءعلى لسان الناطقة الرسمية والوكيلة الحصرية للسياسة الرسمية اليوم، بعد إخفاق مؤامرة منتصف العقدالماضي الأمريكية، فهو يحول ثورة الشعب ومطالبه إلى جزء من المؤامرة الخارجية، ويحول الشعبإلى عميل للخارج، ولا يبقى عليه بعد ذلك إلا أن يطلب من الشعب الرحيل عن سورية حتى يمكنصيانة مواقفها الوطنية.
ليس هناك حكم مهما انحطت به المعايير السياسية والعقلية يسمح لنفسه ولوسائل إعلامه وما بالك بناطقيه الرسميين، أن ينظر إلى شعبه هذه النظرة التحقيرية والاتهامية، ويمعن في تجاهل مطالبه ولا يتورع عن وضعها في سلة التآمر الأجنبي. في هذه الحالة كيف يمكن للشعب أن يقتنع بأن التنازلاتالتي يعد بها حقيقية وليست وسيلة لاستعداة زمام الامور والانقلاب ثانية على الشعب بعد تجريده من ثورته الحالية؟ وكيف يمكن لهذا الشعب أن يثق بقيادة تؤكد كل يوم عدم ثقتها به؟ ثم ما قمية هذا الحوار الذي يعد به النظام مع "الجماهير" كما ورد على لسان الناطقة، وكيف يمكن له أن يبدأ إذا اتهم الشعب سلفا بعمله على اجندة أجنبية تستهدف وطنه نفسه الذي يستشهد أبناؤه من أجله.
الخروج من الأزمة، أي أزمة يعني التخلي عن استخدام السلاح والمرواغة والقبول بمنطق السياسة الذي هو منطق التفاوض والحوار الجدي والشفاف في جميع المسائل التي يطرحها طرف أو آخر. ومنطق التفاوض والحوار السياسي يعني : الصدق في التعامل، الاعتراف بالآخر وبمشروعيه مطالبه، الثقة به، أي الثقة بالشعب، والاعتراف بشرعية احتجاجه، وقبول الحوار مع من يختارهم الشعب ممثلين له، أي أيضا بالمعارضة السياسية كمبدأ وكواقع. ومن الواضح أن النظام لم يدخل بعد منطق السياسة ولن يدخله كما يبدو في القريب، ولا يزال يحلم بإصلاحات شكلية من داخل النظام القائم، نظام الحكم الواحد والحزب الواحد والسلطة التعسفية الفردية المطلقة، وليس بقطيعة معه. وهو المطلب الأول والرئيسي للشعب السوري.
هذا يعني أنه لا تزال هناك أمام الشعب السوري تضحيات كبيرة يقدمها ومعارك مريرة يترتب عليه خوضها قبل أن يحلم بأن يعلن مسؤولوه، كما أعلن غيرهم من قبل، أنهم فهموا ما يجري على الأرض التي يعيشون عليها وأن يتنازلوا ويتحدثوا معه، ويقروا بشرعية مطالب الشعب الذي اعتادوا على تجاهله والاستخفاف به وإنكار وجوده السياسي، وبالتالي استسهال قهره وقتل أبنائه وسجنهم وتعذيبهم.
لكن التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري في الأيام العشرة الأخيرة لم تذهب سدى. ولعل أهمها وأعظمها الانتصار الرائع على حاجز الرعب والعجز والشلل الذي بنته آلة قهر لا مثيل لها ربما في المنطقة كلها، تجمع بين البطش الأمني المباشر واليومي والشامل الدعاية الميكيافيلية وازدواجية الخطاب وإلحاق جميع السلطات ومؤسسات الدولة، بما فيها الإعلام بالسلطة الأمنية. وعلى هذا الانتصار العظيم ستتأسس جميع الانتصارات الضرورية القادمة. فلن يستطيع أحد، بعد الآن، لا في الداخل ولا في الخارج، ان ينكر وجود السوريين كشعب، لا كطوائف ولا عشائر ولا ملحقات بالسلطة والنظام، ولا أن يتجاهل مطالب التغييروالاصلاح. لقد أظهر هذا الانتصار حقيقة الأوضاع السورية القائمة للجميع، بما في ذلك أصحاب النظام أنفسهم الذين كانوا يعتقدون أن كم الأفواه وتزييف الوقائع والدعاية الكاذبة، كفيلة بإخفائها، وترك الشعب السوري ضحية للقهر والاستغلال.
بيد أن غياب سلطة القرار يخلق حالة من عدم اليقين وفراغ السلطة السياسية يشجع جميع القوى غير المنضبطة للاندساس في صفوف الثورة وحرفها عن أهدافها. وحتى في الوعود التي قدمتها الناطقة باسم الرئيس لم يكن هناك أي قرار وإنما تعهدات غير واضحة وغير ملزمة تتحدث عن وعود والتزام بتعزيز وتحسين وتكوين لجان. القرارات الوحيدة التي صدرت، أو ربما صدرت، هي التي تتعلق بزيادة الرواتب والمنح المادية، مما يترجم بسهولة على أنه نوعا من الرشوة مقابل جمود الإرادة السياسية.ولعل غياب القرار ناجم كما يلمح إلى ذلك بعض المراقبين السياسيين عن اختلافات داخل القيادة، لكن يمكن أن يكون أيضا مقصودا لذاته، من أجل ترك المجال مفتوحا للقلاقل والفوضى وتخويف الرأي العام ودفعه إلى التراجع عن أهدافهم الأصلية.
وبالمثل، لا يمكن لمن يتابع ما يجري على الأرض إلا أن يلاحظ غياب القيادة الواحدة للثورة، وحاجة هذه الثورة إذا أرادت التقدم إلى رؤية سياسية أكثر وضوحا واتساقا. ما يعوض عن هذا حتى الآن أن السوريين يخوضون معركة مماثلة لما تخوضه الشعوب العربية الأخرى، وان الديمقراطية هي المطلب الأساسي للجميع، بما تعنيه من تفكيك نظام السلطة الديكتاتورية ووضع أسس نظام الحرية والانتخابات التمثيلية. بيد أن تحقيق هذا الهدف يخضع أيضا للشروط الخاصة بكل قطر، ويستدعي وجود أجندة واضحة أيضا تسمح بتعبئة القوى وحل التناقضات القائمة وتمهيد الطريق نحو الانتقال العملي لنظام الحكم الجديد. ولا يمكن بلورة مثل هذه الأجندة من دون انخراط النخبة المثقفة والمعارضة السياسية على مختلف تشكيلاتها في النقاش الوطني العام. ولا يزال هذا النقاش للأسف بعيدا جدا عن الانطلاق الفعلي.