هابرماس في الفكر العربي المعاصر

2005:: المركز الثقافي العربي

مقدمة كتاب: النظرية النقدية التواصلية يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت
تأليف: حسن مصدق
تقديم: برهان غليون 

 

الاحتفاء العربي بيورغن هابرماس
لقد استجبت بسرور إلى دعوة حسن مصدق لتقديم هذا الكتاب الذي يشكل من دون شك مساهمة نادرة في التعريف بجيورجن هابرماس الذي لا يزال غريبا إلى حد كبير على القاريء العربي. فمحرر هذا الكتاب الذي هو باحث أيضا في مركز دراسات الشرق المعاصر وفي مركز تاريخ دراسات الفكر المعاصر هو أولا من المختصين العرب القلائل الذين اهتموا بفكر هذا الفيلسوف وكرسوا له سنوات طويلة من عمرهم. كما أن الموضوع الذي يتناوله يمثل ثانيا عرضا لفكر واحد من أبرز الفلاسفة الذين أثروا في تفكير معاصرينا منذ الستينات ولا يزال.

هناك في اعتقادي ثلاث عناصر أساسية تبرر الاهتمام بفكر هابرماس والحماس للتعريف به في بيئتنا العربية المعاصرة.

العنصر الأول هو الطابع التوجيهي الذي تتميز به فلسفة هابرماس وسعيه المستمر إلى ربط النظرية بالممارسة حتى اعتقد البعض أن فلسفة هابرماس ليست في الواقع إلا تأسيسا نظريا لمواقف سياسية طبعت مسيرة مثقف انخرط منذ البداية ولا يزال في الحياة العمومية ولا يزال يبحث في فكره عن حلول عقلانية لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع الحديث وفي مقدمها إعادة بناء مشروع الحداثة التي تبدو لبعض المفكرين قد تجووزت أو هي في طريق مسدود.

العنصر الثاني هو النظرية النقدية التي تبناها هابرماس وأعاد بناءها. وهي النظرية التي انطلقت من القراءة النقدية للآثار السلبية للفلسفة الوضعية والعلموية، تلك الفلسفة التي تحولت في نظر مدرسة فرانكفورت إلى تبرير ايديولوجي للعقلانية الخاصة بالراسمالية، أي لتبرير نظام قائم على الضبط العقلاني من أجل تعميم السيطرة وزيادة مردود رأس المال. وهي الفلسفة التي قادت إلى أزمة الحداثة.
وتشمل إعادة هذا البناء نقد الحداثة الكلاسيكية واستكمال ما بقي غير مستكمل منها. ولهذا فهو يستبدل مفهوم الذاتية الذي اعتمدته فلسفة الحداثة منذ هيجل كمنطلق لبناء عالم عقلاني ومنظم وإنساني بمفهوم تداخل الذاتيات. وهكذا بدل الانطلاق من ذوات فردية معزولة واحدتها عن الأخرى وقائمة في مواجهة العالم الموضوعي يبلور هابرماس نموذجا يظهر فيه البشر كعناصر داخلة في حوار مستمبر في ما بينها من أجل الانعتاق الاجتماعي والفكري. وهو يميز لذلك بين العقل الوسائلي الذي كانت مدرسة فرانكفورت والفلسفة النقدية قد ركزت عليه والعقل التواصلي الذي يتضمن وحده إمكانية التحويل الديمقراطي للمجتمع.
لكن كما أن نقده للعقلانية الوسائلية لا يدفعه إلى التخلي عن فلسفة الأنوار كلية وتبني مفاهيم فلسفة ما بعد الحداثة ورفضها للعقلانية، كذلك فإن تبنيه للنظرية النقدية لا يمنعه من التأكيد على أسبقية العالم المعاش في مواجهة النظام المفروض عليه من قبل العقل. ومن هنا تترافق إعادة بناء النظرية النقدية مع الدفاع عن العقلانية التواصلية وتلتقي مع تجديد التفكير في الديمقراطية بوصفها التشكيل الحر للإرادة الشعبية، عبر وسائل النقاش العمومي، والطريق الوحيد للخلاص أمام المجتمعات. ففي كتابه (1981, The Theory of Communicative Action), يجعل هابرماس من مفهوم العقلانية التواصلية وسيلة لتجيد التفكير بالنظرية النقدية نفسها.
ومن هذه الناحية يظهر وفاؤه للفلسفة النقدية التي يعتبر هابرماس وريثها الحقيقي. فهو يبني مسعاه الفلسفي، مثله مثل أدرنو وهوركهايمر بناة مؤسسي مدرسة فرنكفورت على إمكانية "فتح ثغرة في عالم اليقين الوهمي الذي أدى إليه انتصار البرجوازية والاقتصاد الرأسمالي"، في سبيل إعادة تفعيل الفكر النقدي وتعميق التساؤل الرديكالي حول جذور السيطرة وآليات استغلال الإنسان والطبيعة معا. وهو يعتقد مثلهما أن العقل الذي أتاح للإنسان أن يتحرر من القلق والهشاشة، ومكنه من السيطرة على الطبيعة، هو نفسه العقل الذي عمل على استلابه عندما تحولت السيطرة على الطبيعة إلى وسيلة لحبس الإنسان في شبكات السيطرة الاجتماعية. والسبب في ذلك ما تميزت به هذه العقلانية تحت تأثير الرأسمالية من وضعانية ومنفعية وتجريد للانسان. لكن بعكس أصحاب فلسفة ما بعد الحداثة الذين تبنوا موقفا رافضا للعقلانية، يعتقد هابرماس أن نقد الحداثة من منطلقات جدلية يبين لنا أن أحدا لا يبدو مستعدا للتخلي عن الحداثة بالرغم من الثمن العالي جدا الذي تكلفه وبالرغم من الاحتيال التاريخي الذي تنطوي عليه فكرة الحداثة التي تعدنا بتقدم اجتماعي وفكري لا يكف الواقع عن تكذيبه.

ولا بد لهذا الوعي الجدلي للحداثة أن يدفعنا إلى أن نواجه مصيرنا ببصيرة وأن لا نهرب أمام التحديات التي تطرحها علينا الحداثة أو نبحث عن حلول وهمية للمشاكل التي تثيرها. فليس هناك اليوم، بالرغم من المسار المؤلم الذي صار إليه التقدم الاجتماعي والثقافي والثمن الذي ندفعه كل يوم من أجل التحديث، حلول بديلة للحداثة التي أخذت تدرك هي نفسها محدودية الحلول التي تقدمها. ويبقى من الأفضل لنا أن نفكر من منطلق أن الحداثة قائمة ومستمرة ينبغي أعادة تأسيسها من أن نعد أنفسنا بما بعد حداثة مليئة بالحلول الوهمية وتشكل مهربا أكثر من أن تشكل حلا لمشاكلنا المعاصرة. فكلما ابتعدنا عن الحلول الوهمية كلما أصبح لدينا طاقة أكبر على العمل لإعادة بناء الحداثة وعلى تجنب التأويلات التعسفية التي تنظر إلى الحداثة ومشاكلها كأمور حتمية لا سلطة لنا عليها. إن من سمات العقل المتسم بطابع النقد الذاتي تجاوز إسقاطاته بما يتمتع به من عقلانية. ومثل هذا العقل قادر على تحويل طاقته النقدية إلى قوة التزام وانخراط في التواصل الذي يقود إلى التفاهم من دون إكراه. إن الحل قائم بالنسبة لهابرماس في التفاهم عبر الذواتي الذي يستطيع وحده في حالة النزاع أن يجنبنا اللجوء إلى العنف.

 

العنصر الثالث هو مفهوم الفضاء العمومي. ويشكل هذا المفهوم الذي هو من اختراع الفيلسوف الألماني كانت مفتاح الممارسة الديمقراطية في نظر هابرماس الذي عمم استخدامه منذ السبعينات من القرن الماضي. وهو يعرفه كدائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة، أي بين دائرة المصالح الخاصة المتعددة والمتنوعة والمتناقضة ودائرة السلطة الموحدة والمجردة. فهو الفضاء المفتوح الذي يجتمع فيه الأفراد لصوغ رأي عام والتحول بفضله وعبره إلى مواطنين تجمعهم آراء وقيم وغايات واحدة. فالتبادل العقلاني لوجهات النظر حول مسائل تخص المصالح العامة هو الذي يتيح فرز رأي عام. والرأي العام هو وسيلة المواطنين في الضغط على الدولة. والعودة إلى مفهوم الفضاء العمومي الذي يقول هابرماس إن دولة الرفاه قد خربته بسبب تدخلاتها هو الذي يريد استعادة العمل به وتطويره لفهم دوره في إعادة بناء ديمقراطية الجماهير الحالية التي تتميز عن الديمقراطية الكلاسيكية القديمة بما تشمله من كثرة الفاعلين والمتدخلين وبالوجود الطاغي لوسائل الإعلام ولاستقصاءات الرأي والدعاية والاتصالات. والفضاء العمومي في نظر هابرماس ليس فضاءا معطى سلفا ولا قائم خارج التجربة التاريخية. إنه قبل أي شيء فضاء رمزي يتكون عبر الزمن ويحتاج تكونه إلى تبلور مفردات ومنظومات قيم مشتركة واعتراف متبادل بالشرعيات المتعددة الخاصة بكل فاعل ورؤية متقاربة حتى يصبح من الممكن النقاش والاعتراض والتشاور. فهو ليس فضاءا نختاره أو نفرضه بإرادتنا. وقد يوجد أو لا يوجد. إنه يعكس حقيقة الممارسة الديمقراطية أو التعبير عن تناقض المعلومات والآراء والمصالح والايديولوجيات. إنه ما يجمع بين ملايين المواطنين ويقدم لهم الشعور بالمشاركة الفعلية في الحياة السياسية. ويفترض وجود الفضاء العمومي وجود أفراد يتمتعون باستقلالية كبيرة وقادرين على أن يبلوروا بأنفسهم آراء ووجهات نظر خاصة لا تكون صدى لآراء النخب الحاكمة أو الأحزاب التي ينتمون إليها، يعتقدون بأن من الممكن التوصل إلى حلول عن طريق الحوار والنقاش وليس بالضرورة عن طريق استخدام العنف. إن فكرة بناء الرأي العام من خلال نشر المعلومات والقيم المشتركة ومن خلال النقاش عليها تفترض أن الأفراد قادرين على الاستقلال عن انتماءاتهم الجمعية التلقائية كما هو الحال تجاه القبيلة والعشيرة والعائلة والسياسية حتى يتمكنوا من صوغ آراء خاصة بهم بالفعل. وكل ذلك يعني أن هناك فرصة كي تكون السلطة للكملة الطيبة بدل القبضة القوية وللمواطنة المتساوية بدل الطلائع المقاتلة وللبشر العاديين بدل الطبقات والقوى الكبرى المحركة للتاريخ.

بهذا المعنى يشكل الفضاء العام شرط وجود الفضاء السياسي حيث تكون الأولوية لعملية اتخاذ القرار وتطبيقه بالعمل. ومن خصائص السياسة الحديثة الديمقراطية أن يتسع فيها الفضاء السياسي بموازاة تقدم الديمقراطية.

 

هذه المفاهيم الأساسية الثلاث التي تشير إلى مسألة مقام المعرفة وعلاقتها بالممارسة ومن خلال ذلك إلى دور المثقف في المجتمع الحديث من جهة وإلى المقاربة النقدية لمشاكل عصرنا وفي مقدمها مشروع الحداثة ومصيرها وآفاقها من جهة ثانية وإلى مسألة إعادة بناء الفضاء العمومي الذي يشكل شرطا لقيام أي تجربة ديمقراطية قابلة للحياة المعاصرة من جهة ثالثة هي اليوم محاور نقاش يتجاوز أوروبة ليعم العالم أجمع. وهي تشكل في نظري أدوات لا غنى عنها للتقدم في أي مراجعة جدية نقوم بها لإعادة بناء نظم المعرفة والتفكير والعمل لدينا، تلك النظم التي ظهر فسادها وعجزها عن استيعاب قوى المجتمعات العربية النامية وبالأحرى عن تنظيم حركتها في حقبة الانفتاح الراهنة بين الثقافات وتوسع دائرة الفضاء المشترك بين الحضارات. وهي مفاهيم ضرورية أيضا للتقدم في صوغ أي رؤية نقدية لمشاريع الإصلاح العربية التي لا تزال تنتظر النور.