أي خيارات جديدة أمام السوريين
2017-08-20:: العربي الجديد
لم تنته المواجهة التي بدأت منذ ما يقارب السنوات السبع بين الشعب والنظام في سورية، والحرب التي أعقبتها، بنتيجة لا غالب ولا مغلوب، كما أراد لها المجتمع الدولي، في المحصلة، على الرغم من تباين مواقف أعضائه، وإنما إلى مغلوبٍ ومغلوب، أو بعبارة أخرى إلى تدميرٍ متبادل للنظام والشعب، ومن ورائهما للدولة والعمران. وكما يحلو للنظام أن يتظاهر بأنه لا يزال يمون على قواتٍ معظمها مستجلبةٌ من الخارج، أي قوات احتلال بالمعنى الحرفي للكلمة، وأنه لا يزال يملك أوراق انتصارٍ موعودٍ على منوال: خلصت، تستمر المقاومة من الشعب المسيب، بفئاته وشرائحه وقواه المختلفة، وبطرق متباينة وأحيانا متناقضة أيضا. وبينما لا يتوقف المحتلون عن اختلاق الذرائع، لتمرير خططهم وتوسيع دائرة نفوذهم، والحفاظ على مكاسبهم، ولا يضيعون دقيقةً من دون أن يهيئوا لحشودٍ جديدةٍ لتعزيز مواقعهم وتأكيد مكاسبهم، لا يكف السوريون الذين خاضوا معارك انعتاقهم الأنبل، وهم يطلقون أهازيجهم في الساحات والشوارع التي كانت عصيةً على غير قوات الأمن ورجال المخابرات في المظاهرات التي تحدّوا فيها رصاص أعدائهم وجلاديهم، من دون أن يرفّ لهم جفن، يبحث الناشطون الذين عاشوا اللحظة السحرية التي جمعتهم، عمالا وفلاحين، مدينيين وريفيين، مسلمين ومسيحيين، هراطقة ومؤمنين، في موجة حب وأمل واحدة، ورفعتهم فوق اختلافاتهم ليتحولوا إلى شعبٍ، بعد أن كانوا عبيدا متكارهين ومتنابذين، عن السعي إلى إيجاد الأطر التي تمكّنهم من متابعة الثورة وتحقيق أهدافها، من هيئات ومجالس وخلايا أزمة ومؤتمرات وطنية. وفي قلب هذا المسعى، يكمن أيضا البحث اللاهث عن قيادةٍ مركزيةٍ، تعيد ترتيب أوراق الثورة وتغيير استراتيجيتها لخوض معركة الانتقال المعقدة والغامضة.
1
هذا يعني أن حسم الجولة الأولى التي سيطرت عليها المواجهة المسلحة لصالح الدول الأجنبية لن تنهي الحرب التي يبقى محور الصراع فيها تقرير لمن السيادة في سورية، للشعب أم لنظام الطغمة العسكرية المخابراتية التي استملكت الشعب مع الأرض التي يعيش عليها، وحولته إلى أقنانٍ يعملون بالسخرة لحسابها، ومن أجل مراكمة مزيدٍ من الأموال في المصارف الأجنبية، ولكنها تعيد إطلاقها على أسسٍ مختلفة، تترابط فيها مهام التحرير السياسي والتحرير الوطني معا. وإذا كانت الظروف الإقليمية والدولية قد خدمت النظام في هذه الجولة الأولى، ومنها التدخل الخارجي الحاسم، والتشتت الذي عانت منه الأوساط الشعبية التي حرمتها عقود الاحتلال الداخلي والهمجي الطويلة من أي خبرةٍ تنظيميةٍ، مدنية أو سياسية، وحطّمت نوابض اجتماعها التضامنية، فإن الجولة المقبلة ستكون حاسمة، وسوف تبرز فشل ما تبقى من النظام وحماته من قوى الاحتلال في إعادة بناء أي شكلٍ من السلطة والنظام في ظل ما أحدثوه هم أنفسهم من خرابٍ ودمار واضطراب في بنى المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومع ذلك، يعرف السوريون أن المواجهة في هذه الجولة الثانية التي تختلط فيها مهام التحرير السياسي والتحرير الوطني معا، لن تكون سهلةً ولا قصيرة، لأن المصالح الإقليمية والدولية الكبيرة التي تقف وراء نظام التشبيح والتعفيش والتهجير والإبادة الجماعية لن تتخلى عن هذا النظام، وسوف تتمسّك به، وتستثمر فيه ما استطاعت، حتى تضمن تحت غطائه ترتيب أوضاعها الجديدة، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية التي لا يمكن، في الأحوال الطبيعية، ومهما انحطت قواعد العمل في حقل العلاقات الدولية، أن تحلم بانتزاعها من شعبٍ سيد، وعضو مؤسس في المنظمة الدولية. فما لم تحصل انهياراتٌ داخلية غير متوقعة، ستقاوم طهران حتى آخر رمق أي محاولة لإخراجها من سورية، بل لتحديد دائرة نفوذها، حتى لو لوّحت موسكو للعرب والغربيين بغير ذلك. وليس من المؤكد أبدا أن يكون لموسكو مصلحة في أن يستعيد الشعب السوري عافيته، ويرسي قواعد وأسس إعادة بنائه السياسي والعمراني، وهي تحاول منذ الآن، كالحكومة الإيرانية، الاستفادة من ضعفه، وتعمل على تحييده لتوسيع دائرة نفوذها ومكاسبها الاستراتيجية، ليس في سورية فحسب، ولكن في عموم المنطقة، خصوصا في مواجهة القوى الغربية التي تعتقد أنها نجحت عن طريق الاستفادة من الأزمة السورية في وضع الأنشوطة في رقبتها، فغياب الشعب السوري عن مصيره وقراره ووجوده هو اليوم مصلحة مشتركة لقوى دولية وإقليمية عديدة، لإنجاز ما حققته من مكاسب وتعزيزه. وأفضل ما يمكن أن يناسبها من خياراتٍ هو أن تجمع بين وقف القتال أو كما تسميه تخفيض وتيرة القتل، للتخفيف من ضغط الرأي العام العربي والدولي عليها، وقصر سيادة السوريين وقرارهم السياسي على إدارة شؤونهم المحلية من خلال مجالس أو إدارات ذاتية مهمتها تدبير شؤون محلياتها المعيشية، والحد من تغوّل المليشيات التشبيحية والإجرامية على الأهالي، لإحداث وهم العودة إلى الحالة الطبيعية. هذا يعني ثلاثة أمور:
الأول، استبعاد التوصل إلى أي حل سياسي في الأفق المنظور، يمهد الطريق إلى مرحلة انتقالية بتفاهم قوى المعارضة المتعدّدة، بما فيها الثورية، مع النظام. وبالتالي، سقوط الرهان على حل سريع يفتح باب التطبيع العسكري والسياسي والقانوني، ومن ورائه الاستعادة التدريجية للشرعية والدولة والسيادة والقرار الوطني. وهذا ما يزيد من خطر التغريز في وحل حالة التعفن والاستنقاع، حيث تصعب الحرب ويستحيل السلام، وفي إثرها، تعميق مشاعر الخيبة والبؤس واليأس لدى الجمهور الواسع الفاقد أي أمل، في جميع المناطق السورية، سواء كانت خاضعة لما يسمى بمليشيات النظام أو للمجالس المحلية.
والثاني، ينبغي الاعتراف بأن الأشكال التنظيمية التي ورثها المجتمع السوري عن المرحلة السابقة التي سيطرت على النزعة العسكرية، ردا على همجية النظام، لم تعد صالحةً لتحقيق مهام الدفاع عن المجتمع في وجه السلطة المليشياتية، ولا تحقيق رهانات الثورة السورية الرئيسية. إن افتقادها العلاقة مع الشعب وقصر نظرها في رؤيتها للواقع على العلاقات الدولية والفصائل العسكرية، قد حرماها من إدراك التغيرات العميقة التي حصلت على الوضع الاستراتيجي، وأكّدا عجزها عن إعادة تأهيل نفسها للمرحلة الجديدة. ومن الخطأ المراهنة عليها في تحقيق أي تقدّم في كسب معارك المرحلة المقبلة في أي مجال. وهي تتحول بوجودها وتخبطها وعجزها في الواقع إلى أكبر مصدر للسخط والقلق والإحباط عند جمهور الثورة الواسع والرأي العام السوري عموما. وهذا ما يفسّر تزايد الدعوات بين مجموعات الناشطين والسياسيين الذين يشعرون أكثر فأكثر بأنهم فقدوا مبادرتهم ودورهم وقدرتهم على التأثير إلى إنشاء منظمات وهيئات ومؤسسات جديدة. كما يفسر سعي الدول إلى استبدال هذه الهيئات أو تغيير قياداتها لحفظ ماء وجهها. لكن جميع هذه المبادرات تكاد تكرّر نفسها، منذ تكوين المجلس الوطني، وتتوجّه بشكل رئيسي إلى المجتمع الدولي، لإقناعه بأنها البديل المطلوب أو الأداة القادرة على صنع البديل. والحال أن الأوضاع تجاوزت مسألة إيجاد البديل، كما كان سائداً في السنتين الأوليتين من الثورة، ويكاد يكون هناك إجماع ضمني، وعفوي لدى الرأي العام الدولي، الشعبي والرسمي للأسف، على أن وقت البحث عن بديلٍ قد فات، وأن الواقعية تقتضي الاعتراف بأن سورية ستبقى دولةً فاشلةً ومزرعة للقوى والمليشيات والمصالح الأجنبية، في حماية ما تبقى من رجال وأجهزة الأمن التي يشكل الأسد منذ الآن مجرد علامة تجارية لها.
2
والأمر الثالث، أن هناك حاجة عاجلة لإعادة بناء استراتيجية الثورة السورية، والانتقال من مواجهة مباشرة على جبهات القتال الثابتة إلى مقاومة طويلة المدى، متحرّكة ومتعدّدة الأشكال، تشمل ميادين النشاط الاجتماعي كلها، بما فيها العسكرية، وتهدف إلى إعادة هيكلة أو بناء مؤسسات المجتمع التي دمرت أو خربت، ومساعدته على تنمية قواه الذاتية والدفاع عن نفسه. وهذا يعني العمل على بلورة برنامج سياسي وطني اجتماعي، يعيد المبادرة إلى المجتمع، ويعمل على إعادة بناء الحلف الوطني الشعبي الواسع لعزل الطغمة الحاكمة، المسؤولة الرئيسية عن تدمير شروط حياة السوريين، والتي تتعارض إرادتها في البقاء في السلطة مع أي أملٍ للسوريين بالسلام والخلاص واستعادة الحياة الطبيعية والحفاظ على الدولة والسيادة والاستقلال. ويتطلب هذا البرنامج العمل على محورين:
أولا، الانتقال من استراتيجية تركز فيها استثمار قوى الثورة وجمهورها في الحقبة الماضية بشكل رئيسي في السلاح والقتال والحرب، سواء أكان ذلك دفاعا عن النفس أو، في مرحلة ثانية، أملا بتحقيق إسقاط النظام، وهو الاستثمار الذي أضاع كثيرا من مردوده، بعد أن أغلق التدخل الروسي، ومن قبله الإيراني باب الإنجاز العسكري، إلى استراتيجية تركز على العمل السياسي والاجتماعي والدبلوماسي والإعلامي والثقافي، وتهدف إلى توجيه الجهد إلى مهام يتوقف على حلها إعادة بناء النسيج المجتمعي، وأحياء روح الشعب وأمله وثقته بنفسه وبالمستقبل، جماهير الشعب كله، وفي مقدمها حسم مشكلة المعتقلين والتعذيب والموت في المعتقلات وإطلاق سراح سجناء الرأي، والضغط من أجل تطبيق قرار مجلس الأمن لإنشاء آلية لملاحقة مجرمي الحرب وتقديمهم للمحاكمة، وتبني قضايا المجتمع وقيادته لمواجهة التحديات الهائلة التي يواجهها، والتي تكاد تشمله جميعا بعد سنوات الحرب الطويلة والتصدي لمشكلات الفقر والبطالة التي تضرب أكثر من نصف المجتمع، وتهيئة الموظفين والعمال والحرفيين والطبقات الوسطى التي قصم غلاء الأسعار ظهر مواردها، ودعم معنويات الجنود والضباط الذين ألحقوا بالمليشيات الأجنبية، وفرضت عليهم الطاعة لقادة ليسوا من جلدتهم ولا هدف لهم سوى مصادرة حقوقهم واحتلال وطنهم، وتسخيرهم لخدمة أغراضهم، ومساندة ملايين السكان الذين هجروا من أحيائهم وقراهم، وتم تشريدهم لإحلال سكان آخرين مكانهم، وتشجيع رجال الأعمال الذين فرض عليهم العمل واجهات لشبكات مافيا النظام وحلفائه من أمراء الحرب والمال السوريين والأجانب، في مواجهة الضغوط وعمليات التوريط في الفساد وإذلالهم للاحتفاظ بطواعيتهم وخضوعهم. ويعني هذا أيضا الكشف عن خيانة نظام الحرب وتمييزه، ليس تجاه من يعتبرهم خصومه، وهم غالبية الشعب، ولكن أيضا تجاه من يدّعي هو نفسه تمثيلهم أو الدفاع عنهم.
ثانياً، العمل من أجل استعادة الشعب سيادته، والتركيز على إجلاء جميع القوات والمليشيات الأجنبية عن الأراضي السورية بكل الوسائل المشروعة. وهو الهدف المركزي الثاني لأي برنامج وطني شعبي للمقاومة، يعيد توحيد القاعدة الاجتماعية السورية العريضة حول برنامج إنقاذ وطني، يعنى بهموم الشعب ويحبط المشاريع الاستعمارية المتجدّدة، ويقطع الطريق على تكريس سورية أفغانستان الشرق الأوسط، لكن في قبضة كرزايات موسكو. فما يريده الروس، في اعتقادي، هو إقامة نظام في سورية على المثال الأفغاني، لكن تحت سيطرة موسكو لا واشنطن. وبالمناسبة نفسها، تحويل بشار الأسد، كما أصبح بالفعل، إلى كرزاي يعيش تحت الحماية الأجنبية، ويجعل من بلاده تماما كما هو الحال في كابول، منصةً للقواعد العسكرية، بذريعة الحرب الدولية على الإرهاب الذي يعمل هو نفسه على تفريخه ورعايته. حليف موسكو في هذا المشروع والمستفيد الأول منه هي طهران التي تريد أن تفرض وجودها العسكري والسياسي والاقتصادي بكل الوسائل، ولا تزال لديها القوة لتحقيق أغراضها ما دام العالم العربي والمجتمع الدولي غير مستعدين أو غير قادرين على مواجهتها.
3
من هنا، يكتسي تركيز الجهد بشكل أكبر على بناء منظمات المجتمع المقاوم، وإعادة الاعتبار لها، أهمية مزدوجة: أولا، نقل المعركة إلى جبهات المجتمع المختلفة، من خلال إطلاق ديناميكة إعادة بناء المؤسسات والمنظمات والجمعيات والنقابات الحرة، والعمل على احتلال الفضاء العام، وبث الحياة في النسيج الاجتماعي، وتوحيده من جديد على أرضية الصراعات المطلبية والسياسية اليومية والبعيدة، وهي التي تجاهلناها في الحقبة السابقة، ولم نعرها أي اهتمام بسبب الضغط العسكري الهائل. وثانيا، مجابهة استراتيجية التفتيت، وتقويض الدولة وتقسيم المجتمع من خلال نظام للسلطات المحلية، والإدارات الذاتية المستقلة بعضها عن بعض، والمعتمدة مباشرة في حل مشكلاتها على سلطات الوصاية الأجنبية، ما يعني قطع الرأس السياسي للمجتمع وتفريغه من شروط استقلاله السياسي، وتعزيز روح العصبية الجهوية والطائفية والمحلية، ومنع الشعب من استعادة وحدته وسيادته، وإعادة بناء هويته الوطنية.
تحلّ هذه الاستراتيجية الجديدة أيضا مشكلتين شغلتا، ولا تزالان، جمهور الثورة ونشطاءها منذ البداية، ولم يجدوا لهما أي حل. الأولى إيجاد قيادة مركزية واحدة، وربما أيضا الحنين إلى شخصيةٍ رمزية أو كاريزمية قائدة، تقف في مواجهة الأسد، وتعمل كنقيض له. فما يحتاجه العمل على احتلال الفضاء العام، وتحرير منظمات المجتمع وهياكله وبنياته من أنقاض مؤسسات الديكتاتورية البالية، ليس زعيما فردا ولا قائدا فذّا، وإنما سلسلة طويلة ومركّبة من القيادات الشعبية والاجتماعية التي تعمل على جميع المستويات وفي كل الميادين. وما تستدعيه هو روح تعاون وتكامل تجمع بين هذه القيادات، وتوحدها على قاعدة تحقيق برنامج سياسي واحد، تقطع مع روح التناحر والمنافسة السلبية التي طبعت الصراع على الزعامة، أو احتلال منصب القائد البديل للأسد والمناقض له، والتي جعلت من الصراع على القيادة محنةً حقيقية لقادة الثورة في ميادين القتال، وفي مؤسسات المعارضة، وللجمهور الباحث عن رمز وقائد يستحيل إيجاده في مناخ التنافر والتنافس والتنازع القائم بين الأشخاص والمرشحين للزعامة.
تحتاج المرحلة المقبلة بالعكس إلى تعدّد القيادات وتنوعها وإعادة تأهيل قيادات سابقة لنفسها وتدريب قيادات جديدة أيضا لخوض معركة تحرير المؤسسات الاجتماعية، وتطهيرها من ذهنية التشبيح والعنف والديكتاتورية الشخصية البغيضة، على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والنقابية، قيادات تعمل بمنطق التكامل، وتقدّم للنخب الجديدة الفرص التي افتقدتها في مرحلة التركيز على الثورة المسلحة، لتثمير مواهبها وممارسة المسؤوليات العمومية، والمشاركة في تقرير مصيرها وبناء المجتمع الجديد المنشود.
وتتعلق المشكلة الثانية بمصير المؤسسات والتنظيمات السياسية والعسكرية التي رافقت الثورة السورية منذ انطلاقها، والتي فقدت قدرتها على تحقيق أي إنجاز، وهي تتحول أكثر فأكثر، في نزاعاتها، وانقساماتها، وخضوعها لمختلف أنواع الإغراءات، إلى عبء على الثورة، بدل أن تكون أداةً لخدمتها. فليس هناك أمل في استيعابها، سوى إعادة استخدام ما تبقى من قوى حية فيها في جبهات المقاومة والقتال الجديد، أعني جبهات استعادة قيادة المجتمع بمؤسساته المختلفة والعمل، مع النخب الشابة التي تنتظر دورها منذ سنوات، وتكاد تقتلها العطالة وممارسة الثورة في وسائل التواصل الاجتماعية، على تأهيله وتنظيمه وتثقيفه وإعداده لإحياء نظام الحرية وحكم القانون والمشاركة الشعبية التي ضحّى من أجلها الملايين. ليس هناك جواب ممكن على تخريب الدولة وتدمير حكم القانون، وفتح البلاد للاحتلال الأجنبي، لحرمان السوريين من الانتصار على الطغيان، ولا رد على محاولات تطويع السوريين للقبول بتحويل بلادهم إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بانتظار أن تنفتح أمام القوى المتنازعة مسارح أخرى بديلة، إلا بالعودة إلى المجتمع وإعادته إلى الحياة والاستثمار في تنظيمه، وتأهيله لعصر جديد يقطع مع عصر الطغيان والاستعمار. هذه هي الرسالة الوحيدة المقدّسة للنخبة السورية الجديدة.
1
هذا يعني أن حسم الجولة الأولى التي سيطرت عليها المواجهة المسلحة لصالح الدول الأجنبية لن تنهي الحرب التي يبقى محور الصراع فيها تقرير لمن السيادة في سورية، للشعب أم لنظام الطغمة العسكرية المخابراتية التي استملكت الشعب مع الأرض التي يعيش عليها، وحولته إلى أقنانٍ يعملون بالسخرة لحسابها، ومن أجل مراكمة مزيدٍ من الأموال في المصارف الأجنبية، ولكنها تعيد إطلاقها على أسسٍ مختلفة، تترابط فيها مهام التحرير السياسي والتحرير الوطني معا. وإذا كانت الظروف الإقليمية والدولية قد خدمت النظام في هذه الجولة الأولى، ومنها التدخل الخارجي الحاسم، والتشتت الذي عانت منه الأوساط الشعبية التي حرمتها عقود الاحتلال الداخلي والهمجي الطويلة من أي خبرةٍ تنظيميةٍ، مدنية أو سياسية، وحطّمت نوابض اجتماعها التضامنية، فإن الجولة المقبلة ستكون حاسمة، وسوف تبرز فشل ما تبقى من النظام وحماته من قوى الاحتلال في إعادة بناء أي شكلٍ من السلطة والنظام في ظل ما أحدثوه هم أنفسهم من خرابٍ ودمار واضطراب في بنى المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومع ذلك، يعرف السوريون أن المواجهة في هذه الجولة الثانية التي تختلط فيها مهام التحرير السياسي والتحرير الوطني معا، لن تكون سهلةً ولا قصيرة، لأن المصالح الإقليمية والدولية الكبيرة التي تقف وراء نظام التشبيح والتعفيش والتهجير والإبادة الجماعية لن تتخلى عن هذا النظام، وسوف تتمسّك به، وتستثمر فيه ما استطاعت، حتى تضمن تحت غطائه ترتيب أوضاعها الجديدة، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية التي لا يمكن، في الأحوال الطبيعية، ومهما انحطت قواعد العمل في حقل العلاقات الدولية، أن تحلم بانتزاعها من شعبٍ سيد، وعضو مؤسس في المنظمة الدولية. فما لم تحصل انهياراتٌ داخلية غير متوقعة، ستقاوم طهران حتى آخر رمق أي محاولة لإخراجها من سورية، بل لتحديد دائرة نفوذها، حتى لو لوّحت موسكو للعرب والغربيين بغير ذلك. وليس من المؤكد أبدا أن يكون لموسكو مصلحة في أن يستعيد الشعب السوري عافيته، ويرسي قواعد وأسس إعادة بنائه السياسي والعمراني، وهي تحاول منذ الآن، كالحكومة الإيرانية، الاستفادة من ضعفه، وتعمل على تحييده لتوسيع دائرة نفوذها ومكاسبها الاستراتيجية، ليس في سورية فحسب، ولكن في عموم المنطقة، خصوصا في مواجهة القوى الغربية التي تعتقد أنها نجحت عن طريق الاستفادة من الأزمة السورية في وضع الأنشوطة في رقبتها، فغياب الشعب السوري عن مصيره وقراره ووجوده هو اليوم مصلحة مشتركة لقوى دولية وإقليمية عديدة، لإنجاز ما حققته من مكاسب وتعزيزه. وأفضل ما يمكن أن يناسبها من خياراتٍ هو أن تجمع بين وقف القتال أو كما تسميه تخفيض وتيرة القتل، للتخفيف من ضغط الرأي العام العربي والدولي عليها، وقصر سيادة السوريين وقرارهم السياسي على إدارة شؤونهم المحلية من خلال مجالس أو إدارات ذاتية مهمتها تدبير شؤون محلياتها المعيشية، والحد من تغوّل المليشيات التشبيحية والإجرامية على الأهالي، لإحداث وهم العودة إلى الحالة الطبيعية. هذا يعني ثلاثة أمور:
الأول، استبعاد التوصل إلى أي حل سياسي في الأفق المنظور، يمهد الطريق إلى مرحلة انتقالية بتفاهم قوى المعارضة المتعدّدة، بما فيها الثورية، مع النظام. وبالتالي، سقوط الرهان على حل سريع يفتح باب التطبيع العسكري والسياسي والقانوني، ومن ورائه الاستعادة التدريجية للشرعية والدولة والسيادة والقرار الوطني. وهذا ما يزيد من خطر التغريز في وحل حالة التعفن والاستنقاع، حيث تصعب الحرب ويستحيل السلام، وفي إثرها، تعميق مشاعر الخيبة والبؤس واليأس لدى الجمهور الواسع الفاقد أي أمل، في جميع المناطق السورية، سواء كانت خاضعة لما يسمى بمليشيات النظام أو للمجالس المحلية.
والثاني، ينبغي الاعتراف بأن الأشكال التنظيمية التي ورثها المجتمع السوري عن المرحلة السابقة التي سيطرت على النزعة العسكرية، ردا على همجية النظام، لم تعد صالحةً لتحقيق مهام الدفاع عن المجتمع في وجه السلطة المليشياتية، ولا تحقيق رهانات الثورة السورية الرئيسية. إن افتقادها العلاقة مع الشعب وقصر نظرها في رؤيتها للواقع على العلاقات الدولية والفصائل العسكرية، قد حرماها من إدراك التغيرات العميقة التي حصلت على الوضع الاستراتيجي، وأكّدا عجزها عن إعادة تأهيل نفسها للمرحلة الجديدة. ومن الخطأ المراهنة عليها في تحقيق أي تقدّم في كسب معارك المرحلة المقبلة في أي مجال. وهي تتحول بوجودها وتخبطها وعجزها في الواقع إلى أكبر مصدر للسخط والقلق والإحباط عند جمهور الثورة الواسع والرأي العام السوري عموما. وهذا ما يفسّر تزايد الدعوات بين مجموعات الناشطين والسياسيين الذين يشعرون أكثر فأكثر بأنهم فقدوا مبادرتهم ودورهم وقدرتهم على التأثير إلى إنشاء منظمات وهيئات ومؤسسات جديدة. كما يفسر سعي الدول إلى استبدال هذه الهيئات أو تغيير قياداتها لحفظ ماء وجهها. لكن جميع هذه المبادرات تكاد تكرّر نفسها، منذ تكوين المجلس الوطني، وتتوجّه بشكل رئيسي إلى المجتمع الدولي، لإقناعه بأنها البديل المطلوب أو الأداة القادرة على صنع البديل. والحال أن الأوضاع تجاوزت مسألة إيجاد البديل، كما كان سائداً في السنتين الأوليتين من الثورة، ويكاد يكون هناك إجماع ضمني، وعفوي لدى الرأي العام الدولي، الشعبي والرسمي للأسف، على أن وقت البحث عن بديلٍ قد فات، وأن الواقعية تقتضي الاعتراف بأن سورية ستبقى دولةً فاشلةً ومزرعة للقوى والمليشيات والمصالح الأجنبية، في حماية ما تبقى من رجال وأجهزة الأمن التي يشكل الأسد منذ الآن مجرد علامة تجارية لها.
2
والأمر الثالث، أن هناك حاجة عاجلة لإعادة بناء استراتيجية الثورة السورية، والانتقال من مواجهة مباشرة على جبهات القتال الثابتة إلى مقاومة طويلة المدى، متحرّكة ومتعدّدة الأشكال، تشمل ميادين النشاط الاجتماعي كلها، بما فيها العسكرية، وتهدف إلى إعادة هيكلة أو بناء مؤسسات المجتمع التي دمرت أو خربت، ومساعدته على تنمية قواه الذاتية والدفاع عن نفسه. وهذا يعني العمل على بلورة برنامج سياسي وطني اجتماعي، يعيد المبادرة إلى المجتمع، ويعمل على إعادة بناء الحلف الوطني الشعبي الواسع لعزل الطغمة الحاكمة، المسؤولة الرئيسية عن تدمير شروط حياة السوريين، والتي تتعارض إرادتها في البقاء في السلطة مع أي أملٍ للسوريين بالسلام والخلاص واستعادة الحياة الطبيعية والحفاظ على الدولة والسيادة والاستقلال. ويتطلب هذا البرنامج العمل على محورين:
أولا، الانتقال من استراتيجية تركز فيها استثمار قوى الثورة وجمهورها في الحقبة الماضية بشكل رئيسي في السلاح والقتال والحرب، سواء أكان ذلك دفاعا عن النفس أو، في مرحلة ثانية، أملا بتحقيق إسقاط النظام، وهو الاستثمار الذي أضاع كثيرا من مردوده، بعد أن أغلق التدخل الروسي، ومن قبله الإيراني باب الإنجاز العسكري، إلى استراتيجية تركز على العمل السياسي والاجتماعي والدبلوماسي والإعلامي والثقافي، وتهدف إلى توجيه الجهد إلى مهام يتوقف على حلها إعادة بناء النسيج المجتمعي، وأحياء روح الشعب وأمله وثقته بنفسه وبالمستقبل، جماهير الشعب كله، وفي مقدمها حسم مشكلة المعتقلين والتعذيب والموت في المعتقلات وإطلاق سراح سجناء الرأي، والضغط من أجل تطبيق قرار مجلس الأمن لإنشاء آلية لملاحقة مجرمي الحرب وتقديمهم للمحاكمة، وتبني قضايا المجتمع وقيادته لمواجهة التحديات الهائلة التي يواجهها، والتي تكاد تشمله جميعا بعد سنوات الحرب الطويلة والتصدي لمشكلات الفقر والبطالة التي تضرب أكثر من نصف المجتمع، وتهيئة الموظفين والعمال والحرفيين والطبقات الوسطى التي قصم غلاء الأسعار ظهر مواردها، ودعم معنويات الجنود والضباط الذين ألحقوا بالمليشيات الأجنبية، وفرضت عليهم الطاعة لقادة ليسوا من جلدتهم ولا هدف لهم سوى مصادرة حقوقهم واحتلال وطنهم، وتسخيرهم لخدمة أغراضهم، ومساندة ملايين السكان الذين هجروا من أحيائهم وقراهم، وتم تشريدهم لإحلال سكان آخرين مكانهم، وتشجيع رجال الأعمال الذين فرض عليهم العمل واجهات لشبكات مافيا النظام وحلفائه من أمراء الحرب والمال السوريين والأجانب، في مواجهة الضغوط وعمليات التوريط في الفساد وإذلالهم للاحتفاظ بطواعيتهم وخضوعهم. ويعني هذا أيضا الكشف عن خيانة نظام الحرب وتمييزه، ليس تجاه من يعتبرهم خصومه، وهم غالبية الشعب، ولكن أيضا تجاه من يدّعي هو نفسه تمثيلهم أو الدفاع عنهم.
ثانياً، العمل من أجل استعادة الشعب سيادته، والتركيز على إجلاء جميع القوات والمليشيات الأجنبية عن الأراضي السورية بكل الوسائل المشروعة. وهو الهدف المركزي الثاني لأي برنامج وطني شعبي للمقاومة، يعيد توحيد القاعدة الاجتماعية السورية العريضة حول برنامج إنقاذ وطني، يعنى بهموم الشعب ويحبط المشاريع الاستعمارية المتجدّدة، ويقطع الطريق على تكريس سورية أفغانستان الشرق الأوسط، لكن في قبضة كرزايات موسكو. فما يريده الروس، في اعتقادي، هو إقامة نظام في سورية على المثال الأفغاني، لكن تحت سيطرة موسكو لا واشنطن. وبالمناسبة نفسها، تحويل بشار الأسد، كما أصبح بالفعل، إلى كرزاي يعيش تحت الحماية الأجنبية، ويجعل من بلاده تماما كما هو الحال في كابول، منصةً للقواعد العسكرية، بذريعة الحرب الدولية على الإرهاب الذي يعمل هو نفسه على تفريخه ورعايته. حليف موسكو في هذا المشروع والمستفيد الأول منه هي طهران التي تريد أن تفرض وجودها العسكري والسياسي والاقتصادي بكل الوسائل، ولا تزال لديها القوة لتحقيق أغراضها ما دام العالم العربي والمجتمع الدولي غير مستعدين أو غير قادرين على مواجهتها.
3
من هنا، يكتسي تركيز الجهد بشكل أكبر على بناء منظمات المجتمع المقاوم، وإعادة الاعتبار لها، أهمية مزدوجة: أولا، نقل المعركة إلى جبهات المجتمع المختلفة، من خلال إطلاق ديناميكة إعادة بناء المؤسسات والمنظمات والجمعيات والنقابات الحرة، والعمل على احتلال الفضاء العام، وبث الحياة في النسيج الاجتماعي، وتوحيده من جديد على أرضية الصراعات المطلبية والسياسية اليومية والبعيدة، وهي التي تجاهلناها في الحقبة السابقة، ولم نعرها أي اهتمام بسبب الضغط العسكري الهائل. وثانيا، مجابهة استراتيجية التفتيت، وتقويض الدولة وتقسيم المجتمع من خلال نظام للسلطات المحلية، والإدارات الذاتية المستقلة بعضها عن بعض، والمعتمدة مباشرة في حل مشكلاتها على سلطات الوصاية الأجنبية، ما يعني قطع الرأس السياسي للمجتمع وتفريغه من شروط استقلاله السياسي، وتعزيز روح العصبية الجهوية والطائفية والمحلية، ومنع الشعب من استعادة وحدته وسيادته، وإعادة بناء هويته الوطنية.
تحلّ هذه الاستراتيجية الجديدة أيضا مشكلتين شغلتا، ولا تزالان، جمهور الثورة ونشطاءها منذ البداية، ولم يجدوا لهما أي حل. الأولى إيجاد قيادة مركزية واحدة، وربما أيضا الحنين إلى شخصيةٍ رمزية أو كاريزمية قائدة، تقف في مواجهة الأسد، وتعمل كنقيض له. فما يحتاجه العمل على احتلال الفضاء العام، وتحرير منظمات المجتمع وهياكله وبنياته من أنقاض مؤسسات الديكتاتورية البالية، ليس زعيما فردا ولا قائدا فذّا، وإنما سلسلة طويلة ومركّبة من القيادات الشعبية والاجتماعية التي تعمل على جميع المستويات وفي كل الميادين. وما تستدعيه هو روح تعاون وتكامل تجمع بين هذه القيادات، وتوحدها على قاعدة تحقيق برنامج سياسي واحد، تقطع مع روح التناحر والمنافسة السلبية التي طبعت الصراع على الزعامة، أو احتلال منصب القائد البديل للأسد والمناقض له، والتي جعلت من الصراع على القيادة محنةً حقيقية لقادة الثورة في ميادين القتال، وفي مؤسسات المعارضة، وللجمهور الباحث عن رمز وقائد يستحيل إيجاده في مناخ التنافر والتنافس والتنازع القائم بين الأشخاص والمرشحين للزعامة.
تحتاج المرحلة المقبلة بالعكس إلى تعدّد القيادات وتنوعها وإعادة تأهيل قيادات سابقة لنفسها وتدريب قيادات جديدة أيضا لخوض معركة تحرير المؤسسات الاجتماعية، وتطهيرها من ذهنية التشبيح والعنف والديكتاتورية الشخصية البغيضة، على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والنقابية، قيادات تعمل بمنطق التكامل، وتقدّم للنخب الجديدة الفرص التي افتقدتها في مرحلة التركيز على الثورة المسلحة، لتثمير مواهبها وممارسة المسؤوليات العمومية، والمشاركة في تقرير مصيرها وبناء المجتمع الجديد المنشود.
وتتعلق المشكلة الثانية بمصير المؤسسات والتنظيمات السياسية والعسكرية التي رافقت الثورة السورية منذ انطلاقها، والتي فقدت قدرتها على تحقيق أي إنجاز، وهي تتحول أكثر فأكثر، في نزاعاتها، وانقساماتها، وخضوعها لمختلف أنواع الإغراءات، إلى عبء على الثورة، بدل أن تكون أداةً لخدمتها. فليس هناك أمل في استيعابها، سوى إعادة استخدام ما تبقى من قوى حية فيها في جبهات المقاومة والقتال الجديد، أعني جبهات استعادة قيادة المجتمع بمؤسساته المختلفة والعمل، مع النخب الشابة التي تنتظر دورها منذ سنوات، وتكاد تقتلها العطالة وممارسة الثورة في وسائل التواصل الاجتماعية، على تأهيله وتنظيمه وتثقيفه وإعداده لإحياء نظام الحرية وحكم القانون والمشاركة الشعبية التي ضحّى من أجلها الملايين. ليس هناك جواب ممكن على تخريب الدولة وتدمير حكم القانون، وفتح البلاد للاحتلال الأجنبي، لحرمان السوريين من الانتصار على الطغيان، ولا رد على محاولات تطويع السوريين للقبول بتحويل بلادهم إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بانتظار أن تنفتح أمام القوى المتنازعة مسارح أخرى بديلة، إلا بالعودة إلى المجتمع وإعادته إلى الحياة والاستثمار في تنظيمه، وتأهيله لعصر جديد يقطع مع عصر الطغيان والاستعمار. هذه هي الرسالة الوحيدة المقدّسة للنخبة السورية الجديدة.