الاستنجاد بالعنصرية لإخفاء الإخفاقات السياسية
2007-01-01:: الوطن
بعد حمى الديمقراطية المعممة على الشرق الاوسط التي أصابت قادة الإدارة الامريكية الفكريين، يأتي دور العنصرية كوسيلة وحيدة لتبرير فشل السياسات الامريكية. وحسب النظرية الجديدة التي يدافع عنها الكثير من قادة الدول العربية ومفكريها الوصوليين أيضا، ليس هناك أفضل مما يحصل في العراق برهانا على أن المجتمعات العربية ليست جاهزة للتحول الديمقراطي، بل على أنها لا تملك ثقافة الدولة وحقوق الانسان التي تتيح لها الدخول في أفق مثل هذا التحول، الذي يفترض ولاءا واحدا ووحيدا، هو الولاء للدولة وما تمثله من منطق الخضوع للقانون الواحد، على حساب الولاءات المتعددة الطائفية والمذهبية والعشائرية، التي تقوم على منطق العصبية والتضامن الآلي بين أبناء الجماعة الطائفية وزعاماتها الدينية او القبلية الثابتة والجامدة المرتبط بها. وهذا هو في الواقع جوهر تفكير أصحاب تقرير بيكر هاملتون الذي يدعو الإدارة الأمريكية إلى تأجيل تحقيق الديمقراطية الآن لحساب التركيز على الاستقرار بأي ثمن، على أمل وقف الحرب الأهلية والسماح للولايات المتحدة بالانسحاب بأقل خسائر ممكنة من الورطة التي وضعت نفسها فيها.
يخفي هذا المنطق ثلاث مقولات خاطئة وغير مقبولة. الأولى أن الاحتلال الأمريكي للعراق كان بالفعل لدوافع أخلاقية هي تحقيق الديمقراطية، لا القضاء على الإرهاب وحماية الأمن القومي الأمريكي، كما ادعت الإدارة الأمريكية نفسها لتبرير الحرب. والمقولة الثانية أن عدم نجاح الأمريكيين في العراق لا يرجع إلى الأهداف الفعلية التي رسموها لانفسهم، وهي القضاء بالفعل على العراق كقوة استراتيجية وتحويله إلى أداة للتمكين للسيطرة الأمريكية على المنطقة وتأمين إسرائيل ومشروعها الاستيطاني، وإنما يرجع إلى العداء العميق الذي يكنه العراقيون، مثلهم مثل جميع المسلمين، للديمقراطية وقيم الحداثة والمدنية. والمقولة الثالثة أن النزاعات العراقية الداخلية المتفجرة في العراق لا تعكس في نظر هذه الإدارة الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها، من حل الجيش الوطني وقوات الأمن والإدارة المدنية نفسها، وإعادة بناء مؤسسات الدولية على قاعدة التكتلات الطائفية، وتنصيب زعماء ميليشيات الطوائف طبقة سياسية معتمدة وحيدة،أي الاستهتار بمعايير الحكمة والسياسة والحرب والقانون والحس السليم معا، وإنما تخلف المجتمع العراقي نفسه وانحطاط ثقافته الدينية والأخلاقية. وهذا يعني أن اندلاع الحرب الأهلية وعمليات القتل الجماعي هي الرد الطبيعي للمجتمع العراقي المسلم، الذي لا يعرف معنى القانون والوطنية، بل حتى قيمة الحياة البشرية، ولا شيء يردعه عن القتل على الهوية، على خطر تحقيق الديمقراطية أو على التدخل الأجنبي حتى لو جاء لصالح تأكيد حقوق العراقيين السياسية.
وكل هذا يخفي نزعة جديدة تسعى إلى التغطية بالانتقاص من إنسانية الشعب المحتل وتضخيم عيوب ثقافته السياسية والأخلاقية، أي بالعنصرية، على إخفاقات الإدارة الأمريكية. وهم يبررون ذلك بما يسود اليوم من فوضى وعمليات قتل جماعي لا يمكن أن يقبل بها أي إنسان حر، مهما كان أصله ومذهبه الديني أو السياسي. لكن إدانة مثل هذه الأعمال والثورة عليها لا ينبغي أن تقود إلى أبلسة المجتمع الذي يمارسها وتحويله بالتالي مرة ثانية إلى ضحية للعنصرية بعد أن كان ضحية للاحتلال. فالتعصب الطائفي أو المذهبي الأعمى، وما ينجم عنه من قتل على الهوية، ليس حزءا من هوية أي شعب، ولا سمة لأي ثقافة، تقليدية كانت ام حديثة، ولكنه ثمرة غياب منظومة سياسية قانونية تضمن الحد الأدنى من الحقوق والمصالح العامة، ولا تكون هي نفسها أداة في يد سلطة طائفية او قناعا شكليا لها. فمثل هذه المنظومة وحدها تستطيع أن تضمن الاستقرار والسلام الأهلي بين الجماعات المتعددة والمتميزة الهوية، بقدر ما تقدم وسائل سياسية، قانونية، طبيعية وسهلة، لا مذهبية ولا طائفية، للتفاوض على المصالح الاجتماعية، ولإعادة بناء التوازنات في الإطار الاجتماعي أيضا إذا أصابها الاختلال. ومن الطبيعي أن ينزع الناس، أو أصحاب المصالح، مهما كانت طبيعتها، اجتماعية أو اقتصادية أو حتى مذهبية، إلى سلوك طريق الحلول السياسية القانونية، أي السلمية، إذا كانت ممكنة، ويتجنبوا الحلول العنيفة التي تحتاج إلى الإعداد للحروب والتضحية بالأنفس والأموال التي يحتاجون إليها للدفاع عن مصالحهم، عندما لا يجدون طريقا آخر غيرها. ينطبق هذا على مجتمع التعددية الطائفية والعشائرية كما ينطبق على أي مجتمع آخر حديث تحللت فيه العصائب التقليدية، وأعيد بناء هياكله المدنية على أسس حزبية أو نقابية.
والقصد من ذلك القول إن اللجوء إلى العنف والاحتكام إلى السلاح ليس عملا طبيعيا ولا عاديا، كما يريد أن يصوروه أولئك الذين يدفعون المجتمعات دفعا إليه، بتدمير مؤسساتها ومنظوماتها القانونية والثقافية، لتبرير ما يفرضونه من منظومات لا قانونية ومجحفة بحقها، أو للتغطية على أخطائهم، لا في المجتمعات العربية ولا غير العربية. فهو الاستثناء لا القاعدة. ذلك أن المجتمعات تنزع في الأحوال الطبيعية إلى الحلول السلمية والأهلية بشكل عادي وطبيعي، لأن هذا هو الموقف الوحيد الصالح لخلق ظروف الاستقرار التي تضمن العمل والانتاج والاستهلاك وتأمين حاجات الناس وشروط معيشتهم اليومية. ولا يغامر أي طرف وازن، من أي طينة كان، مذهبية أو اجتماعية أو اقتصادية، بتهديد هذا الاستقرار، شرط استمرار الحياة الفردية وتأمين شروط بقاء الجماعة وازدهارها، ما لم تتكون لديه قناعات عميقة بأن وضعا جديدا قد نشأ يمكن أن يهدد هذه الحياة ويغير من الشروط التي تسمح لها بالاستمرار والبقاء حسب القيم والمعايير المتعارف عليها.
ليس العراق هو الشعب المريض بانعدام الانسانية والقيم الأخلاقية وإنما سياسات صدام البربرية التي دمرت أسس التفاهم الوطني الدنيا داخل العراق، ثم خطط بريمر الإجرامية التي استهدفت تصفية الدولة المركزية العراقية بوصفها تنطوي على احتمال عودة العراق ثانية إلى مغامرة القوة، وما يمثله ذلك من مخاطر محتملة في المستقبل على إسرائيل، واخيرا تغلب إرادة الثأر والانتقام على قوى التحالف العراقي الداخلي المنتصر، ونزعتها إلى الاستئثار بالسلطة وتقاسم العراق كما لو كان غنيمة حرب، بدل إعادة بنائه على أسس الوطنية القانونية التي تعزز ولاء الجميع للدولة وللقانون، بدل رفع الولاءات المذهبية والعشائرية فوق الدولة وتحويلها إلى قانون. كل ذلك هو المسؤول عن انحلال الوطنية العراقية ولا يزال هو المسؤول أيضا عن غياب شروط إعادة بنائها وتأهيلها السياسي والقانوني.
ولا يمكن للعراق ولا لغيره الخروج من الحرب الأهلية المعلنة والمحتملة من دون إعادة النظر بالعوامل الثلاثة التي دمرت أسس التفاهم والتوازن داخل المجتمع العراقي نفسه. وليس اختلال التوازن الطائفي مسألة منفصلة عن اختلال توازن المصالح الاجتماعية. فالطائفة ليست ايمانا وعقائد وتقاليد مجردة، ولكنها مكونة من بشر لهم تمايزاتهم الاجتماعية الداخلية ولهم أيضا مصالح مدنية ومادية. وعزل الطائفة لا يعني تهديدا فكريا أو مذهبيا لها ولكن قبل ذلك المساس بمصالح القوى والفئات الاجتماعية التي تنتمي إليها. وتنامي المعارضة المسلحة في المناطق السنية ليس ثمرة الخوف على المذهب السني، ولا تأييدا لصدام حسين كما يراد للرأي العام أن يعتقد، ولكن لاستبعاد المنطقة بأكملها من القرار السياسي للعراق الراهن، وما يعنيه ذلك من تهديد لمصالح سكانها، سواء ما تعلق منها بمصالح قانونية، مثل المساواة وتطبيق القانون واحترام الهوية الخاصة، أو بتقاسم المنافع المادية والموارد الاقتصادية. ومثل هذ النظام لا يمكن تعديله وإصلاح الخلل الذي يعبر عنه هذا التوزيع إلا بالحرب، كما يدل على ذلك المثال اللبناني.
يذكرنا عصام الخفاجي (الحياة 4 نوفمبر 06) عن حق بالتظاهرات التي خرجت في بلدة الفلوجة، في أواخر عام 2003، تندد بتجاوزات القوات الأمريكية، وبهدوء محافظة الأنبار، التي ينظر لها اليوم كحاضن "طبيعي" للمعارضة المسلحة، طوال فترة الحرب ومابعدها، وبنينوى التي ثارت ضد الطائفية منذ الشهر الأول لما بعد سقوط صدام، حين نصّب سني موصلي نفسه محافظا لها، فخرج السكان محتجين على ارتباطاته السابقة بمخابرات النظام البعثي. كما يذكرنا بقصف صدام حسين للرمادي، عاصمة الأنبار، عام 1995 حين انتفض سكانها ضد نظامه، والمجزرة التي ارتكبها بحق بعض أبرز أبناء تكريت عام 1996، بتهمة التآمر ضد نظامه.
من هنا، بعكس ما يقوله الامريكيون وأزلامهم الطائفيين، ليس لاندلاع الحرب الأهلية العراقية علاقة بانهيار نظام صدام، ولا حتى بالقومية العربية المعادية للسيطرة الأجنبية، كما يعتقد بعض المناصرين للمعارضة العراقية المسلحة، ولا بتفجر العنف الاسلامي ورعايته من قبل الدول المجاورة، ولكن ببناء النظام الطائفي التمييزي الذي خلفه، تحت إشراف هذه السيطرة الأمريكية، أو على الأقل بصلوعها العلني أو الخفي. وهذا يعني أن الحرب الأهلية لم تكن حتمية على الإطلاق. وكان من الممكن للعراق أن يحتفظ بالاستقرار والسلام، حتى مع وجود سيطرة أجنبية مؤقتة، لو لم يتصرف المنتصرون كعصائب خاصة او كوطنيات مستقلة، ويعطون لأنفسهم الحق في تقاسم العراق، أي تقاسم المناصب والإشراف على الموارد من قبل زعماء الطوائف والإتنيات، على حساب العراقيين جميعا وفي مقدمهم القاطنين في المناطق السنية الفقيرة بالموارد، التي عوملت وكأنها الخاسر الرئيسي الذي ينبغي أن يدفع ثمن انهيار صدام.
لا يهدف التذكير بهذه الاحداث إلى التقليل من حجم التضحيات التي قدمتها جميع فئات العراق وطوائفه في مقاومة الطغيان والديكتاتورية الدموية، وإنما التأكيد على أن أصل الخطأ يكمن في سعي الاطراف المختلفة، الخارجية والداخلية معا، إلى استخدام الحرب على نظام صدام من اجل الاستفراد بالسيطرة الدولية وبالسلطة والموارد الرئيسية في العراق على حساب أطراف أخرى لم تكن أقل منها تضررا من سياسات هذا النظام. إنه غياب الحكمة وحس العدالة والتبصر بالمستقبل وضبط النفس والتعلم من دروس الآخرين.