العرب ومشروع التعاون الإقليمي

2010-10-30:: محاضرة ألقيت في منتدى الاتحاد

 

1- المشرق المضطرب

أحدث انهيار السيطرة العثمانية بعد الحرب العالمية الثانية، في العالم العربي عموما، لكن في منطقة المشرق الآسيوي بشكل خاص، فراغا استراتيجيا وسياسيا وايديولوجيا كبيرا، لم تستطع النخب المحلية الناشئة أن تملأه. وكانت النتيجة أن خضع المشرق، بعد أن نجح التحالف الأوروبي في القرن السابق في إجهاض مشروع محمد علي الامبرطوري التحديثي، لنمط من السيطرة الاستعمارية  القديمة التي كانت نماذج منها قد استقرت في بعض أطرافه الجنوبية والشرقية.

ومنذ ذلك الوقت حرصت القوى الغربية  التي كانت قد بسطت نفوذها في مصر وبلدان المغرب على الاحتفاظ بمنطقة الشرق العربي تحت سيطرتها المباشرة، وعملت كل ما بوسعها من أجل تكريس احتكارها للهيمنة الاستراتيجية والنفوذ الاقتصادي والسياسي فيها. ومن أجل ذلك خاضت أيضا حروبا لم تتوقف ضد قوى محلية عديدة طامحة للسيادة والاستقلال، وضد قوى خارجية أيضا طامعة في الحصول على موطء قدم لها فيها. وليس الدعم الاستثنائي الذي حظيت به إسرائيل من قبل الدول الغربية، العسكري والسياسي والاقتصادي والايديولوجي، سوى جزءا من ترتيبات حرب الهيمنة والنفوذ هذه. 

وكانت الحلقة الأولى الفتوح الاستعمارية التي مكنت القوى الغربية والأوروبية خاصة من احتلال البلاد العربية وفرض السيطرة الأجنبية عليها وتقسيمها إلى دول صغيرة يمكن إخضاعها والسيطرة عليها ومصادرة إرادة شعوبها بسهولة وفرض الوصاية السياسية والاستراتيجية عليهم.

بيد أن الصراعات العنيفة التي شهدتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، والتي أضعفت إلى حد كبير الامبرطوريتين الفرنسية والبريطانية، فتحت نافذة فرص جديدة برزت منها حركات التحرر العربية التي نشطت في الحمسينيات والستينيات، أملا في انتزاع المنطقة من سيطرة القوى الغربية، وإعادة هيكلتها من الداخل بما يضمن مزيدا من الاستقلال والسيادة والمبادرة الذاتية. وكان نمو الحركة القومية العربية التي يمكن القول إنها وحدت بشكل رمزي وعملي أحيانا بين هذه الحركات أو طمحت إلى توحيدها والتنسيق في ما بينها، الاستجابة السريعة لهذه الفرص التي ولدها انحسار القوى الاستعمارية التقليدية.

لكن الحركة القومية العربية التي واجهت بقوة السيطرة البريطانية والفرنسية الآفلة لم تحسب بما فيه الكفاية حساب السيطرة الأمريكية الصاعدة التي سرعان ما اكتشفت القيمة الاستراتيجية الكبيرة لإسرائيل واعتمدتها وكيلا رئيسيا لأعمالها في المشرق العربي. وبالفعل نجحت واشنطن من خلال الضغوط الاقتصادية والسياسية على مختلف الأقطار العربية، وبشكل خاص من خلال تعزيز قدرات إسرائيل العسكرية وضمان تفوقها الاستراتيجي الساحق وإطلاق يدها في الإقليم، في كسر شوكة الحركة القومية وإجهاض مشروع الوحدة العربية أو التكتل العربي، الذي كان يعاني هو نفسه من العديد من التناقضات الذاتية وفي مقدمها سيطرة الروح الشعبوية العاطفية وغياب الممارسة المؤسسية العقلانية والتنافس بين الزعامات السياسية وتغلب منطق الأمزجة الشخصية. 

ترك انحسار القومية العربية، كحركة سياسية وكفكرة عروبية أيضا، الساحة مفتوحة أمام استعادة التحالف الغربي سيطرته الكاملة على المنطقة بعد أن نجح في القضاء على عناصر "التمرد" والثورات الوطنية.  ومنذ السبعينيات بدأت معركة استعادة النفوذ والتمكين من جديد للسيطرة الغربية. وساهمت إسرائيل مساهمة استثنائية في إخضاع الدول العربية وتأديبها وجرها إلى بيت الطاعة. وكانت حرب ال1967 هي من دون شك  المساهمة الأهم التي نالت إسرائيل بموجبها شهادتها كشريك أصيل وكامل الأهلية في نادي الدول الغربية. بل لقد حصلت بموجبها على الاعترف بأولوية مصالحها في الشرق الاوسط على مصالح الشركاء الآخرين جميعا بما فيهم الولايات المتحدة الامريكية. فبدا كما لو أن الغرب أصبح يعمل بأكمله في خدمة المصالح الاسرائيلية وفي مقدمها مشروع الاستيطان اليهودي في ما تبقى من فلسطين، الذي يتناقض كل التناقض مع مباديء الديمقراطية وحقوق الانسان التي تستند إليها ديباجة السياسة والأخلاقيات  المدنية الغربية[i].

وربما كان هذا الخلط المتزايد بين مصالح الغرب ومصالح الدولة الاسرائيلية التي ركبها شيطان التوسع والاستيطان، بعد أن كانت لا تحلم بأكثر من الاعتراف، هو الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه استراتيجية السيطرة الغربية في الشرق الأوسط.  ذلك أنه ساهم بالمطابقة، في وعي الجمهور العربي الواسع،  بين النفوذ الغربي أكثر نماذج الاستعمار التقليدية بدائية، وهي نماذج الاستعمار الاستيطاني الذي عرفته جنوب أفريقيا وروديسيا والجزائر في عقود وأحيانا في قرون عديدة غابرة. 

وهذا ما يفسر أن انكسار الحركة القومية العربية لم يترجم بانتصار مشروع استعادة الهيمنة الغربية، ولكنه فتح المنطقة على حروب  ومواجهات  إقليمية  وداخلية لم تنته حتى الآن. وبالاضافة إلى شبح القومية العربية الذي استمر يقض مضاجع القوى الغربية وإسرائيل، قبل حرب العراق  الأولى (1991) وبعدها، برزت إلى واجهة مسرح الشرق الأوسط حركات الاسلام السياسي التي نمت بسرعة واستقطبت جزءا كبيرا من جمهور القومية السابق وشعاراته، حتى لتكاد تبدو اليوم وكأنها موجهة بشكل رئيسي في فكرها وسلوكها ضد نفوذ الغرب، بل ضد الغرب نفسه كثقافة وهوية.  وليس هناك شك في أن مشاعر العداء والتناقض مع الغرب هي اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه في حقبة سيطرة الفكرة القومية العربية التي كانت تجمعها نقاط اتفاق عديدة مع الغرب، بسبب مشاركتها له في عقيدة التقدم والتطور والحداثة التي هجرتها، أو تكاد، الحركات الاسلامية  المعاصرة.

من هنا بقي نظام السيطرة الغربية الجديد ،الذي ولد في الثمانينات، على أنقاض مشروع توحيد المنطقة على أسس قومية ، ضعيفا وغير مستقر، يواجه تحديات كبيرة من الداخل والخارج معا. وهكذا اتجهت واشنطن إلى إعادة بناء هذا النظام على أسس جديدة، فاقترح الرئيس جورج بوش الأب منذ بداية التسعينات مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي مهد له بالحرب الأولى على  العراق  _1991) التي كانت تهدف إلى تحطيم معنويات الجمهور القومي وتفرض سلطتها على دول المنطقة، وحاول أن يضفي الشرعيه عليه بإطلاق مؤتمر مدريد للسلام وممارسة ضغوط استثنائية على حكومة شامير المتطرفة لإشراكها بالرغم منها في مفاوضات التسوية السياسية. ولم يكن مصير مشروع الشرق الأوسط الجديد مختلفا عن مصير مؤتمر مدريد للسلام، فلا الأول نجح في إقامة نظام شرق أوسطي جديد ولا الثاني حقق أي تقدم في قضية التسوية السلمية. وهكذا لم يبق لدى واشنطن لحسم معركة السيطرة والنفوذ في المشرق سوى الحرب الاستباقية التي أعلن مبدأها جورج بوش الابن، وخاض على هذا الأٍساس حربه الشاملة ضد النظام العربي بأكمله أو ما تبقى منه من تراث القومية وروح الاستقلال العربية. وكان عنوانه هذه المرة نشر الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني وربط المنطقة بالولايات المتحدة في شراكة اقتصادية استراتيجيية لم ير أي منهما النور. 

وبالمقابل سيقود إخفاق سياسة المحافظين الجدد، الذين خططوا لإخضاع الشرق العربي بالقوة وإدخاله كليا في دائرة النفوذ الأمريكي الاسرائيلي، إلى نكسة خطيرة للسياسة الأمريكية وللغرب عموما في المنطقة، هزت ثقة الحلفاء بها وأظهرت حدود سياسة القوة ونتائجها السلبية. فلم يعد هناك من يخشى فعلا واشنطن وتهديداتها في المنطقة، لا في العراق ولا أفغانستان ولا اليمن ولا حتى غزة  أو الصومال. ولا حتى في هذا ماحتى صار بإمكان شباب الصومال أن يسخرو من التهديدات الأ من الواضح لجميع القوى المحلية  فقدت  الأمريكي ال الأمريكية على المشرق، وصار الشرق الأوسط مجالا مفتوحا لاستعراض القوة من دون خوف.  وأمام تقويض النظام الإقليمي المرتبط بالغرب نهائيا في الشرق الأوسط، لم يكن  لواشنطن مهرب من تغيير خياراتها الاستراتيجية والاعتراف بفشلها، والإعلان، على لسان باراك أوباما عن خطتها الانسحاب من العراق وتراجعها عن مذهب الحرب الاستباقية والحرب العالمية ضد الارهاب، ورغبتها في فتح صفحة جديدة مع العالم العربي، كما جاء في خطابي  الرئيس الجديد في استنبول ثم في القاهرة[ii].  والواقع  كان مشروع الرئيس بوش ومبادرته الاستراتيجية لبناء شرق أوسط كبير او موسع  آخر فرصة للغرب لترميم نظامه الشرق أوسطي الذي يضمن له النفوذ والسيطرة والسيادة في هذه المنطقة من العالم. 

وكما فتح انهيار السيطرة الاستعمارية البريطانية الفرنسية في الخمسينات شهية واشنطن والاتحاد السوفييتي، وجعل المنطقة ميدانا لحرب باردة أو أحد ساحات هذه الحرب الرئيسية في الخمسينات والستينات والسبعينات، يفتح فراغ القوة اليوم شهية العديد من الدول الكبرى والإقليمية الطامحة، من داخل الإقليم وخارجه، إلى الصعود إلى مقدمة المسرح، والطموح إلى لعب دور أساسي في تنظيم شؤون المنطقة وبسط النفوذ والسيادة عليها. وتقريبا في الوقت نفسه الذي كان مشروع الهيمنة القومية العربية على الإقليم يلفظ أنفاسه سيبرز نجم المشروع الايراني البديل، مدعم بتحالفات وحركات جانبية كثيرة  تعمل في دائرته أو على هامشه، تذكر بظاهرة القومية العربية السابقة.  ولن يطول الوقت قبل أن تبرز أيضا الرغبة التركية في لعب دور مشابه، ولو على أسس مختلفة، وبطريقة أخرى. وهناك اليوم في موازاة ذلك تسابق بين الدول الإقليمية والتكتل الغربي والكتلة الآسيوية على توسيع دائرة النفوذ في الشرق الأوسط، على حساب شعوب العالم العربي واستقلال أقطاره وتقدمها. وكل ذلك لا يبشر بخير للبلدان العربية، ولا يطمئن شعوبها حول مستقبل الأمن والسلام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها.

فما هو العمل حتى لا يتحول الفراغ  في الشرق الأوسط، أي غياب قوة هيمنية قادرة على تنظيم شؤون الإقليم وحل نزاعاته وجمع أطرافه سلميا بعضها إلى البعض الآخر، إلى مناسبة لإعادة إشعال الحروب الباردة والساخنة، وتحويله إلى مسرح للتنافس على الموارد والهيمنة العالمية بين الكتل الاقتصادية والسياسية القديمة والصاعدة؟

الجواب هو بالتأتكيد إقامة نظام شرق أوسطي من داخل المنقطة، وبالاعتماد على شعوبها ودولها، وبالتفاهم في ما بينها، يرعى شؤونها وينظم علاقاتها، ويساهم في حل النزاعات التي يمكن أن تنشأ فيما بينها، ويعمل على تنمية مواردها وتطوير بنياتها والدفاع عن مصالحها على الساحة الدولية، ويعزز مشاركتها في النقاش حول مسائل السياسة العالمية، ويوصل صوتها ورؤيتها إلى المحافل الدولية.  فالبديل الوحيد عن مثل هذا المشروع التكتلي الإقليمي هو من دون شك استمرار معارك السيطرة والنفوذ التقليدية، بل اتفاقمها مع إضافة معارك الدول الإقليمية الصاعدة والمتنافسة إلى معارك الكتل الدولية الغربية والآسيوية، وبالتالي تحويل المنطقة بالفعل إلى مسرح لنزاعات لا تنتهي، وربما تحويلها إلى حقل من الخراب والفوضى لا يمكن لأحد التحكم بشؤونه ولا السيطرة عليه، كما هو الحال في العديد من بلدان المنطقة اليوم. 

وتقع على كاهل شعوب المنطقة مسؤولية ايجاد الإطار الملائم لبناء مثل هذا الكيان أو الرابطة الاقليمية الفعالة التي ينبغي أن تحل محل الاتفاقات الثنائية التي بدأت تقيمها القوى الأقليمية الصاعدة مع هذه الدولة العربية أو تلك، والتي تهدد بخلق محاور لايمكن إلا أن تقود إلى التنافس والتنازع والصراع.

 

 2-  تجاوز الحلول القومية والاستعمارية

من الواضح إذن أن العجز عن حسم صراع الدامي على الشرق الأوسط، المستمر منذ ما يقارب القرن،  بين القومية العربية المنبثقة من المنطقة، والقوى الغربية الطامحة إلى الاحتفاظ بالسيطرة القوية عليها، هو المسؤول الرئيسي عن إدخال المنطقة في بؤرة التوتر والحروب، وعن تهميش العالم العربي وحرمانه من فرص التطور والنمو المضطرد، وتعريضه لمواجهات مستمرة اسنتزفت موارده وأرجعته عقودا إلى الوراء، كما دمرت معنويات سكانه وجعلتهم نهبا للخوف والشك وانعدام الثقة والإحباط. وهذا ما يفسر أيضا تأخره بالمقارنة مع المناطق الآسيوية التي كانت أقل منه تطورا في الخمسينات والتي سبقته اليوم بمراحل عديدة.  وأكبر شاهد على هذا وأفضله هو مصير العراق الذي يعد من أغنى أقطار المنطقة بالموارد والطاقات، والذي تعمه اليوم الفوضى والبؤس والفقر واليأس. فقد جر الغنى بالموارد القوى الأجنبية للسيطرة عليه في حين لم تنجح نخبه المحلية في التوحد والتفاهم للدفاع عنه أو تحصينه ضد المخاطر الخارجية، بل إن الموالاة للخارج هو اليوم المصدر الأول لانقساماتها الداخلية، حتى صار العراق مسرحا لتنازع القوى، وساحة للمواجهات الطائفية والاتنية والدولية.

وكما أنه لم يكن من الممكن لأي تحالف أجنبي، مهما كانت قوته ووزنه أن يقضي على إرادة الحرية والاستقلال والسيادة والتنمية عند الشعوب العربية، ليس من الممكن أيضا، في الظروف الراهنة، إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي عربي أو خاضع لأجندة القومية العربية. فلا وضع العرب أنفسهم يسمح بذلك ولا أوضاع الغرب قد وصلت إلى درجة من الانهيارتجبرها على التسليم بالأمر الواقع والانسحاب من دون شروط من منطقة  تضم أهم احتياطات النفط العالمية. مما يعني أن من غير الممكن تحقيق أي حسم في معركة الصراع على الشرق الأوسط حسب المعادلة القائمة.

 بالمقابل، يمكن إخراج المنطقة من مصير الحرب والصراع في حالة ما إذا تضافرت جهود أمم المنطقة جميعا وتوحدت لتوسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية تجاه الكتل الدولية الأخرى، وبالتالي تأمينها ضد تنافس هذه الكتل ونزاعاتها عليها، ونجحت رابطة الدول الشرقية الموعودة في إقناع الكتل الدولية، الغربية والآسيوية قريبا، بإقامة علاقات من نوع جديد مع المنطقة، قائمة على التعاون والشراكة والتفاهم، في سبيل التنمية وتحسين شروط الحياة لجميع الشعوب.  وهذا يعني أنه بمقدار ما تنجح المنطقة في تنظيم نفسها من الداخل وفي بث الاتساق في سياساتها، وفتحها للاستثمار والتنمية المستدامة، سيتغير وضعها أيضا تجاه الأطراف الخارجية ويصبح من الأسهل التفاوض معها، وتزيد إمكانية التوصل إلى حلول لتبادل المصالح بالطرق السياسية والدبلوماسية وتتراجع الحاجة إلى الحروب والاعتداءات والمواجهات الدولية في الإقليم.  فلن يكون من الممكن لا للتكتل الغربي ولا لغيره التعامل معها كفريسة أو كحقل صيد مفتوح أمام جميع المتنافسين، لا يخضع لأي قواعد قانونية أو مباديء أخلاقية، كما هو عليه في حقيقة الأمر الآن. فمن خلال التعاون الإقليمي وحده، وأعني بالتعاون هنا خلق منظمة إقليمية قوية، مع مؤسسات وضوابط وقواعد عمل وخطط وبرامج مشتركة ومحاسبة على المسؤولية، يمكن تغيير وضعية المنطقة وفرض احترامها على العالم، وإخراجها من دائرة الصراع على النفوذ والسيطرة الأجنبية.

وهذا ما أشرت إليه في مداخلتي في مؤتمر مركز الاتحاد قبل ثلاث سنوات عندما ذكرت بأنه "ليس هناك خيار أفضل لضمان أمن الخليج من المراهنة على استراتيجية بناءة وايجابية قائمة على تعزيز علاقات التعاون والتشاور والتفاهم مع دول المنطقة جميعا والدول الكبرى المعنية.  وهو ما يستدعي العمل من اجل إقامة منظومة للأمن الجماعي الإقليمي تضم إلى جانب بلدان الخليج، الدول العربية المشرقية وايران وتركيا. وهذا يعني أن أمن الخليج لن يتحقق منذ الآن في مواجهة أمن الدول المجاورة وإنما بموازاته ومعه، وبقدر ما يعمل الخليج نفسه لبناء أرضية المصالح المشتركة مع دول المنطقة. وهو ما يستدعي بالمثل تعديلا في توجهات الدول الإقليمية أيضا وتجاوزا لأفق الايديولوجيات القومية العربية والتركية والايرانية معا"[iii] وأعتقد اليوم أكثر بأن إخراج المنطقة من دوامة الصراع الدولي والعنف المتعدد الاشكال المرافق له، والذي ينتشر وتتوسع دائرته باستمرار، يستدعيان بناء مشروع يتجاوز المشاريع القومية والاستعمارية معا، ويستند على تفاهم دول المنطقة وشعوبها بما يمكنها من تطوير وسائل التعاون الضروري للتنمية الحضارية وتعزيز هامش سيادتها وبالتالي مبادرتها الذاتية تجاه قوى التنافس الدولية الخارجية.

فمثل هذه المنظمة الإقليمية، التي تضم شعوب المنطقة  أو الراغبة منها، وتشكل حلقة الوصل بين الدولة الوطنية والنظام العالمي، هي الوحيدة القادرة على أن تسد الفراغ الذي يخلفه انحسار الهيمنة الغربية، وتفتت القوى الإقليمية، وأن تأخذ على عاتقها مسؤولية ضمان الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة بأكملها، وقيادة شعوبها على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتتحول إلى المفاوض الرئيسي، باسم منطقة كبرى مستقلة ومنسجمة ومسالمة، مع الكتل الدولية الأخرى، الأمريكية والأوروبية والآسيوية. بذلك وحده يمكن لنا أن نطوي نهائيا صفحة الأزمة الشرق أوسطية المتعددة الأشكال والمستويات.

ومما لا شك فيه أنه تقع على العرب مسؤولية كبرى في تمهيد المناخ لقيام مثل هذا المشروع التاريخي، سواء لما يملكونه من مكانة ونفوذ في منطقة هم الأغلبية الساحقة فيها، أو لما يتمتعون به من رصيد تاريخي هو جزء الرأسمال المشترك لدول المنطقة، أو بسبب النزاعات العديدة الداخلية والخارجية التي يفجرها الصراع على منطقتهم والتي يتحملون القسط الأعظم من مآسيها وشرورها. 

وأول ما يترتب عليهم في هذا المجال مراجعة عميقة لأفكارهم وأساليب عملهم وطموحاتهم وأحلامهم أيضا. فلن يستطيعوا لعب دور نشيط وايجابي في مثل هذا المشروع التاريخي  ما لم يجروا تحولا عميقا في تصورهم القديم أو السائد لمجتمعاتهم اولا ولإقليمهم ومكانتهم في هذا الإقليم ثانيا، ولغاياتهم الانسانية ودورهم في الحضارة المقبلة ثالثا. وهذا ما يستدعي الاعتراف، في مواجهة النرجسية أو المركزية القومية التي سيطرت علينا خلال العقود الطويلة الماضية، وفصلتنا عن الواقع، بأننا لسنا الوحيدين الذين نعيش في هذا الإقليم، ولا الذين نحتكر الحق في تقرير مصيره، وأن ضمان حقوقنا، وأولها في فلسطين، مرتبط اليوم، أكثر من أي فترة ماضية، بقدرتنا على الاعتراف بالآخرين كشركاء، والتعرف على حقوقهم ومطالبهم الخاصة، القومية أو الاقتصادية أو الثقافية، والسعي إلى التفاهم معهم حولها وحول حقوقنا الخاصة أيضا.

ويترتب عليها ثانيا أن ندرك الطابع الجيواستراتيجي، أي الدولي، للمنطقة التي تحتوي على ثلثي احتياطي الطاقة العالمي، وتحتل موقعا استراتيجيا حساسا، كما أنها تتحمل، أو وقع على عاتقها أن تتحمل، بسبب هروب الغرب من مسؤولياته التاريخية، قسطا كبيرا من عبء معالجة المسألة اليهودية التي هي في الأصل مسألة إوروبية. ويفترض تبني هذه الرؤية العربية الجديدة ، ومع يترتب عليها من خيارات استراتيجية وسياسية وفكرية، الاعتراف بأن الاستقلال لا يغني عن التفاهم مع الدول الكبرى، ولا يلغي الحاجة إليه، بل بالعكس إنه يستدعيه ويتطلبه، لأن شرط الاستقلال، في الشرق الأوسط بشكل خاص، تفاهم العرب ودول الإقليم مع القوى الصناعية الغربية القريبة، وتحويلها من قوى هيمنية باحثة عن النفوذ والسيطرة والغنيمة فحسب، إلى شريكة في السراء والضراء. وأنه لا يمكن لشعوب الشرق الاوسط، من العرب والايرانيين والأتراك والأكراد، أن يحققوا مصالحهم وتقدمهم واستقلالهم في مواجهة هذه القوى دائما، أو بالعداء لها وتهديد مصالحها الاستراتيجية.

وهذا يعني العمل تماما بعكس ما نفعله الآن. أي أالتوقف عن المراهنة على الحماية والوصاية والتبعية للغرب، بوصفه الحل الأفضل او الوحيد  لمشاكل انعدام الأمان والأمن والاستقرار في منطقتنا، كما يفعل بعضنا، والكف أيضا عن البحث عن ما يبعدنا عن الغرب وما يزيد قطيعتنا عنه، كما يفعل فريق آخر منا يستخدم العداء الشعبي الطبيعي والمشروع لسياسات الغرب الإقليمية لتحقيق غايات ومآرب سياسية، أي كبديل عن السياسات الوطنية ووسيلة للتغطية على نقص الشرعية القانونية او الدستورية للحكم، أو غياب الانجازات الفعلية، الاقتصادية والاجتماعية.

وتقع على العرب أيضا، أصدقاء الغرب، ان يساعدوا حلفاءهم الغربيين الذين راهنوا خلال أكثر من قرن على القوة، وخلقوا من أجلها إسرائيل كآلة عسكرية مدججة بالسلاح لتجسيد فكرتها كما لم يحصل خلال التاريخ الحديث في أي بقعة في العالم، على إدراك  الطريق المسدود لهذه السياسة  التي أخفقت بالرغم من كل شيء في تحقيق أهدافها، أي إجبار العرب على القبول بالأمر الواقع، وإقناعهم بأن هذه السياسة لن تقود إلى ضمان أي مصلحة غربية، ولكنها تهدد مصالح الجميع، بما فيها حرية النفوذ إلى النفط وتدفق الطاقة الطبيعي واستقرار اسرائيل وأمنها. إن الاستمرار في منطق المواجهة الراهن من قبل الغربيين الذين يجدون مبررات كثيرة لذلك، أكثرها بروزا اليوم قضية الارهاب الدولي، والعرب الذين لديهم مايكفي من الشعور بالغبن والخديعة والعدوانية الغربية، هو أقصر طريق لجعل الخسارة هي القاسم المشترك بين جميع الأطراف.

فليس من الممكن التقدم على طريق البناء الإقليمي من دون حصول تحول عميق في الموقف الامريكي والغربي عموما من العرب ومصالحهم العليا وآمالهم ومطامحهم، أي من دون تخلص القادة الغربيين من منطق الوصاية أو الأبوية والعمل حسب أجندات خفية، والتلاعب بالألفاظ والغش والخديعة، ورفض التعامل مع الآخر كطرف يستحق الاعتبار والاحترام بهدف استبعاده من دائرة القرار الدولي.

وهذا يتطلب من الدول العربية ، بدل الخوف من انحسار النفوذ والقوة الأمريكيتين والتشبث أكثر بالحمايات الخارجية، استغلال هذه الفرصة التي يفتحها تراجع الهيمنة الغربية وتنامي قوى الإقليم الداخلية، من أجل توسيع هامش اختياراتها المستقلة، أي العمل على توسيع هامش المبادرة العربية المستقلة وتعزيز السياسات الوطنية  تجاه الأحلاف والتكتلات الدولية الخارجية. فهذا هو الخيار الوحيد الناجع لاستيعاب مخاطر الصراعات الدولية ولجم مطامح الدول الإقليمية، وفي مقدمها الجمهورية الاسلامية الايرانية،  وتقريبها من وجهة نظر التعاون الجماعي والشراكة الإقليمية.

إن الموقف السليم من القوى الغربية هو الذي يقوم على  الاعتراف المتبادل بالمصالح المشتركة، والدفع بمنطق الحوار والتفاوض عليها، على قاعدة الاحترام والندية، للتوصل إلى تسويات مقبولة من الجميع، بعيدا عن منطق التهديد والوعيد والتدخلات العسكرية، المباشرة أو بواسطة إسرائيل، والتي كانت ولا تزال المغذي الرئيسي لمشاعر الكراهية للغرب في المجتمعات العربية.  ولا ينبغي للأقطار العربية أن تكف عن مطالبة الغرب بفتح مفاوضات جماعية جدية وعلنية، يشارك فيها العرب ودول المنطقة الرئيسية، حول المصالح الغربية الاستراتيجية والاقتصادية، شروط استثمار النفط، وشروط "توطين" إسرائيل أو تطبيع وضعها، وتحويلها من دولة مارقة ومتمردة على المنطقة والقوانين الدولية إلى دولة مواطنيها، أو دولة ديمقراطية فعلا، بما لا ينعكس بالآثار السلبية على مصالح المنطقة الامنية والاقتصادية والسياسية.  وهو ما يستدعي الذهاب إلى ما وراء خطابات الاعتراف والمصالحة والبيانات الختامة الوردية التي درجت عليها القيادات الغربية لإرضاء غرور العرب، والاصرار، بالعكس من ذلك، على بناء إطار قانوني،فعال ومنهجي، للحوار، يختلف عن تلك الإطارات الوهمية المسماة بحوار الحضارات والأديان.

والقصد أيضا من هذه الإشارة أنه كما أن من غير الممكن بناء نظام إقليمي لا يأخذ بالاعتبار مصالح الدول الإقليمية الرئيسية، وينجح في التوفيق بينها، ليس من الممكن أيضا بناء مثل هذا النظام إذا لم يأخذ بالاعتبار مصالح الكتل الدولية الكبرى. فالاعتراف، كما ذكرت، بالطبيعة الاستراتيجية مثلا لمصادر الطاقة واحتياطياتها في المنطقة، يستدعي التفاهم مع الدول الصناعية في ما يتعلق بأمنها، بل بانتاجها وتسويقها. مما يعني أيضا أن إقامة نظام  إقليمي شرق أوسطي  لا يستدعي التفاهم بين دول المنطقة فحسب وإنما اكثر من ذلك بين هذه الدول نفسها والكتلة الصناعية، ومنها طبعا التكتل الغربي. فضمان المصالح الاستراتيجية الحيوية لهذه الكتلة هو الكفيل وحده بتحييدها السياسي  ونزع الشرعية عن مشاريعها الهيمنية.

ثم إنه ليس للعرب، مثلهم مثل دول المنطقة الأخرى، مصلحة في قطع العلاقة مع الغرب ولا استعدائه، وإنما في جره نحو مواقف ايجابية ودفعه إلى تبني سياسات تقوم على تبادل المصالح والمنافع وتحقيقها عن طريق التفاهم بدل السعي إلى فرضها بالقوة التي يصبح استخدامها، حتى ضد شعوب فقيرة وضعيفة، باهظ الثمن، كما يدل على ذلك مثال الصومال وأفغانستان واليمن وغيرهم كثير.  بالإضافة إلى أن التنمية الحضارية في هذه البلدان لا تزال بحاجة ماسة لتعاون الغرب الذي لا يزال المصدر الأكبر للتجديدات التقنية والعلمية، وموطن الأسواق والرساميل والاستثمارات الأكبر والأجدى في العالم كله.

 

3 -  تجمع دول الشرق الأوسط، لا واقع ولا خيال

كل هذا يدل على أن مشروع إقامة منظمة إقليمية تسعى إلى بسط الأمن والسلام والاستقرار والتعاون بين دول المنطقة الشرق أوسطية لا يمكن أن يتسق أو لا يتسق مع ما يسود فيها اليوم من رؤى واستراتيجيات ومصالح وأجندات متباينة ومتنازعة.  وهو يتعارض بالتأكيد مع قيم عديدة سائدة عندنا وعند شعوب المنطقة الأخرى وعند الغرب أيضا. وهو يصطدم لا محالة بالصور النمطية التي كونها كل طرف للطرف الآخر، عن حق أو من دون حق، سواء اعترف بها أم أخفاها على نفسه وعلى الآخرين.  ومن هنا يتطلب بناء منظمة أمن وتعاون دول الشرق الأوسط بما يفترضه من التقريب بين وجهات نظر الأطراف، وتعزيز الثقة في ما بينها، وفكفكة العقد أو النزاعات الكامنة أو المحتملة التي تباعد فيما بينها، إلى ايمان وإرادة قويتين وتعبئة سياسية وفكرية من قبل النخب السياسية والثقافية، والحاكمة منها بشكل خاص، وفي مقدمها النخب العربية، المعنية قبل غيرها بمثل هذا التجمع الإقليمي، بقدر ما تشكل الضحية الرئيسية لغياب التفاهم  الاقليمي والسيطرة الغربية التقليدية.

كثير منا كان يعتقد أن إنجاز مثل هذا المشروع الإقليمي  ينبغي أن يبدأ بتفاهم بين الأقطار العربية التي تشكل الكتلة الرئيسية في الإقليم وتجمعها مع بلدانه الأخرى وشائج القربى التاريخية والثقافية. بيد أنه أصبح من الواضح الآن أن هذا الاحتمال هو الأبعد عن التحقيق، وأن التقارب بين الأقطار العربية التي هي اليوم أبعد من الأقطار الأخرى عن خيار السيادة والاستقلال، ربما كان هو المدخل الأنجع لتجاوز الخلافات العربية البينية وإعادة التفاهم إلى صف الدول العربية. وتلعب أنقرة اليوم دورا نشطا في التقريب بين وجهات النظر العربية والإقليمية أيضا، كما تطمح إلى لعب دور في التوفيق بين دول المنطقة والكتلة الغربية.

لكن تركيا لا تستطيع وحدها تعبيد طريق التعاون الإقليمي، ووضع دول المنطقة على سكة واحدة، وتبنيها اختيارات مشتركة. فكما يقول المثل العربي يد واحدة لا تصفق، كما أن استنبول تقف على طرفي نقيض في سياساتها ، المتمحورة حول أجندة تنمية اقتصادية واجتماعية، مع الأجندة الايرانية الرامية إلى إنتزاع دور سياسي واستراتيجي أكبر في الإقليم، بل ربما قيادة الإقليم نفسها. وهي تعيش من أجل ذلك في حالة مواجهة مع التكتل الغربي ومع العديد من الدول العربية.  ولا تنسجم هذه السياسة المتمحورة حول المصالح القومية مع حاجات بناء نظام إقليمي متكافيء، ولا تتماشى مع ما يتطلبه نظام تعاون من أجل التنمية من أمان واستقرار.  ولن يمكن تجاوز هذا التناقض الواضح في الاستراتيجيتين إلا بنشوء قطب عربي، لا يهم عدد الدول المشاركة فيه، يشكل حلقة وصل بين الأجندة التركية المتمحورة قطعا على مسائل التنمية وحل الخلافات التي تعيق حركة التجارة والاستثمار، والأجندة الايرانية المبنية على توسيع دائرة النفوذ الايراني، السياسي والمذهبي، والعاملة من منظور استمرار المواجهة الغربية العربية التاريخية، واليوم الغربية الاسلامية.

من هنا، يصعب التقدم على طريق التفاهم والتعاون وبناء منظمة إقليمية شرق أوسطية تجمع شعوبها الكبرى الأربع مع الشعوب والأقليات الصغيرة، من دون حصول تحول عميق أيضا في موقف الأطراف الإقليمية، وفي مقدمها ايران التي ينبغي عليها  الانصات إلى هموم الأطراف الأخرى في الإقليم ومشاغلها، والتخلي عن الخيارات الانفرادية وفرض الأمر الواقع عليها.  وعلى حلفاء طهران في العالم العربي تقع مسؤولية العمل على تطوير السياسات الايرانية وجعلها أكثر انسجاما مع فكرة العمل الجماعي الإقليمي وأكثر استعدادا للتعاون والتفاهم مع جيرانها. 

 

الآن ما هي فرص تحقيق مثل هذا المشروع في الأمد المنظور؟

هناك بالتاكيد فرصة لولادة منظومة إقليمية شرق أوسطية جديدة منبثقة عن شعوب المنطقة نفسها وليست مفروضة من الخارج أو قائمة على الإكراه وفرض إرادة طرف واحد على الاطراف الأخرى. ومصدر هذه الفرصة ترنح النظام الشرق أوسطي الغربي بعد النكسة الخطيرة التي قادته إليها سياسة المحافظين الجدد المغامرة، وإخفاقة الموازي في ضبط وتيرة الاستيطان الاسرائيلي الذي يزعزع الثقة بالنظم الحليفة ويهدم صدقيتها السياسية والاستراتييجية.  بيد أن صعوبات كثيرة لا تزال تعترضه يتعلق قسم منها بتناقض خيارات الدول الإقليمية، وميل بعضها إلى خيار استثمار الفرصة السانحة لتعزيز مواقفها ومواقعها الأقليمية، وتفضيل الأخرى التعاون الثنائي لما يقدمه لها من فوائد ومنافع أكثر. لكن أهم من هذا وذاك تفكك العالم العربي السياسي وغياب إرادة واحدة أو مشتركة لدى زعمائه. مما يدفع القوى الأخرى، الإقليمية والدولية، إلى استمرار النظر إليه بوصفه فريسة ومنطقة تنازع على تقاسم النفوذ ، لا على أنه فاعل تاريخي ومحاور أصيل ينبغي التفاهم معه لضمان المصالح، أو يمكن الاعتماد عليه لتحقيق الأمن والاستقرار.

ثم إن الدول الغربية، ومن بينها وفي مقدمها إسرائيل، ليس لها مصلحة في ولادة منظمة إقليمية تنتزع المنطقة من دائرة نفوذها المباشر والشامل، كما أن للدول الأقليمية الرئيسية ايران وتركيا مصلحة أكثر بالتعاون الثنائي الذي يمكنها من تعزيز مواقعها والتوسع على حساب العرب استراتيجيا واقتصاديا وثقافيا. ويتوقف على العرب وحدهم العبء الأكبر في أخذ المبادرة والضغط على دول المنطقة أو إقناعها بتحويل التعاون الثناتي إلى تعاون جماعي، وبناء منظمة تعنى بتنسيق الجهود للحفاظ على الامن والسلام وإطلاق ديناميات التنمية في عموم المنطقة.

وأخيرا ليس من المؤكد أن الحكومات العربية تدرك، في شروط الحكم التي تعيشها، أهمية مثل هذه المشاريع التكتلية أو تشعر بأن لها مصلحة حقيقية فيها.  فمعظمها يعيش حسب منطق الاستمتاع باللحظة الراهنة ويجهل معنى الاستثمار على المدى المتوسط والطويل الذي يتطلبه مثل هذه المشاريع. وقليل منها ينجح في التمييز بين مصالح الحفاظ على النظام القائم  الآنية ومصالح الشعب البعيدة الذي يتولى قيادته. والقسم الأكبر منها ليس له ثقة بالبقاء على قيد الحياة إذا ابتعد عن الدول الكبرى وفقد حمايتها. ومعظمها يستخدم شعار السيادة الوطنية كمصدر للشرعية  الوطنية أو تعويضا عنها، ويخشى من أن تضعف أي مشاريع إقليمية تتطلب التنازل عن جزء من هذه السيادة لصالح تكوين سلطة إقليمية، شرعية النظام أو وجود الدولة ذاتها. ثم إن التجمعات الإقليمية لا يمكن أن تقوم من دون احترام المؤسسات وترسيخ تقاليد قانونية ودستورية واضحة والوفاء بالالتزامات والتعرض للمساءلة السياسية. ولا ينسجم كل هذا مع تقاليد النظم القائمة على السلطة الفردية والشخصية المطلقة أو شبه المطلقة والخائفة دائما من الالترام بضوابط قانونية ودستورية وتفضل الحكم تحت قانون الطواريء والأحكام العسكرية. 

كل ذلك يمنع من توقع احتمال ظهور مبادرة عربية رسمية، تلبي شروط بناء شراكة إقليمية أو تعمق الشعور بوجود مصلحة للدول العربية فيها ،قبل تحقق إصلاحات عميقة مسبقة، سياسية وقانونية وإدارية، تغير من أسلوب تفكير النخب العربية وسلوكها ، وفي مقدمة ذلك علاقتها بشعوبها وتغير نظرتها إلى أهمية تحسين شروط معيشتها وزيادة فرص تقدمها ورفاهها. ومن الصعب أن يتوقع المرء أن ينجح في بناء شراكة إقليمية تضم أطراف متعددة ومختلفة  من أخفق في بناء شراكة داخلية مع النخب الوطنية   فليس هناك شراكة ناجحة وناجعة من دون الايمان بقيمة القانون واحترام مبدأ الندية والتبادلية.

فحتى يكون العرب أعضاء نشطين في بناء التكتل الإقليمي المنشود ، وشركاء في تعاون إقليمي واسع، لا بد لهم من أن يتجاوزوا الأفكار والتصرفات ذاتها التي منعتهم حتى الآن من بناء شراكة داخل الصف العربي نفسه، وجعلت كل قطر يبحث عن مصالحه بالاتفاق مع الدول غير العربية، الدولية أو الإقليمية، وبالتفاهم معها، حتى لو كان ذلك على حساب الأقطار العربية الأخرى. 

لكن ربما كان الحل لمشاكل الخلافات العربية نفسها  هو الانخراط في تجربة إقليمية تخرج العرب من مناخ الشك والخيبة وانعدام الثقة المتبادلة وتدخلهم في مشروع جديد يوسع من أفق تفكيرهم ويساعدهم على تمثل قيم واستيعاب تقاليد سياسية وقانونية ودبلوماسية ابتعدوا كثيرا عنها أو كادوا ينسونها. وفي اعتقادي أن الخطوة الأولى في هذا المشروع الإقليمي، يمكن أن تبدأ من جانبنا، نحن المثقفين والباحثين والسياسيين المستقلين، وتتجسد في إنشاء منتدى للتداول والحوار، يضم ممثلين عن شعوب المنطقة الرئيسية، العربية والتركية والايرانية والكردية، يكون هدفه الإعداد الفكري والنفسي للفكرة الإقليمية الجديدة، ويدرس وسائل تطويرها والدفاع عنها لدى أصحاب القرار. وهذه دعوة موجهة قبل أي طرف آخر لمراكز الدراسات الاستراتيجية في المنطقة، وفي مقدمها مركز دراسات الإتحاد الذي يستطيع أن يأخذ المبادرة منذ الآن لإطلاق فكرة المنتدى واختيار المشاركين في التأسيس الأول لها.

 

 

 

[i]               هذا ما  طرح على الجمهور العربي، بما في ذلك على أغلبية السياسيين والمثقفين، سؤال من الذي يقود من، إسرائيل هي التي تخضع أمريكا لحسابها بسبب قوة اللوبي اليهودي فيها أم الولايات المتحدة هي التي تستخدم إسرائيل لتحقيق غاياتها الاستراتيجية. والواقع أن إطلاق يد إسرائيل في المنطقة وتجديجها بالسلاح هو جزء من الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى السيطرة على المنطقة وكبح جماح شعوبها وحركاتها التحررية. وقد استغلت تل أبيب هذا الوضع كي تحقق أهدافها الخاصة على هامش تحقيق الأهداف الغربية العليا، أعني إطلاق مشروع التوسع الاستيطاني لاستكمال استعمار فلسطين التاريخية. وهو المشروع الذي يشكل الآن، بعد اكتشاف واشنطن أن طريق الحرب الشاملة المستمرة  ينمي الإرهاب ويهدد بتدمير ما تبقى للغرب من نفوذ في المنطقة،  موضوع الاحتكاك الرئيسي بين السياستين الاسرائيلية والأمريكية.

[ii]          في الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة  في 4 يونيو 2009، قال اوباما: "لقد أتيت إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل".  وجاءت الوثيقة التي نشرها البيت الأبيض في 72 مايو 2010 لتؤكد تخلي واشنطن عن مفهومي الحرب العالمية على الارهاب والحب الاستباقية التي وسمت سياسة سلفه جورج  د. بوش.

[iii]              أنظر مقال الاتحاد عن أمن الخليج في  14 مارس 2007