الديمقراطية في العالم العربي

2001-04-24:: مساهمة في ندوة المشروع الحضاري العربي، فاس

 

لم تتقدم المناقشة النظرية لمسألة الديمقراطية في الوطن العربي كثيرا منذ انعقاد أول ندوة خصصت لهذا الغرض في ليماسول عام 38991، أي منذ ما يقارب العشرين عاما· بالتأكيد حصل تراكم كبير في الأدبيات والبيانات والتحليلات التي تتعلق بهذا الموضوع، لكن المقاربة بقيت نفسها، كما كانت وهي الالحاح على ضرورة تطبيق الديمقراطية كنظام للحكم ورفض الادعاءات بأنها غير منسجمة مع التراث أو الدين الاسلاميين أو مع الظروف الاقتصادية والسياسية الخاصة بالمجتمعات العربية، والتأكيد على الارتباط الذي لا ينفصم بين الديمقراطية والشعارات القومية التقليدية، أي بين الديمقراطية والتنمية، والديمقراطية والوحدة،  والديمقراطية والمسألة الوطنية وفي مقدمها المسألة الفلسطينية وما يرتبط بها من احتلال اسرائيلي لأراض عربية أخرى·

والسبب الرئيسي لهذه المراوحة في المكان لمسألة الديمقراطية من الناحية النظرية هو أن التفكير في الديمقراطية بقي تفكيرا تأمليا ولم يرتبط بالواقع العملي ولم يتطور من خلال تحليل ممارسة فعلية· أما المحاولات الكثيرة التي سعت إلى تقديم فكرة عما يجري على أرض الواقع، سواء أكان ذلك على شكل رصد عمليات الانتخاب هنا وهناك أو تحليل بنية بعض البرلمانات العربية أو تفنيد إجراءات القمع وانتهاكات حقوق الانسان فقد بقيت دراسات وصفية ولم تسهم كثيرا في تطوير الرؤية النظرية للديمقراطية في المجتمعات العربية· وهكذا ظلت هذه الرؤية مترددة بين النظريات التأملية المنفصلة عن التجربة وبين البيانات الوصفية المفتقرة للرؤية النظرية·

وليس من المبالغة أن نقول إن الكلام المكرر في الديمقراطية غير الموجودة فعلا في مجتمعاتنا قد هدف، بالتأكيد من دون وعي، إلى التغطية على الممارسة السياسية الحقيقية الموجودة عندنا بالفعل، وحجبها عن أنظارنا، وهي الممارسة الاستبدادية أو الديكتاتورية أو التسلطية· فلم تحظ ممارسات النظم العربية ونوعية هذه النظم وآليات تكوينها وإعادة إنتاجها وطرق عملها ووسائله، بأي دراسة حقيقية وصفية أو نظرية· ولا أعتقد أن هذا الميل الذي ظهر عند الباحثين والناشطين العرب لاجتناب الحديث في الاستبداد نابع من الخوف من الاضطهاد، بقدر ما هو نتيجة للمنهج السائد في تعاملنا مع الواقع، والصعود مباشرة فوقه أو تجاهله نحو الأمل والحلم، وكذلك للمنهج الذي يسود تعاملنا مع أنفسنا، وهو الهرب من المسؤولية التي تفرضها أي إعادة نظر لمواقفنا السابقة· فالكشف عن جذور التسلطية وأسسها الفكرية ومصادر نموها ومرتكزاتها الاجتماعية والسياسية لا بد أن يكشف قصورنا عن إدراك آليات مقاومة صعودها، إن لم يكشف مساهمتنا الفردية، السلبية أو الايجابية، من خلال الأفكار والشعارات التي حملناها وأحيانا الممارسات والخيارات التي اتخذناها، في التمهيد لهذه التسلطية أو التمكين لها· ولذلك فإن هناك دافع قوي لدينا لافتداء أخطائنا والتكفير السهل عنها· ويبدو التمسك السريع بالشعار الديمقراطي الجديد كما لو كان نوعا من إعلان التوبة وفرصة للتطهر من الآثام السابقة ، أي أيضا بديلا عن المراجعة وإعادة بناء أفكارنا ومواقفنا وتصوراتنا السياسية على أسس عقلانية جديدة أكثر ثباتا واتساقا· هكذا أعلنت جميع الأحزاب العربية الاشتراكية منها وشبه الليبرالية التي تعاونت من دون حدود مع الاستبداد ولا تزال ولاءها للفكرة الديمقراطية من دون أن يصدر عن أحدها أي نقد ذاتي أو تبرير أو تفسير لرفضها السابق للديمقراطية وأخذها بها اليوم· كما لو أن مثل هذه المهمة لا تعنيها أو أن ما قام به الروس والأوربيون الشرقيون يكفي لتجنيبها المهمة ذاتها· وهذا لا يعبر عن غياب التفكير الجدي وروح المسؤولية الفكرية والسياسية لدى القوى السياسية القائمة فحسب ولكن أكثر من ذلك عن الطابع السطحي والاستهلاكي للتبني الراهن للشعار الديمقراطي، وبالتالي إمكانية التراجع السريع عنه في أي لحظة تظهر فيها الحاجة للتضحية من أجله، والتقتير الشديد في الجهد للدفاع عنه أو للسعي لتحقيقه· إن الحديث في الديمقراطية يشكل اليوم مصدر شرعية سهلة يستطيع إذن كل فريق يشتغل بالسياسة، بما في ذلك الحاكمين أنفسهم، أن ينهل منه من دون ثمن وتكاليف تذكر· لكن لهذا السبب بالذات تبقى الديمقراطية العربية دعوة ضعيفة الجذور وهشة الكيان وملتبسة الآفاق ومحدودة الانتشار·

لكي تتقدم المناقشة النظرية حول مستقل الديمقراطية في الوطن العربي ينبغي النظر إلى الديمقراطية من وجهة نظر الدينامية الاجتماعية والانطلاق من الواقع السياسي، أي رؤية ما يجري فعلا من تحولات، وكيف يجري، وما هي الاتجاهات الفعلية والمحتملة للتطور في هذا الاتجاه أو ذاك وما هي طبيعة القوى والمصالح القائمة والمتنافسة وما هي الآفاق المفتوحة لكل منها وفرص تحقيقها برنامجها· ويستدعي ذلك أيضا تحليل الوضعيات العربية في إطار التحولات الدولية والاقليمية، ومعرفة العناصر التي يمكن المراهنة عليها في سبيل تعزيز مسيرة تحول ديمقراطية فعلا في هذه المجتمعات العربية أو بعضها، وما هي نوعية التحولات الديمقراطية التي يمكن المراهنة عليها وتحقيقها، وما هي العوائق التي ينبغي إزالتها لتحقيق هذا التحول أو الدفع به· وهذا يعني أن علينا فهم الواقع أولا كما هو لا إضفاء رغباتنا الديمقراطية عليه، كما يعني، وهذا يفترض وجود نظرية موضوعية، أن للتحول نحو الديمقراطية  شروطا لا يمكن التجاوز عنها، ولا مهرب لنا من تحقيقها إذا أردنا بالفعل الوصول إلى الديمقراطية، ولا يكفي لإقامتها وجود الرغبة فيها· وهو يعني أخيرا أنه حتى لو وجدت الإرادة القوية والجدية، لا بد في سبيل الوصول إليها من دفع الثمن في سبيل إقامتها، والثمن يعني التضحية ونكران الذات وبذل الجهد الدائب والمستمر· 

باختصار ليست الديمقراطية مسألة نظرية ولكنها مسألة سياسية· وككل مسألة سياسية يتوقف تقدم حلها على عمل القوى الحية وتصرفها في ميدان الصراع الاجتماعي وإدراكها لطبيعة الرهانات التي تكمن وراءها وقدرتها على تعبئة الطاقات البشرية والمادية التي يحتاج إليها الانتصار في المعارك التي يفرضها الوصول إلى الأهداف النهائية· وهكذا يمكن أن نختصر إشكالية الديمقرطية اليوم في المجتمعات العربية في أسئلة ثلاثة أساسية:

- ما هي طبيعة التحولات التي تشهدها المجتمعات العربية اليوم، وما هو مضمونها السياسي،

- ما هي الأسباب الداخلية والخارجية، المادية والمعنوية، لتعثر الحركة الديمقراطية في البلاد العربية وضيق آفاقها

- كيف يمكن تعزيز الديمقراطية وفتح آفاق تطورها

 

1- أزمة النظم التسلطية والشمولية العربية وإشكالية تفكيكها

ما نتناوله في هذه الحقبة من تاريخنا في أدبياتنا المعاصرة تحت عنوان الديمقراطية يضم في نظري موضوعين رئيسيين مترابطين لكن متميزين· الموضوع الأول هو موضوع الأزمة العميقة التي يعيشها النظام التسلطي العربي والصراعات التي تدور من حول تفكيكه والأساليب المختلفة التي يتخذها هذا التفكيك والمخاطر التي تنجم عنه والتهديدات المرتبطة به·  والموضوع الثاني هو الصراع الحقيقي من أجل تغيير النظام السياسي القائم في اتجاه يضمن الحد المقبول من الحريات وقواعد العمل والتداول السلمي للسلطة وضمان الحقوق الأساسية الانسانية· فدخول النظام التسلطي العربي في أزمة عميقة ومبادرة قسم من القوى الداعمة له إلى تفكيكه أو تطويره لا يعني بالضرورة أن التغيير الحاصل أو القادم سيكون ديمقراطيا· إن التغيير واقع حتمي أي لا مهرب منه، لكن الوجهة التي سيتخذها ستتوقف على طبيعة القوى المتصارعة ونوعيتها ووزنها ومواقعها السياسية والاجتماعية وقدراتها النضالية واستراتيجياتها، وقبل هذا وذاك، على وعيها التاريخي لشروط خوض معركة الديمقراطية في عالم جديد مفتوح ومتغير بسرعة· وإذا كان من غير الممكن تصور أي تغيير جدي في اتجاه الديمقراطية من دون وجود قوى ديمقراطية بالفعل واعية لذاتها وقادرة على أن تترجم رؤيتها بعمل جماعي واجتماعي على أرض الواقع، فإن وجود مثل هذه القوى ليس من الأمور المعطاة سلفا· ولا يكفي أن تدعي القوى الناشطة على الأرض والمشاركة في الصراع تمسكها بشعار الديمقراطية حتى تكون قوى تحقيق الديمقراطية أو أن تعمل من أجل الديمقراطية بالفعل، بل ولا يكفي ايمانها بالديمقراطية حتى لو كان حقيقيا كي تنجح في ترجمة شعاراتها على أرض الواقع·

إن عملية التفكيك التي تعيشها بعض النظم التسلطية العربية نابعة من حاجات الحفاظ على النظام ذاته، وفي سبيل إعادة تركيبه وإحيائه، سواء أكان ذلك عن طريق بث دماء جديدة فيه أو تحديث بنياته أو ربما أيضا عن طريق توسيع قاعدته الاجتماعية· وقد تنجح هذه المحاولة فتزيد في عمر النظام التسلطي، كما حصل في الصين، وهي أكبر مثال على ذلك، وعندنا في مصر وبصورة أخرى في تونس، وقد تفشل فتكون النتيجة ظهور نظام جديد كما كان الحال في الكتلة السوفيتية السابقة وفي أوربة الشرقية· لكن من الواضح أن الانتقال إلى هذا النظام الجديد ما كان لينجح لولا التنامي السريع الذي دعمه القرب من أوربة الغربية للقوى الديمقراطية أو المتأثرة بالفكرة الديمقراطية، ونجاح هذه القوى في فرض تغييرات بنيوية تضع حدا نهائيا لإعادة إنتاج النظام القديم· ولا يغير من حقيقة ذلك عودة بعض الأحزاب الشيوعية بصورة أو أخرى للسلطة، ذلك أن عودتها لا تعكس هنا إعادة إنتاج النظام الشمولي ولكنها تتم في إطار الالتزام بقواعد العمل السياسي الجديدة· ومن دون توفير فرص مثل هذا الانتقال لنظام جديد، سواء من حيث وجود القوى أو الدعم العالمي، لا يمكن أن يكون الرابح من عملية التفكيك وإعادة التركيب سوى النظام القائم ذاته، أي النظام التسلطي· وهو ما حصل في العديد من البلاد العربية، اللهم إلا إذا حصلت أحداث ومتغيرات غير متوقعة أدت إلى الانفجار أو الحرب الأهلية أو الفوضى الشاملة، كما حصل في الجزائر بسبب النمو السريع والواسع لحركة الاحتجاج الاسلامية في سياق تفكيك النظام الشمولي·

والمقصود بالنظم التسلطية تلك النظم التي تفرض نفسها بالقوة المباشرة أو الملتوية، وتقرر بدل المجتمع وتستخدم في سبيل ضمان استمرارها واستقرارها وردع المجتمع عن المساهمة في الحياة السياسية أو المطالبة بالمشاركة في السلطة والقرار جميع أشكال القمع، بما في ذلك الضغط والابتزاز والتزوير والعنف عند اللزوم· لكن القمع يستخدم في حدود الحفاظ على السلطة وردع المعارضة أو منعها من النشوء، ولا يتجاوز ذلك نحو ميادين النشاط الاجتماعية الأخرى التي يترك فيها للشعب حرية التصرف، باستثناء ما يمس فيها مباشرة ميدان السياسة، كبعض الرموز والشعائر والقيم الدينية والاجتماعية·

وربما كان أفضل مثال لها العديد من نظم الخليج التي لا ترى مبررا للاعتراف بحقوق المواطنين السياسية بل لا تعترف بالسياسة كنشاط اجتماعي طبيعي وشرعي·

أما الشمولية فهي تشير عندي إلى تلك النظم التي، على طريقة النظام السوفييتي السابق، لا تكتفي بما يضمن لها إبعاد الأفراد عن الممارسة السياسية أو منعهم من المشاركة في القرار أو من تهديد استقرار النظام والأمن، ولكنها تطمح أكثر من ذلك إلى تربيتهم وتكييفهم مع نظام احتكار السلطة وتأبيد القائمين عليها من خلال سياسات ايجابية أي تدخلية تمس جميع ميادين الحياة الاجتماعية، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية· إن النظام يعتبر نفسه وصيا على الشعب في كل الميادين، ويطلب من الشعب ولاءا كاملا وشاملا أيضا في جميع الميادين· فهو يسد على الفرد جميع الآفاق ولا يقبل منه أقل من الخضوع والطاعة من دون شروط· وأفضل تعبير عنه هو النص في بعض الدساتير الشمولية على أن الحزب الحاكم هو القائد للدولة والمجتمع، مما يعني أن له الحق دستوريا أن يبين للفرد كيف ينبغي التصرف والسلوك في الحياة الخاصة والعامة معا، من إلقاء التحية إلى مراسيم الدفن مرورا بالتربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية، كما له الحق في أن يفرض على الفنانين والأدباء والمفكرين ما هو مقبول وغير مقبول من موضوعات وأساليب ولغة في العمل والنشاط· فهو لا يعترف بمجال الحياة الخاصة المستقل ولا بحرمته· وفي الوقت الذي يعتبر كل نشاط اجتماعي ذا مضمون سياسي يلغي السياسة من حقل الممارسة الاجتماعية· ومن هذه النظم في البلاد العربية تلك التي نشأت في أعقاب إنقلابات عسكرية اشتراكية أو يسارية، مثلما حصل في سورية والعراق وليبيا·

ولأسباب متماثلة بدأت هذه النظم التسلطية والشمولية تتعرض لأزمة عميقة منذ مطلع السبعينات في العالم كله وفي العالم العربي بشكل خاص·  ومن هذه الأسباب تزايد الوعي بالحقوق السياسية عند الجمهور الواسع بسبب نمو الوعي والتعليم والتواصل مع الحضارة العصرية، ومنها نشوء طبقات وسطى تؤمن بجدارتها السياسية وتطالب بحقها في المشاركة في هذه السياسة· لكن أهمها على الإطلاق الافلاس المتفاوت لكن الأكيد لسياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وما تركه هذا الافلاس من مضاعفات على شروط حياة الأغلبية الساحقة من السكان ومن ضحايا الفقر والجوع والقلق والهامشية على قارعة النظام الاجتماعي، وبالتالي من توترات عميقة وانفجارية· ومنها كذلك زوال الحرب الباردة التي كانت تشكل الرحم الحامي لهذه الأنظمة ومركز التعبئة للجمهور والتغطية على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما مثله من تجربة أم تغذت بأوهامها العديد من الفئات والنخب الاجتماعية·

وفي البلاد العربية كانت مصر السباقة لإدراك الطريق المسدود للنظام شبه الشمولي الذي تعرض لهزتين عميقتين جسدتهما هزيمة يونيو 7691 في مواجهة اسرائيل ثم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر مؤسس النظام عام 0791· ومما شجع على التوجه الجديد نحو الانفتاح ضغط المسألة الوطنية والشعور بأن ايجاد حل للنزاع مع اسرائيل أو تجميد هذا النزاع لن يمكن من دون مساعدة أمريكية قوية ومستمرة· وهكذا جاء هذا الانفتاح في إطار إعادة بناء تحالفات مصر الدولية والاتجاه نحو تمتين العلاقات المصرية الغربية· 

وبالرغم من أن التحول التدريجي من نظام الحزب الواحد قد حصل منذ بداية السبعينات ومع مجيء حكم أنور السادات إلى السلطة في مصر، لم تهجر السلطة السياسية يوما واحدا الحزب الحاكم الذي غير اسمه وسياساته جميعا ليبقى في السلطة ويتحول إلى حزب الرئيس· ولم يتطور أي شكل من أشكال المشاركة السياسية للنخب المعارضة أو للمواطنين عموما في القرارات المصيرية· ولا تزال عملية التحويل تراوح مكانها منذ ثلاثين عاما مقتصرة على مظهر واحد من مظاهر الحياة السياسية الحديثة هو التعددية الشكلية، أي الاعتراف الرسمي ببعض أحزاب المعارضة والسماح لصحافتها بهامش لا بأس به من حرية التعبير· ولا تزال المواعيد الانتخابية، سواء ما تعلق منها بالانتخابات التشريعية أو الانتخابات الرئاسية تشكل إحراجا حقيقيا للسلطة القائمة، وتمارس في مناخ من الحرب الفعلية التي  تقف فيها أحزاب المعارضة في مواجهة الحكومة وحزبها بينما لا تتردد السلطة لحظة واحدة في استخدام جميع الوسائل التي تملكها لتهميش المعارضة وفرض أغلبية الحزب الحاكم· ويؤكد هذا السلوك واقع المحاصة التي يعيش فيها مسار التحول السياسي في أهم البلدان العربية وأكثرها خبرة سياسية· فعدا عن أن القاعدة الأساسية لتداول السلطة لم تستقر بعد لا يزال التلاعب بعملية التصويت العام وسعي السلطة لحرمان هذا الطرف أو ذاك من المشاركة الطبيعية يشكل عائقا كبيرا أمام ترسيخ التجربة التعددية وبث مناخ من التهدئة العامة والاطمئنان·

وقد بدأت الأزمة بصورة مبكرة في الجزائر أيضا عبر الحركات البربرية التي بدأت منذ الثمانينات تتحدى السلطة المركزية وتربط بين مطالبها الثقافية ومطالب الانفتاح السياسي والاعتراف بالتعددية· لكن لن يمنع ذلك من استمرار النظام كما هو حتى أيام الانفجار الكبير عام 8891 الذي دفع إلى الشارع آلاف الشباب للمطالبة بالخبز والحرية معا· وقد أصبح من المعترف به اليوم أن هذه الأزمة لم تكن مستقلة عن التمزق والانقسام الذي بدأ يدب في صفوف النخبة الحاكمة ذاتها والذي عبر عن نفسه علنا بعد أن قرر الرئيس القائم الشاذلي بن جديد الاستجابة لجزء من المطالب الاجتماعية وبدأ عملية انفتاح تدريجي للنظام عبر الاعتراف بالتعددية· وقد كان من الواضح أن هذه الخيارات لم ترق للنخبة العسكرية التي قررت إزاحة الشاذلي واستلام الحكم مباشرة منذ ذلك الوقت، في سبيل السعي إلى قطع الطريق على التغيير والالتفاف على الحركة الاجتماعية· وعندما لم تنجح المناورة السياسية عبر انتخابات كان من المفروض أن تهمش المعارضة الاسلامية لم يعد أمامها إلا اللجوء العلني والعاري للعنف والحرب·

هكذا انفتحت عملية الانتقال نحو التعددية على حرب أهلية لا تزال مستمرة حتى اليوم، ولا يزال الفريق العسكري الذي يتحكم بهذه العملية ويسعى إلى توجيهها بما يخدم مصالح الاستمرار في احتكاره السلطة يضع العراقيل أمام أي مبادرة تطرحها القوى الاجتماعية أو حتى رئيس الجمهورية نفسه للخروج من الأزمة· وقد استهلك العسكريون الجزائريون حتى الآن، أي في أقل من عشر سنوات من الالتفاف على استحقاقات التغيير السياسي، أربع رؤوساء جمهورية اغتيل بعضهم واضطر الآخرون إلى الانسحاب من الحكم قبل إكمال ولاياتهم، أما الخامس الذي يحتل قصر الرئاسة اليوم، وهو من القادة التاريخيين لجبهة التحرير التي صنعت الاستقلال، فهو يتعرض لهجومات علنية من قبل زعماء القيادة العسكرية، ولا أحد يعرف بعد فيما إذا كانت حرب المواقع الراهنة ستنتهي بتركه السلطة قبل استكمال ولايته هو الآخر أو أن مواجهته للوصاية العسكرية سوف يؤدي إلى عودة النزاع والاضطرابات إلى البلاد وفي داخل النظام كما يظهر من عودة المجازر العنيفة إلى مقدمة أخبار البلاد·

أما في العراق فقد كان عدم الاستقرار سمة مميزة للنظام حتى وصول صدام حسين لمنصب الرئاسة الذي نجم عنه تصفية منهجية لجميع القوى المترددة أو المغايرة داخل النظام وخارجه، والتي يمكن أن تشكل عناصر تشويش أو تهديد لاستقرار النظام· لكن ما كادت التصفيات السياسية بل والجسدية تنتهي حتى دخل النظام في حربين مدمرتين وضعت الأولى العراق في مواجهة ايران بينما حولته الثانية إلى دريئة لقوات التحالف الغربي والاطلسي التي سحقت كل ما تبقى في المجتمع والدولة من مرتكزات حضارية وتركت الشعب مجردا تماما أمام قوة النظام القمعية العارية·

وفي سورية بدأت الأزمة تعبر عن نفسها بشكل متفاقم بعد التجديد الفعلي لشباب نظام مريض في الحركة التصحيحية لعام 0791· فمنذ منتصف السبعينات أخذ النظام يتعرض لمعارضة قوية من قبل جميع الفئات والطبقات الاجتماعية، عبرت عن نفسها بالمطالبات بإلغاء المحاكم الاستثنائية والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية· وفي نهاية هذا العقد وبداية عقد الثمانيات الذي تبعه شهدت سورية أكبر أزمة عرفتها في تاريخها الحديث تجسدت بالمواجهة العسكرية الدموية بين النظام من جهة وبعض قوى التمرد الاسلاموي من جهة ثانية، راح ضحيتها عشرات ألوف المواطنين الأبرياء· وقد نجح النظام في استغلال هذه المواجهة للتغطية على أزمته السياسية والاقتصادية، والتمديد لنفسه أكثر من عقدين تاليين· لكن ثمن ذلك كان غاليا جدا، وهو إقامة نظام يحكم البلاد كما لو كانت مستعمرة أجنبية·

وفي اليمن واجه النظام الماركسي في الثمانينات أزمة مدمرة أودت بحياة الكثير من قادته وأفرغت الحكم من أي مصداقية وذهبت تماما بمصادره الشرعية· وكانت النتيجة أن اليمن الجنوبي أصبح جاهزا للالحاق باليمن الشمالي بما يعني ذلك من زوال الدولة وتحول النظام الذي كان قائما فيها إلى حزب معارض في الدولة الوحدوية الجديدة، بموقع أقلوي ووضع مشتت وهامشي·

أما في ليبيا فقد كان الوضع يبدو أكثر استقرارا بسبب الريع النفطي الكبير الذي يغطي على الطابع غير المنتج وغير العقلاني للنظام· لكن هذا الوضع بالذات، أعني الموارد الاستثنائية التي يتمتع بها هذا القطر بالمقارنة مع حاجات السكان، هو الذي دفع النظام إلى ممارسة سياسية عربية وإقليمية متقلبة ولا عقلانية قادته إلى الانحصار في الزاوية ووضعته أمام مأزق لا مخرج منه في مواجهة الدول الغربية المدعومة من دول إقليمية بدأت تنظر إلى النظام القذافي كمصدر للقلاقل وبث الفوضى وعدم الاستقرار· وهكذا سينتهي النظام الشمولي الليبي كنظام إرهاب دولي يخضع للحصار ويحاكم في النوادي الدولية كمسؤول عن تفجير الطائرات المدنية· ولن يكون وضع الشعب الليبي مختلفا عن وضع الشعب العراقي فيما يتعلق بممارسة حقوقه وحرياته الأساسية· فهو لا يخضع في حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحكم إرادة فردية فحسب، ولكن لحكم مزاجي لزعيم يعتقد أنه يتعرض للظلم بسبب اقتصار نفوذه على شعب صغير وفقير بينما لا يزال طموحه أن يلعب دورا في السياسة العالمية وأن يكون امبرطورا على تكتل ما من التكتلات الاقليمية·

لقد سارت ليبيا التي بدأت حياتها السياسية الحديثة بالمزاودة على الجمهورية والعداء للنظم البيرقراطية حثيثا نحو التفكك الاداري والسياسي  وغرقت أكثر فأكثر في وحل الفوضى المنظمة والتدمير المنهجي لأي بنيات سياسية أو فكرية خارج إرادة العقيد الذي نجح في أن يختصر في شخصه ويلغي في الوقت نفسه كل حياة سياسية أو فكرية ليبية وأن يقيم أكثر أشكال الحكم الفردي فظاظة ومزاجية ونفيا منظما للشعب ولحقوقه المدنية والسياسية معا·

وفي السودان كنست انتفاضة نقابية منذ منتصف الثمانينات أكثر الأنظمة الشمولية تهلهلا وتخلفا بعد أن حاول النظام النميري أن يجد لنفسه مخرجا عن طريق إدعاء زعامة دينية ولبس عمامة الأئمة والبدء بتطبيق ما يسمى بقوانين الشريعة الاسلامية· لكن النظام الانتقالي الجديد الذي حقق إطاحة النميري ونظم انتخابات تشريعية أعادت الأحزاب السياسية التقليدية إلى السلطة وعلى رأسها حزب الأمة لم يستطع أن يصمد أمام ضغط حركة التمرد في الجنوب وتهافت سياسات النخبة شبه الليبرالية القديمة· ولم تمض فترة طويلة قبل أن يستعيد الجيش السلطة لإعادة بناء نظام شمولي جديد بالاستناد مباشرة إلى قوى الجبهة القومية الاسلامية· لكن ليس هناك ما يميز هذا النظام المجدد أكثر من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار والانقسام منذ نشوئه حتى اعتقال حسن الترابي في يناير شباط 1002·

وهنا أيضا لم يسفر انفجار أزمة النظام التسلطي عن حركة انتقال جدي ولو تدريجي نحو التعددية، فلا تزال الفوضى إلى جانب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبين أحزاب المعارضة الشمالية المتحالفة مع قوات التمرد أو الانفصال والحكومة المركزية المعتمدة على الأحزاب الاسلاموية هي السمة السائدة في الوضع القائم في السودان· ولم تعش تجربة الحكم التعددي الليبرالي الذي أعقب حكم النميري العسكري في الخرطوم سوى سنوات قليلة نجحت الحركة القومية الاسلامية في وضع حد سريع لها باسم الدولة الاسلامية والشرعية الدينية·

أما نظام زياد بري الاستبدادي فقد قاد الصومال مباشرة نحو المجاعة والانفجار والحرب الأهلية والدمار· ولم توفر الأزمة النظم التسلطية في بقية بلدان المغرب العربي والخليج معا· ففي تونس التي كان من المتوقع لها أن تسلك طريقا ديمقراطيا واضحا بعد إبعاد الزعيم السابق الحبيب بورقيبة بسبب ما تتمتع به من مؤسسات قوية ونخب حديثة وتواصل مع الثقافة والبيئة الأوربية فقد شهدت بالعكس من ذلك أكبر انتكاسة في حياتها السياسية· وبدل الانتقال نحو ديمقراطية المشاركة السياسية حصل التحول من الحكم الاتوقراطي الفردي  إلى حكم الأجهزة الأمنية· وهذه الأجهزة هي، أيضا، المؤسسات الرئيسية التي لا تزال تتحكم في القرار السياسي وفي مصير المجتمعات في سورية والعراق منذ ما يقارب الأربعين عاما من دون أن تخضع في حكمها وسلوكها لأي حدود أو ضوابط قانونية·

لقد أدت المحاولة التي قادها الحزب الحاكم نفسه بقيادة رئيس الوزراء القائم أنذاك، زين العابدين بن علي لاخراج النظام الأبوي البورقيبي الذي شهد مرحلة طويلة من عدم الاستقرار والضعف من مأزقه إلى تجديد أسس النظام السابق مع التعويض عن الوجاهة والنفوذ الشخصيين الذين كانا يميزان حكم الرئيس الراحل بورقيبة بمزيد من تسلط الأجهزة الأمنية· ويحاول هذا النظام أن يغطي على أزمة السلطة الأحادية في حقبة التعددية العالمية الفكرية والسياسية وصعود رايات المجتمع المدني بعملية إشهار إعلامي واسعة النطاق وبتثمير متواصل وقوي لنتائج سياسته الاقتصادية المعتمدة على تعزيز الخيار الأوربي التبعي ولشبكة علاقاته الأجنبية·

وفي المغرب الأقصى بدأ النظام ذاته حركة المراجعة بعد الهزات الكبيرة التي تعرض لها  والعديد من المحاولات الانقلابية العسكرية التي كاد بعضها يودي بحياة الملك الحسن الثاني نفسه· وقد بدأت حركة المراجعة منذ التسعينات بفتح مفاوضات دامت سنوات عديدة مع المعارضة وانتهت بتشكيل حكومة التناوب الوطني وإدخال نخبة جديدة إلى الحلبة السياسية وفي إثرها تطوير سياسات وتوجهات وقيم جديدة أيضا، أكثر ديمقراطية واحتراما للشرعية والقانون· وقد رسخت وفاة الملك الحسن الثاني وقدوم خلفه محمد السادس الذي يبدو أقل تأثرا بالأفكار القديمة للحكم المطلق الفردي هذا المسار· 

أما في بلدان الخليج فإن الشعور بأزمة الأنظمة التسلطية ليس غائبا أيضا، بالرغم من البحبوحة الاقتصادية والمالية النسبية التي تعيشها هذه البلدان· وتحاول النظم القائمة أن تغطي عليها أو تلتف عليها بتشكيل مجالس استشارية هنا وهناك أو تفعيل بعض المجالس الاستشارية أو النيابية التي كانت قائمة في فترات سابقة كما حصل في بداية هذا العام 1002 في البحرين وربما قريبا في مسقط· لكن على جميع الأحوال، إذا كان بعض النظام والأمن والاستقرار لا يزال قائما في الكثير من البلاد العربية الأخرى فليس ذلك بسبب وجود نظام سياسي حي أو قادر على بلورة أي إرادة جمعية والتعبير عنها وتنظيمها بقدر ما هو ثمرة الاعتماد المباشر على فعالية الأجهزة الأمنية المدعمة من الخارج والمتماهية معه·

لكن الملاحظة الرئيسية التي تنطبق ربما على معظم حالات الأزمة الراهنة للنظم العربية، هو أن الشعور العميق بمخاطر الوضع لا يدفع نحو تغيير حقيقي في النظام· فلا يزال الاتجاه الغالب هو الميل إلى ترقيع النظم القائمة والهرب من مواجهة استحقاقات التغيير الجدية والسعي عن طريق التخيف النسبي من إجراءات القمع إلى التغطية على الأزمة السياسية· وربما ليس هناك ادراك عميق لضرورات التغيير واستحقاقاته إلا فيما يتعلق بسياسات النظم الاقتصادية·

هكذا لا تستطيع بعض الاجراءات التي تتخذها النظم العربية والتي تثير أحيانا الكثير من الحماس بسبب المناخ الجديد الذي تبعثه أن تغطي على واقع أن المنطقة العربية كانت في العقدين الماضيين من أقل المناطق الاقليمية في العالم تأثرا برياح التغيير القوية التي هزت المعسكر السوفييتي والاشتراكي سابقا كما هزت النظم العسكرية والديكتاتورية في معظم جنوب أمريكا وأفريقيا وآسيا، وأن خروجها من النظام السياسي التسلطي أو الشمولي لا يزال إشكاليا بالمعنى العميق للكلمة،  ولا تزال السلطة فيه، بالرغم من المظاهر السطحية، حكرا على فئات محددة من السكان والطبقات، كما لا يزال مفهوم المواطن ضعيفا لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتعرفوا على حقوقهم المدنية والسياسية فما بالك بالدفاع عنها أو المطالبة بها· وقد دلت التجربة على أن السلسلة الأولى من الاجراءات الانفتاحية التي تساهم في انعاش النظام لا تطرح مشاكل كبيرة على الممسكين بالسلطة، بل إنها تبدو لهم الطريق الوحيدة لانقاذ الحكم من الركود الاقتصادي والجمود السياسي الذي يهدد بأعظم المخاطر· لكن الأمر يختلف بعد ذلك عندما تنفتح عملية التغيير على إجراءات أو نوع من الاجراءات التي تتضمن حدا أدنى من تداول السلطة أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بجدارته السياسية·

 

2 - في جذور ضعف المشروع الديمقراطي العربي

ما الذي يفسر عدم قدرة المجتمعات العربية على تحويل أزمة النظم التسلطية التي استعرت منذ الثمانينات، مثلها مثل بقية النظم المماثلة في العالم، إلى عملية تفكيك لهذه النظم والانتقال نحو نظم ديمقراطية، كما حصل في العديد من بلدان الكتلة السوفييتية السابقة وبلدان أوربة الشرقية، ومن قبل في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية في ربع القرن الماضي؟

يعزوا العديد من الباحثين غياب المخارج الديمقراطية للأزمة، على عكس ما جرى ويجري في بلاد أوربة الشرقية والمجموعة السوفياتية السابقة إلى سببين رئيسيين· الأول هو سيطرة العقيدة والتقاليد الاستبدادية المرتبطة بثقافة سياسية اسلامية قديمة أو لم يتم تجديدها، ولا تزال تعمل عملها في سلوك المجتمعات واختياراتها السياسية· ومن هذا المنظور تظهر الحركات الاسلامية القوية وكأنها العقبة الرئيسية التي تحول دون هذا التحول الديمقراطي بقدر ما تخيف الأنظمة والطبقات الوسطى من أي نظام يقوم على الانتخابات الحرة والنزيهة التي تعني انتصار الاسلاميين وبالتالي إغلاق الباب نهائيا أمام الديمقراطية· ويعني هذا التفسير في الواقع أن الحركات الاسلامية هي ثمرة الثقافة الاسلامية فحسب، وليست جزءا من الحركات أو ردود الفعل التي يخلقها النظام القائم نفسه، أو ممارساته التسلطية والشمولية· وتبدو الثقافة الاسلامية من هذا المنظور ماهية ثابتة ومناقضة للديمقراطية في الجوهر بسبب ما تطبعه في الفرد من خصائص تدفع إلى الاعتماد على القوة الغيبية والتسليم لها ونبذ التفكير العقلاني وتشجيع التعلق بالأساطير·

والسبب الثاني يتعلق بالاستراتيجية الدولية أو معارضة القوى الكبرى الاستعمارية أو شبه الاستعمارية لأي تحول ديمقراطي في البلاد العربية، سواء أكان ذلك بسبب خوفها من سيطرة الاسلاميين أو القوميين الذين يعلنون عموما عداءهم للغرب، أو بسبب وجود مصالح حيوية كبيرة لها في المنطقة، وفي مقدمها الاحتياطيات النفطية الكبيرة وبقاء اسرائيل، وسعيها من أجل الحفاظ على مصالحها إلى الاعتماد على نخب تابعة لها تستطيع أن تتعامل معها بسهولة، وخوفها من وجود أي سلطة ديمقراطية تعكس إرادة المجتمع وبالتالي حرصه على الدفاع عن مصالحه في مواجهة السيطرة الأجنبية·

بالتأكيد يلعب التفسير السائد للاسلام اليوم، وهو تفسير محافظ ومعاد للغرب وقيمه الثقافية والسياسية معا، دورا مهما في تقليل فرض نمو الوعي الصحيح بشروط تكوين هذه البنية المفقرة وآفاق تغييرها، كما يلعب دورا كبيرا في عرقلة نشوء وعي ديمقراطي صحيح، أو في إبطائه أو تشويشه، خاصة عندما يظهر الديمقراطية بالنسبة لقطاع من الرأي العام وكأنها معادية للدين· وبالمثل تلعب الهيمنة الأمبريالية القوية استثنائيا في منطقة المشرق العربي دورا مهما أيضا في ترسيخ هذه البنية الافقارية بقدر ما تضيق من خيارات النخب المحلية وتردعها عن اتخاذ مبادرات مستقلة جريئة· لكنهما لا يفسران لوحدهما لا تفكك الوعي الديمقراطي القائم ولا الكساح البنيوي الشديد، وبالتالي لا يفسران التعثر الذي تواجهه عملية الخروج من النظم التسلطية والشمولية العربية وتفكيكها، وبالتالي انغلاق آفاق الانتقال نحو الديمقراطية التي تشكل كممارسة تاريخية موضوع تفكيرنا·

وبالعكس تدفع الفكرة القائلة بسيطرة الثقافة التقليدية إلى إضفاء الشرعية في الواقع على النظم التسلطية القائمة بقدر ما تربط مستقبل هذه الديمقراطية وقدرة المجتمعات العربية على الانتقال إليها بتغيير جذري في الثقافة، وتجعل من هذا التغيير شرطا لأي خطوة في اتجاه الحياة السياسية والفكرية الحرة· وقد قاد هذا التفكير ولا يزال إلى موقف يبرر استخدام القوة في سبيل تغيير الثقافة الدينية والاجتماعية ونشر ما يسمي بالعلمانية وبث الروح العقلانية والعلمية في المجتمعات العربية· أما الفكرة الثانية فهي تثبط همم أي قوى تغييرية وتدفع للاستقالة السياسية والمعنوية بقدر ما تروج لموضوعة خاطئة وخطيرة مفادها أن النخب المحلية غير قادرة على انتزاع أي هامش استقلالية في سلوكها في مواجهة قوى الهيمنة الدولية· وهي تفسر التبعية بصورة ميكانيكية وسطحية يفهم منها أن النخب التابعة لا عقل لها ولا إرادة خاصة ولا تقوم إلا بالتنفيذ الآلي والمباشر للأوامر التي تعطى لها وتطلب منها· والحال أن التبعية لا تعني العبودية بالضرورة، وليس هناك ما يمنع النخب المحلية، حتى تلك المعتمدة إلى حد كبير على الحماية الأجنبية للبقاء في السلطة، وليست جميعها كذلك، من أن تتخذ مواقف مستقلة وتبلور خططا واستراتيجيات مستقلة نسبيا عن استراتيجيات الدول الكبرى تهدف إلى خدمة أهدافها الخاصة· بل ليس هناك ما يمنعها من الوقوف في وجه بعض هذه الاستراتيجيات والأهداف الكبرى التي تريد أن تفرضها هذه الدول إذا كان ذلك يتعارض مع مصالحها· إن التبعية تفترض حسابات أدق للمصالح، توفق بين حاجات التحالف مع الدول الكبرى من جهة وحاجات الحفاظ على المصالح المحلية للنخب الحاكمة من جهة ثانية، بما في ذلك الحد الأدنى من الصدقية أمام الرأي العام المحلي· ولذلك فليس هناك تبعية كالاستعمار تلغي وجود النخب المحلية الحاكمة ومصالحها، ولكن التبعية، كل تبعية، تفترض علاقة معقدة ومرنة لتقاسم المصالح بحسب ميزان القوى القائم بين النخبتين المحلية والعالمية· فقد ترفض النخب التابعة القواعد العسكرية الأجنبية اليوم وتقبل بها غدا وقد تطالب بنظام عالمي اقتصادي جديد وتوقع بعد سنوات اتفاقات الشراكة المتوسطية بل الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية·

بالمقابل هناك في نظري مجموعتين من العوامل الموضوعية ينبغي التركيز عليهما وتحديد مضمونهما ثم معرفة الترابط والتفاعل الحاصل بالفعل فيما بينهما· الأولى تتعلق بصيرورة المجتمع نفسه وبتكوين الرأي العام· والثانية تتعلق ببنية الدولة ونموذج السلطة التي نشأت بعد الاستقلال وظروف ولادة هذا الاستقلال·

فالمجتمعات السياسية العربية هي بشكل عام مجتمعات شابة قليلة التجربة بالممارسة السياسية الحديثة حتى بالنسبة لدول نامية مثل دول أمريكا اللاتينية، ولا تزال تعيش في قسم كبير منها وتعتمد في إعادة إنتاج لحمتها وتضامناتها الداخلية إلى حد كبير على مؤسسات وهياكل وقيم قديمة ترجع إلى ماقبل السياسة الحديثة من أسرة وعائلة وعشيرة وطائفة وجيرة إلخ· أما الخبرة السياسية الحديثة، أعني العمل في إطار تضامن مواطني يجمع الأفراد من وراء انتماءاتهم وارتباطاتهم الأهلية الخاصة، فلا تزال ضعيفة جدا· كما أن الخبرة التي تراكمت خلال الحقبة الأولى من ممارسة الحياة السياسية الحديثة في منتصف القرن العشرين لم ولا تنتقل بسهولة وأحيانا لم تنتقل بتاتا إلى الأجيال الجديدة وحدث انقطاع كبير فيها· والذي ساهم ولا يزال يساهم في هذا الانقطاع في انتقال الخبرة وبالتالي في تراكم تجربة سياسية حية، بما تشتمل عليه من ممارسات نموذجية وتقاليد وتقنيات وقيادات وأصول هو الانفجار الديمغرافي الذي عرفته مجتمعاتنا في نصف القرن الفائت· وتكاد معظم المجتمعات العربية تتكون من أكثر من 06 وأحيانا 07 بالمئة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن عشرين عاما· وهذه النسبة الكبيرة من الشباب والوتيرة السريعة لتزايد الأفراد لا يولدان ضغوطا قوية جدا على الموارد الاقتصادية فحسب، ولكن أيضا على الموارد المعنوية والثقافية المحدودة أصلا· ولذلك فإننا نجد أنفسنا أمام أغلبية إجتماعية من الشباب الذين يفتقرون إلى أي شكل من أشكال التأطير الاجتماعي والتربية المدنية بل الاندماج المجتمعي، ولا يحظون بأي رأسمال رمزي وثقافي ذي قيمة، وهم بعيدون كل البعد عن الحماس للقيم والمفاهيم والمباديء والمعايير التي لا يزال يتمسك بها جيل الآباء· إنهم أغلبية كبيرة من فاقدي الهوية الحقيقية أو الذين لم تتحقق مواطنيتهم ولا توجد شروط أو احتمالات لتحقيقها، وليس لديهم أي مفهوم أو وعي بطبيعة موقعهم ودورهم وحقوقهم وواجباتهم الاجتماعية· إنهم بشكل عام غير مؤهلين ولا معدين ليكونوا أعضاء في مجتمع، وأن يشاركوا فيه، وأن يتفاعلوا معه·

وهذا الكم الهائل من الجمهور المفتقر للتأهيل والتكوين السياسي والمدني، أي المواطني، سيتحول إلى الخزان الواسع والهائل لكل الحركات التي ترد على مطالب فورية أو غريزية عند الشباب، سواء أكانت ذات طبيعة  مادية أو معنوية· فليس لديهم جهاز للتفكير العام ولإنضاج القرارات وللتفكير على المدى الطويل بل المتوسط· ولذلك سيصبحون بسرعة ضحايا سهلة للمجتمع الاستهلاكي الذي يغذيه البث التلفزي المتعدد النوافذ والمصادر· وسيصبحون أيضا ضحايا سهلة للنخب الحاكمة التي تستغل عطشهم وجوعهم لتحقيق الذات من أجل تجنيدهم لقاء بعض المزايا أو تحقيق بعض الرغبات في أجهزتها ومؤسساتها القمعية وتحويلهم إلى قاعدة يسهل التلاعب بها واستخدامها أداة للحكم والسيطرة· وسيصبحون كذلك ضحايا سهلة لحركات التمرد التي توعدهم بخلاص قريب من آفة الشعور باالفراغ المادي والروحي بل بانعدام الوجود والحق في حياة فردية واجتماعية طبيعية·  ومن الواضح أن هذه الكتل الكثيفة من الشباب المفرغين من أي قضية والمدفوعين نحو صراع مرير من أجل البقاء من دون أي رعاية فعلية أو شبكات أمان، لا يمكن أن تشغلهم أي قضية عامة ولا أن يستبطنوا أي مفهوم للشأن العام· فهم مدفوعين للبحث عن إشباع حاجاتهم المباشرة  والفطرية بالغريزة وحدها، وبعيدا عن أي معايير اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية· وكما أن من الصعب على الهياكل والبنى التقليدية الأسرية والعائلية والطائفية والقبلية أن تؤطرهم، بالرغم من استمرارها، فهم كذلك غير مؤهلين للانخراط في أحزاب مقاومة ديمقراطية ذات نفس طويل وممارسة مبدئية·

إن طريقهم الأسهل لاشباع حاجاتهم التي تتخذ هي ذاتها شكل الحاجات البدائية المرتبطة بتلبية الغرائز الطبيعية، بما في ذلك حب السيطرة ومراكمة المغانم والملذات والمنافع والأغراض المادية، واستراتيجيتهم المفضلة للهرب من الهامشية المدانون تتقاطعان مباشرة مع استراتيجية وأسلوب عمل أحزاب السلطة المنفعية والانتهازية· وهذا لا يعني أن جميع الشباب يفعلون ذلك، أو لديهم الفرص الكافية لتحقيق ذاتهم حتى في إطار استراتيجيات الاستخدام من قبل السلطات القمعية، وإنما يعني أن النظم التسلطية تنجح بسهولة وظروف تكوينهم ووجودهم على ما هي عليه في إخضاعهم لمنطق التنافس والمنافسة لتحقيق مكاسب فردية وتقضي لديهم على أي بذرة لتكوين إرادة تعاون وتضامن جماعية· إنها تطلق في صفوفهم ديناميكية الصراع والاقتتال على امتيازات محدودة، وتجبرهم على المزاودة في التنازلات والاستزلام والانتهازية فيما بينهم للوصول إلى أغراضهم· ولكن حتى عندما ينجح بعضهم في ذلك فإنه لا يصل إلى تحقيق ذاته إلا منزوع الكرامة وفاقد الشخصية والاعتبار، مما يحوله بسهولة إلى ممسحة وأداة طيعة في يد السلطة وأجهزة الأمن التي تستخدمه للتجسس على أترابه والصعود على جماجمهم· ومن هؤلاء تولد النخب الجديدة التي تحمل شعلة النظام وتقود تجديده· ولعل النظم الأكثر كاريكاتورية في ذلك هي النظم الشمولية التي تعطي لكل طائفة من الشباب امتيازات خاصة لتكرس غياب القانون في مقابل فاعلية الولاء والتبعية والاستزلام، ولتضمن خلعهم عن أي أخلاقية مجتمعية جمعية، وطنية أو طبقية· ومن المعروف أن بعض النظم تبني قاعدتها الاجتماعية من العناصر التي تستقطبها بهذه الطريقة أي من خلال تخصيص كل نوع من الممارسة الذي يكرس التبعية والولاء والاستزلام بمزايا واستثناءات· فللطالب الحزبي مثلا استثناءاته من القانون والقاعدة أو حصته من الامتيازات عند الدخول إلى الجامعة أو المسابقة التعليمية أو التقدم للوظيفة· ويوعد الشباب الذين يقبلون المشاركة في بعض النشاطات الحزبية أو النقابية الحزبية بوظائف ومناصب معينة وتخصص مواقع محتكرة لبعض الفئات وتقصر المنح والبعثات والتعيينات والمهمات على جماعات بعينها من دون غيرها· وليس هناك كبير أمل في أن تظهر هذه النخب الجديدة المجيشة بهذه الطريقة، والتي تشكل الجيل الثاني من النخب الحاكمة اليوم في البلاد العربية ميولا أكبر نحو الديمقراطية والتعددية والانفتاح على الآخرين· إنها تنزع بالعكس من ذلك إلى الانتقام من كل العناصر الشريفة وغير الانتهازية، التي ترى فيها خصما كامنا لها، حتى عندما لا تظهر أي معارضة واضحة· وهي بعكس الجيل الأول من النخب الحاكمة لا تملك أي مفهوم للسياسة والدولة والمصالح العامة، وتعتقد أن احتكارها للامتيازات وسطوها على الموارد العامة هو تجسيد لحقها الأصيل فيها· إنها تنظر إلى هذه الموارد كما لو كانت ميراثا خاصا انتقل لها من آبائها من الجيل الذي سبقها· إنها لا تطرح على نفسها أي سؤال عن سلوكها الاستئثاري واستهتارها بالمصالح والحقوق العامة· فوجودها في مواقعها أمر طبيعي وسعي الآخرين إلى إزاحتها عنها هو الذي يستحق الضرب والعقاب لأنه ينكر حقا مكتسبا وإرثا مشروعا·

لكن فيما وراء ذلك، يقود الانقطاع عن التاريخ والعالم معا، والعزل الذي تمارسه السلطات الشمولية ذاتها للمجتمع عن دورة المناقشة العالمية إلى تدمير للوعي العمومي ذاته في جميع قطاعات الرأي العام· ويتجلى هذا التدمير في الوعي السياسي العربي على مستويين متكاملين: مستوى الوعي النظري الذي يشكل الرأسمال المتراكم، أي مجموعة الأدبيات المرجعية في الممارسة السياسية للمجتمع، ومستوى الوعي العملي الذي يشكل الرأسمال الحي، أي مجموعة القيم والتوجهات والميول التي تحرك الجمهور في الممارسة السياسية اليومية وتحكم سلوكه· وليس لهذا التدمير علاقة كما يشاع عادة بسيطرة الوعي أو القيم القديمة والثقافة السياسية التقليدية· فليست الثقافة التي تسيطر على المجتمعات العربية، في نظري اليوم، لا من حيث هي رأسمال متراكم ووعي نظري ولا من حيث هي منظومات قيم سلوكية ، ثقافة تقليدية، ولكنها ثقافة حديثة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولو أن هذه الثقافة توجد هنا على شكل شديد التشويه أحيانا ومليء بالثغرات والنقائص والتأويلات الخاصة، أي كثقافة سياسية حديثة رثة ومفقرة في مضامينها الأساسية· وهذه الثقافة هي التي تتحكم بقراءة الناس وفهم التراث والتقاليد العملية والنظرية بما في ذلك النصوص الدينية· وهي التي تفسر طبيعة التأويلات الثوروية أو الانقلابية في الدين التي تسود اليوم في المجال السياسي· وضعف نضج الرأي العام وافتقاره إلى ثقافة سياسية حديثة يعكس انعدام الجهد المبذول من قبل النخب المحلية في سبيل تكوين هذا الرأي العام كما يعكس شروط الحصار الذي فرضته النظم القائمة عليه كي يبقى بعيدا عن تيارات التطور الفكري والسياسي العالمية·

أما مجموعة العوامل الثانية المتعلقة بالدولة فهي تتعلق بالبنيات الأساسية الإدارية والسياسية والقانونية التي تحدد الاطار العام لممارسة الناس وحدود اختياراتهم الممكنة والآفاق المفتوحة أمامهم· وفي اعتقادي أنه ليس لهذه البنيات أساس أو منطق آخر سوى إرضاء حاجات النخب التي سيطرت على الدولة لتمكين سيطرتها وتعزيز سلطتها وضمان البقاء إلى أطول فترة ممكنة في موقع الحكم· وتكفي الاشارة إلى أن جميع النخب الحاكمة اليوم في البلاد العربية قد استلمت السلطة بالسيطرة المباشرة، إما بمناسبة خروج القوى المحتلة وبالتفاهم المسبق معها، أو بسبب اعتمادها مشروعية تاريخية لم يعاد النظر فيها أو تجديد أصولها كما في بعض الملكيات والمشيخات، أو بمناسبة انقلابات عسكرية· ولم تعتمد أي منها في صعودها إلى سدة الحكم وفي تجديدها لنفسها في هذا الحكم على أي مشاورة جدية وحقيقية للمواطنين، وإلا تزال ترفض أن تطرح وجودها وبقاءها في السلطة، لا بل سياساتها اليومية، لأي استفتاء أو استشارة أو موافقة شعبية· فهي لا تقبل بأي شكل أن بمبدأ أن تربط استمرارها في السلطة بموافقة أو قبول الرأي العام، وتطلب أن ينظر إليها على أنها حقيقة قائمة تماما كما أن الشمس والقمر حقائق أو ظواهر قائمة وغير مطروحة لأي نقاش ولا يمكن توجيه أي مساءلة لها أو اعتراض· ولا تساهم بنية السلطة السياسية القائمة على إنكار السيادة الشعبية واعتماد مبدأ الأمر الواقع كقاعدة للتعامل السياسي في تسهيل فتح الحقل السياسي من قبل الدولة· بل إن فتح هذا الحقل يعني في هذا السياق إنكار منطق الوصاية الحقيقي الذي يجكم تفكير النخب الحاكمة وممارستها، والاعتراف بوجود حقوق للأفراد، وبأن السلطة مسألة اجتماعية لا واقعة طبيعية، وبالتالي يمكن طرح سياساتها وأساس البقاء فيها وطريقة ممارستها للنقاش والتفاوض عليها ومن حولها·

وربما كان أفضل اسم يطلق على هذه السلطات السياسية العربية ويعبر عن طبيعتها العيمقة هو مفهوم السلطة الاستيلائية، بالمعنى القديم للكملة، أي التي تتحقق بسبب وعبر الشوكة والقوة المادية والعسكرية المحضة، ومن دون السؤال، أي سؤال عن رأي الأغلبية الاجتماعية أو الانشغال بقبولها أو رفضها· فهي سلطة الأمر الواقع· ومن الصعب على سلطة الأمر الواقع أن تطور أي تفكير في التعددية وأن تفهم مضمون ومعنى التحولات الديمقراطية باعتبارها تجسيدا لإرادة جمعية، بل من تنمية أي شعور بالمسؤولية العمومية· كما أن من الصعب لها أن تتطور  وتتبدل وتغير نفسها أو تخرج من تقاليدها، وهي لا تتغير إلا بالانهيار من الداخل أو بفعل عوامل خارجية· وأفضل ما يجسد غياب منطق التحول والتطور والتغير فيها هو الثبات الأسطوري الذي ينبغي أن يحظى به ممثلها الأول وزعيمها· فرئيس الدولة في النظم السياسية العربية لا يتغير ولا يحول ولا يزول حتى ينتهي أجله، وإذا مات دفع النظام تلقائيا أحد أبنائه ليحل محله· وهناك العديد من النظم السياسية العربية المرشحة كما هو معروف لوضع الأبناء محل الآباء· فهذا الحلول بالمعنى الحرفي للكملة هو البرهان على انعدام أي منطق للتغير والتحول والتطور داخل النظام، والتأكيد على ما يلفه من هوس الثبات والاستمرار والاستقرار·

وبالعكس، تخضع النظم السياسية المستندة إلى منطق الاستشارات الشعبية، حتى لو كانت ناقضة أو مزورة في بعض الأحيان لتغيرات حقيقية لأنها تكون حساسة لتنامي الضغوط الاجتماعية· بل إن النظم السياسية لا تتطور في الواقع إلا بقدر ما تتضمن اعترافا ولو جزئيا في البدء بصدور السلطة عن الشعب، وترفض مبدأ قدسية الرئيس أو الزعيم وملكية السلطة أو الأهلية الخاصة بالسلطة والحكم· أما في البلاد العربية فالاستشارات المحدودة التي تتم ليست حقيقية وإنما هي تغطية شكلية على قرارات وتشكيلات جاهزة الصنع· وغالبا ما تكون نسبة المصوتين في الانتخابات وعدد الأصوات مقررين  مسبقا قبل بدأ العمليات الانتخابية·

وهكذا تلتقي نقاط الضعف الكبيرة التي تميز مجتمعاتنا المتفجرة والمتحولة بسرعة تفقدها السيطرة على نفسها وتأهيل أجيالها الجديدة مع بنية سلطة استيلائية تفرض نفسها كأمر واقع وترفض أن تخضع نفسها لأي محاسبة وطنية أو اجتماعية· وبينما سمح ضعف المجتمع البنيوي التقليدي بنمو دولة الاستيلاء فإن هذه الدولة ذاتها لا يمكن أن تعيد انتاج نفسها وتستمر في البقاء إلا بقدر ما تعمل على قتل الامكانيات والفرص التاريخية للعمل والمبادرة  داخل المجتمعات وتدمر شروط تنظيمها ووعيها معا حتى تجعلها عاجزة عن إفراز القوى القادرة على التغيير الذاتي· وهذا المثال ينطبق على المجتمعات العربية كما ينطبق على المجتمعات التي كانت متخلفة عموما· ولولا دعم الاتحاد الأوربي لدول المجموعة السوفيتية واحتضانها اقتصاديا وسياسيا  لكان مصيرها قريب من مصير البلاد العربية، أعني انهيار النظام الشمولي من دون أن يؤدي إلى نشوء ديمقراطية، والسير إما نحو الفوضى والخراب السياسي كما هو الحال في بعض الدول ومنها أفغانستان والصومال واليمن الجنوبي، أو عودة النظام الشمولي بشكل جديد·

وبعكس ما يسيطر على بعض الأذهان من افتراضات محدودة الأهمية في نظري، لا أعتقد أن هذه البنية الخاصة بالسلطة الشمولية هي ثمرة دعم الدول الأجنبية والاستعمار، أو أن الاستعمار عامل كاف لتفسير نشوئها واستمرارها، بالرغم من أن الحرب ضد الاشتراكية قد ساهمت بتحويل النموذج السوفييتي من نموذج شعبي إلى نموذج بيرقراطي· إن الأمر مرتبط بشروط نشوء الدولة الحديثة في مجتمع متأخر نسبيا ولم يطور بعد آليات حماية نفسه وتعزيز قدراته في مواجهة الامكانيات الهائلة التي تقدمها الدولة الحديثة لتدعيم الاشراف والسيطرة والتحكم والنفوذ داخل المجتمعات· فحصل أمر يشبه ما يحصل إذا وضعنا محركا انفجاريا حديثا هائل السرعة على هيكل حنطور، أي عربة قديمة من تلك التي كانت تجرها الأحصنة· فلم تنمو الدولة هنا نموا تدريجيا موازيا لنمو المجتمع الذي أنشأها ونشأت فيه، ولكنها جاءت تماما كأي تقنية حضارية من خارج بنياته· وكان لا بد لاستمرارها من أن تدمر هذه البينات وتحل محلها· ولا يعني هذا أنه كان علينا أو نرفض الدولة، أو نصادر التاريخ، ولا أدرى من كان يمكن أن يقف أمام ذلك، لكن المقصود هو أن التحرر من الاستلاب الذي أحدثه دخول الدولة الحديثة إلى المجتمع وخلق فرص تكون الطبقة الدولة يستدعي فهم حركة الواقع، وهو شرط تجاوزه·

وفيما يتعلق بالبلاد العربية، لعبت عوامل خاصة دورا إضافيا في تدعيم بنية السلطة الاستيلائية وبالتالي تعزيز احتمال إعادة إنتاج النظام التسلطي  أكثر من العديد من مناطق العالم الأخرى، ولو على أسس مختلفة·

ومن أول هذه العوامل عامل الثروة الريعية الكبيرة التي ميزت حقبة ما بعد الاستقلال· فقد استفادت البلاد العربية من مصادر ريعية كبيرة وهامة نتيجة تصدير النفط ولا تزال هذه المصادر الريعية تشكل فيها أهم مورد من مواردها والعامل الرئيسي في تأمين استمرار المجتمعات الاقتصادي· وقد عملت هذه المصادر، في ظروف انعدام البنية الصناعية المتينة والادارة الحديثة، وبصرف النظر عن طريقة توزيعها، على قطع الطريق على التطوير العقلاني والموضوعي للمؤسسات والممارسات العامة ومنظومات القيم· وقد ساهمت بذلك في ترسبخ أسس الدولة الريعية التي تحظى النخب الحاكمة فيها بموارد مستقلة كبيرة تمكنها من الاستغناء عن المجتمع بل تجعل منها المرضعة لهذا المجتمع مقابل تنازله عن حقوقه السياسية والمدنية· وهو ما يفسر تطور السلوك الأبوي والعشائري لهذه النخب في إطار الدولة الحديثة واعتمادها المتزايد على منطق الزبائنية وتجاوز أي نموذج حياة سياسية وقانونية سليمة· كما يفسرالنمو  المفرط للعديد من القيم والسلوكات السلبية مثل الميل إلى التبذير والهدر وسيطرة النزعة الاستهلاكية واحتقار العمل أو تخفيض قيمته على حساب الاثراء السريع، وغياب روح الاستثمار العقلاني والمراهنة على علاقات القربى السياسية والتحاق النخبة الاجتماعية بالدولة والسلطة وانعدام الجدية والتساهل أمام الفساد والفوارق الخطيرة بين الطبقات·

وقد ساهم هذا الريع النقطي الكبير أيضا في تعميق التناقضات والتوترات الاجتماعية بقدر ما عمل على تعميم أنماط الاستهلاك الريعية الخليجية على عموم أفراد النخبة العربية· ولم يكن أمام النخب المالكة والحاكمة، أي أصحاب الثروة وأصحاب السلطة، من حل لتوسيع قاعدة نفوذهم وثروتهم والوقوف في وجه المطالب الاجتماعية المتزايدة التي جعلها الانفجار السكاني مطالب صعبة التحقيق سوى التفاهم والتحالف في سبيل إغلاق كلي وكامل للحقل السياسي· وهذا ما عمم نموذجا متشابها للحكم في البلاد العربية وجعل من الممكن بالفعل الحديث عن منظومة عربية واحدة ومندمجة موحدة للتسلط والطغيان·

ومن هذه العوامل ثانيا، سيطرة الشعبوية على عمل النخب الاجتماعية بما في ذلك في موقع المعارضة· فقد نشأ النظام المجتمعي الحديث لهذه البلاد، مثل العديد من البلاد النامية، في ظروف تاريخية محددة، هي ظروف التحرر من الاستعمار وما أحدثه من امال وبثه من قيم ومطالب اجتماعية تتعلق بتحقيق الحرية والعدالة والمساواة والتنمية واللحاق بالدول الصناعية· وقد سعت النخب الحاكمة التي أدركت منذ البداية عجزها عن تلبية هذه المطالب والرد على التوقعات الشعبية الكبيرة والامال العريضة إلى تجاوز الهوة العميقة بين الشعارات المرفوعة والممارسات المحدودة النتائج وأحيانا المعدومة الفعالية عن طريق تشجيع الشعبوية، أي الغوغائية الوطنية التي لا تقوم لا على محاسبة فعلية ولا على تحقيق أهداف وبرامج واضحة وحقيقية· إنها عرس دائم وتماه مستمر بين الشعب والقيادة من خلال الشعار وبالشعار وللشعار· وهذا ما يفسر كيف تحولت الوطنية والقومية فيها في النهاية إلى شعار، وأصبح مقياس التقدم في الحركة القومية وانجازاتها قائم في استعار الصراخ وارتفاع الصوت والمزاودة في الشعارات· ومن هنا أيضا اتخذ الصراع والتنافس بين مختلف النزعات القومية في البلاد العربية صيغة حرب الشعارات ولم يخطء مرة ليصبح تنافسا على تحقيق الانجازات·

وتعكس الشعبوية التحقيق الوهمي لمتطلبات وأهداف وطنية وقومية يبدو تحقيقها في الواقع بعيد المنال· وقد سمح ذلك للنخب الحاكمة بالتغطية على مسؤولياتها وتجنب الاعتراف بأخطائها وإخفاقها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وفي مقدمها تحدي الصراع العربي الاسرائيلي· وهكذا صار بإمكانها أن تستخدم هذا الصراع كوسيلة لتبرير الحفاظ على السلطة ومنع التغيير الديمقراطي بدل أن يكون إخفاقها في تقديم حلول جدية له مصدرا لمناهضة مبدأ احتكار السلطة والمسؤولية ومنطلقا لإشراك الشعب بشكل أكبر في القرارات الوطنية· لقد نجحت النخب الحاكمة بفضل الشعبوية في إرضاء الشعب بعبارات وطنية طنانة وجوفاء مقابل ممارسات انهزامية في العمق واستسلامية في الواقع· وهو ما يعكسه، مع استثناء وحيد في بداية السبعينات، غياب أي استراتيجية رسمية عربية بموازاة نمو التفوق الاسرائيلي حتى لا نتحدث عن استراتيجية مواجهة اسرائيل بالفعل وتحرير الأراضي المحتلة· وهكذا أمكن بالفعل تحويل قضية فلسطين إلى مصدر دائم للتوتر والاثارة والابتزاز الداخلي والخارجي لا يزال يشوش إن لم يمنع من تطوير أي نقاش وطني جدي وعقلاني للمسائل العديدة والخطيرة، الاقتصادية والسياسية والثقافية، التي يفرضها تطور المجتمعات العربية وتنميتها·

ولا تزال هذه الشعبوية التي توفر على النخب الحاكمة والمعارضة معا السعي الجدي والشاق إلى ايجاد حلول عملية للمشكلات المطروحة، تحكم إلى حد كبير الممارسة الجماعية العربية، بالرغم مما أظهرته من لافاعلية وخسارتها جميع المعارك التي خاضتها منذ الاستقلال، معركة مواجهة الصهيونية، ومعركة التنمية والتصنيع ومعركة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ومعركة بناء الدولة القومية والقانونية والارتفاع فوق الولاءات العصبوية ومعركة بناء الفرد بالتربية والتعليم· وتتميز الشعبوية بطموحات كبيرة جدا وفعالية ضعيفة جدا مما يجعل منها مصدرا مستمرا للاحباطات والانكسارات· ذلك أنها تجمع بين إرادة تأكيد الذات والاستقلال الكامل والسيادة، وبين الممارسة الشعاراتية والعاطفية المفتقرة للعمل الجدي والمنظم  والعقلاني طويل المدى· إنها تريد كل شيء وفي الوقت نفسه، ولا تملك أي قدرة على التخطيط للمستقبل·

إن مجموع هذه العوامل الاجتماعية والسياسية، الموضوعية والذاتية،التي حكمت تكوين النظام المجتمعي العربي ورسمت بنياته المختلفة هو الذي يفسر نجاح النخب الأقلية بسرعة في وضع يدها على الدولة والموارد الوطنية وتثميرها لصالحها وبهدف ارتقائها الاجتماعي والدولي فحسب، واستمرارها بالرغم من التغير الكبير الذي حصل في العقدين الماضيين على الصعيد العالمي والمحلي وأزمة النظم الشمولية المفتوحة، في الحفاظ على سلطانها والتمديد لنفسها في السلطة·  وبالمثل، إن هذه العوامل التي دعمت سلطة النخب الأقلية ومكنتها من مواجهة المجتمع هي نفسها التي عملت على إضعاف فرص نمو قوى ديمقراطية حقيقية وقوية قادرة على استغلال فرص أزمة النظم التسلطية لإحداث نقلة في الحياة السياسية للمجتمعات· ومع غياب مثل هذه القوى يصبح من الطبيعي بل من الحتمي أن لا تقود الأزمة إلى تحول نوعي في النظام ولكنها تدفع جزءا من القوى الحاملة له إلى إعادة بنائه من وجهة مصالحها ومنظوراتها الخاصة·

وتتجسد أزمة الانتقال نحو الديمقراطية في البلاد العربية اليوم، أكثر من أي عامل آخر، في هشاشة القوى الديمقراطية التي يمكن المراهنة عليها للسير بعملية التغيير السياسي والتحويل الاجتماعي· وتتجلى هذه الهشاشة من خلال غياب التنظيمات الديمقراطية الحقيقية، وغياب القواعد والتقاليد والممارسات الواضحة والثابتة التي تميزها وتهيكلها، واقتصار الدعوة للديمقراطية على مجموعات صغيرة من اليسار السابق، وهي المجموعات التي تستخدمها في أغلب الأحيان من أجل إعادة تثمين نفسها في الساحة السياسية، أكثر مما تنظر إليها كبرنامج سياسي حقيقي للتحويل الاجتماعي· ويخدم تبني الديمقراطية كوسيلة للاستفادة من الانفتاحات الجزئية التي تدفع إليها أزمة النظام أو من الطموح إلى بناء تحالفات دولية جديدة· مما يعني أن  هذه القوى لا تزال متلقية تستفيد من الانفتاحات المحدودة التي يضطر إليها النظام أكثر مما تساهم في خلقها· وبالعكس، لا تزال الأجيال الجديدة الشابة التي لم تدجن بعد عن طريق الاضطهاد والقمع والارهاب غير مؤمنة بهذه الانفتاحات ولا حتى بمعنى الديمقراطية· إنها فريسة لمشاعر اليأس، وهي تريد تحويلات جذرية وسريعة·

ومن الصعب الحديث عن وجود خيار ديمقراطي حقيقي بعد في البلاد العربية مع غياب قوى ديمقراطية قوية ومنظمة، بينما تنزع الدعوة الديمقراطية السائدة إلى أن تكون الرأسمال الثقافي الجديد الذي تثمره النخبة اليسارية والليبرالية المهمشة في التنافس الجديد المفتوح بسبب الأزمة على السلطة·

إن السبب الرئيسي لإخفاق عملية التحول الديمقراطي في العديد من الأقطار العربية لا يرجع إلى مسائل ثقافية بقدر ما هو تعبير عن تضافر بنيات اجتماعية وسياسية وثقافية عملت على غياب أو تغييب القوى الاجتماعية والسياسية المنظمة القادرة على استغلال أزمة النظم التسلطية والشمولية، وبالتالي إلى افتقار الحركة إلى قوة دفع حقيقية· وعندما نتحدث عن قوى اجتماعية وسياسية منظمة فنحن نتحدث في الوقت نفسه عن الوعي الذي يميز هذه القوى ويرشدها، كما نتحدث عن مجموعة الممارسات التي تميزها وتحدد هويتها ومنهج عملها وقدرتها على الحركة والانجاز·

فوجود مثل هذه القوى شرط لتحويل أزمة النظام التسلطي إلى مدخل لبدء عملية تحويل ديمقراطية بدءا من تحقيق التعددية السياسية والفكرية· وليس من الضروري أن تكون هذه القوى موجودة في المعارضة· فمن الممكن كما حصل في الاتحاد السوفييتي أن تأتي من داخل النظام نفسه·  كما أنه ليس من الضروري أن تكون هذه القوى المدفوعة إلى تفكيك النظام قوى ديمقراطية الهوى والعقيدة والممارسة· إذ من الممكن تماما أن تكون مختلفة عنها، بل معادية للديمقراطية بجميع معانيها الاجتماعية والسياسية·

ومن هنا أعتقد أن المجتمعات العربية تعيش عموما مرحلة تفكيك النظم الشمولية والتسلطية ولم تدخل بعد بشكل جدي في إشكالية الانتقال الديمقراطي· وبسبب غياب قوى ديمقراطية حية ومنظمة، انتهت مرحلة تفكيك النظم في معظم البلاد العربية بإعادة تركيب النظم الشمولية أو التسلطية على أسس جديدة، وورثتها النخب ذاتها· ولم تكن إعادة التركيب هذه، كبديل عن التفكيك، لصالح الانفتاح السياسي دائما ولم تجلب نظما أكثر تسامحا وقانونية· ولم تتم جميعها من دون حروب أهلية مدمرة وخسائر كبيرة· وفي بعض البلاد العربية لا تزال آثار فشل هذا التفكيك بارزة في استمرار العنف وتوطن الحركات التمردية الانتقامية في الجبال والمناطق المعزولة· وما نستطيع أن نستنتجه من تجربة العقدين الماضيين هو أنه بالرغم من وجود قوى داخل النظام مستعدة للانخلاع عنه والوقوف مع حركة التحولات الديمقراطية إلا أن من الصعب المراهنة في هذه المرحلة على الأقل على هذه القوى لإطلاق العملية· مما يعني أن إنجاز مهام تفكيك النظام التسلطي والشمولي العربي سوف ترتبط بمهام الانتقال نحو الديمقراطية وتتوقف بالتالي على عمل القوى الديمقراطية ذاتها وبالتالي على بناء هذه القوى خارج النظام· وحتى يتحقق ذلك، تظل الأوضاع التي نعرفها اليوم والتي تتميز بانسداد الآفاق وانعدام فرص المبادرة الداخلية والخارجية وضيق ذات اليد في جميع المجالات هي السائدة والمرشحة للاستمرار·

 

3 - تعزيز فرص التحولات الديمقراطية في البلاد العربية

 إذا كانت الديمقراطية عملية انتقال طويلة المدى تختلف عن عملية تفكيك النظم التسلطية في أنها بناء ايجابي لنظام جديد يحتاج إلى مواد وموارد وأساليب ومناهج عمل مختلفة كليا عن الموارد والوسائل التي يحتاجها تفكيك النظم الراهنة، وأنها عملية تستمر إلى ما بعد قيام التعددية وإقرار الانتخاب العام الحر، وتتجاوز ذلك بكثير، فإن الدفع في اتجاهها، ولا نقول تحقيقها، يحتاج إلى عمل واع ومنظم طويل النفس لا يمكن أن يكون إلا من طبيعة سياسية، أعني يتجاوز الوعي ونشر الوعي نحو العمل المنظم والمثابر والجمعي لتغيير الواقع بالقوة الاحتجاجية والتنظيمية والنظرية معا· ويتضمن قيام أي حركة سياسية عنصرين أساسيين ومترابطين : - بلورة رؤية واضحة ودقيقة لمشروع التحول الديمقراطي المطلوب وطبيعته وأهدافه وغاياته والقيم المرتبطة به وسمات الانتقال الخاصة  وبرنامج العمل المطلوب في كل مجتمع على حدة، وهي شرط لولادة عقد اجتماعي جديد بين النخب السياسية والجمهور، ثم  - بناء القوى السياسية القادرة على حمل هذا البرنامج وتحقيقه· ومن دون بلورة هذه الرؤية وتحديد الاختيارات الكبرى الأخلاقية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وصوغ استراتيجية واضحة للتحالفات الداخلية والخارجية التي تضمن تعديل ميزان القوى في المجتمع لصالح الخيار الديمقراطي لا تكون الديمقراطية خيارا وحركة ومسارا وإنما دعوة فكرية في أحسن الأحوال أو في أحيان أخرى أداة للدعاية وإضفاء المشروعية على نشاط خصوصي لا علاقة له بها، رسمي أو فئوي، كما هو الحال اليوم في جميع البلاد العربية تقريبا·

ويستدعي التقدم على طريق خلق فرص أفضل للتحول الديمقراطي تحقيق خمس مهام رئيسية·

الأولى تطوير ثقافة ديمقراطية جديدة· إن ضعف الانجاز الديمقراطي في بلادنا العربية يرجع أولا إلى ضعف إن لم نقل غياب الوعي النظري والواضح بما هية الديمقراطية المطلوبة أو المنشودة في مجتمعاتنا، وليس في المطلق، وتحديد مضمونها وتبيان المخاطر التي ترتبط بالصراع من أجلها في الوقت نفسه· فلا يعني الوعي هنا مجرد الايمان بالديمقراطية أو بشعارها أو معرفة معناها البسيط ومضمونها، ولكن امتلاك نظرية خاصة بها في ظروف المجتمعات العربية وكل مجتمع منها وشروط حياته الخاصة، أي وعي بالمضمون الاجتماعي والأخلاقي الذي تتخذه الديمقراطية وتتضمنه عملية الانتقال نحوها وشروط تحقيق هذا المفهوم الخصوصي للديمقراطية في الأوضاع الخاصة، واستراتيجية الوصول إليها وبرنامج العمل من أجلها والرؤية الدقيقة للمهمات التي يتوجب إنجازها وتكوين القوى القادرة على المبادرة فيها وإحداث التغيير· وهذه النظرية لا يمكن أن توجد جاهزة أو أن تؤخذ من التراث أو أن تستمد من الخارج ومن الأدبيات العامة أو التجارب الأخرى· إنها هي جوهر المساهمة الخاصة لكل نخبة مجتمعية، ولا يمكن أن تكون إلا ثمرة جهدها الذاتي· وهذا يعني أن وجود هذه النظرية مرتبط بجهد ملموس وعمل لا بد أن يبذل· إن ضعف الوعي الديمقراطي الراهن أو تشتته وعدم اتساقه نتيجة فقر الثقافة السياسية عموما في مجتمعاتنا وضرب الحصار الفكري الدائم عليها هو الذي يفسر انحصار الاهتمام بالديمقراطية في بعض الأوساط الثقافية أكثر مما يفسره جمود الوعي التقليدي أو سيطرة الوعي الديني أو المخيلة الاستبدادية المستمرة·

والمهمة الثانية تأمين موارد مادية ومعنوية جديدة لا حياة لأي حركة سياسية من دونها· فلعل أكثر العوامل التي ساهمت في تقزيم القوى الديمقراطية الحية في المجتمعات العربية هو حرمانها، مثلها مثل جميع الحركات السياسية والاجتماعية الأخرى، من الموارد المادية والمعنوية، وقطع صلتها بالمحيط الدولي الواسع الذي يؤمن لها مصادر دائمة لتجديد المفاهيم وتوسيع التحالفات وتعزيز الموارد· وتدخل في إطار استراتيجية الحصار والتضييق على الحركة السياسية الديمقراطية وغير ا لديمقراطية في البلاد العربية تشكيك النخب الحاكمة بجميع أشكال التضامن والمعونة الخارجية التي يمكن أن تتلقاها المنظمات السياسية والمدنية·  وليس من الممكن تطوير قوى الديمقراطية من دون ايجاد حل لمشكلة فقر الموارد هذه وذلك إما عن طريق تعزيز آليات تأمين موارد داخلية، أو عربية أو عالمية· وبالرغم من أن هذه المعونة قد تكون فرصة للتدخل الخارجي أو للتلاعب السياسي أو للتجارة الفردية، إلا أن من الخطأ صرف النظر نهائيا عنها خشية من مخاطرها أو خوفا من الابتزاز الذي يحتمل أن تمارسه النظم تجاه الحركات الاجتماعية· ولا ينبغي لخطء ترتكبه بعض الفئات المستفيدة من مثل هذه المعونات أن يبرر حرمان الحركات الاجتماعية والسياسية العربية من جميع المعونات الخارجية· وعندما نقول خارجية فنحن لا نقصد بالطبع موارد حكومية· فالعالم اليوم لم يعد حكرا على الحكومات بل توجد فيه قوى ديمقراطية قوية مستقلة تماما عن حكوماتها ومعارضة لها قادرة على أن تقدم مساعدات ومعونات مهمة للحركات الاجتماعية الضعيفة في البلاد النامية· لكن يبقى الأهم من ذلك هو ابتداع آليات تسمح بتوفير موارد ذاتية ومحلية لما يرتبط بذلك من تعزيزمشاعر التضامن والتكافل داخل المجتمع نفسه·

والثالثة هي الكفاح اليومي من أجل إصلاح المؤسسات الرسمية والاجتماعية· فليس هناك أمل في التقدم على طريق الديمقراطية، بل الحكم السياسي الحقيقي، بعكس الحكم الهمجي القائم على السيطرة بالقوة وفرض الإذعان، من دون العمل على تدعيم مؤسسات الدولة القانونية وتحريرها من الاستعمار الحزبي أو العشائري أو الزبائني أو العائلي· فليس من الممكن في إطار المؤسسات التي نعرفها الآن في العديد من الأقطار العربية تنمية أي من قيم الديمقراطية، لا الحرية ولا العدالة ولا المساواة ولا التضامن ولا التكافل ولا الاحترام المتبادل ولا التداول السلمي والمعاملة القانونية· ففي الكثير من الحالات نجحت النخب الحاكمة، وفي سبيل تأبيد حكمها والتغطية على سطوها على الموارد الوطنية، في تفريغ هذه المؤسسات من محتواها الحقيقي بدءا من الدولة والقانون إلى المؤسسات المهنية مرورا بالمجالس النيابية والمؤسسات الإدارية· فلا تفتقر مجتمعاتنا للموارد المادية والمالية و التقنية فحسب ولكن أيضا للموارد البشرية والسياسية والفكرية وأكثر من ذلك للقواعد الادارية والتنظيمية التي تضبط عملها وتثمره· وهذا الافتقار يجعل الحركة بطيئة وصعبة ومحدودة· تماما كتلك الالة الهرمة التي تخر من كل مكان وليس في محركها إلا قطرات معدودة من الوقود· إنها لا تستطيع أن تتقدم لا في اتجاه الديمقراطية الفاعلة ولا في اتجاه الاستبدادية الناجعة· إنها مشلولة تماما وليس أمامها أي خيار·

هذه المؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أورثتها للمجتمعات النظم القائمة والتي تعين حدود الهامش التاريخي المتاح وطبيعة القوى والأدوات والوسائل والرساميل التي تستطيع أو يمكن للمجتمعات أن تعتمد عليها لتحقيق أي مشاريع عمل جديدة، هي التي ينبغي تغييرها حتى يكون من الممكن إطلاق ديناميكية تنمية ديمقراطية سليمة ومستمرة في عالم قد تغير تماما وبيئة دولية تتسم بالانفتاح الواسع والمنافسة الشديدة والصراع بين الأمم والشعوب على الموارد كثيرها وقليلها من دون تمييز·

ولا ينبغي تأجيل معركة تغيير المؤسسات وإصلاحها إلى ما بعد انتصار الحركة الديمقراطية، ولكن لا بد من العمل على مستوى هذه المؤسسات والدوائر لتحقيق هذا الاصلاح الذي يشكل هو نفسه رافعة للعمل الديمقراطي· إن إعادة إحياء المواطنية أو بناءها يبدأ من العمل اليومي وعلى مستوى هذه المؤسسات على تأكيد أولوية القيم القانونية والأخلاقية وتطهير الدولة ومؤسساتها والهيئات البلدية والمجالس المحلية والمؤسسات الاجتماعية كافة من سيطرة قيم الزبائنية والمحسوبية والكسل واستغلال النفوذ والاستهتار بالمصلحة العامة واحتقار الإرادة الشعبية·

 والمهمة الرابعة بناء العقيدة السياسية الجامعة أو الاجماع الوطني وهو يعني إعادة النظر في الاختيارات المجتمعية· فليس الخراب المدني والسياسي الذي تعرفه المجتمعات العربية اليوم النتيجة المباشرة لاستمرار البنيات الاستعمارية وإنما هو ثمرة الممارسة التاريخية للعرب أنفسهم أو بالأحرى لنخبهم التي عبرت عن خلاصة وعيهم واختصرته في الحقب السابقة· وعندما نتحدث عن ممارسة فنحن نعني اختيارات واعية ومرتبطة بإرادة محددة وليست مفروضة ولا موروثة ولا عشوائية· إن هذا الخراب وانعدام الآفاق الناجم هو نفسه عن انعدام الوسائل وفقر الموارد المادية والمعنوية والتقنية هو ثمرة خيارات ثقافية وسياسية واقتصادية وجيوسياسية حكمها منطق واحد هو الارتقاء بنخبة اجتماعية صغيرة إلى مستوى البرجوازية العالمية على حساب مجتمع كامل· وقد أدت هذه الاختيارات أهدافها بالفعل· فبقدر ما تجد نخبنا الحاكمة نفسها في قمة الهرم الاجتماعي العالمي، ذات موارد مادية ومعنوية تمكنها من الاندراج في السوق العالمية، وهي مندمجة تماما الآن، تجد مجتمعاتنا نفسها مفتقرة لأي وسيلة لمواجهة التحديات الجديدة، الوطنية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أي تجد نفسها من دون رأسمال ماديا كان أم ثقافيا يسمح لها بالمشاركة في النشاط الحضاري العالمي بل يمكنها من المحافظة على البقاء·

والمهمة الخامسة، وهي تجميع لكافة المهام المذكورة وتثمير لها في قوة متحركة فاعلية على الساحة السياسية، لا وجود لتحول ديمقراطي من دونها، فهي مهمة بناء قطب ديمقراطي تعددي وحي والخروج من الرؤية الأحادية للواقع وتعلم استيعاب التعددية الفكرية والتنظيمية، والمراهنة في تعزيز القوة المنظمة للديمقراطية على تشجيع التحالفات وشبكات الدعم والتضامن على حساب التنظيم السياسي الحديدي الجامد، وبالتالي العمل من منظور بناء قطب ديمقراطي واسع تعددي يضم قاعدة اجتماعية عريضة ويجمع تنظيمات سياسية وجمعيات أو جماعات وأفراد يوحد عملهم ونضالهم الايمان المشترك بمباديء الديمقراطية وأخلاقياتها كنظام سياسي واجتماعي· وهذا يعني أنه لا ينبغي النظر إلى التنظيم السياسي على أنه أداة تكوين القوى الاجتماعية كما لو كانت هذه القوى لا وجود لها من دونه، ولكن كوسيط يجمع بين قوى اجتماعية موجودة ومتعددة وينسق نشاطاتها ويوحد أهدافها· وهذا هو الطريق الوحيد في مجتمعاتنا لتحويل الديمقراطية إلى خيار مجتمعي، أي إلى قاسم مشترك ونقطة لقاء بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية والقوى السياسية· وهذا يعني أيضا الالحاح على ضرورة تشجيع ممارسات وتقاليد ديمقراطية داخل الأحزاب والجمعيات المدنية، سواء فيما يتعلق بتحديد الاختيارات أو اتخاذ القرارات أو انتخاب القادة وأصحاب المسؤولية· فبقدر ما تنمو هذه التقاليد على مستوى الحركات والجمعيات والتنظيمات الفردية تزيد من فرص تكوين اتحادات وتجمعات واستقطابات واسعة، ذلك أن التوسع مرتبط بوجود قاعدة ديمقراطية لحل الاختلافات في الرأي والنزاعات والتوترات داخل أي منظومة مهما كان نوعها بالطرق السلمية ومع الاحتفاظ بوحدة المنظومة وتعدديتها معا، أي بقوتها وابداعيتها في الوقت نفسه· إن الخروج من ضيق الاستراتيجيات الحزبية والتفكير في تكوين منظومة القوى الديمقراطية ينبغي أن يكونا على قمة جدول أعمال جميع التجمعات والهيئات والمنظمات الطامحة بالفعل إلى تغيير حقيقي·

 

وبعكس ما تفيده النظريات الاجتماعية السائدة لاتشكل البنيات الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية ولا أنماط التفكير التقليدية حواجز لا تقاوم وعوامل لا تتحول تخضع المجتمعات لتأثيرها وحيد الجانب وتفرض عليها البقاء في مكانها أو جمودها· أنها تشكل أدوات ورساميل في أيدي هذه المجتمعات التي تستطيع أن تعيد النظر فيها أو تستبدلها ببنيات من نوع جديد عندما تشعر بالحاجة لذلك وعندما تتوفر لديها الامكانات لتحقيق ذلك· وعندما لا تتوفر مثل هذه الامكانيات تنحو المجتمعات إلى إعادة بناء المؤسسات القديمة ذاتها وتحويرها بما يمكنها من الرد على الحاجات  والوظائف والتحديات الجديدة·

إن مسار التحولات الديمقراطية مرتبط في المجتمعات النامية أكثر من أي مجتمعات أخرى بقدرة القيادة السياسية التي تتصدى لهذه التحولات على بلورة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتماشى مع قيم الديمقراطية وتتسق مع اختيارها كإطار سياسي وقانوني للعمل الجمعي· وبلورة الاختيارات مرتبطة هي نفسها بطبيعة القيم التي نريد لهذه الاختيارات أن تخدمها، أي بنموذج المجتمع الذي نريد أن نعيش فيه أو نريد له أن يكون مجتمعنا· ومن الواضح أننا لانزال في هذا المجال في ضياع مطلق، ولا تزال الشعارات في تعارض شامل مع الواقع· فنحن نتحدث كثيرا عن العدالة والتكافل والمساواة والاشتراكية  بينما نستمر في العيش في مجتمعات تمثل نموذجا فجا للتفاوت الطبقي وللتمايز بل للتمييز العشائري والعائلي والمهني والأسري· وبالرغم من إعلاننا الدائم عن رفض النماذج الغربية والتعلق بالأصالة والأصولية فليست هناك مجتمعات تتسم بنزعة مبالغ فيها للاقتداء والنسخ عن الغرب وتفتقر للحلول الابداعية الخاصة بها وتتخبط في أحذية المجتمعات الأكبر منها أكثر من مجتمعاتنا· فليس من الممكن الحديث في بلادنا لا عن نموذج اسلامي ولا عربي ولا غربي ولا شرقي· إن السمة الغالبة هي اختلاط القيم جميعا وغياب روح النموذج ذاته·

 فعلى المستوى الثقافي تغلبت اختيارات الاعتماد على الخارج واستيراد العلم والتقنية على بلورة قطب داخلي للتربية الحديثة والانتاج العلمي والتقني· وعلى المستوى الاقتصادي ترددت هذه الاختيارات بين الانفتاحية الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية من جهة والانغلاق البيرقراطي والتهميش الذاتي الذي قطع البلاد عن موارد التطور الرأسمالي والتقني· وعلى المستوى السياسي ترددت النظم بين الممارسات التسلطية العقيمة الجامدة والأبوية والممارسات الشعبوية الغوغائية الباحثة عن مصادر للشرعية أكثر من بحثها عن تحقيق أية أهداف جدية· وفي الحالتين كانت النتيجة أحادية فكرية وسياسية مفقرة· وعلى المستوى الجيوستراتيجي ساد اختيار التنمية القطرية والوطنية على مشروع بناء كتلة واسعة إقليمية·

ومن الواضح في نظري اليوم أن إعادة بناء نموذج توجيهي للمجتمع في البلاد الفقيرة لم يعد ممكنا إلا بمراجعة ونقد نموذج الحياة السائد في المجتمعات الصناعية وفرض هذه المراجعة على هذه المجتمعات نفسها· إذ ليس من الممكن أن يكون هذا النموذج موضوع تعميم شامل على العالم· فلا الامكانيات والموارد تسمح بذلك، ولا البيئة قادرة على تحمل العواقب الوخيمة لتعميم مثل هذا النموذج· بل إن مثل هذا التعميم يعني لا محالة الكارثة·

 

نتائج

كل هذا يظهر لنا بأن الديمقراطية ليست وصفة جاهزة ولا نظاما ناجزا يكفي أن ندمر النظام الشمولي الذي نخضع له حتى يظهر للعيان· إنه نظام غير موجود في أي مكان بشكل جاهز ولكنه يحتاج في كل مرة وكل مجتمع إلى البناء· وبناؤه يستدعي مبادرات وسياسات أساسية نسميها انتقالية ولا يستغنى عنها لضمان الوصول إلى الهدف· وبشكل عام ليس من الممكن الوصول إليه إلا إذا ارتبط مسار الانتقال نحو الديمقراطية بايجاد أسس صالحة لمواجهة التحديات الموازية التي تعيق التحول الديمقراطي، وهي تحديات ثقافية (تغيير منظومات القيم وثقافة الاقتداء والتسليم والاعتراض السلبي والقيم الدينية والطائفية والتمييز والفردية الأنانية وغياب اللحمة الوطنية)، واجتماعية واقتصادية ومؤسساتية·

فتوطين الديمقراطية يحتاج إلى العمل على المفهوم النظري أولا وتقويمه وتنزيله على التاريخ والمجتمع، كما يحتاج إلى تطوير منظومات القيم الانسانية وجعل احترام الانسان وتقدير عمله ونشاطه وتقديس حرية ضميره قيما مشتركة وأساسية· وهو يحتاج أيضا إلى تطوير مؤسسات سياسية، وفي مقدمها القضاء والادارة وأحهزة الدولة السياسية والمجالس البلدية والمحلية التي تعنى بمصالح المواطن وتعكس المسؤولية تجاهه وتقبل المحاسبة أيضا على أعمالها، سواء أكانت سياسية أو عسكرية أو إدارية أو إقتصادية· وهو يحتاج كذلك إلى بناء الإطار الجيواقتصادي الذي يضمن الاندماج في دورة التقدم الاقتصادي العالمية من دون إضاعة فرص الاعتماد على الذات وتعظيم الموارد الداخلية وتطوير الاستثمارات الوطنية، كما يحتاج إلى بناء الاطار الجيوسياسي الذي يضمن الأمن والسلام ويؤمن بالتالي الاستقرار الضروري لتقدم مسيرة التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي معا·

باختصار إذا كانت المجتمعات العربية لم تدخل بعد مرحلة النظم الديمقراطية الحقيقية التي يمكن تلخيصها في أربعة أركان : ممارسة السلطة العمومية من قبل ممثلين منتخبين في انتخابات حرة وعامة، أي الاعتراف بالسيادة الشعبية، وتكريس دولة القانون التي تضمن احترام القانون وتطبيقه بالتساوي على جميع أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وتأمين العدالة الاجتماعية من خلال نظام للتكافل والتصحيح يضمن تجنب تهميش الأغلبية الاجتماعية ثقافيا وسياسيا، وضمان الحريات الفكرية والسياسية والتنظيمية، وإدراة مسؤولة وكفؤة، فذلك لأن الديمقراطية لم تطرح بعد في أي قطر عربي كمعركة رئيسية للتحويل الاجتماعي أو لتحويل المجتمعات بالعمق، وإنما كمطالب لتوسيع هامش الحرية والمبادرة لفئات محدودة من النخب الاجتماعية· وهي لم تطرح بعد بجدية لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية· ولا يزال المنهج الذي تعالج به في الأوساط العلمية والسياسية العربية والعالمية معا، عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات العربية، هو المنهج >الستاتيكي< تماما· سواء  أكان ذلك من قبل من يسمون أنفسهم  أصحاب المنهج التحديثي أو الديني· فالفريق الأول يسعى إلى الكشف عن فرص الديمقراطية العربية من خلال المقارنة بين الثقافات والكشف عما إذا كانت الثقافة العربية الكلاسيكية تتحمل القيم الديمقراطية أو تؤمن بها أم لا· فتظهر الديمقراطية هنا كأنها عنصر جامد موجود أو غير موجود في ثقافة ما، وأنها فكرة تولد نظاما إذا وجدت·  فالعالم حضارات وكل حضارة لها قيمها وتقاليدها، والحضارة الغربية ديمقراطية بالولادة لأنها علمانية، والحضارة العربية لا ديمقراطية لأنها لا تفصل بين الدين والدولة، إلخ هذا الكلام السطحي فعلا· ومعظم الغربيين والعرب الحديثيين يأخذون بهذا المنهج الثقافوي المفقر الذي عممه الأمريكيون بسبب سيطرة الانتروبولوجية الثقافية هناك، وغياب السوسيولوجية التاريخية ، وذلك نتيجة لطبيعة المجتمع الأمريكي ذاته من حيث هو قارة قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها في نمط عملها وتفكيرها إلى حد كبير، ومن حيث هو واحة للتعددية الثقافية والاقوامية·

أما الفريق الثاني من أصحاب النظرية الدينية أو المنهج الالهي واللاهوتي للتاريخ والمجتمع، فيناقش مسألة الديمقراطية من حيث هي منسجمة مع الاسلام أو غير منسجمة معه· وهم في الواقع يصلون إلى النتائج ذاتها التي يصل إليها الفريق الأول بالرغم من اختلاف العقائد، لأنهم ينطلقون من القول بوجود حضارات مختلفة ولكل منها خصائصها ومنظومات قيمها وتوجهاتها الخاصة·

 والغائب في هذين المنهجين الثقافويين السائدين اليوم للأسف هو الانسان نفسه، أي الانسان كوعي فاعل وكإرادة وقدرة على التأمل والتفكير والتحكم ببيئته، ومن خلال ذلك على اكتشاف وفهم أنماط التنظيم الجديدة والكشف عن المتسق والناجع منها وطرح غير الناجع، أي عن الانسان كمسؤول ومؤثر في بيئته، سواء أكانت بيئة ثقافية أو بيئة حضارية أو دينية أو طبيعية·

وهم يتجاهلون معا أيضا أن الديمقراطية، مثلها مثل أي فكرة وممارسة اجتماعية، نبتة تاريخية، نشأت ربما في حضن مدنية معينة في المرحلة الأولى لكن شيئا لا يربطها ربطا حتميا ولا نهائيا بهذه المدنية وإنما هي ثمرة حضارية تشارك فيها جميع المدنيات، تماما كما أن الكمبيوتر نشأ في حضن المدنية الغربية لكن شيئا لايمنع الصيني والعربي والأفريقي من ادراك القيمة العلمية والنجاعة العملية لهذا الاكتشاف ويقبل عليه ويطمح إلى السيطرة على تقنيته ويكون من أكثر الناجحين في العمل عليه كما هو الحال اليوم في الهند حيث أفضل المبرمجين يأتون من هناك·

وطالما ليس هناك وجود لديمقراطية جاهزة ولا ناجزة ولا نموذجية في أي مكان، فكل بناء لديمقراطية محلية هو تجربة تاريخية خاصة وابداعية· وككل تجربة ابداعية يستدعي النجاح فيها تشغيل المخيلة وتجنب الحلول المطروقة والمعروفة واكتشاف الآليات الناجعة في الظرف الخصوصي والمعين· فهي مسار اجتماعي تاريخي، وككل مسار من هذا النوع، تشكل عملية التحويل الديمقراطي سيرورة صعبة ومعقدة تحتمل التقدم والتراجع والفشل والنجاح· فإعادة توزيع السلطة في أي مجتمع من المجتمعات ليست قضية نظرية ولا ايمانية ولا ثقافية ولكنها تستدعي معركة حقيقية ذلك لأنها تمس مصالح فئات وطبقات حية وموجودة على الساحة وقادرة على الحركة والقتال للدفاع عن مكتسباتها· وتكريس الحريات السياسية ليست مسألة أخلاقية أو قيمية، ولكنها مسألة مرتبطة مباشرة بالتوزيع المادي للموارد، فمتى ما تمكن المواطنون من حرياتهم السياسية صار بإمكانهم الاعتراض على الاستخدام الاحتكاري لهذه الموارد من قبل نخبة دائمة وقائمة، سواء أكانت ارستقراطية ملكية أو ثورية جمهورية·

إن مستقبل الديمقراطية في البلاد العربية يتوقف على وجود قوى اجتماعية تتطابق مصالح تحررها وارتقائها مع قيم الديمقراطية وقواعد عملها وبالتالي على المضمون الاجتماعي الذي سنعطيه لهذه الديمقراطية كما يتوقف على وجود قيادة سياسية وفكرية  حية قادرة على إدارة معركة التحول الديمقراطي واستغلال جميع الفرص المتاحة لقلب موازين القوى وإعادة بناء الخريطة الاجتماعية السياسية على أسس جديدة أكثر إنسانية·

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

مراجع:

أصبحت الأدبيات العربية في مسألة الديمقراطية لا تحصى، لكن من المفيد الاطلاع على بعض المراجع التي تشير إلى تطور مسار التفكير الديمقراطي العربي ومنها:

- برهان غليون، بيان من أجل الديمقراطية، ط1 دار ابن رشد، بيروت 7791

- أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، بحوث ومناقشات ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 4891

- المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، بحوث ومناقشات ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2991

- التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي، بحوث ومناقشات ندوة منتدى الفكر العربي، عمان 9891

- التجارب الديمقراطية في الوطن العربي، ندوة منتدى الفكر والحوار، الدار البيضاء، 1891

- حول الخيار الديمقراطي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 5991

- حوار من أجل الديمقراطية، مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، دار الطليعة، بيروت 6991