عودة الماضي ؟

2014-07-25:: face book

 

ليست المجتمعات ثمرة إرث تاريخي واحد، وليس إرثها التاريخ متحجرا لا يتغير، ولكن تشكيلها يخضع لديناميكيات أقوى بكثير مما علق بذاكرتها أو ما حملته في ثقافتها من نماذج تتحول إلى مستحاثات مع الزمن، ولا تتحكم بسلوكها او تحكمه. ومن هذه الديناميات وأعظمها هو تاكيد الوجود وتأمين شروط البقاء والحياة للجماعات ككيان وكأفراد. ولا يتم تحقيق ذلك من دون تمثل ابداعات وتقنيات وأشكال الفكر والعمل التابعة للعصر الذي توجد فيه. وعندما تخفق في ذلك تختفي وتترك مكانها لغيرها من المجتمعات. وأكبر برهان على ذلك تنامي الطلب على الدولة والثقافة والأفكار والنماذج الإدارية والانتاجية الحديثة في البلدان العربية في القرن الماضي كله، والدعوة إلى تجاوز الولاءات الأهلية والطائفية والعشائرية، وهذا في الوقت الذي كانت فيه هذه البنيات الطائفية والعشائرية ما تزال قوية وفاعلة، لها الدور الأول في تكوين هوية الفرد وتحقيق التضامن والتكافل وتأمين الحماية والأمن. بينما نرى اليوم تزايد الطلب على هذه الولاءات الضيقة في الوقت الذي يكاد لا يبقى من هذه البنيات شيء ثابت وصامد، مع انحلال أكثر العصبيات الأولية التي ارتبطت بها.


والنتيجة أن عودة هذه الهويات والولاءات الجزئية والدنيا للواجهة، أو بالأحرى ما نشاهده من استخدامات للطائفية، ونحن لا نرى منها اليوم في الواقع سوى التوترات والنزاعات والاستفزازات المتبادلة، لا تعني انها هي المسيطرة بالفعل على عقل الناس وسلوكهم، وإنما يدفع إليها انهيار بنية السياسة الوطنية الجامعة، والحاجة إلى ملء الفراغ الذي تركته الدولة إما بسبب انهيارها أو بسبب اختطافها وتحويلها من قبل بعض الجماعات إلى مؤسسة خاصة ولصالح فئة أو عشيرة أو قبيلة واحدة وترك الآخرين مشردين من دون مرجعية ولا آليات تضامن وتكافل ولا حماية عصبية أو قانونية. إن ما نشهده من مظاهر "عودة" الطائفية أو القبلية ليس هو في الواقع سوى من آثار ونتائج الضياع الذي يعيشه الأفراد المنخلعين عن طوائفهم، والذين تتقاذفهم وتتنازعهم النخب السياسية المتصارعة، وتستخدمهم في إطار استراتيجيات الصراع والسيطرة، لتحقيق مشاريع سلطوية واقتصادية واجتماعية ليس لها علاقة بالطائفة ولا بالمذهب ولا بالدين. لم تعد هناك عصبية طائفية أو قبلية مستقلة بذاتها، وكل العصبيات خاضعة اليوم للتلاعب والاستخدام من قبل قوى سياسية مرتبطة بالدولة وهدفها الاحتفاظ بسيطرتها عليها أو انتزاعها. لقد حلت الدولة محل كل العصبيات، ولا يزال التنافس على احتلالها هو المحرك لتاريخ المجتمع والجماعات. ما يجري أمامنا هو بوضوح مواجهة بين مشاريع سياسية تستخدم التوتير الطائفي لأهداف متباينة، للحشد أو للاستفزاز أو للابتزاز، بما في ذلك مشاريع الانفصال التي تحاول من خلالها النخب الفاشلة في الاحتفاط بالسلطة التعويض عنها بدولة على جزء من الدولة الوطنية القائمة.