عن الحوار الذي مازلنا بعيدين عنه وغير جاهزين له

2020-03-18:: موقع د.برهان غليون

تعميما للفائدة أعيد نشر هذا التعقيب على بعض تعليقات الأصدقاء على مقالي الأخير في العربي الجديد "السنة العاشرة للثورة السورية أو البحث عن السلام المفقود"، والذين اختلطت ربما عليهم الامور في ما هو، ومن هو المقصود بالدعوة لتفاهم سوري يعيد للسوريين موقعهم ودورهم في تقرير مصيرهم، وأخص بالذكر الأخ سامي صوفي الذي خشي أيضا أن تكون الدعوة للتفاهم بديلا عن العدالة الانتقالية أو على حسابها.

فأولا، المقال ليس موجها لمجرمي الحرب الذين لا مكان لهم سوى قاعة المحكمة، وفي مقدمهم قادة النظام ومسؤوليه، ولا حتى لقادة المعارضة، وإنما للسوريين من حيث هم مواطنين افراد، ومواجهتم بالوقائع المؤلمة والأفق المظلم، ووضع كل فرد أمام مسؤولياته الانسانية، لكن الوطنية أيضا.
ثانيا لا يدعو المقال إلى أي حوار، ولا يمثل أي مبادرة للحوار، وإذا كان هناك حوار سيجري يوما ما، فليس مع القتلة أيضا مهما كانوا. إنه يسعى إلى حث السوريين جميعا على التفكير بالمستقبل، وفتح ثغرة في جدار اليأس الذي عم الرأي العام وأدى إلى موقف العطالة والاستقالة من التفكير في مستقبل الشعب والبلاد، والتسليم بما يحصل، بانتظار أن تحسم الأطراف المتنازعة، والدولية خاصة، حربها على الارض السورية، ومعها حرب النظام على الشعب.
وثالثا، وبوصفه موجه للمواطنين، أي لضمير المواطنة الذي نريده أن يولد في كل فرد، وكجزء من الجهد المطلوب لتقريب زمن هذه الولادة، فهو لا ينظر إلى الشعب السوري عبر منظور الانقسام الطائفي أو القومي أبدا، ويسعى بالعكس إلى دفعه إلى التحرر من العصبيات الطائفية العمياء والنظر إلى الأمور من زاوية مدنية، تحصر المحاسبة والعقاب عن الجرائم بالفرد الذي شارك فيها لا بالعشيرة او الطائفة التي ينتمي إليها، كما ينص القانون القبلي، حتى لو أن طوائف بعينها استفادت اكثر من طوائف أخرى من نظام القتل والابادة الجماعية.
ورابعا، لا يهدف مثل هذا المقال إلا إلى تحريك الفكر والتشجيع على النقاش بين من يتداولون في الِشان العام السوري، أي إلا إلى تفتيق الأفكار والآراء حول كيفية مواجهة المحنة السورية، من دون أي أجندة سياسية، لا للحوار ولا للحل. فما نزال بعيدين جدا عن ذلك، كما أننا لسنا جاهزين ابدا لهما لسوء الحظ. ومن هنا أردت كسر الصمت عن هذا الاستسلام للقدر والتسليم لارادات المجتمع الدولي الذي لا يريد ان يعمل شيئا ولا يستطيع أيضا. وما دار بيننا من نقاش بمناسبة نشر المقال هو بالضبط المطلوب منه، وهو الطريق لدفع السوريين إلى التفكير في مصيرهم وخياراتهم وطريقة معالجتهم لمشكلاتهم والتعرف على هذه المشكلات. لذلك تستحق الشكر الجزيل لردك على المقال وإثارة هذا النقاش.
وأنا معك تماما في أن الوضع السوري لا يقارن لا بوضع جنوب أفريقيا ولا رواندا، فلا يمكن مقارنة الاسد وزبانيته بدوكليرك وأعضاء حكومته الذين بالرغم من نشوئهم على ثقافة العنصرية والاستهتار كليا بحقوق السود، عرفوا في اللحظة المناسبة كيف يتحررون من موروثهم الثقافي والعاطفي، ومن الدستور العنصري المفروض منذ خمسة قرون، وقبلوا التسوية السياسية مع مانديلا وإقناع الاقلية البيضاء أيضا معهم بالتنازل عن السلطة العنصرية والخضوع لقانون الديمقراطية، حتى لو كانت نتيجتها إنهاء سيطرة هذه الأقلية. في حين أن الأسد الذي وصل إلى السلطة بانقلاب، مثلما فعل أبوه من قبله، لم يقبل حتى التفاوض على تنازلات، مهما كانت محدودة، وقرر أن الرد الوحيد على مطالبته بمراجعة سلطاته المطلقة، هو حرق البلاد وتدمير الشعب وتشريد أكثر من نصف سكانه، دون أن يتردد باستخدام أي من الأسلحة المحرمة في الحروب الدولية. مع مثل هؤلاء لا يوجد نقاش، فما بالك بالحوار، لأن تفجير المجتمع السوري وتأليب بعضه على بعض وزرع الأحقاد الطائفية والقومية هو جوهر سياستهم ووسيلتهم الوحيدة للابقاء على اغتصاب السلطة وتأبيدها. وليس لهم أمل في الاستمرار لأيام من دون الاستثمار الدائم في ايقاد نار الكراهية والحقد والانتقام في قلوب السوريين حتى تستمر المحرقة.
أما نحن فبالعكس، لا نملك سلاحا آخر لنحبط هذه السياسة الابادية إلا بفتح كوة للنور والشمس والامل والسلام أمام جميع ابناء الشعب السوري الذي ضحي بهم، على الجانبين، من قبل عصابة من القتلة والمهربين والمتآمرين على مصير وطنهم وشعبهم. هذا هو الهدف وتلك هي السياسة إذا كنا لا نزال نؤمن بأن الحرب ليست قدرا وأن سورية يمكن أن تعود إلى الحياة وتتحول من جديد إلى دولة مواطنيها ولا تبقى ساحة حروب داخلية وخارجية لتكريس حكم العائلة وسلطة الاحتلالات الأجنبية.