القدس العربي: سياسيات التغيير والتجميد في سوريا

2001-10-09 :: القدس العربي

 حوار: ياسين الحاج صالح

2001-10-09

جمع برهان غليون في فكره بين سوية علمية متميزة وبين حرارة في الدفاع عن الجدارة الإنسانية والحضارية لبني قومه. واستطاع خلال مساره الفكري الذي امتد عبر ربع قرن أن يوسع دائرة القضايا التي قاربها بـأصالة لافتة وأن يجتذب شواغل جديدة إلى حقل إبداعه المتجدد. وفي رأيي أن القاعدة الواسعة من الجمهور المهتم بكتاباته لا تنفصل عن توسيعه لقاعدة الدلالة في الوعي العربي المعاصر وافتتاحه لميادين جديدة ظلت خارج اهتمامات المثقفين "الحداثيين" العرب. فكما لا تنفصل الهامشية العقلية للواقع الاجتماعي عند ذوي العقول عن الهامشية الاجتماعية لهذا العقل، فإن انخراط العقل في الواقع واندماجه في مشاكله ينعكس في اندماج الواقع وأهله في مسائل العقل والعقلاء.

وقد يكون د.غليون من أبرز المثقفين العرب الذي جمعوا بين القول والعمل، وتوافق لديهم الرأي والموقف، وعنت الديمقراطية والعقلانية لديه الدفاع عن الناس لا التقليل من شأنهم أو الترفع عليهم.

طرحت هذه الأسئلة على د. غليون في زيارته الأخيرة إلى دمشق في الثلث الأول من أيلول الماضي، ولم تتح له الفرصة للإجابة عليها إلا في بدايات شهر تشرين الأول الحالي. أردت من محاورة المفكر السوري المقيم في باريس ـ الذي توحي كتاباته أنه لم يغادر سورية أو لم تغادره أبداً ـ  الإفادة من آرائه حول الشأن الوطني وسياسيات التغيير في سورية. شكراً للدكتور برهان غليون، وعسى أن تفيد هذه الصفحات المعنيين بالتغيير الديمقراطي في سوريا والدول العربية كافة.

                                                      

* عادت السلطات السورية إلى اعتقال رياض الترك في بداية الشهر الحالي. وأثار الاعتقال موجة غير مسبوقة من ردود الفعل: بيانات، تصريحات، مقالات ··· كيف تنظرون إلى الدلالات السياسية للاعتقال وردود الفعل اللاحقة له؟

فاجأ اعتقال رياض الترك جميع الديمقراطيين في سورية وفي العالم العربي والعالم لأسباب عديدة· أولها أن رياض الترك الذي أفنى حياته في السجون السورية أصبح في سنواته السبعين رمز الصمود والتضحية في سبيل تأكيد حرية الرأي وحق الأفراد في هذه الحرية. ومنذ خروجه من السجن لم يكف عن العمل لتأكيد هذا الحق وممارسته. والثاني أن إطلاق سراح رياض الترك قبل سنة تقريبا من وفاة الرئيس الأسد قد جاء في إطار سعي النظام السوري للخروج من العزلة الدولية واعتبر رسالة موجهة للرأي العام الوطني والخارجي عن نية الحكم القائم في الانفتاح وتغيير أسلوب ومنهج التعامل مع المجتمع. واعتبر استمرار رياض الترك في التعبير عن مواقفه ورأيه، من دون أن يتعرض للاعتقال، خلال أكثر من سنتين من حياته خارج السجن، أحد المؤشرات البارزة على هذه النية. وبالتالي جاء اعتقاله ليطرح أسئلة عديدة حول جدية الانفتاح الذي بشر به العهد الجديد وصدقيته. ودفع هذا جميع المهتمين بالشأن العام في الداخل وأصدقاء الشعب السوري في الخارج إلى الشك بقدرة النظام على التطور والتحديث والتخلي عن أساليب العمل القديمة.

وقد زاد هذا الشك إن لم يتحول إلى يقين بعد أن التحق برياض الترك ثمانية معتقلين آخرين لمشاركتهم في الندوة التي شاركت فيها أنا نفسي في منتدى الحوار الوطني في الخامس من أيلول 2001، وهم رياض سيف وحبيب عيسى وكمال اللبواني ووليد بني وعارف دليلة وحبيب صالح وفواز تلو وحسن سعدون. وكان قد سبقهم جميعا مأمون الحمصي. وجميع هؤلاء من معتقلي الرأي الذين لم يشاركوا في أي عمل يخالف القانون أو يسيء إلى النظام، إلا إذا لجأ القضاء إلى استخدام قانون الطوارئ الذي يحرم الاجتماعات بعد أن أعلن مسؤولون حكوميون عن تجميده عمليا أو عدم استخدامه لضرب النشطاء السياسيين والمثقفين. ومعظم هؤلاء المعتقلين وربما جميعهم سيحاكمون في محاكم أمن الدولة التي لا تقبل أحكامها الاستئناف.

أما دلالات هذه الاعتقالات الجماعية السياسية فهي في نظري اثنتين. فأنا أعتقد أن الجناح المتطرف في النظام قد لجأ إليها وفرضها على العهد كي يقطع الطريق على نمو التيار الإصلاحي وبروزه داخل الحكم، في الدولة والحزب الحاكم نفسه. فهي موجهة بالدرجة الأولى إلى هذا التيار وضده لردعه عن التفاعل والتجاوب مع الدعوات المتواصلة النابعة من المجتمع السوري ونشطائه من أجل المصالحة الوطنية والخروج من مناخ الحصار الذي تضربه الدولة من حول الشعب والمجتمع استمرارا لما أطلقت عليه في محاضرتي الحرب السياسية الأهلية. وفي اعتقادي أن جريمة المعتقلين الرئيسية تكمن بالضبط في دعوتهم للانفتاح والمصالحة والحوار والتفاهم وليس في أي شيء آخر. وتمارس هذه الدعوة تأثيرا متزايدا على القاعدة العريضة للحزب الحاكم التي تقلصت منافعها وامتيازاتها كثيرا مع تدهور الأوضاع الاقتصادية العامة وتفاقم تمركز الثروة والسلطة، والتي لم تعد تحلم بشيء سوى الخروج من حالة الحصار المتبادل التي تعيشها مع المجتمع وتطمح إلى الاندماج بالشعب والتجاوب مع آماله وتطلعاته الديمقراطية والاجتماعية.

أما الدلالة الثانية فهي اعتراف النخبة الحاكمة التي تهيمن على جميع وسائل التعبير والإعلام والثقافة، وبالرغم من هذه الهيمنة التي قل نظيرها في العالم اليوم، بأنها غير قادرة على أن تواجه بالمنطق وبالحجج العقلية خطاب مجموعة قليلة من المثقفين والسياسيين الديمقراطيين الذين لا يملكون في مواجهتها سوى الرأي الحر الذي يعبرون عنه في أضيق دوائر ممكنة، أي في الصالونات العائلية. مما يدفع إلى التساؤل فيما إذا كانت النخبة الحاكمة لا تزال تؤمن بنفسها بالفعل وتصدق ما يتبرع بقوله أنصارها عنها، وبالتالي تعتقد فعلا بقابلية نظامها للحياة .

 

         * بعد أكثر من عام على تغير العهد في البلد، لا يبدو أنه قد بلور ملامح سياسية خاصة به، بل يبدو أن شعار الاستقرار الاستمرار هو تغطية لغياب هذه الملامح أو للعجز عن تكوينها. هل ترون أن الأمر يتعلق بتعطيل متبادل داخل مراتب السلطة السورية العليا، وكيف تنظرون إلى نظام السلطة الراهنة في سورية من حيث قدرته على علاج أوضاع البلد ومن حيث علاقته بأعباء العهد الماضي، ومن زاوية استجابته لتحديات البناء الداخلي والوضع الإقليمي؟

* أعتقد أن المعركة الرئيسية التي تخاض اليوم في سورية، وإن كان ذلك بصمت ومن دون ضجيج، هي داخل النظام نفسه. فالأغلبية فيه تعرف أنه لم يعد من الممكن الحفاظ على النظام من دون السعي إلى إحداث تعديلات جذرية علي طريقة عمله وممارسته للسلطة والإدارة معا. ويزداد نزوعها نحو ملاقاة فئات المجتمع الأخرى مع شعورها المتزايد بأنها لم تعد قادرة على المحافظة على أوضاعها، بما في ذلك الأوضاع المادية، مع استمرار الفساد والتدهور في القدرة الإنتاجية والإدارية والسياسية معا. وبالمقابل لا يشغل بال (البارونات (الكبار سوى إقفال النظام وسد جميع الثغرات التي يعتقدون أن من الممكن أن يدخل منها نسيم، وليس بالضرورة ريح، يغير قليلا من مناخ الخوف السائد أو من أسلوب عمل الأفراد، سواء أكانوا داخل النظام أو خارجه. فالتجميد والجمود والتحصن المتزايد وراء المتاريس الأمنية والقانونية والمعنوية والمزاودة بالوطنية هو سلاح هؤلاء الوحيد لقتل إرادة التغيير التي تنتشر في كل أوساط الشعب السوري وقبل أي شيء آخر في الأوساط الحزبية. وطالما استمر هذا الصراع ولم تحسم السلطة نزاعاتها الداخلية فلا ينبغي أن نتوقع أن تنجح في بلورة أي سياسة داخلية أو خارجية ثابتة ومتسقة. وستظل تستخدم شعار الاستقرار والاستمرار مثله مثل شعار التطوير والتحديث كوسيلة للتغطية على حالة الفراغ والجمود وسياسة إدارة الأزمة أو التسيير اليومي لشؤون الحكم، أي على العجز عن بلورة مشروع ورؤية جدية لوضع البلاد على طريق النهوض ومواجهة تحديات المستقبل.

 

* هي في رأيكم أبرز نواقص وعيوب الطيف الديمقراطي في العام الأخير، وكيف يمكن تجاوز هذه النواقص؟

* أخطر ما أصاب السوريين في العقود الماضية في نظري هو فقدهم الثقة بذاتهم وبقدرتهم على العمل والإنجاز. أصبحوا ينظرون لأنفسهم بأقل بكثير مما هم عليه. وهذا هو أيضا مرض ما تسميه بالطيف الديمقراطي أي مجموع الحركات والتنظيمات والشخصيات المتعاملة مع الشأن العام من منطلق التغيير الديمقراطي. وبين هؤلاء مجموعات كبيرة من المثقفين والأحزاب والجمعيات المدنية، وهم قادرون لو نجحوا في العمل المنظم والطويل النفس على تكوين حركة ديمقراطية لا تقل عما هو موجود في أي بلد آخر من البلدان العربية· أما الذي يمنع هذه المكونات الرئيسية القائمة أو يضعف قدرتها على تكوين حركة تغيير ديمقراطي ذات صدقية وفاعلية فهو انعدام التفاعل والتواصل الفكري والسياسي والتنظيمي بينها، وهما الشرطان الضروريان لبث قوة معنوية وسياسية فيها ولتحويل هذا الشتات من العناصر والقوى الساكنة أو المحيدة إلى قوة متحركة على الأرض ذات مشروع عملي محدد الأهداف وواضح المبادئ وبالتالي ذات قدرة كبيرة على المبادرة الفكرية والعمل. فمن خلال التفاعل والتواصل وحدهما يتم كسر جدران العزلة والاعتزال التي فرضتها على الناس عقود طويلة من الحكم الشمولي وصوغ رؤية جماعية ومتسقة للمستقبل توحد من حولها جميع قطاعات الرأي العام الديمقراطي وتوسع قاعدة العمل السلمي من أجل إخراج سورية من أوضاعها السلبية القائمة. ومنع مثل هذا التفاعل هو أكثر ما يحرص عليه قادة مشروع الحفاظ على الوضع القائم ورفض أي تغيير. فهم لا يستهدفون من سياسة الرقابة على الكلام والحد من حريات التعبير وتعطيل عمل المنتديات الفكرية والسياسية وإلغاء أي حياة حزبية ورفض الحوار سوى ردع الجمهور عن الالتقاء ومن ثم منع حصول مثل هذا التفاعل وذلك لقطع الطريق على ولادة أي حركة إصلاحية. ولأن إرادة التغيير أصبحت أقوى من أن تدفن حية، ولأن قوى المحافظة على الوضع القائم لا تزال تملك من الموارد والأدوات وإمكانيات الحرب ما يمكنها من المقاومة الطويلة، فإن أكبر ما ينبغي أن نخشاه هو أن يستمر الصراع لفترة مديدة من دون أن نجني أي ثمرة سوى تحييد قوانا واحدتها بالأخرى واستنزاف طاقات الشعب السوري، وأن لا نستيقظ ونعي قيمة الوقت الذي نضيعه على المجتمع في سبيل الحفاظ على مصالح قليلة وغير مضمونة، إلا بعد أن يكون الوقت قد فات، وأصبح مستحيلا علينا أن نلحق بالأمم الأخرى وبالشعوب العربية القريبة، بل أن نحتفظ بشروط بقائنا كدولة حقيقية. فنجد أنفسنا فجأة وقد تكرس وضعنا كبقايا وطن يعيش على هامش العالم وخارج دورات نموه الحية. ولن يكون هناك رابح من هذا التجميد والتحييد المتبادل لطاقات مجتمعنا سوى تلك القلة القليلة جدا التي تكون قد نجحت في تحويل موارد البلاد جميعا إلى الخارج ولم تترك لمن ظل فيها شيئا آخر سوى الشقاء والبلاء العامين والدائمين·

 

دعوتم في محاضرتكم في "منتدى الحوار الوطني" إلى أن يبادر رئيس الجمهورية إلى إعلان نهاية الحرب الاجتماعية في سورية وإرساء النظام السياسي والاجتماعي على قواعد جديدة. هل لك أن تفصل في هذه النقطة الهامة جداً؟ وهل يمكن تحويلها إلى مبادرة سياسية يدعو إليها وينهض بها الطيف الديمقراطي المذكور؟

*  تفتقر سورية في الوقت الحاضر إلى الحد الأدنى من الحياة السياسية والمدنية السليمة والطبيعية. وليس المهم اليوم العودة إلى الأسباب وتحديد المسؤوليات في وصولها إلى مثل هذا الوضع لكن ما يهمنا هو معرفة كيفية التقدم نحو الأمام والمراهنة على جميع العناصر الإيجابية التي يمكن المراهنة عليها، في أي موقع كانت ولأي تيار انتمت، في سبيل وضع جميع الشروط الإيجابية في جانبنا لتحقيق هذا التقدم. فلا ينبغي أن يلهينا الصراع حول تعيين جنس شياطين الماضي وملائكته وتحديد مسؤوليات ما جرى فيه عن مسؤولية الإعداد للمستقبل وتوفير أفضل الشروط لبنائه. ومسؤولية بناء هذا المستقبل تقع علينا جميعا، وبالمقدار ذاته. وفي هذا الإطار أنا أعتقد أن ضمان المستقبل يتوقف على قدرتنا على إيجاد الظروف الكفيلة بخلق مناخ من التعاون والتضامن بين جميع السوريين للدخول في مناخ العمل الوطني الجديد وتذليل الصعوبات الكبيرة القائمة على طريق الإصلاح والدخول في القرن الواحد والعشرين بحد أدنى من الانسجام الاجتماعي والتفاهم الوطني والثقة بالذات. ولا يستطيع أحد أن يوجد مثل هذه الظروف التي تساعد على الجمع بين السوريين وإعادة الثقة إليهم بأنفسهم وتطوير علاقات التفاهم والتضامن والتراحم والتكافل فيما بينهم، وليس بإمكان أحد أن يوجدها، سوى رئيس الجمهورية الذي يملك حق التصرف بوسائل سياسية وإعلامية وقانونية ومادية لا نهاية لها في سبيل إعادة توجيه دفة السفينة الوطنية إضافة إلى أنه هو الذي يمثل جميع السوريين وينطق باسمهم.

ومنذ البداية راهن الشعب بجميع فئاته، وفي مقدمها القوى الديمقراطية، على مثل هذه المبادرة الرئاسية الكفيلة وحدها بإخراج البلاد والمجتمع من الطريق المسدود الذي أوصلتها إليه سياسة ايديولوجية وشمولية ظهر خطؤها في كل بلاد العالم الأخرى التي اتبعتها، وتجنيبهما الدخول في الحلقة المفرغة والمدمرة للصراعات والمشاحنات والتنازع على الحكم وتضارب المصالح الفئوية التي نهم بالدخول فيها لعصر طويل قادم من دون أن تكون لدينا الوسائل والمؤسسات القادرة على حسمها وضمان الحد الأدنى من الوحدة والاستقرار الاجتماعيين. إنها الوسيلة الوحيدة المتبقية لنا لوقف الانحدار والسقوط في مجاهل لا نعرفها ولن نستطيع أن نسيطر على أنفسنا فيها. ولا ينبغي أن نعتد كثيرا بقدراتنا الأمنية وصلابة أجهزتنا الردعية وقد أظهرت أحداث الولايات المتحدة أنه لا يوجد هناك شيء أكثر ضمانا للأمن من التفاهمات السياسية وبناء المصالح المشتركة والمتوازية، وذلك على مستوى العالم كما هو الحال على مستوى كل مجتمع ودولة.

إن هدف المبادرة هو مساعدة الشعب بأكمله على تجاوز الصراعات الماضية والتحرر من قيودها وعلى استرجاع ذاكرته الوطنية واستعادة ثقته بنفسه كمجتمع واحد وكوطن حقيقي يقدم للفرد الحماية والأمن وحياة قانونية وسياسية واجتماعية سليمة، أي قائمة على مبادئ إنسانية واضحة ومقبولة من الجميع وتحديد لحقوق كل فرد وواجباته تجاه نفسه والفرد الآخر والجماعة الوطنية ككل.

فأنا أرى في هذه المبادرة نوعا من الإعلان السوري الذي لم يحصل بعد، بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال، وتدبيج العديد من الدساتير الانتقالية والدائمة، عن حقوق المواطن والإنسان، أو عن حقوق المواطن كإنسان، والتأكيد بأن سورية لجميع السوريين بالتساوي، وأنه لا يوجد فيها من هو من أبناء السيدة ومن هو من أبناء الجارية كما ساد ولا يزال بسبب التمييز الذي تكرسه القوانين بين الأفراد بحسب انتمائهم العقائدي أو السياسي أو المهني أو المناطقي. وهذا يعني اعتراف الدولة بجميع أبنائها وعدم التمييز بين الأبناء الشرعيين الذين تضمن  لهم كل الحقوق المدنية والسياسية وتؤمن لهم الحماية المادية والقانونية والأبناء غير الشرعيين الذين تحرمهم منها ولا يضيرها أن يسجنوا أو ينكل بهم لأسباب واهية أو يخضعوا لمحاسبة ومراقبة دائمتين كما لو كانوا جانحين أو مشكوك بولائهم لوطنهم بالولادة.

إن الإعلان عن المساواة الكاملة والمطلقة في الحقوق والواجبات، المدنية والسياسية، وإلغاء كل أشكال التمييز بين الأفراد، هو أساس الانطلاق على طريق بناء سورية جديدة، بما يتضمنه ذلك من تصفية ذيول الصراعات الطويلة الماضية في كل أشكالها وبصرف النظر عن أسبابها ومسبباتها، وفتح صفحة جديدة، يكون عنوانها التفاعل والتضامن والتكافل بين جميع أبناء الشعب الواحد وتكريس ذلك من خلال ضمانات دستورية تكفل حرية الفرد وكرامته ومساواته القانونية. ولا توجد ضمانات دستورية من دون وجود مؤسسات تعكس إرادة الشعب وتشكل المرجعية النهائية في كل خلاف أو سلوك يتعلق بالشؤون العمومية. ومن هنا فإن أي مبادرة تهدف إلى إنهاض الشعب ودفعه إلى المصالحة مع الذات والانطلاق في العمل وبذل الجهد للبناء لا بد أن تبدأ من إطلاق إرادة الشعب والدفع إلى التعبير عنها من خلال الإعداد لانتخابات نيابية حرة، خارج أي وصاية سياسية أو أمنية. ولا تنبع أهمية الانتخابات الحرة من ضمانها التمثيل الأمين والصادق لجميع القوى الاجتماعية فحسب ولكن أكثر من ذلك مما تعبر عنه من إعادة السيادة إلى الشعب والاعتراف به وبإرادته المعبر عنها في التصويت العام والموحد المتواتر، كمصدر للشرعية، أي كمعيار لقياس حق أي سلطة في الوجود والاستمرار.

والواقع أن تراجع السلطة القائمة عن الأخذ بالشرعية الثورية التي تمت بمقتضاها في الماضي مصادرة سيادة الشعب بسهولة قد جعل السلطة معلقة في الفراغ. إذ ليس هناك بديل عن التنازل عن الشرعية الثورية إلا القبول بالشرعية القانونية، أي بانتخابات ديمقراطية، أو العودة إلى ما يسميه ماكس فيبر صاحب نظرية الشرعية، إلى الشرعية التقليدية التي تمثلها الوراثة الملكية. والسلطة القائمة تتردد في الواقع للدفاع عن نفسها ووجودها بين جميع هذه الاختيارات وتشعر بالحرج والقلق الشديد بسبب ذلك. ويدفع هذا منظري السلطة وأنصارها إلى الدخول في مفارقات لا حل لها. فهم من جهة يؤكدون على أن النظام القائم نظام ديمقراطي تعددي، لكنهم يرفضون من جهة أخرى فكرة الديمقراطية والانتخابات العامة الحرة التي تهدد في نظرهم بتفجير النزاعات الأهلية وتقود إلى عدم الاستقرار. وبينما نجد أكثرهم ينفون استناد الحكم إلى الشرعية الثورية الانقلابية التي تطورت باسم الطلائعية والقضاء على البرجوازية ومواجهة الإمبريالية، التي ميزت جميع النظم الشمولية، يصر آخرون على تمتع الحزب الحاكم بحقوق القيادة الأبدية والكلية للمجتمع والدولة باسم الطلائعية والوطنية ومقاومة الضغوط الأجنبية. ولا يجدون مخرجا لهذا القلق الدستوري سوى التأكيد على القوة العددية الهائلة التي يمثلها حزب البعث، مما يعني أن السلطة موجودة أيضا لأنها تمثل أغلبية سياسية، أي حسب مصدر الشرعية القانونية، لكن في هذه الحالة يرد عليها خصومها بأنه إذا كان حزب البعث يحكم باسم تمثيل الأغلبية السياسية فلماذا يصر على إقامة سلطته على أسس إذعانية بدل أن يبادر إلى تجديد شرعية وجوده في الحكم من خلال الإعداد لانتخابات ديمقراطية حرة تمكنه من العودة إلى السلطة بتأييد شعبي مضمون، ويساهم في حسم مسألة الشرعية وتداول السلطة في البلاد.

إن حسم مسألة الشرعية، أي إقرار قاعدة تداول السلطة، هو أساس الاستقرار في أي اجتماع سياسي. ومن دون ذلك يسهل الانحراف وتزداد فرص الانزلاق في عملية الصراع على السلطة بما يمكن أن يعرض وحدة المجتمع للخطر ومصير البلاد ومستقبلها للضياع. ولا أعتقد أن هناك ظروفا تسمح بالتفكير بإعادة إقامة السلطة على أساس الشرعية الملكية، وستبقى خلافة الرئيس لأبيه حالة استثنائية، كما أنني لا أعتقد أن الظروف تسمح اليوم بالعودة إلى الشرعية الثورية. ولذلك سيزداد الضغط على النظام في هذه النقطة أكثر فأكثر مع اقتراب الاستحقاقات الدستورية، وسوف يجد نفسه مضطرا أكثر فأكثر أيضا في سبيل التغطية على هذا الضعف إلى الدخول في مفارقات واللجوء إلى الوسائل القمعية.

           إن إعادة الحياة البرلمانية السليمة لا تشكل أساس الاستقرار المطلوب في الداخل والخارج من أجل تحقيق مشروع الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات وتوطين المحلي منها ومنعه من الهرب فحسب ولكنها هي الوحيدة القادرة على مساعدة الشعب على التحرر من تبعات الماضي وأعبائه وذيوله الثقيلة وتعبئة طاقاته المادية والمعنوية وعلى تحقيق وحدته الوطنية من خلال إشراكه أفرادا ومنظمات مدنية وسياسية معا في تحمل المسؤولية وتقديم التضحيات الضرورية لإحداث قفزة نوعية في أساليب العمل والإدارة والمبادرة، وفي تجاوز الثغرات والنقائص ونقاط الضعف العديدة في حياتنا الاجتماعية وتذليل كل المقاومات ومصادر العطالة التي تعيق مسيرتنا الوطنية.

وأرى في فكرة أن تتحول مثل هذه المبادرة إلى مبادرة للقوى الاجتماعية المختلفة، بما فيها قوى المعارضة الديمقراطية فكرة ملهمة وإبداعية. فلعله يكون من الممكن إذا تمت بلورة هذه المبادرة في صيغة مشروع وطني وكإطار للعمل المشترك بين المعارضة والحكم وكوسيلة للانتقال السلمي والهادئ نحو حياة سياسية صحية، أن ننجح في توحيد قطاعات الرأي العام السوري بأكملها، داخل الحكم والمعارضة معا، وفي تجميعه حول مشروع واضح المعالم ومحدد، ولوضعه على سكة الممارسة السياسية العقلانية والإيجابية. ولعلنا نستطيع انطلاقا منها أن نبني أسسا قوية للحوار الوطني الذي يشكل وحده الضمانة لإعادة لحم الشعب السوري وتوجيه نشاطاته نحو العمل والإنتاج والإبداع بدل التنابذ والتنافس السلبي والاقتتال. ومن دون القيام بمثل هذه المبادرات الشجاعة والجريئة معا لن نستطيع أن نواجه مقاومات مراكز الضغط والمصالح البيروقراطية القوية التي تسيطر على الدولة وتجيرها من الداخل لخدمة أهدافها، إضافة إلى أن سورية سوف تبقى لفترة طويلة من دون حياة سياسية ومدنية حقيقية، ومن دون مشروع وطني مشترك، منقسمة على نفسها وسيبقى تاريخها تاريخ الحصار المتبادل للمجتمع والدولة.

إن مبادرة رئيس الدولة بإعلان العفو العام وتصفية ذيول الصراعات والمواجهات الماضية والإعداد لانتخابات ديمقراطية ستقدم للرئيس الفرصة لاستخدام الشرعية الكاريزمية التي سوف يحصل عليها من خلال التأييد الشعبي الواسع والحماس الذي ستثيره مثل هذه المبادرة من أجل الانتقال الهادئ من الشرعية الثورية المستنفدة إلى الشرعية القانونية المستقرة· وسوف يخلق الإجماع الواسع الذي ستخلقه هذه المبادرة والالتفاف الكبير وراءها مناخا يجبر الجميع على الارتفاع إلى مستوى المسؤولية ويدفعهم إلى تجاوز منطق المنافع والمصالح الفئوية. ولن يكون هناك من يجرؤ على التفكير بالوقوف في مواجهة الإجماع الوطني، ومن يفعل ذلك سوف يجد نفسه معزولا وخارجا على الإجماع.

 

* لازالت الكتلة الأساسية للشعب السوري غائبة عن الحراك الذي شهده البلد في العام الأخير· وأعتقد شخصيا أن سر هذا الغياب هو غياب الشعب السوري أصلا أو زواله كإرادة عامة ممكنة، ما رأيكم؟ وما السبيل إلى استعادة اجتماعية المجتمع السوري واجتذاب الجمهور العام إلى الشأن العام؟

*  أنت على حق تماما في ملاحظتك القيمة. فما كان من الممكن للسلطة البيروقراطية الشمولية القائمة أن تفرض نفسها وتخضع المجتمع لها من دون أن تعمل مسبقا على حل جميع عرى هذا المجتمع وتقوم بتفتيته وتذريته إلى أفراد وجماعات لا لقاء بينها ولا شيء يجمع بين عناصرها، وذلك في سبيل حرمانه من أي إرادة مستقلة وأي قدرة على الحركة والمبادرة الخاصة بمعزل عنها ومن دون إرادتها. بذلك وحده كان يمكن استتباعه وإلحاقه بالسلطة وتسخيره لخدمة أهداف ومصالح الفئة القليلة القائمة عليها.

ومن دون شك ستتطلب عودة المجتمع إلى الحياة السياسية والمدنية الطبيعية، أي استعادة الشعور بالذات كإرادة مستقلة موجودة خارج الدولة وبصرف النظر عن الأجهزة الأمنية والقمعية التي تؤطرها، ومن دون الحاجة إليها، وقتا طويلا وجهدا كبيرا معا. فليس في مصلحة الفئات المستفيدة من الوضع الراهن أن يتغير هذا الوضع الذي يضع مجتمعا كاملا في خدمتها وتحت تصرفها بجميع موارده وسكانه وتراثه. وهذه هي دلالة رفض الحكم الاعتراف حتى بمفهوم المجتمع المدني الذي يشكل اليوم موضوع النقاش والتطوير الأساسي في العالم جميعه، المتقدم والنامي على حد سواء. وليس هناك بلد لا يشكل العمل فيه على تنشيط المجتمع المدني وتدعيمه أولوية مطلقة، في مواجهة تحديات العصر الجديد الذي يقوم على التنافس الحر بين المجتمعات عبر الدول وفيما وراء الحدود التي تفصل بينها ومع تحييد جزء كبير من تدخل سلطة الدولة التقليدي. وبالمثل، ليس من الممكن لهذا المجتمع أن يتجاوز خوفه وانكفاءه على قيمه الفردية والعائلية والشخصية، أي تجنبه كل ما له علاقة بالشأن العام، وما يرتبط بالتفكير أو العمل في مجال المصلحة العامة والوطنية، مادامت السياسة أو المشاركة بأي شكل في العمل العام تعتبر جريمة يعاقب عليها النظام. إن شرط ذلك هو من دون مواربة تحرير السياسة، من حيث هي انشغال بالشأن العام ومساهمة في تسييره وتنميته، من التحريم الذي أحاط بها وتطوير ثقافة الشعور بالمسؤولية العامة والمدنية في مواجهة ثقافة المنفعة الخاصة والأنانية والارتزاق والانتهازية والوصولية التي كانت ضرورية لبناء القاعدة الزبائنية لنظام بدأ يفتقر بسرعة للقاعدة الاجتماعية الوثيقة والثابتة.

 

* هناك مكبوت أو مسكوت عنه عميق في وجدان السوريين وذاكرتهم، هو بكل صراحة وأسف الشأن الطائفي. إن حضور هذا العامل وكثافته وتلويثه للوعي الاجتماعي وصل إلى درجة أن بعضنا ترجموا كلامكم في المحاضرة ذاتها عن نخب مدينية ونخب ريفية إلى اللغة الطائفية. ويشعر بعضنا أيضا أن مجرد الحديث أو التفكير بهذا العنصر خطر ومقيت. بوصفكم مفكرا كتب كتابين عن الموضوع، ومثقفا محترما رفض الاستئصالية والأصولية (وهاتان أيضا أسماء حركية في سورية على الأقل لمظاهر الشعور الطائفي). نرجو أن نسمع من وجهة نظر عملية أراءك عن هذا المكبوت وعن التحريف الإيديولوجي الذي يتولى وظيفة الكبت؟

* ما هي الطائفية؟ إنها الغش المزدوج في الدين والسياسة معا. غش في السياسة لأن الطائفي لا يهدف من تضامنه مع ابن طائفته داخل النظام العام إلا إلى الالتفاف على قانون تكافؤ الفرص الذي يقوم عليه مبدأ المواطنة، وهو أساس أي سياسة حديثة، في سبيل تحقيق مصالح خاصة إضافية ولا شرعية. فالطائفية لا تختلف في الواقع عن التجمعات المافيوية التي تقوم على تضامنات غير مشروعة لأنها تهدف إلى تعظيم مصالح أفراد بطريقة غير مشروعة أيضا، قائمة على الالتفاف على القانون. ومن هنا تسمى المافيا نقابة الجريمة والإجرام فهي تضامن وتفاهم ضد القانون ومن أجل مصالح ومنافع يحرمها هذا القانون. وخطر الطائفية كخطر الشبكات المافيوية هو القضاء على دولة القانون وتحويل الدولة إلى مرتع لمراكز قوى وشبكات مصالح تستخدم النظام العام بما فيه من موارد عامة ومؤسسات ووسائل لتعظيم نفوذها وزيادة منافعها على حساب مجموع الشعب. وبإحلالها سلطة العصابة ونفوذ قانون التحالف من أجل الجريمة أو الغش محل سلطة الدولة والقانون لا تقوم شبكات التضامن الطائفي والمافيوي باغتصاب حقوق المجتمع وسرقة موارده فحسب ولكنها تعمل أيضا على تخريب النظام الاجتماعي كله بنزعها الصدقية عن المؤسسات والأسس التي تقوم عليها الحياة السياسية والاجتماعية الوطنية، أي الحديثة. وهكذا يدفع استفحال أمر هذه الشبكات داخل الدولة إلى تراجع الإيمان بها والثقة بقانونها عند جميع أفراد المجتمع وبالتالي إلى إعادة إحياء العصبيات التضامنية القديمة. ومن هنا نجد انهيار الدولة بالمعنى السياسي وبروز العصبية القبلية والعشائرية والعائلية من جديد كبديل عن الدولة ووسيلة للحماية من شرها· وهذه هي جدلية النكوص إلى نظم شبيهة بنظم القرون الوسطى وانهيار كل مكتسبات الحداثة السياسية.

والطائفية غش في الدين لأن الطائفي يستخدم العصبية المذهبية كمصدر لتضامن مافيوي، أي كوسيلة لتكوين رابطة تهدف إلى تعظيم مصالح دنيوية لا علاقة لها بالدين. فهي نفي للسياسة وللدين معا، وتجيير مشترك لهما لمصالح أنانية وفئوية تتعارض مع المصلحة العامة والمبادئ الأخلاقية.

والخوف الذي لاحظته عن حق في مجتمعنا من الحديث في الطائفية أو مجرد إثارة موضوعها، دون الحديث عن طرحها للمناقشة، يخفي الشعور بلا شرعية ممارستها مع تعميم هذه الممارسة. وهو المنطق ذاته الذي يحكم النشاطات المافيوية. فالمافيا أيضا تعمل في السر ولا تستطيع أن تعيش في ضوء النهار، أي القانون، لأنها نشاط معاد للقانون بالتعريف. والطائفية ممارسة معادية للوطنية ومفجرة لها في الوقت نفسه. وحدهم الذين تخلصوا من مرض الطائفية، لأنهم أصبحوا أفرادا أحرار مستقلين عن عصبياتهم ومؤمنين بقيم المساواة بين الناس وحق الجميع في الحصول على حظوظ وفرص متساوية في المجتمع أمام القانون، وبفائدة هذه المساواة لتطوير الكفاءات الفردية لصالح المجتمع ككل، لا يخشون من النظر ببصيرة وجرأة إلى الواقع كما هو. وبالعكس من ذلك، إن من يمارس الطائفية ويستخدمها يخشى من افتضاح أمره كما يخشى الخفاش من النهار. فالطائفية مثلها مثل الشبكات المافيوية التي تستعمر الدول وتستتبعها هي قمة الفساد، فساد الدولة والقانون والسياسة. ومن يمارسها ويغطي عليها ويتساهل معها لا يغطي على الفساد فحسب ولكنه يغذيه ويشجع عليه والسكوت عنها يساوي المشاركة في الفساد والتستر عليه.

ليست الطائفية (تابو) ولا ينبغي الخوف من فضحها والتصدي لها. كما لا ينبغي الخوف من الاعتراف بأن العقود الماضية قد شهدت تطورا كبيرا في الممارسات الطائفية بين قطاعات واسعة ومختلفة من الرأي العام وأن هذا التطور يهدد الشعور البسيط بالوحدة الاجتماعية. ولا يفاجئني أن البعض فسر تحليلي الاجتماعي في منتدى الحوار تفسيرا طائفيا، فالطائفية أصبحت للأسف هي اللغة السائدة اليوم في مجتمعنا. ومن الصعب على من هو غير مختص في العلوم الاجتماعية أن يذهب إلى ما وراء المظاهر وأن يدرك البنية الاجتماعية الفعلية للصراعات التي شهدناها ولا نزال نشهدها منذ عقود. بالتأكيد إن الوعي الطائفي والوعي المواطني الحديث موجودان كلاهما في المجتمعات العربية الراهنة. لكن لا ينبغي لوجود التنافس الطائفي أن يمنعنا من رؤية أولوية الصراع الاجتماعي الذي أعتقد أنه هو الأساس في الصراع الذي عشناه في العقود الماضية. ومن ينظر بموضوعية للمعطيات والوقائع التاريخية يكتشف بسهولة أن الطائفية لم تكن في البداية ذات نفوذ مهم، وأن تزايد نفوذها ودورها قد ترافق مع اشتداد النزاع والصراع داخل النخبة الريفية ذاتها وعلى إثر التصفيات المتبادلة التي حصلت في صفوفها. وشيئا فشيئا تحولت العصبية الطائفية إلى ما يشبه النواة التي تتبلور من حولها مصالح وتحالفات اجتماعية أوسع بكثير منها ولا تشكل في أي حال بديلا عن هذه المصالح والتحالفات كما أنه من المستحيل إرجاع هذه المصالح إليها وحدها. وهي تنمو داخل الصراعات الاجتماعية ولا تحل محلها، حتى لو كان من الممكن أحيانا للسلطة الريفية أن تتراجع إلى سلطة عصبوية في طور تفككها وانحطاطها. وما حدث في سورية هو صراع بين النخب الاجتماعية لا بين الطوائف بأي شكل كان وإن كان هذا الصراع الاجتماعي قد تقاطع ويتقاطع مع خطوط تمايز طائفية.

وعلى كل حال، ليست الأمور أحادية الجانب ولا ساكنة أو جامدة عندما يتعلق الأمر بفهم العلاقات الإنسانية والاجتماعية. فأمام الكأس نصف الممتلئ هناك من لا يرى إلا القسم الفارغ فيقول إنه فارغ، كما أن هناك من لا يرى إلا القسم المملوء فيقول إنه ممتلئ. وبالمثل عندما نتحدث عن العلاقات بين الحضارات اليوم، هناك من يقول إننا أمام صراع الحضارات، وهناك من يقول إن هذا الصراع لا معنى له فنحن بالعكس نسير في اتجاه العولمة والاندماج العالمي في عالم واحد، ويدعو إلى حوار الحضارات. فقراءة الواقع الاجتماعي والإنساني لا يمكن أن تنفصل عن مصالحنا في تحويله وتغييره. وإذا قلنا إننا مع حوار الحضارات فلا يعني ذلك أنه لن يكون صراع بين الثقافات أو الشعوب الشرقية والغربية، ولكنه يعني أننا نختار أن نركز على عناصر التقارب بين المجتمعات البشرية، وهي موجودة، حتى نوجه الواقع في اتجاه التعاون والحوار والتضامن لا في اتجاه الحرب والعنصرية والاقتتال بين الشعوب. وبالمثل، عندما يصرح رئيس وزراء إيطاليا بأن الحضارة الغربية أفضل من الحضارة العربية فهو لا يقرر حقيقة جزئية فحسب ولكنه يدفع في اتجاه تغذية الحرب بين الحضارات بالفعل، وقد تصبح هي الوضع السائد إذا لم ننجح في الاستثمار في ما يجمع بين الشعوب.

فالتحليل لا يمكن أن ينفصل في الميادين الإنسانية عن الاختيارات الأخلاقية والسياسية بأي شكل. والسبب في ذلك أن الواقع الاجتماعي واقع المجتمعات وميدان العلاقات الإنسانية ليس موضوعا جامدا وجاهزا وناجزا ولكنه موضوع متحول ومتغير وبالتالي لا حتمية مطلقة فيه. فهو نتيجة خياراتنا وعملنا لا شيئا مفروضا علينا. وكما أننا نستطيع أن نركز على علاقات التشابه والتفاعل ونستثمر فيها فنصل إلى درجة أكبر من التعاون وتنمية العناصر المشركة وندخل بالفعل في ديناميكية حوار الحضارات وتعاون الشعوب مختلفة الثقافة، يمكننا أيضا أن لا نركز إلا على عناصر التناقض والاختلاف والبغض ونستثمر فيها فنصل بالفعل إلى حرب الحضارات. إن تحليلنا للواقع ليس مستقلا عن إرادتنا أو طبيعة تصورنا لاتجاه تغييره.

وكذلك الحال بالنسبة للمجتمع السوري والمجتمعات العربية. فكما أن بإمكاننا أن نركز على الوعي الوطني ونستثمر فيه أملا بدفع الواقع في هذا الاتجاه، يمكننا أن نركز على الوعي الطائفي ونستثمر فيه فنصل لا محالة إلى مجتمع طائفي. ومن الواضح أننا اخترنا أن نراهن على عناصر الوعي الوطني والمجتمعي الذي وإن بدا اليوم ضعيفا، لكنه في نظري هو الوعي العميق المنسجم مع التاريخ وهو المستقبل. وبذلك يمكننا أن ندفع الواقع في اتجاه الخروج من الطائفية والانخراط في الوطنية والتوظيف فيها. فهي الحل. ولا يضيرنا أن لا يرى الآخرون سوى الطائفية في المجتمع وأن يركزوا على العناصر السلبية ويستثمروا فيها حتى يتمكنوا من إضعاف الوطنية وتشتيت إرادة المجتمع للتمكن بشكل أسهل من إخضاعه. إن التقسيمات العمودية هي رهان النظم الشمولية جميعا التي تخشى التداول والتغير والتواصل والحراك وتعبد الجمود وتعليب المجتمع ضمن عصبيات وجماعات مهنية ثابتة وجامدة  ونهائية· وتحليلي الاجتماعي، أو اختيار التركيز على الصراع الاجتماعي، ليس محايدا أبدا. إنه يعبر أيضا عن الأفق الذي نريد للمجتمع أن يسير نحوه وفيه لحل مشكلاته ونزاعاته وتناقضاته، بما فيها التناقضات الطائفية

وأنا أعتقد أن المجتمع السوري قد وصل إلى درجة من التحول والنضج المدني والانخلاع عن قيم وأنماط القرون الوسطى تجعله على وجه العموم غير قادر على إعادة إنتاج العصبيات الطائفية والعشائرية بشكل مستقل عن الصراعات الاجتماعية. وهذا ما يفسر قدرته على امتصاص التوترات الطائفية حتى الآن واستعداده القوي للدخول بسرعة وسهولة في منطق المعادلة الوطنية والمساواة الفردية. إن الطائفية هي تراث الماضي وسلاح قوى الماضي التي تجاوزها الزمن وسوف يتجاوزها أكثر في المستقبل· ويكفي في نظري الدخول في مسار التحويل الديمقراطي حتى تنهار الممارسات الطائفية من تلقاء نفسها وتبرز النواة الحديثة، أي الوطنية، التي تميز بالعمق سلوك الفرد في المجتمع السوري. وباستثناء المستفيدين مباشرة من التضامنات الطائفية، يتألم الناس بشدة من وجود الطائفية ويخجلون من ممارستها ويبحثون عن وسيلة للخروج منها والتحرر من مفاهيمها البالية والمقيتة بالفعل. وعندما نقول: ليس في سورية في العمق مسألة طائفية فنحن نعني أن المجتمع السوري قادر بسرعة وسهولة على تجاوز الممارسات الطائفية والارتفاع عنها حالما ينفتح النظام ويتيح فرص نشوء تضامنات وطنية واجتماعية صريحة ومعبر عنها ضمن أحزاب وتكتلات وتحالفات سياسية ونقابية واضحة البنية وشفافة فكريا وسياسيا وتنظيميا. إن الطائفية ليست بنية ثابتة ولا هي حتمية وليس هناك مجتمع مدان بها. إنها لا تنمو إلا في غياب الحياة السياسية الطبيعية وكبديل للتعبيرات الصريحة والحرة عن المصالح الاجتماعية، الحزبية والنقابية والفكرية. وهي تستفيد في نموها من التستر عليها والتساهل الرسمي معها. وهو  ما ينبغي أن لا يستمر.

 

* د. غليون، اشتقنا إلى حب بلدنا، اشتقنا إلى التصالح مع أنفسنا وإلى الوئام والسكينة والسلام الداخلي. نريد أن ننتهي من الحرب والتوتر والغضب والحقد. ولا نريد من السلطات إلا أن تساعدنا في ذلك. ما تعليقك، خاصة وأن الشاغل الأخلاقي والمعنوي ميز كتاباتك على الدوام؟

*  يعبر هذا الشعور النبيل عن ماذكرته سابقا، أي عن لفظ المجتمع للممارسات الطائفية المفروضة وللانقسامات والنزاعات والتوترات المترتبة عليها ونزوعه العميق للدخول في السلم والارتفاع إلى مستوى المثل والمعايير الإنسانية. وبقدر ما ينمو هذا الشعور عند جميع أفراد المجتمع، على مختلف مذاهبهم وانتماءاتهم السياسية والعقائدية، يصبح من الصعب أكثر فأكثر على فئة قليلة من المنتفعين أن تقف أمام إرادة شعب كامل. وكلما أظهر الشعب قدرة أكبر على تجاوز انقساماته الطائفية والمذهبية والعقائدية أمكنه اختصار الزمن وتوفير الآلام والتحول نحو حياة سياسية طبيعية ومرضية. وبالعكس إن التوترات والتقسيمات العصبوية هي الدرع الواقي الرئيسي للسلطة الشمولية. وفي اعتقادي إننا لن نستطيع أن نخرج من الأوضاع الراهنة التي تشل مجتمعنا بأكمله إلا بثورة أخلاقية، أي بالارتفاع إلي مستوى قيم المواطنية والفردية الحرة والمسؤولة.