موجة الديمقراطية الرابعة

2005-05-04:: الجزيرة نت

 

بالرغم من التطورات الكبيرة الداخلية والخارجية المشجعة التي حولت مسألة التغيير في السنة الأخيرة إلى لازمة الحياة السياسية والفكرية العربية وعنوان المبادرات الدولية العديدة الموجهة نحو دول المنطقة والأوضاع الشرق أوسطية، لايزال الشك وعدم اليقين هو الشعور الأعمق الذي يسيطر على الرأي العام العربي. ولا ينبغي لذلك أن يثير أي استغراب، فلم تكف السلطات العربية في العقود الطويلة الماضية، سواء أكان ذلك بهدف الحصول على الشرعية أو لكسب الوقت، عن الحديث في الإصلاح والتغيير. فالانقلاب على السياسات ذات الطابع الوطني قد حصل في العديد من البلدان العربية باسم التصحيح وإصلاح السياسات والمواقف الشاذة السابقة، والانقلاب على السياسات الاشتراكية الطابع قد حصل أيضا باسم الانفتاح وإعطاء فرصة أكبر للقطاع الخاص وإطلاق قوى المبادرة الفردية والمجتمعية. كما أن حملات التطهير ومكافحة الفساد تمت أيضا في العديد من البلاد العربية باسم الإصلاح والتطوير والتحديث، لكن حصيلة هذه الإصلاحات العديدة والمستمرة كانت ضئيلة جدا بل معدومة لم يحصد المواطن العربي منها في أغلب الأحيان سوى المزيد من المعاناة والبؤس وتراجع شروط الحياة المادية والسياسية والثقافية.

ومع ذلك، لا أعتقد أن هناك ما يبرر التمسك بمنطق التشاؤم واليأس والقنوط هذا وما ارتبط به من انسحاب كامل للمجتمعات من الحياة السياسية بل ومن كل ما يتعلق بالشأن العام للانطواء على الحياة الفردية والأسرية الصغيرة. فهناك عوامل كثيرة تبشر اليوم بعودة الحياة السياسية وتسمح بالخروج من الصمت والسكون والاستقالة السياسية كما تجعل من الانخراط في الشأن العام استثمارا منتجا بجميع المعاني، أي قادرا على تحقيق التغيير المنشود وإعادة بناء الحياة الاجتماعية العربية على أسس أقوى من السابق..

ومن هذه العوامل وأولها من دون شك إفلاس النظم القديمة واستنفاد رصيدها المادي والمعنوي بعد انكشاف الطرق المسدودة التي قادت إليها سياساتها القاصرة وانحسار قدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية واعتمادها في سبيل البقاء بشكل متزايد وشبه كامل على الاستخدام الموسع للعنف والقوة. ويشكل إفلاس هذه النظم الأبوية والبيروقراطية، في المنطقة العربية، كما هو الحال في غيرها من المناطق، وما يطرحه على المجتمعات من مشاكل وتحديات وما يرتبط به من زوال الأوهام وضياع الآمال، عامل تدمير مستمر للأسس التي كانت تقوم عليها شرعية السلطات ولجوء معظمها إلى مختلف أساليب التضليل والمراوغة والخداع للحفاظ على الحد الأدنى من الصدقية في ما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية..

والعامل الثاني هو تبدل البيئة الدولية الجيوسياسية والفكرية معا، ولعل أكبر مظهر لهذا التحول ما نجم عن زوال مناخ الحرب الباردة الذي غير من قواعد التنافس بين القوى العظمى وقلل من استعداد من بقي على قيد الحياة منها، في سبيل تعزيز مواقعها، بعضها تجاه البعض الآخر، إلى رعاية دول زبونة وكسبها إلى جانبها وغض النظر عن ممارساتها الداخلية والخارجية مهما كانت متعارضة مع القيم الإنسانية، كما كان يحصل في السابق. لكن في ما وراء هذا التغير الكبير الذي عبر عنه زوال الحرب الباردة وانهيار العالم ثنائي القطبية تنبغي الإشارة إلى التبدل العميق الذي طرأ على السياسة الخارجية الأميركية عموما وعلى إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة الشرق أوسطية خصوصا نتيجة هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 على برجي التجارة العالمية.

ولعل أهم ملمح من ملامح هذا التبدل هو اهتزاز ثقة واشنطن بسياستها التقليدية القائمة على تأمين استقرار النظم التي كانت تراهن عليها للحفاظ على مصالحها الحيوية والإستراتيجية في المنطقة بأي ثمن وتبنيها، كما يبدو، سياسة جديدة تهدف إلى تجديد هذه النظم وإصلاحها حتى تكون، من حيث الواجهة الشكلية على الأقل، موافقة للمعايير الإيديولوجية التي يقوم عليها خطاب الهيمنة الأميركية. وبعد الضياع الواضح والتردد في تحديد مصادر الخطر الرئيسية على هذه المصالح يبدو أن الرأي العام الأميركي خاصة والغربي عموما قد بدأ يأخذ بالأطروحة التي كنا أول من نشرها ودافع عنها في السنوات القليلة الماضية ضد الاتهامات المغرضة للعرب والمسلمين وثقافتهم ودينهم، والتي تقول بأن حكم الاستبداد والطغيان والقهر الداخلي ليس هو السد الحقيقي أمام تفجر حركات العنف والإرهاب الشرق أوسطية وامتداداتها في الدول الغربية بقدر ما هو الحاضنة الكبيرة لهذا العنف والسبب الأول في نشوئه ونموه واتساع دائرة انتشاره، وليس الثقافة عربية كانت أم إسلامية.

المهم أننا نشهد اليوم إحلال خطاب الديمقراطية ونشر الحرية عند المسؤولين الأميركيين والغربيين عموما محل الخطاب الذي ساد أكثر من سنتين بعد أحداث 11 سبتمبر عن الحرب العالمية الصليبية على الإرهاب. ولم يعد يمر يوم من دون أن يختلق الرئيس الأميركي مناسبة جديدة تسمح له بأن يؤكد أمام الصحافة أو الرأي العام تعلقه بمثل الحرية وحربه التي لا هوادة فيها ضد نظم الاستبداد في العالم العربي وعلى امتداد الكرة الأرضية. ومهما كانت صدقية هذا الخطاب وبصرف النظر عن النوايا والأهداف الحقيقية لواشنطن وعن قدرتها الفعلية على تحقيقها، يشكل الالتزام العلني بالدفاع عن الحرية والديمقراطية في العالم والاعتراف بخطأ السياسات الغربية القديمة القائمة على تعزيز النظم الاستبدادية شرخا كبيرا في نظام القهر الذي يتخذ أكثر فأكثر صفة النظام العالمي الواحد أو المتكامل حتى لوانفردت بعض مناطق العالم بتجسيد بعض أشكاله الخاصة الأكثر حدة وهمجية، فما كان من الممكن لأي نظام استبدادي البقاء حتى اليوم، لا في العالم العربي ولا في بقية بلدان العالم، لولا ما حظي به من دعم مادي وتغطية سياسية وإستراتيجية وإعلامية دولية..

أما العامل الثالث فهو انبعاث الحركات الاجتماعية أو بعثها بعد أن قبرت حية وهيل التراب عليها، وفي مواكبتها انتعاش المجتمع المدني وثقافته ومنظماته ومطالبه، وهو ما يشكل جوهر عملية الإحياء التي تتم اليوم على هامش الخروج من الأزمة الفكرية الطاحنة التي مرت بها العقائديات الكلاسيكية السابقة التي ارتبطت بصراعات الحرب البادرة ومن خلال تبلور النظم والقيم الفكرية الجديدة المتمحورة حول المجتمع المدني وحقوق الإنسان وانتشار الوعي بأهمية الديمقراطية وبقيم المواطنة لدى أوساط متزايدة من المثقفين ونشطاء المجتمع السياسي في جميع أنحاء العالم. ولا شك أنه كان ولايزال لوسائل الاتصال الجديدة التي أدخلتها ثورة المعلوماتية وشبكة الإنترنت والإعلام الفضائي دور كبير في هذا الانتشار السريع للقيم والأفكار الجديدة وفي تنامي الشعور بأن المجتمعات العربية جزء لا يتجزأ من عالم واحد. وتصاعد وتيرة الطلب على الانخراط في هذا العالم والمشاركة في معايير الحضارة المدنية الصاعدة..

هذه العوامل الثلاثة هي التي تكمن اليوم وراء ما ينبغي تسميته الموجة الرابعة من التحول الديمقراطي والتي سيشكل العالم العربي، بسبب ما يختمر به من قوى وما يرتبط بأزمته من رهانات دولية، بؤرتها الرئيسية. وليس هناك شك في أن مسألة التحول الديمقراطي، وما تتضمنه من انتقال من نظم واحدية مغلقة نحو نظم تعددية تنزع نحو الديمقراطية، هي التي ستحتل القسم الأكبر من السنوات الخمس أو العشر القادمة في البلاد العربية. وسواء أصدقت الدول الأطلسية التي تتمتع بنفوذ أساسي في المنطقة الشرق أوسطية في وعودها بدعم التحولات الديمقراطية أو استمرت تستخدم خطاب الحرية كوسيلة لتعزيز دورها في تقرير مصير البلاد العربية وفي إضفاء الشرعية على تدخلاتها المباشرة أو غير المباشرة في شؤونها الداخلية، فإن الصراع حول الديمقراطية وفي سبيل تحقيقها سوف يشكل محور المعارك السياسية الرئيسية التي ستشهدها المنطقة في المستقبل.

وما لم تغير الولايات المتحدة مرة ثانية عقيدتها الإستراتيجية وتصمم على الوقوف في صف النظم التسلطية في الشرق الأوسط، محتمية وراء بعض التحسينات الشكلية والتزيينية، فليس هناك ما يمنع المجتمعات العربية في غضون العقد القادم من ترسيخ النظم التعددية وتطويرها على طريق إعادة بناء الحياة السياسية العربية على أسس جديدة تساهم في تحقيق حد كبير من الاستقرار وإطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية.