اسلام اون لاين: مشروع للمقاومة ضد الديكتاتورية والحملة الامريكية

2003-09-29 :: اسلام أون لاين

 هادي يحمد

2003-09-29

* بعد حوالي ستة اشهر من سقوط بغداد واحتلال العراق كيف تنظرون الى المشهد السياسي العربي ؟

*  اعتقد ان سقوط بغداد الذي هو الحدث الاخير الكبير الذي شهدناه في الاشهر الماضية يكرس ويؤكد انهيار النظام العربي، أقصد بالنظام صيغة التنظيم العام وتوازنات القوى والمصالح التي سادت في المجتمعات العربية منذ الاستقلال. فقد أظهرت هذه الصيغة فشلها في تقديم حلول ناجعة لمشاكل العرب، سواء ما تعلق منها بحماية استقلالهم وسيادتهم أو تأمين فرص تحسين شروط حياتهم المادية والمعنوية ودمجهم في النظام العالمي، بل حتى في الرد على الحاجات الاساسية التي ركزت عليها حركات الاستقلال التي نادت بشعارات محاربة الفقر والجهل والمرض وبنت على هذه الشعارات شرعية كفاحها ضد الحكم الأجنبي. وسبب فشلها  أنها لم تكن قادرة على خلق علاقات تواصل وتعاون ايجابي بين الافراد داخل المجتمعات بينما عممت الفساد والعجز وانعدام الثقة والانقسام الطبقي والمذهبي والاجتماعي معا.

لقد كان سقوط هذا النظام معبرا جدا ليس بسبب ما قدمه من قرينة لا تدحض على عدم صلاحية هذا النوع من النظم المجتمعية المليء بالثغرات والنقائص ولكن أكثر من ذلك لأنه هو المفتاح لفهم ما نعيشه اليوم في العالم العربي من فوضى ناجمة عن انهيار القواعد والأسس التي بني عليها تنظيم المجتمعات خلال القرن الماضي من دون أن تنشأ في مقابل ذلك قواعد جديدة وقبل أن تتبلور في مواجهة هذا النظام القوى والمباديء والقيم التي تستطيع أن تستبدله بنظام أرقى.

فالمجتمعات العربية تعيش اليوم حالة من الفوضى المعممة. فوضى فكرية تتجلى في التخبط النظري الذي تعيشه، وفوضى دينية تظهر عبر التاويلات والصراعات والاجتهادات المتناقضة والمختلفة التي تتقاذف جمهورنا الواسع. وفوضى سياسية تبرزها التوترات والصراعات والنزاعات بل الحروب الأهلية وتنامي العنف من دون أن تكون هناك آليات معروفة ومقبولة لامتصاص الصدمات وتسهيل عقد التسويات بين المصالح والتيارات المتنافية. وليس من المبالغة أن نقول إنه لا توجد عندنا اليوم  قواعد واضحة ومقبولة لممارسة الحكم  والتعاقب على السلطة.  وبدل المشاركة تسود حياتنا العمومية مظاهر العنف والقمع والمناورة السياسية. وفوضى اقتصادية يعكسها التفسخ المتزايد في قطاعاتنا العامة وتخبط قطاعاتنا الخاصة وتشوه بنياتها وسيطرة روح المضاربة على نشاطاتنا الانتاجية.  ونحن لا نفتقر إلى خطة اقتصادية ناجعة فحسب ولكن أكثر من ذلك إلى آفاق تنمية اقتصادية فعلية قائمة على أسس إقتصادية سليمة وعصرية وقادرة على التفاعل مع المعايير الدولية للانتاج والاقتصاد العام. وفوضى استراتيجية يعكسها تهافت وزن العرب العسكري وتراجع مواقعهم الاقليمية والعالمية في مواجهة الدولة الاسرائيلية وسياستها الاستيطانية التوسعية ومواجهة الضغوط الخارجية العسكرية والسياسية. وفي ما وراء ذلك الافتقار لأي  مخطط او جدول أعمال زمني لمواجهة جميع هذه التحديات الخارجية الخطيرة التي نواجهها.  وأنا اقول اننا نشهد اليوم أمام أعيننا عملية تشييد إسرائيل ثانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى جانب إسرائيل عام 1948 من دون أن تكون لدينا أي إمكانية لوقفها أو لوضع حد لها.  أخيرا نحن نعيش أيضا فوضى في العلاقات بين البلدان العربية. فلم يعد للجامعة العربية دور واضح تقوم به ولا قدرة على التدخل الناجع لوقف تدهور الموقف العربي وتكاد تفقد جميع مقومات الحياة. ولا احد يدري على اي اساس هي مستمرة.

 باختصار لم يعدهناك اليوم معايير واضحة تحكم المجتمعات العربية في اي ميدان من ميادين الحياة وتنظم مسارها ونشاطاتها. إن ما يعيشه العالم العربي اليوم هو حالة من الفوضى والتسيب الذين يقودان لا محالة إلى حال  من تعدد الصراعات والانقسامات.

 

* امام حالة الفوضى هذه هل نستطيع القول ان المجتمعات العربية في حالة الهزيمة الكلية ؟

*  لا طبعا.  ففي الرد على حالة الفوضى التي هي شكل من أشكال الازمة  العميقة تنتج المجتمعات اشكالا متعددة من المقاومة. ومنذ نهاية السبعينات أظهرت المجتمعات العربية مقاومات قوية ومتعددة الأشكال ضد الاستبداد. ونشأت في معظم المجتمعات العربية حركات اجتماعية وسياسية داخلية باسماء مختلفة وبايديولوجيات مختلفة هدفها الحد من الطغيان : طغيان الحزب وطغيان الطبقة وطغيان ة وطغيان العشيرة وطغيان الطائفة وطغيان العائلة. لكن معظمها قد أخفق في تحقيق أهدافه بسبب التحالف الموضوعي وأحيانا الذاتي بين النخب الحاكمة وقوى الهيمنة العالمية.  وينبغي أن نعترف أن  المجتمعات العربية فشلت فعلا في ان تنتج نوعا من التحول الديمقراطي ولو البسيط. وهكذا ما كان من الممكن توقع شيء آخر سوى تنامي فساد النخب الحاكمة وتزايد نظم القهر وأدواته وبالتالي تفاقم مظاهر الفوضى والاقتتال. وبدل المقاومة السياسية والسلمية التي تبنتها قوى التغيير العربية في الثمانينات وما ارتبط بها من مبادرات للتسوية السياسية للنزاعات الاقليمية سوف تشهد المنطقة انفجارا لا حدود له للعنف وتتحول القنبلة البشرية إلى السلاح الأمضى في يد الشعوب العربية المهانة والملوعة بالاحتلال والاستبداد في الوقت نفسه.  ولا تكاد وسائل الصراع ضد نظم الاستبداد تختلف كثيرا عند هذه الشعوب عن وسائل الصراع ضد المحتل الأجنبي. فكلاهما يعتمدان خطا جهاديا واستشهاديا يعكس الصعوبة القصوى التي تواجهها قوى التغيير في تحقيق أي إنجاز أو فرض الاصلاح أو التغيير. وهو ما يجعل حالة الفوضى والانهيار تستمر وتتفاقم.

ويطرح هذا الوضع مسألة إعاد تشكيل الواقع العربي الوطني والاقليمي كما لم يحصل في أي فترة من قبل. ويتنافس على تحقيق إعادة التشكيل هذه مشروعان متناقضان كل التناقض: مشروع للوضع العربي مسألة التغيير كما لم يحصل في أي فترة سابقة من تاريخ العرب الحديث. ويتنافس على هذا التغيير مشروعان : مشروع خارجي يرد على حاجات الهيمنة الدولية ويستجيب لمصالح الدول الاجنبية ومشروع تغييير داخلي لاعادة التشكيل تقوم به قوى وعناصر وجماعات ومثقفين لا يزالون مشتتين ويمارسون سلطة ومقاومة مجزئة ومفتتة وفي مستويات مختلفة. ففي بعض المناطق تتركز المقاومة ضد الاحتلال وفي بعض المناطق الاخرى ضد النظم الشمولية وفي مناطق اخرى تتركز ضد أدوات سيطرة محددة وتهدف إلى انتزاع مكاسب وحريات عامة وخاصة.

والمقصود أن جوهر ما نعيشه اليوم في إطار هذه الفوضى هو الصراع بين مشروع للتغيير الداخلي ومشروع للتغيير الخارجي. ولم يحسم الامر بعد لأننا لا نزال بعيدين عن بلورة خط واضح لمقاومة شاملة ايجابية قوية ومنسقة وقادرة على اعادة تشكيل الاوضاع العربية من داخل المجتمعات العربية. بل يكاد الأمر يبدو كما لو أن المجتمعات العربية تميل إلى الاستسلام  أمام المشروع الوحيد المطروح وهو المشروع الامريكي الرامي إلى تحقيق التغيير من الخارج. وليس من الممكن وضع حد للحملة الأمريكية التي لن تطول قبل أن توحد خلفها قوى غربية وعالمية أخرى من دون أن ننجح في بلورة خط واضح للتغيير الداخلي وفي بلورة قوة قادرة وقوية ومنظمة وعلى درجة من الانتشار تمكنها من ان تقود عملية تحويل حقيقي للعالم العربي من الداخل لتقطع الطريق على التغيير الخارجي الذي لا يمكن أن يكون إلا حسب مصالح القوى الخارجية ولحسابها.

 

*  دكتور غليون انت تتحدث عن فوضى المنطقة العربية وحالة التسيب والانهيار وكاننا امام انظمة مؤهلة للسقوط غدا. و الحال ان هذه الانظمة وعلى ضوء المصلحة الامريكية ذاتها مؤهلة لان تتواصل وتبقى لسنوات طويلة قادمة وربما لخمسين سنة اخرى؟

*  انا لا اعتقد ان الامور ستستمر لما هي عليه لخمسين سنة اخرى. فما سيحصل هو احد امرين: اما ان مشروع التغيير الخارجي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية سوف يحقق مكاسب في السنوات القليلة القادمة وبالتحديد في السنتين المقبلتين بعد الاتفاق بين امريكا واوروبا. لان مشروع التغيير من الخارج لا يمكن ان يتقدم الا ضمن وصول امريكا واوروبا الى تفاهم. فالذي يعيق التغيير الخارجي هو انعدام التفاهم بين امريكا واوروبا المهتمتين بالمشرق والمغرب العربيين بشدة، أقول إما أن ينتصر مشروع التغيير الخارجي وتنجح الدول الكبرى المعنية في إعادة تشكيل المنطقة من وجهة نظر مصالحها وبالتالي في إلحاقها بالاستراتيجية الغربية أو أن المقاومات العربية المشتتة والمتضاربة تتنامى وتنضج بشكل أكبر لتشكل قوة قادرة على فرض التغيير من الداخل أو على الأقل على ايجاد نوع من التوازن يمنع المنطقة من الانجراف الشامل إلى الدائرة الاستعمارية الجديدة. وفي الحالة الأولى سيكون من الصعب على القوى الغربية ضمان سيطرتها على المنطقة للعقود القادمة من دون تغيير النخب الحاكمة أو إعادة هيكلتها. وفي الحالة الثانية سوف يكون من الصعب على هذه النخب نفسها أن تخاطر بالتحالف مع القوى الخارجية من دون أن تهدد وجودها. فلا يمكن للوضع الراهن ان يستمر دون ان يؤدي لانهيارات اكبر ومخاطر أعظم بما في ذلك على مصالح الدول الكبرى.  فالامور يجب ان تحسم خلال السنوات القليلة القادمة. أنا لا ازعم ان هذا الحسم سيحصل لصالح انتصار مشروع التغيير الداخلي. فلا تزال قوى المقاومة والتغيير الداخلي ضعيفة ومشتتة كما قلت. إن ما نراهن عليه في المرحلة الأولى هو منع انتصار مشروع التغيير لصالح القوى الخارجية وإذا أمكن تجميد الحملة الأجنبية أو احتواؤها قبل أن نسعى في مرحلة ثانية، إذا ما نجحنا في إعادة بناء قوى المقاومة والتغيير، إلى الانخراط الفعلي والناجع في معركة تغيير الأوضاع الداخلية وتحقيق الإصلاح المنشود داخل الدائرة العربية الوطنية والأقليمية معا.  وهذا ما يضمن لنا أن يكون التغيير مستجيبا بشكل اساسي إلى حاجات ومصالح المجتمعات العربية ولا يقتصر على ضمان مصالح الدول الأجنبية. إن ما ينبغي أن نرفضه بجميع الوسائل هو أن يعاد بناء المنطقة وصوغ العلاقات من جديد فيها من دون مشاركة أبنائها وبالاستهتار بحقوقهم ومصالحهم وإرادتهم.

 

* امام ضعف قوانا الذاتية دعنا نقول ان مشروع التغيير الخارجي اصبح تمشي واقعي، فهل تعتقد ان السناريو العراقي من المرجح ان يتكرر مع سوريا وايران؟

*  طبعا. أنا أعتقد أنه اذا ما تم للامريكيين والاوروبيين التفاهم فسوف يعيدون النظر في كل هذه الاوضاع الراهنة في الشرق الاوسط والتي يعتبرونها انها مصدر خطر دائم على مصالحهم، بوجود الارهاب الذي يتحدثون عنه بشكل متزايد أم بدونه. وفي هذه الحالة ليس هناك ما يمنع أن يعمم ماحصل في العراق على بلدان عربية أخرى ولكن ليس بالضرورة بالطريقة نفسها، ولكن بصورة أنجح بكثير وأقل مخاطر وأضرار أيضا على التكتل الغربي الذي يعتقد أن له مصالح استراتيجية عليا في المنطقة.  ومن المؤكد أن ضمان التغيير الذي تريده دول التكتل هذا لن يحتاج في حالة حصول هذا التفاهم الغربي إلى سيناريو الحرب العراقية.  ومن الممكن تحقيقه بثمن عسكري وسياسي وأخلاقي أقل بكثير وبنتائج أفضل أيضا من خلال التهديد والوعيد والضغوطات المشتركة الاقتصادية والسياسية والفكرية ومن خلال سياسة الاحتواء والترغيب والترهيب.  وإذا حصل الاتفاق الاوروبي-الامريكي سوف يكون التغيير أسرع مما نعتقد وسوف تجد المنطقة نفسها خاضعة خضوعا كليا للمصالح الاجنبية.

 

* ولكن المشكلة ان اسقاط النظام الديكتاتوري في العراق اوجد واقعا جديدا اكثر تعقيدا بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية حيث خرج البعبع الاسلامي بلباسه الشيعي و السني من قمقمه وبالتالي خلق واقعا اكثر سوءا من الديكتاتورية العلمانية. وهو الامر الذي من المنتظر ان يحدث في سوريا ايضا؟

*  انااعتقد ان الولايات المتحدة واوروبا سوف تفهم درس العراق جيدا، وبالتالي فهم سيسعون الى اعادة التفاهم داخل الحلف الاطلسي في منطقة الشرق الاوسط على الاقل. اذ ليس للامريكيين والاوروبيين مصلحة في ان تستعيد القوى الاسلامية والقومية مواقع جديدة في العراق وفي غير العراق، وان يكون لها دور في اعادة تشكيل الاوضاع في المنطقة.  وما هو مطروح على التحالف الاطلسي اليوم هو اعادة تقييم تجربة الحرب على العراق واخذ الدروس منها من اجل تخفيف المخاطر الناجمة عنها.  وهو ما بدا يعترف به الامريكيون والبريطانيون عن طريق تلويحهم لفرنسا، خاصة، ولأوروبا عامة، بامكانية المشاركة في تحديد مستقبل ما بعد صدام في العراق والذي يطلق عليه إعادة إعمار العراق. ومنذ الآن يمكن القول إن الأمريكيين بدأووا يعون أخطاءهم ويعترفون بها حتى لو أن مسؤوليهم الكبار لا يقولون ذلك صراحة. ولا يوجد في الواقع خلاف بين الأمريكيين والاوروبيين على الهدف الذي هو إعادة تشكيل المنطقة بطريقة أخرى وعلى صورة ثانية تنسجم بشكل أكبر مع حاجات استقرار النظام العالمي الجديد الذي تريد بناءه القوى الرأسمالية العالمية تحت إسم العولمة والاندماج الاقتصادي العالمي. إن الخلاف يدور حول  المنهج والطريقة. فالاوروبيون الحساسون للنتائج المباشرة على عملية التغيير وانعكاساتها عليهم يعتقدون ان القوة ليست كافية وحدها لاعادة تشكيل المنطقة ولحل مشاكلها بما فيها مشاكل اسرائيل والنفط. وهم يوصون بضرورة الدمج بين بين القوة وبين السياسة، وهو ما يضمن مشاركتهم أيضا في العملية. وليس هناك سبب لرفض الأمريكيين مثل هذا المنهج إذا اعترفوا للأوروبيين بدور وموقع في الشرق الأوسط. إن رفضهم مثل هذا التوجه لا يقصد في الواقع سوى تهميش الأوروبيين. لكن ثمن ذلك كان عاليا جدا.

باختصار أنا أعتقد أن الموقف الأوروبي هو الأكثر ذكاءا في  ما يتعلق بالدفاع عن المصالج الغربية المشتركة، وبالتأكيد اكثر نجاعة.  وهو ما ينبغي ان يدفع بالحركات الوطنية العربية الى اعادة النظر في استراتيجياتها سواء في ما يتعلق بالمراهنة على أوروبا وانتظار الفرج على يديها أو في الاستمرار على طريق الاعتقاد بأن المقاومات الضعيفة والجزئية والوقتية التي لا تعدوا أن تكون ردود فعل مباشر من دون خطة ولا نظرية للمستقبل، قادرة على دحر العدو، سواء جاءت من قوى ذات طابع قومي او ديني. والقصد أنه لا يكفي كي نصل إلى هدفنا أن نراهن على تخبط السياسة الأمريكية الراهن أو على الصعوبات الفعلية التي سيواجهها مشروع التغيير الخارجي حتى نربح خيار التغيير الداخلي وإعادة تشكيل المنطقة الغارقة في الفوضى من وجهة نظر مصالحنا الوطنية والقومية. فما تعانيه الاستراتيجية الأمريكية في ذلك أقل بكثير مما نعانيه نحن في تنظيم مقاومة جماعية متسقة  وناجعة وطويلة المدى لتحرير إرادة الإصلاح والتغيير واعادة البناء من الداخل العربي سواء داخل المجال القطري او القومي.

 

* عندما نتحدث عن مشروع التغيير الخارجي الذي هو امريكي بالاساس , وبعد احتلال العراق و على فرضية اعادة سناريو العراق في سورية فما ذا سيكون موقفكم ,هل ستقفون في مواجهة زحف امريكي على ديمشق وبالتالي الوقوف كمثقف الى جانب مقاتلي حزب البعث العربي الاشتراكي السوري ام انه سيكون لكم راي اخر؟

*  أولا لا أعتقد أنه سيكون هناك زحف امريكي على ديمشق ولكن سيكون هناك بالمقابل زحف دمشقي على امريكا من قبل النخب الحاكمة والنظام الذي رفض حتى الآن أي خيارات أخرى للمصالحة مع المجتمع والانفتاح عليه. وما يبدو من تأزم في العلاقات السورية الأمريكية الآن لا ينبع من رفض السلطة السورية المبدئي للهيمنة الأمريكية على المنطقة ولا من رفض التحالف مع أمريكا. والمسؤولون السوريون لا يكفون عن تأكيدهم على الرغبة في الحوار والتفاهم والشراكة مع واشنطن. إن سبب التأزم ناجم عن الطريقة التي تتعامل بها الادارة الامريكية مع النظام السوري وما تتميز به من غطرسة واستعلاء وإملاء للأوامر.  فلم ترفض السلطة السورية في اي لحظة فكرة التفاهم مع الولايات المتحدة الامريكية والتعاون معها في ما يتعلق بالعراق و ما يتعلق بفلسطين، بل حتى في لبنان، لكنها تريد مقابل ذلك حدا أدنى من الاعتراف الأمريكي بها وتبادل المصالح. إن سبب التأزم في العلاقات هو أن واشنطن ترفض فتح مفاوضات جدية مع دمشق حتى لا تتورط في الحديث عن الجولان وغيره وتريد من الحكومة السورية أن تنفذ التعليمات – وهي تسميها بالفعل تعليمات – من دون مناقشة ولا تردد ومن دون تفاهم حول المستقبل في ما يتعلق بمصالح سورية بل مصالح النظام نفسه.

وثانيا، بصرف النظر عن المنبت الوطني، سواء أكان في سورية او لبنان او السعودية أو مصر أو تونس أو الجزائر، إن برهان غليون وتسعون بالمائة من الشعب العربي يرفضون اي شكل من اشكال الاحتلال او السيطرة او الهيمنة الأجنبية في أي منطقة من البلاد العربية. ولا يمكن لنا نحن الذين قضينا عمرنا في الصراع ضد الاستبداد والطغيان وحرمان المجتمعات والأفراد من حقوقهم وحرياتهم الأساسية أن نقبل بالتعاون أو التفاهم مع نظم الطغيان الخارجية. لكن رفض الاستعمار الخارجي لا ينبغي أن يكون مبررا للتفاهم مع الطغيان الداخلي الذي ليس هو في الواقع كما وضفته في مقال سابق لي إلا استعمارا داخليا.  ولا أجد ضرورة ولا معنى لطرح الموضوع  على صورة اختيار حتمي لا مهرب منه بين دعم الاستعمار الخارجي أو دعم الطغيان الداخلي والوقوف معه سوى أولئك الذين يريدون تبرير الطغيان وإضفاء الشرعية على استمراره وقطع الطريق على أي أفق للتغيير الديمقراطي بل للتغيير. فطرح الموضوع بهذه الطريقة يفترض أنه لا يمكن أن يحصل تغيير ولا امل في التغيير، بل أكثر من ذلك لا إمكانية هناك لوجود موقف وطني خارج الاستبداد والطغيان.

لا أعتقد أن الامر إلى هذه الدرجة من الانسداد. وأعتقد أنه لا يزال في سورية في الحزب الحاكم قوى ترفض أن تضع احتكارها للموارد العامة واستئثارها بالسلطة فوق المصلحة الوطنية وأن تكره الشعب على الاختيار بين الاستعمار الداخلي والخارجي. وإذا كان الأمر كذلك بالفعل فهي ستدفع سورية إلى المحنة نفسها التي دفع إليها نظام صدام الشعب العراقي، أعني انهيار الحزب والدولة امام العدوان الخارجي وتقريبا من دون إطلاق طلقة رصاص، وقبول الأغلبية الساحقة من الرأي العام بالاستجارة من الرمضاء بالنار، أي ستدفعها إلى الانتحار بعد أن  أغرقتها في الفوضى والدمار.

لا ينبغي علينا أن نجد للاستعمار الداخلي أو الطغيان عذرا بالتلويح بالاستعمار الخارجي خاصة بعد تجربة مقاومة نظام الطغيان في العراق لقوى الغزو. فلا الجيش كان على استعداد للمقاومة ولا الشعب.  أنا أقول إنه ما كان من الممكن للامريكيين ان يفكروا باحتلال العراق لو لم يكن شعب العراق محتل من الداخل. فكل نظام حزب واحد يصادر حرية الناس ويمنع المشاركة الشعبية هو نظام احتلال داخلي وهو الذي يمهد للاحتلال الخارجي بقدر ما يجعل الشعب غير مستعد للدفاع عن وطنه. علينا إذن أن نرفض الا نختار بين الاستعمار الداخلي والخارجي كما نرفض كل اشكال الاستعمار والاحتلال وأن ندعوا الى المقاومة ضد الاستعمار الداخلي والاستعمار الخارجي بنفس الكيفية، أي إلى مقاومة واحدة ذات أهداف واحدة هي في الواقع سيادة الشعب وضمان حقوقه في موارده وحرياتها الفردية والجماعية. ولن تكون هناك امكانية للنجاح في مقاومة الاحتلال الامريكي ومشروع التغيير الخارجي الا بالنجاح في تطوير المشاركة الداخلية واستعادة الأفراد لحرياتهم السياسية. لذلك نحن نعتبر أن الديمقراطية وتحقيق إصلاحات وتحولات إجتماعية وإقتصادية وثقافية جدية لصالح الإغلبية في المنطقة العربية جزءا لا يتجزأ من معركة صد الاحتلال ودرء الاستعمار. ومن يمنع الحرية عن شعبه ويستأثر بموارده لنفسه أو عصبته لا يساهم في دفع الاستعمار عن شعبه ولكنه يحطم روح المعنوية ويؤهله نفسيا لقبول الوصاية الخارجية.  وانا احمل الانظمة العربية الديكتاتورية او التي لا زالت تصر على حرمان الشعب من حرياته ومن المشاركة في تقرير مصيره وتصر على الوصاية عليه وتصر على اذلاله باستخدام القمع والعنف والارهاب، انا اتهم هذه الانظمة بانها تمهد الارض والبلدان والظروف والشروط لدخول الاستعمار الاجنبي سواءا كان امريكيا او غير امريكي.  فالمتهم الرئيسي في الضلوع الموضوعي مع الاستعمار الخارجي هي النظم الديكتاتورية العربية التي دمرت الاقتصاد والثقافة و المجتمع ودمرت القدرات الذاتية للشعوب في مواجهة الاخطار الخارجية.

 

* من الواضح دكتور غليون انك تطرح تحرير القوى الذاتية للمجتمعات العربية لمواجهة اية تحديات خارجية ولكن واقع الحال ان امكانيات الذاتية او لنقل ان المعارضات التي من المقترض ان تخلص المواطن العربي ضعيفة جدا بالشكل الذي يجعل عملية التغيير شبه مستحيلة امام انظمة تمرست عقودا من الزمن على المراقبة والمعاقبة وضرب كل نفس تحرري. وهو الذي يدفع الكثير من النخب بقبول مبدء التغيير من الخارج كحل واقعي. فماذا تقول في هذا؟

* انا حذرت قبل الحرب الامريكية على العراق وقبل ان تظهر نتائج هذه الحرب من وهم الاعتقاد ان التدخل الخارجي يمكن ان يؤدي الى تغيير ديمقراطي. كما حذرت من وهم ثان وهو قبول الانظمة الديكتاتورية بالتغيير من تلقاء نفسها بل قدرتها على التغيير والتحول من أنظمة استبدادية الى انظمة ديمقراطية. فهذان وهمان يجب التخلص منهما نهائيا. ويقدم لنا مثال العراق برهانا كافيا على ما أقول. فقد تبين بعد الاحتلال ان هذا البلد لم يسر باتجاه الاستقرار واعادة البناء والديمقراطية وانما سار نحو الفوضى وربما الى انقسام طائفي وعرقي بالمستقبل.  كما تبين في نفس الوقت، وبالرغم من كل الضغوط الخارجية وكل ما حصل في العراق، أن اي نظام ديكتاتوري في المنطقة م يغير لمن سياساته. لقد التف على المسائل المطروحة وروج خطابات وبرامج نظرية جديدة، لكنه بقي مثلما هو لماذا؟  لان هذه الديكتاتوريات ليست مسألة شكلية سياسية فحسب ولكنها مسألة مصالح كبرى لقوى اجتماعية وفئات ما كانت لتحلم بأن تكون على ما هي عليه من دون الاستئثار بالسلطة، حيث يسيطر في كثير من الحالات أقل من 5 بالمائة من السكان على موارد بلدان كاملة. وهي ليست مستعدة للتخلى عنها لا خوفا من الامريكيين ولا من الشعب. فهذه النظم مستعدة لمقاومة التغيير حتى آخر قطرة دم في جسم مواطنيها.  وعندما ياتي الأمريكيين ليس هناك ما يمنع هذه الفئات من أن تحمل أموالها وتخرج للاستثمار في امريكا نفسها. فهذه النظم قائمة في حلف حقيقي غير معلن مع دولة الوصاية الأمريكية ومشاركة لها  في نهب واضطهاد وقهر شعوبها. هذه قناعتي الاساسية.

 فالذين ينتظرون من الامريكيين ان يخلصوهم من جحيم الانظمة الاستبدادية سيخيب املهم . وحتى الذين ينتظرون من الاوروبيين المساعدة في اطار اتفاقيات التعاون الاوروبي العربي للشراكة سيخيب املهم ايضا. ولن يغير هذا من المعادلة شيئا. وموهومون الذين يعتقدون ان الضغوط الخارجية يمكن ان تعدل في سياسات الانظمة الديكتاتورية فتجعلها اكثر عدلا واكثر طهرا واقل فسادا.  فهذه الانظمة غير قادرة بتاتا على التغيير.  ولن يحصل تغيير الا باعادة بناء قوى التغيير في المجتمعات العربية، أي عندما يتحمل كل فرد مسؤولياته في تحقيق هذا التغيير. وبذلك تتحول قوى التغيير الصغيرة والمشتتة اليوم إلى قوة كبرى غدا. واذا لم تتحول إلى قوة كبرى ليس امام المجتمعات العربية الا الفوضى العارمة نتيجة زيادة التدخلات الاجنبية التي ستتضاعف اكثر فاكثر وكذلك  بسبب تفاقم ابتذال وفساد الانظمة الديكتاتورية المحلية . فليس هناك اي حل الا اذا اخذت الشعوب مصيرها على عاتقها بعيدا عن الوصاية الخارجية، اوروبية كانت ام امريكية.  فالامر متوقف على قدرة الشعوب العربية على بلورة قوى تغيير واعية وتحمل قيم سليمة غير مبتذلة وغير موهومة بحل ات من الخارج او مفروض.  اذا لم نحقق هذا الامر فسنستمر في الفوضى. هذه هي تجربة الشعوب.  وسنبقى في المحنة طالما لم ننجح في إدراك اسبابها،  وهي انسحابنا وانسحاب المواطنيين من الحقل العام. ولا علاج لهذا الخطأ المدمر إلا بالعودة إلى ساحة العمل العام والقبول بالتضحيات الضرورية لاعادة تشكيل قوى التغيير الاجتماعية واعادة تفعيل الإرادة الجماعية.  

 

*  اذا نظرنا الى المشهد السياسي العربي اليوم ما هي القوى السياسية والايديولوجية التي تؤهلها لقيادة عملية التغيير الداخلي في الوطن العربي؟

* هناك مذهبان يسودان في الاوساط العربية المعارضة : مذهب يقول اذا لملمنا، وانا اسميه مذهب اللملمة، اذا لملمنا القوميين مع الاسلاميين مع الماركسيين، وأعدنا تدوير القوى التي لا تزال على قيد الحياة من العصر الماضي فسنعيد تشكيل قوة كبرى قادرة على حمل لواء مقاومة الاستعمار ومقارعة الاستبداد.

اما المذهب الثاني الذي آخذ به فهو الرهان على تبلور قوة جديدة حية ليست حاصل جميع فتات الأحزاب الماضية ولكن ثمرة تطور دينامية جديدة محورها  الاصلاح وإعادة بناء المجتمعات العربية من الداخل، أي هي ثمرة ريح جديدة تهب بقوة داخل صفوف النخب العربية التي طال تهميشها من أجل التغيير، تغيير الأفكار والرؤى والتصورات وتغيير وسائل العمل داخل صفوف حركة التغيير نفسها ثم من أجل التغيير الاجتماعي الشامل. وهذه الحركة هي في نظري الحركة الديمقراطية التي مازالت في العالم العربي فكرة أو حركة جنينية. وحتى تتحول الى حركة جماهرية وشبابية يجب ان نستثمر كثيرا في العمل النظري والسياسي وفي بلورة الرؤية وتخطيط اجندة للعمل الديمقراطي. لكن هذا هو في نظري الطريق، وهذه شروط خلق حركة تغيير حقيقية تستقطب جمهور جديد يمكنه ان يغير. وانا اعتقد ان التغيير الديمقراطي الاجتماعي يقدم اليوم رؤية لهذه الحركة. لكن كي نرى ولادة هذه القوة الجديدة لا ينبغي ان ننظر للاوضاع كما لو كانت جامدة لا تتحول ولا تتبدل، فهي متحركة باستمرار. فمجرد ان تتبلور الرؤى والافكار يمكن ان تصبح هذه الحركة حركة جماهرية تماما كما حصل مع الحركة الاسلامية. فهذه الحركات التي كانت اقليات صغيرة تحولت في ظرف معين كان يستدعي المجابهة خلال اربعة او خمس سنوات الى مد سميناه المد الاسلامي . ونفس الشيئ انا اقول ستاتي ظروف تحول الحركة الدمقراطية الى مد ديمقراطي، كرد فعل على مباذل الاستعمار المزدوج والمتضامن الداخلي والخارجي، وكنتيجة لتبلور اجندة واضحة للتغيير الحقيقي.  لعملية

 

* جيد , لولادة هذا التيار الديمقراطي هناك صنف من النخب العلمانية العربية يقول ان التراث العربي الاسلامي يمكن ان يكون عائقا لبناء و الديمقراطية وبالتالي ترى هذه النخب ان قيام تيار ديمقراطي يستلزم الحسم والقطع مع هذا الموروث الذي يحوي في نظرهم على كل معيقات التقدم , فما هي وجهة نظرك في هذه المسالة؟

* جوابي على هذا ان الاوروبيين عندما تبنوا الديمقراطية لم يتبنوها لان ثقافتهم التقليدية كانت ثقافة ديمقراطية بل بالعكس كانت ثقافة اقنان وكانت مجتمعاتهم مجتمعات اقطاعية وضعها اسوء بكثير من وضع المجتمع العربي التقليدي الاسلامي الذي كان له على الاقل دولة مركزية.  وبالتالي نشات الديمقراطية اوروبيا كرد فعل وكثورة وكقطيعة مع الثقافة التقليدية وليس كامتداد لها أو لثقافة القرون الوسطى. فغياب الديمقراطية في الثقافة الاوروبية القديمة هو سبب ابداعها في العصر الحديث. فهي ثمرة عملية ابداع تاريخي اجتماعي وليس ثمرة عملية تقليد أو تطبيق لأفكار قديمة.  وبالمثل، لا ينبغي أننا سنسير نحو الديمقراطية في مجتمعاتنا لأنها جزء من ثقافتنا القديمة. وهي ليست ثورة وموضع تغيير إلا لأنها ليست موجودة من قبل. ولا تعيش الشعوب فقط بالقديم ومع القديم وإلا اندثرت. إنها لا تستمر إلا بالتجديد والتغيير. والديمقراطية شيئ جديد ورؤية جديدة للعلاقات بين الافراد في المجتمعات لم تكن تتضمنها ثقافتنا التقليدية الكلاسيكية الدينية والزمنية. وهي اليوم استجابة ورد وبابداع بالاحرى ورؤية جديدة لطريقة تنظيم المجتمعات وللعلاقات بين الافراد والعلاقات بين السلطة والمجتمع ما كان يمكن ان توجد دون الظروف المادية والعلمية والحضارية عموما التي عرفتها المجتمعات الحديثة.  فلا يمكن ان نطابق بين رؤيتنا لتنظيم المجتمع اليوم ورؤية اجدادنا قبل خمسة عشر قرنا الا اذا كنا ندين انفسنا بالعقم، بمعنى اننا لا نستطيع ان نبدع شيئا او ان نفكر في شيئ، حيث اجدادنا هم الذين يفكرون بدلا عنا. فكل جيل يفكر حسب ظروفه الحضارية والسياسية والثقافية الخاصة واستجابة للتحديات التي يواجهها. وكل جيل قادر على ابداع حلول ورؤى وافكار ومنظومات نظرية مرتبطة بالسياق التاريخي الذي يعيشه.  فكل من يفسر غياب الديمقراطية في الحاضر العربي بغيابها في الثقافة العربية الاسلامية قديما يحاول في حقيقة الامر تبرير الوضع القائم وإضفاء الشرعية على النظم الديكتاتورية، لا ان يفكر بالفعل في سبب غياب الديمقراطية. وبعيدا عن تحميل المسؤولية للاجداد دعنا نقول اننا نحن جيل الاستقلال نتحمل غياب الديمقراطية اذ لم نفكر بقضايا التنظيم السياسي والاجتماعي بما فبه الكفاية ولم نؤمن بالديمقراطية خلال الثلاثين السنة الماضية على الاقل. نحن اليوم فقط استعدنا التفكير في الديمقراطية لاننا شعرنا بمصائب نظم الاستبداد.  فالاغلبية الساحقة من المثقفين والسياسين العرب بعد الاستقلال امنوا بنظام الحزب الواحد بنظام الثورة باعتباره هو الطريق الاسهل للخروج من التخلف. وآمنت كذلك بالقائد الملهم، تاثرا طبعا بالنماذج الاشتراكية والشيوعية التي سادت في العالم في الحقبة نفسها.  فنحن تبنينا نظام الحزب الواحد ليس تاثرا بثقافتنا القديمة ولكن تاثرا بثقافة الحقبة التاريخية التي عشناها، اي ثقافة الحقبة الشيوعية من الصين الى اوروبا الشرقية.  فهذا جزء من ثقافتنا الراهنة العالمية المعاصرة وليس من ثقافة الاسلام او من الثقافة العربية التقليدية.  ونحن اليوم نعود الى الديمقراطية مثلنا مثل بقية الشعوب الاخرى بسبب الانهيار السياسي والفكري والنظري لثقافة الحزب الواحد لدينا ولدى غيرنا أيضا.  فقد انهارت الفكرة في المركز الذي انطلقت منه وهو الاتحاد السوفياتي قبل ان تنهار لدينا بالنظر الى ما انتهى اليه النظام الشيوعي من فساد وترهل وعجز خلال السبعين سنة التي شهدتها روسيا والدول التي تبنت الشيوعية. فمن غير المجدي البحث عن عجزنا الحاضر وتفسيره وإلحاقه بماضينا. يجب ان نطرح على انفسنا الاسئلة الصحيحة. فنحن مسؤولين عن اوضاعنا الراهنة وليس الصحابة ولا التابعين ولا اجدادنا المسلمين.  ونحن الذين تبنينا نموذج الاستبداد ولم يورثونا ذلك. وتبنيناه عن وعي ولم ناخذه من ا ي تراث عربي سابق. لقد أخذنا  الديكتاتورية من التراث الشيوعي والفاشستي والنازي وهو تراث غربي مائة بالمائة.

 

* لو عكسنا السؤال دكتور غليون , هل نستطيع ان نجد تاصيلا للديمقراطية في تراثنا العربي الاسلامي؟

*  نعم يمكننا ذلك لماذا لا. فكل الشعوب تحاول ان تربط ابداعاتها- وهنا الحديث يتعلق بالديمقراطية- بثقافتها الخاصة حتى تعمق جذورها. لكن ايجاد بذور أو مواقع توطين لهذه الأفكار الجديدة في تراثنا لا ينبغي أن يمنعنا من إدراك جدتها أولا ولا أن يدفعنا إلى الاعتقاد بأنها هي نفسها التي كانت موجودة قديما في هذا التراث. مما يحرمنا من فهم مضمونها الجديد ويهدد بأن نفرغها من هذا المضمون. إن الافكار والنظم الجديدة المبدعة تنتج عن الممارسة وعن الحياة  في كل المجتمعات. لكن حتى تحتفظ الامة والجماعة لنفسها بروح الاستمرارية تربط ابداعاتها دائما بالماضي والجذور. فهي  تؤصل لها حتى تظهرها بمظهر التوافق مع تراثها وتخفف من التوترات التي يثيرها أي تجديد  كما تسعى من خلال ربطها بالتراث إلى أن تضفي عليها نوعا من الشرعية التي تعمق من حضورها الوجداني عند الافراد والجماعات. وهذا مفيد. لكن لا ينبغي أن نفسر مسألة التأصيل كما يفعل البعض على أنها تحوير أو استبدال المعاني الجديدة بالمعاني القديمة، اي الغاء كل جديد وابداعي في الديمقراطية باسم التاصيل لها. فهذا النوع  من التاصيل لا يؤدي الى نتيجة.

 

* بالنسبة للبعض فان التحدي الذي تواجهه الديمقراطية في المجتمعات العربية لا يتوقف على البحث في عدم تصادمها نظريا مع التراث العربي الاسلامي فحسب بل هناك من يذهب الى القول ان الديمقراطية في تحد واقعي وسياسي حقيقي ليس مع الانظمة الديكتاتورية هذه المرة ولكن في تبني اكبر تيار جماهيري لها في الوطن العربي نعني التيار الاسلامي , بمعنى هل يمكن ان ننتظر من الاسلاميين القبول باللعبة الديمقراطية؟

* يمكن جمع تساؤلاتك في تساؤلين. اولا ماهوالموقف الديمقراطي من الحركات الاسلامية. ,وثانيا ما هو الموقف المحتمل للحركات الاسلامية من الديمقراطية.

 ان الموقف الديمقراطي من الحركات الاسلامية هو اولا عدم توحيد جميع الحركات الاسلامية ومطابقتها مع بعض. فهناك في نظري عدة مشاريع مختلفة اسلامية وليس هناك مشروع اسلامي واحد.  هناك مشروع اسلامي تعبر عنه جماعات القاعدة ومن شاكلها والذي هو مشروع حرب ضد الغرب بالدرجة الأولى بسبب هيمنته الثقافية والحضارية وفي سبيل رد هذا التحدي الحضاري وتخفيف الضغوط الأجنبية. وكثير من المسلمين العاديين يتعاطفون معه، من دون أن يذهبوا مذهبه، بسبب الموقف الظالم الذي اتخذته القوى الغربية الكبرى من القضايا العربية واستمرارها في الدعم المباشر للمشروع الاستيطاني الاسرائيلي اليهود في فلسطين أو على الأقل السكوت عنه.

وهناك مشروع اسلامي آخر ليس لجدول أعماله علاقة بالحرب الحضارية ومقاومة الغطرسة الدولية ولكن تحرير الأراضي المحتلة من الاحتلال والاستيطان هو مشروع القوى الاسلامية التي تقاتل في فلسطين مثل حماس. وهو في الواقع مشروع تحرير وطني هدفه مقاومة الاستعمار لا يختلف عن أي مشروع تحرير وطني آخر ولو اتسم بالصبغة الاسلامية فإن محتواه وطني لا ديني.

وهناك مشروع ثالث هو مشروع الحركات الاسلامية التي تهتم بشكل رئيسي بالتغيير داخل البلدان نفسها وتعمل على أساس جدول أعمال مقاومة الطغيان سواء آمنت بالديمقراطية أو بقيت في إطار الدفاع عن حقها في الممارسة الحزبية.  فمشروع هذه الحركات هو تحديد سلطة الحاكم وانتزاع اكثر ما يمكن من حرية التعبير ومن الحقوق السياسية و الحق في الوجود الشرعي. وتعبير هذه الحركات الابرز هو جماعة الاخوان المسلمين وحركات اخرى مشابهة. فليس الهم الرئيسي لهذه الجماعات محاربة الهيمنة الغربية ولا تعزيز حركة التحرر الوطني وانما صد الاعتداء الداخلي لنظم الاستبداد. ولا شيء يمنع هذه الجماعات بعد أن تدرك الطريق المسدود للنموذج الاستبدادي، دينيا كان أم زمنيا، من ان تتطور في اتجاه قبول الديمقراطية أو على الأقل قبول التعددية في مرحلة أولى.  والمسالة هنا ليست مسالة نظرية ولكنها مسالة ميزان قوة وتطور. وهذا على كل حال ما  حصل بالفعل في تركيا.

.. وهناك أخيرا مجموعة كبيرة اخرى من المشاريع الاسلامية تعمل على أجندة أو جدول أعمال إنساني مثل جمعيات تقديم المعونات الخيرية والمساعدات لجمهور المسلمين، واخرى تهتم بالهداية والبلاغ. ومن الخطأ السياسي والفكري عدم التمييز بين هذه المشاريع المختلفة والمتباينة. ومثل هذا الموقف لا يمكن أن يقود إلا إلى تعميق التخبط والتشوش القائم وهدر الطاقات السياسية في الوطن العربي. فالموقف الديمقراطي يقوم على عدم اعتبار ان القوى الاسلامية واحدة حتى داخل البلد الواحد وعدم إدانة الجميع دفعة واحدة وإدانتها بالجمود إلى الأبد.  ولا أن أن يعتبر أن الجماعات والتنظيمات او القوى السياسية، اسلامية كانت او غير اسلامية، هي قوة جامدة لا تستطيع ان تتطور ولا تستطيع ان تتغير مع تغيير الظروف ولا أن تتعلم من تجربتها. بالعكس إنه ينبع من الاعتقاد بأن  كل القوى قادرة على ان تتطور وان تتجدد وان تبدل من افكارها، ولها الحق في ان تراجع او ان تعدل او ان تتبنى مواقف جديدة.  ونحن نراهن على ان قسما كبيرا من القوى الاسلامية التي تبلور اجندتها الرئيسية حول اصلاح الاوضاع الداخلية للمجتمعات ستتجه اكثر فاكثر نحو تبني مواقف ديمقراطية. ,وعندما تتبنى مواقف ديمقراطية فليس هناك اي سبب، لا فكري ولا سياسي ولا اخلاقي، يجعلنا نرفض هذا التبني او ان نشكك بالضرورة في صدقها في هذا التبني. ومثال تركيا كان مثالا واضحا ومعبرا في هذا المجال.  

اذا نقول ان الباب مفتوح للحركات الاسلامية لتبني الديمقراطية ومفتوح لقبول مشاركتها في حركة التغيير الديمقراطي بقدر ما هو مغلق طريق العنف لفرض نظام الحزب الواحد الاسلامي أو غير الاسلامي. وقد أظهر إخفاق النظم التي أطلقت على نفسها إسم الاسلامية من أفغانستان إلى السودان إلى ايران بأنه ليس هناك طريق آخر للاصلاح غير طريق الديمقراطية وإشراك جميع قطاعات الرأي العام في بلورة القرارات المتعلقة بشؤونه المصيرية. لذلك استطيع القول اننا نعيش اليوم مرحلة انحسار الحركات الاسلامية السياسية في موازاة انكفاء الأفراد على أنفسهم وتمسكهم بنمط جديد من التدين الشخصي البعيد عن الالتزامات السياسية والعمومية. وهو نمط من الانسحاب من السياسة والعمل العام بسبب القمع المتزايد للأجهزة الأمنية الحاكمة من جهة وإخفاق المشروع الاسلامي أو تراجع آمال المراهنة عليه في التغيير المنشود. 

فالحركات الاسلامية تفقد شيئا فشيئا اشعاعها السياسي وفي المقابل لم تبرز قوى اخرى تستطيع استقطاب الجمهور الذي ينسحب من المشاريع الاسلامية والقومية.  فما نعيشه اليوم هو انسحاب الجمهور من الحياة العامة بكثافة. وموجة التدين غير المسيس اليوم في العالم العربي هي تعبير على هذا الانسحاب من السياسة ومن الحقل العام.  فالجمهور اليوم لا يقبل ان يكون مع الاستبداد ولا يقبل ان يكون مع الاستعمار الخارجي وليس مستعدا ان ينخرط مع قوى ليس لها خط واضح ولا برنامج عملي.  باختصار إن مفتاح فهم هذا الانسحاب من الحقل العام والانكفاء على العبادة هو أن الاطر السياسية التقليدية لم تعد مقنعة على المستوى النظري والاخلاقي والبرنامجي بينما المعارضات الديمقراطية لا زالت في اعتقادي جنينية جدا وفاقدة لثقتها بنفسها وربما أيضا مفككة ومفتقرة للاتساق الداخلي، كما أنها لم تمتلك بعد الجرأة والقوة كي تضع نفسها في موقع القيادة النظرية والسياسية لحركة التغيير العربية.

 

* دكتور غليون انت تتحدث عن الحركة الديمقراطية وكانها مشروع منشود والحال ان كل النخب الثقافية العربية في الوطن العربي سواء تلك التي تمثل المعارضة العلمانية او تلك تربط وجودها بالسلطة او ما يسمى بمثقفي السلطة تقدم نفسها كحاملة للواء الديمقراطية وممثلها الشرعي والوحيد

* انا اعتقد انه ليس هناك حركات معارضة ديمقراطية حقيقية وأصيلة في الوطن العربي. فالذين يتحدثون اليوم بالديمقراطية جاؤا من تيارات مختلفة وما زالو متاثرين بالتيارات التي كانوا فيها ولكن لم يتبلور بعد تيار ديمقراطي عميق لا على المستوى النظري ولا على المستوى السياسي في اي بلد عربي وعدم تبلور هذا التيار راجع لصعوبات ولسببين على الاقل. السبب الاول ان النظام العالمي يتغير بسرعة.  فالاوضاع العالمية الجديدة او العولمة تضعف من امكانية نمو سيادة شعبية في كل بلد . فهناك شعور متزايد عند الناس ان مصيرهم الوطني مرتبط بالمصير العالمي. فهم ما عادوا يسيطرون على مصيرهم فعليا جزء .  وهذا صحيح إلى حد كبير. وهو يشكل معضلة بالنسبة للتحول الديمقراطي تتعلق بدرجة الاستقلال في القرار الوطني في اطار عالم مندمج اكثر فاكثر. السبب الثاني ان منطقتنا العربية هي منطقة نفوذ اجنبي كبير بسبب المصالح الاوروبية والامريكية القوية إضافة إلى النفط واسرائيل. فهناك عدة امور تجعلنا منطقة حساسة ومنطقة مرغوب النفوذ الخارجي فيها اكثر من اي منطقة اخرى. فهناك ضغوط قوية جدا خارجية تعمق الشعور عند الافراد بضعفهم امام الدول الكبرى الطامحة إلى الهيمنة علينا. اذا اضفنا لهذين السببين المهمين بقاءنا رهائن لفترات طويلة للصراع العربي الاسرائيلي وان هذا الصراع مستمر مع رغبتنا في تغيير انظمتنا نحو صيغ اكثر ديمقراطية.  فكيف نحقق التحول الديمقراطي في وقت مازال فيه الصراع ما قبل الديمقراطي، دعنا نقول الوطني، قوي وعنيف جدا.  اذ اننا لم نخرج من حقبة ومفاهيم التحرر الوطني حيث مازالت فلسطين بؤرة اهتمام العالم العربي. وهذا يعني أن مهمتنا اصبحت اليوم مضاعفة وهي: الاستمرار في حركة التحرر الوطني اليوم في فلسطين والعراق الى جانب ثورة التصنيع والتنمية وفي نفس الوقت تامين الحريات الفردية وتحقيق الديمقراطية بما تعنيه من احترام المواطن ومشاركته في الحياة الاجتماعية. فنحن أمام استحقاقات عديدة وطنية وحضارية وديمقراطية معا تجعل العبء في مجتمعاتنا كبير جدا. وبالتالي لا ينبغي أن ننتظر  ان تنشا حركة ديمقراطية في العالم العربي دون ان تحل مشاكل تأمين الوجود في ميدان العلاقات الدولية وتقديم حل ناجع أو مقنع لقضية التحرر الوطني في فلسطين والعراق بالمقاومة أو بغيرها وفتح آفاق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتأمين طريق التحول الديمقراطي وتوسيع دائرة المشاركة والحريات الفردية السياسية والمدنية. فنحن بحاجة الى نخب توفق بين مهام التنمية ومهام التحرر الوطني والاصلاح السياسي وتحقيق الديمقراطية. ولن تكون الحركة الديمقراطية حركة شعبية أو لن تصبح كذلك الا بقدر ما ستنجح في استيعاب هذه المهام المتعددة معا وتشير إلى طريق الرد الايجابي عليها.