تأملات في ثورة السوريين وشقاء حالهم

2014-04-21:: face book

المعاناة غير المسبوقة واللاإنسانية التي يعيشها السوريون ومن ورائهم العرب الذين ينظرون إليهم بخوف وهلع اليوم، تبين أن الثورات لا تحمل في رحمها نظاما بديلا جاهزا، أو مشروع بناء جنيني واضح، إنما تشكل قوة هدم لا تقارن للنظم القديمة. لكن بمقدار ما تهدم هذه النظم البالية تفتح الباب أمام إعادة بناء نظام جديد. ولادة هذا النظام ليست حتمية ولا تلقائية، وتشكله مرتبطان بمكتسبات الشعوب ومراكماتها ونضجها، أي بالأفكار والقيم والمعايير والمباديء والتطلعات والمشاعر والأحلام التي تختمر في قلب كل مجتمع، والتي كانت وراء اندفاعه لاسقاط النظام القديم.
وقد تحتاج المجتمعات، حتى تتجسد المباديء الجديدة وتتنزل في الواقع، إلى ثورات متعاقبة مستقلة عن ثورة الهدم، تفرز بين الرؤى والأفكار المتضاربة وتجلي صورة نظام المستقبل وتستقطب الاجماع عليه. محور هذه الثورات هو غالبا التفكر والتعلم من التجربة والتربية الذاتية والإدارة والتنظيم.
فلا يصدر الأفراد ولا الجماعات عندما يثورون عن دوافع واحدة ولا تحركهم مطالب وآمال واحدة. كل ثورة تنطوي على مشاريع وتطلعات متباينة ومتناقضة. ولحظة الاجماع الوحيدة هي لحظة الهدم وإسقاط النظام. لذلك كل الثورات تفتح على صراعات متعددة، وإذا تأخر الحسم في ايجاد قاسم مشترك أعظم يضمن وحدة الإرادة والحركة والاتجاه، تنتهي لامحالة في الفوضى وانكسار التوازن والتخبط والانفلات. من يحدد طول زمن الفوضى والانفلات أو قصره هو سرعة الوصول إلى هذا القاسم المشترك، ودرجة مقاومة قوى النظام واستعدداتها، أو استعدادات قسم كبير منها، للاندراج في مشروع النظام الجامع الجديد، والاخطر تحولها الى ثورة مضادة مدعومة من الخارج.

هذا يعني ان معركة البناء مختلفة عن معركة الهدم، وثورة الهدم صيرورة أخرى غير صيرورة البناء. لكل منها استراتيجياته وقوانينه ومنطقه، حتى لو كانتا جزئين من دورة واحدة. فما يوحد القوى في الهجوم على نظام هالك أسهل بكثير مما يجمعها أو يمكن أن يجمعها على تقرير شكل النظام القادم وقيمه ومبادئه ودستوره وقواعد عمله. هنا كل الجماعات والفرق والاطراف المشاركة تطمح إلى أن تجعل من تطلعاتها الخاصة نموذجا لتطلعات المجتمع كله حتى تفرض أسبقية مصالحها وتحتل موقع الأولوية.
ثورة الهدم لا تحمل بالضرورة جنين نظام جديد. لكن من جهة أخرى من دون هدم النظام القديم وزعزعة التوازنات العقيمة القائمة منذ زمن طويل لايوجد أي أمل في تحريك المياه الراكدة وإطلاق تيار الخلق وطاقات التجديد لتوليد نظام جديد .
والنتيجة، ليس هناك ثورة نظيفة، اي خالية من العنف، وليس هناك ثورة على الكاتالوغ، مبرمجة مسبقا أو يمكن إخضاعها لخطة مرسومة سلفا، وليس لثورة أن تملك قيادتها قبل أن تولد، وتباعد المطالب والتطلعات عند الأطراف المشاركة في الثورة قد تحول دون نشوء أي قيادة.
الثورة بالتعريف انفجار نظام اجتماعي قائم فقد مقومات الحياة وشرعية الوجود، وتطايرت أجزاؤه في كل الاتجاهات، لا يقررها أحد ولا يتحكم فيها فرد ولا مجموع. وعلى قدر الضغوط العميقة والمظالم التي تفجرها تكون شدة المواجهات والحروب المتعددة الأقطاب والأطراف والأشكال التي ترافقها أو تعقبها.

ولأن الثورات ليست نزهة وإنما محنة وعنف محض، قد يهددان بالقضاء على كل ما راكمته المجتمعات من حضارة ومدنية خلال قرون، كان موضوع السياسة يدور منذ نشأته حول وضع أسس النظام الاجتماعي الذي يضمن الاستقرار والشرعية ورضى الجمهور. وأصبحت جدارة النظم وحقها في الحياة يقاسان بمقدرتها على تجنيب شعوبها الثورة والدمار المرافق لها، وتقدمت النظم الديمقراطية على كل النظم الأخرى، لما تتيحه للشعوب من فرص التغيير بالطرق السلمية، وتوفره عليها من دماء ودمار، وتمكن كل فرد فيها من المشاركة في تقرير مصيره -ا، ومراجعة قراره بصورة دورية، من دون ضغوط ولا قيود ولا تهديد