الشرق الأوسط الكبير

2004-05-08:: منتدى الأتاسي

  

دعوني أشكر في البداية منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي والقائمين عليه لإتاحته لنا جميعاَ فرصة هذا اللقاء, ودعوني أشكركم أيضاّ لتكبدكم عناء الحضور للمساهمة في إحياء هذه الأمسية المكرسة  لمناقشة أحد مشاريع وسياسات ما أعتقد أنه إعتداء سافر على سيادة الشعوب العربية. دعوني أذهب معكم أيضاَ في بداية هذه الأمسية بأفكاري إلى أصدقائنا المعتقلين حديثا والأخوة الآخرين الثمانية الذين اعتقلوا بعد المحاضرة الأولى التي ساهمت فيها في منتدى رياض سيف للحوار الوطني. ودعوني أذهب بأفكاري  ونذهب جميعاّ إلى مواطنينا من الأكراد وغيرهم الذين تعرضوا في الفترة الأخيرة إلى حملة مضايقات واعتقالات كان من الممكن استبدالها وينبغي ولا يزال من الضروري استبدالها بحوار سياسي مفتوح يحتاج إليه جميع أبناء الشعب السوري. دعوني أحيي أيضاَ بهذه المناسبة جميع الديمقراطيين السوريين الذين وقفوا ولازالوا يقفون بجرأة وشجاعة وكرامة في مواجهة آلة القمع من أجل التغيير الديمقراطي. وأنا أعتقد أنكم أبديتم في السنوات الأخيرة شجاعة وجرأة وحنكة كبيرة كان من المفروض أن تفتح، لو كان هناك من ينصت ويسمع ويرى، الأبواب من أجل حوار ديمقراطي وحوار وطني دافعتم عنه وطالبتم به وأنتم لا تزالون تطالبون به منذ سنوات أربعة من دون جدوى. دعوني أيضاَ باسمكم أتوجه لسلطاتنا الرسمية كي تعيد التفكير في نظرتها للشعب وطريقة التعامل معه.  أن تعود إليه وأن تزيد ثقتها فيه. فهو ليس مصدر الخطر على الأمن والسلام الأهلي في أي منطقة من المناطق وفي أي قطاع من القطاعات. بالعكس، لا ينتظر الشعب كي يندمج في سياسات وطنية ويساهم المساهمة الايجابية المطلوبة في الإصلاح الذي أصبح ضرورياَ وملحا لا يمكن تأجيله إلا مبادرة السلطة وإلا الإشارة إلى المصالحة الوطنية التي طال انتظارها أيضاَ منذ سنوات عديدة. لا أعتقد أن ما ينقص سوريا هو النوايا الطيبة ولا أعتقد أن سوريا تفتقر إلى المناضلين ولا تفتقر إلى الناس المؤمنين بالديمقراطية وبالوطنية وبالقيم الوطنية والمخلصين وغير الفاسدين. المشكلة في أن هؤلاء لا يزالون محيدين ومبعدين عن الحياة العامة وعن الشأن العام. ما تحتاجه سوريا كي تقف ضد المشاريع الأجنبية وكي تتقدم بسرعة هو الاعتراف بحقوق الشعب السوري كشعب حر ومسؤول، كشعب قادر على أن يقود نفسه بنفسه وأن ينتخب ويختار قياداته وممثليه، حتى يكون هو رائد مسيرة العمل والتحويل والتغيير.  وهو التغيير الذي تطالب به فئات كثيرة أيضا من داخل النظام.  وأنا أعتقد بالفعل أن الأغلبية الساحقة من الناس المحسوبين على النظام وعلى حزب البعث وحتى داخل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية التي أصبحت مثل " بعبع " بالنسبة للكثير من المناضلين، تحركها الدوافع الوطنية وهي مخلصة ومستعدة أيضا لمد أيديها إلى أخوانها الآخرين الناشطين من أجل التغيير لو توفر المناخ والفرصة المناسبان، أعني إطلاق إشارة الحوار للخروج مما أسميته في محاضرات سابقة وفي كتب سابقة عصر الحرب الأهلية ومناخ الحرب الأهلية.  أنا أعتقد أننا نضجنا أعني أن الشعب العربي السوري في كل القطاعات قد نضج للخروج من الحقبة الماضية وللدخول في حوار داخلي وفي إعادة تأسيس أو إعادة بناء داخلي لا تزال ضرورية ولا تزال تنتظر من يطلق إشارتها. وإنني على ثقة من أن السوريين أصبحوا قادرين على بناء موقف ايجابي، وعلى أنه إذا تبنينا موقفاَ إيجابياَ بعضنا من البعض الآخر فإننا نستطيع أن نحقق وننجز أمورا كثيرة جداَ وصعبة جداَ.

ذكرت هذا لأنني أريد منذ البداية أن أزيل عناصر التوتر التي شاهدناها في محاضرات أخرى حتى نتمكن من الحوار الجدي ونخرج من منطق الدفاع والهجوم والمناكدة والمناكفة إلى منطق التفكير المشترك بحاضر ومستقبل سوريا. فالمهم في نظري هو بالضبط : كيف يمكن أن نبني تفكيراَ مشتركاَ بتقدم سوريا وبوضع سوريا على خط وسكة الإصلاح الضروري والايجابي والمثمر.

 

 كان موضوع الندوة الأخيرة التي شاركت فيها في دمشق هو الديمقراطية والتغيير أو التأمل في التغيير الديمقراطي. وقد انتقلنا في هذه الندوة من التفكير في إصلاحنا الديمقراطي إلى التفكير في مشاريع إصلاح الشرق الأوسط الاجنبية، أي في التدخل الخارجي.  وهو ما يعبر عن التراجع الذي يتعرض له موقفنا الوطني عموما. فلا يعني مشروع الشرق الأوسط الكبير المطروح اليوم من قبل الولايات المتحدة  لا اصلاحا ديمقراطيا ولا اصلاحا اقتصاديا ولا اصلاحا سياسيا ولا أي شكل من أشكال الإصلاح. إن مضمونه الحقيقي ومضمون الورقة الأمريكية و المبادرة الأمريكية التي ستتحول إلى مبادرة دولية عندما ستنضم إليها، مع بعض التعديلات، أوروبة وكندا وكل الدول الصناعية، ليس حتى الديمقراطية الأمريكية كما يقال أحيانا، وإنما  التدخل الأجنبي. لقد انتقلنا إذن في أقل من ثلاث سنوات من مناقشة التحول الديمقراطي في بلادنا إلى مناقشة التدخل الأجنبي واحتمال الاعتداء علينا. والواقع أننا نعيش اليوم عصر التدخل الأجنبي في القضايا العربية أكثر مما نعيش عصر الاصلاح. ولا يختلف التدخل الذي تتضمنه المبادرة الأمريكية المطروحة على الدول العربية في دلالته عن التدخل الحاصل في العراق عن التدخل المستمر في فلسطين وعن التدخل في البلدان العربية الأخرى المتهمة بحيازة أسلحة الدمار الشامل. إن هذه المبادرة الشرق أوسطية  جزء مكمل لهذه التدخلات جميعا. وقد بلورتها الإدارة الأمريكية انطلاقا من النظرية التي تقول إن المنطقة العربية أصبحت مصدرا لمخاطر كبرى نتيجة الإدارة السيئة والحكم السيئ القائم فيها وأنه لا يمكن المراهنة على إصلاحات داخلية ولا على الإدارة الداخلية والمحلية ولا بد من وصاية أجنبية.  أي لا بد من رعاية الإصلاح ومن قيادته وتوجيهه من الخارج لأن أصحاب البلاد الأصليين، سواء كانوا من الرسميين أو من القوى الشعبية الديمقراطية وغير الديمقراطية، غير قادرين على القيام بالإصلاح الضروري لدرء المخاطر الناجمة عن تفاقم الأزمة داخل المجتمعات العربية، سواء كان المقصود الأزمة الاقتصادية أو السياسية أو الوطنية.

هذا يعني أننا انتقلنا من مناخ كنا نعتقد فيه أننا مستقلين أو أن لدينا الحد الأدنى من الاستقلال الذي يسمح لنا بأن نناقش أمورنا بأنفسنا و نطرح مشاريع للتغيير والتحول الديمقراطي إلى وضع جديد يقضي بتحييدنا كلياَ شعوباَ وحكومات. فما تبشرنا به المبادرة المذكورة هو أننا سنخضع منذ الآن إلى لجنة وصاية أجنبية، أوربية أمريكية في الحقيقة. إن مضمون المبادرة هو  تكوين لجنة وصاية أوربية أمريكية لقيادة التحولات في المنطقة العربية.

 الآن السؤال الذي يطرح نفسه هو : كيف وصلنا إلى مايمكن أن يشكل، إذا ما فكرنا بالعراق وما يحدث فيه، مرحلة استعمار ثانية. فقد دخلنا مرحلة استعمار أولى في بداية القرن والآن نحن في مرحلة استعمار آخر. وليس من الضروري أن يكون الاستعمار بنفس الوسائل ونفس الطريقة فلقد تغير العصر. وليس من الضروري أن يكون هذا الاستعمار على شاكلة احتلال العراق عسكريا. إن الاستعمار الثاني الذي نتحدث عنه  يعني أن هناك قوى كبرى خارجية، قوى غربية وصناعية، هي التي تملي ما تشاء على الدول والحكومات والبلدان العربية اليوم، وبما يتفق مع مصالحها الأساسية.  وهم يملون علينا اليوم ما يتفق مع مصالحهم في قضية النفط وفي مسألة ضمان أمن اسرائيل وتوسعها، ويملون علينا أيضاَ ما ينبغي أن نفعله حتى لا يتحول العالم العربي إلى مصدر تهديد، سواء أكان هذا التهديد ناجما عن ظهور حركات إرهابية تقوم بأعمال في الغرب أو عن احتمال نشوء تكتلات عربية تؤدي إلى تنمية أو إلى تطور تكنولوجي أو تطور عسكري لا يمكن السيطرة عليه.  ومن هنا فهم يحجزون عنا حتى التقدم التكنولوجي والتقنية العالية.

ما أردت أن أقوله هو إننا نعيش فعلا ظرفا يؤكد تدهور موقفنا الاستراتيجي بالمقارنة مع السنوات الثلاث الماضية. وإذا أردتم مؤشرا على هذا التدهور، إضافة إلى ما يعنيه أن نكون المنطقة الوحيدة في العالم التي تتجرأ الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية التي تقول أنها صديقة لنا على أن تقترح لها برنامج إصلاح، وهو ما لم يحصل لا مع أفريقيا ولا مع أمريكا اللاتينية ولا مع دول آسيا، وليست الأوضاع فيها جميعا أفضل بكثير من الأوضاع العربية، أقول بالإضافة إلى هذا المؤشر، يكفي أن نذكر المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس بوش منذ ثلاثة أيام وأيد فيه كل المطالب الاسرائيلية في المسائل الثلاثة الأساسية: مسألة الحدود ومسألة حقوق اللاجئين ومسألة الجدار. هذه الجرأة على تبني البرنامج الشاروني في فلسطين، على الرغم من كل الصور التي تبثها تلفزيونات العالم وليس فقط التلفزيونات العربية حول المجازر التي تجري هناك كل يوم، تعطينا فكرة عن الحد الذي تنزع فيه الدول الكبرى الصناعية صاحبة السلطة الحقيقية في العالم، إلى الاستهتار بالعالم العربي شعوباَ وحكومات. فهي تعني أن هذه الدول لا تعطي أية قيمة ولا أية أهمية لما يحتوي عليه هذا العالم العربي من قوى وأجهزة وجيوش. إن ما يهمها هو استخدام ما تجد فيه من أدوات لتحقيق مآربها : ضرب ما يسمى بالإرهاب هنا أو هناك وما عدا ذلك لا قيمة له.

 

كيف وصلنا وما الذي أوصلنا إلى هذه الحال التي نشعر فيها أننا مجردين من القوى عراة أمام التحدي الخارجي غير قادرين على الرد سوى بالشعارات والكلمات والشتائم التي نكيلها لهذه القوة الغاشمة التي تريد فرض إرادتها علينا؟ كيف  وصلنا إلى موقف فقدنا فيه أي مبادرة ولم يعد من الممكن لنا أن نقوم بأي مبادرة لا رسمية ولا شعبية للرد على هذا التدخل اليومي المستمر في الشؤون العربية؟

 

انهيار مؤتمر القمة العربي الأخير أيضاَ هو من أحد مؤشرات هذا التفسخ الكبير للوضع العربي. وأعتقد أنه لو لم ينهر مؤتمر القمة الماضي لما تجرأ الرئيس الأمريكي أن يقف ويؤيد علناَ وبصورة صريحة  البرنامج الشاروني في فلسطين. كان على الأقل دعمه دون أن يعلن هذا التأييد. ولكنه أراد أن يبين أن العالم العربي لا وجود له. أراد أن يقول للنظم أيضاَ أننا لا نأخذ بالاعتبار كل تدخلاتكم.

هناك مسألتان يجب أن نراهما لنعرف كيف وصلنا إلى هنا. لا شك أننا نعيش أزمة مزدوجة. المجتمعات العربية تعيش أزمة مزدوجة : أزمة النظم الاجتماعية القائمة (بلدان منذ عشرين سنة لا يحصل فيها تقدم في أي مجال من المجالات. في المجال الاقتصادي هناك تقريباَ توقف عن النمو مع زيادة متواصلة في عدد السكان، تزايد في عدد الباطلين. هناك اليوم 10 ملايين عاطل عن العمل. لكن من الآن على الدول العربية أن تخلق 6 ملايين فرصة عمل في السنة، وهي لا تخلق حتى 1 مليون فرصة عمل. لا يزال هناك 40% من السكان أميين. بدأت اليابان الاصلاحات في 1876 وإلى عام 1900 كان اليابانيون قد محوا الأمية وعمموا التعليم على كل المجتمع بما فيه المرأة في الوقت الذي ما زلنا نصارع من أجل أن نستكمل ادخال المرأة في الحياة العمومية والاجتماعية. بدأوا عملية التصنيع وبدأوا ببناء جيش قوي وصناعة عسكرية، وبدأوا حروبهم الأمبراطورية الامبريالية فهزموا الصين التي هي أكبر منهم بكثير وهزموا روسيا التي كانت تكبد الأمبراطورية العثمانية هزائم متكررة خلال القرن التاسع عشر. هذا مثال ينبغي أن يستحثنا على أن نفكر أنه عندما يكون هناك ديناميكية تطور فلن نكون بحاجة إلى عشرين قرنا لنحقق ما نصبو إليه. لو كانت هناك إرادة تقدم وتطور ولو كانت هناك إرادة حقيقية من أجل  الإصلاح والتحديث لحصل ذلك منذ سنوات. في ربع قرن استطاع اليابانيون صنع ما لم يستطع العرب صنعه في قرنيين وهذا شيء يدعو للتساؤل.

 

قلت سابقاَ أن المجتمع العربي يعيش أزمة مزدوجة أزمة النظم الاجتماعية التي وصلت إلى طريق مسدود، أي أنها  لم تحقق التنمية، لم تستطع أن تخلق أطرا لمشاركة الشعب في الحياة السياسية والحياة الثقافية والحياة الاجتماعية، بل لقد همشت بالأحرى الشعب بدل أن تفتح له الأفق حتى يتكون.  أحدثت تعليما غير قادر على انتاج العلم أو التكنولوجيا. نحن أقل الشعوب مساهمة في انتاج براءات الاختراع التي تشير إلى الابداعات العلمية، وأقل الشعوب استثماراَ في البحث التكنولوجي. أفريقيا جنوب الصحراء التي تعاني بعض بلدانها من المجاعة  تنفق 1% من الناتج القومي من أجل البحث العلمي في حين أن العالم العربي لا ينفق أكثر من %0.02 من الناتج القومي وبلدانه أغنى بكثير من البلدان الأفريقية.  السبب أنه لا يوجد هناك اهتمام فعليَ بنهضة علمية وتكنولوجية لأن معظم النخب الحاكمة في العالم العربي لا تهتم إلا بضمان المصالح الشخصية أو بأمجاد رؤسائها وزعمائها وانتصاراتهم الوهمية في الخارج.  

أما الأزمة الثانية فهي أزمة النظام الإقليمي.  

فقد ارتكز الاستقرار خلال العشرين السنة الماضية في الشرق الأوسط على نظام اسميه النظام شبه الاستعماري قائم على ثلاث مرتكزات: المرتكز الأول التجزئة. لقد كان ولا يزال ممنوع أن يكون هناك تكتل بل تفاهم عربي. فقد حوربت العروبة وحوربت القومية العربية حرباَ شعواء من قبل الدول الصناعية الأوربية والأمريكية لأنها تخل بالتوازن الاقليمي. والمرتكز الثاني هو التبعية. فالنفوذ الأجنبي ضروري وأساسي من أجل استمرار النظام سواء أكان بشكل سافر كما في منطقة الخليج أو بأشكال أقل بروزا كما في بلدان أخر. ويكون ذلك عن طريق التحييد أو عن طريق الضغط أو عن طريق النفوذ المباشر. المرتكز الثالث هو السلطة القمعية والنظم التسلطية.  هدف هذا النظام الإقليمي بالعمق هو الحفاظ على أمن اسرائيل وعلى تدفق النفط.  لقد بني النظام وحوربت الحركة الناصربة وأطراف أخرى من الحركة القومية العربية لأنها حاولت تجاوز هذا النظام شبه الاستعماري.  واستقر فيما بعد نظام قطري يكرس عدم التعاون وعدم التفاهم بين الدول العربية. وبينما طلبت بعض الدول الحماية من الدول الأجنبية زادت بلدان أخرى من وسائلها القمعية بموازاة تفاقم تفسخ النظام وظهور عجزه عن تلبية الحاجات الاجتماعية.

والمشكلة بالنسبة للدول الكبرى اليوم هي أن هذا النظام الإقليمي قد بدء  بالانهيار منذ الثمانينات. وبانهياره أصبحت مصالح هذه الدول مهددة هي أيضا ولم يعد التهديد يطال مصالح النخب المحلية وحدها. وفي مقدمة هذه المصالح ضمان أمن النفط وسلامة اسرائيل والتحكم بالمواقع الاستراتيجية. وهكذا نشأ لدى الدول الكبرى اقتناع عميق بأن هذه المنطقة أصبحت منطقة مخاطر حقيقية ومنطقة تفجرات وتهديدات محتملة. واعتبرت الحركات الإسلامية المتطرفة بالنسبة للنظم القائمة وبالنسبة للدول الصناعية المصدر الأساسي لهذه التهديدات.  وأصبح ينظر للمجتمعات العربية بأنها مجتمعات على طريق التفكك وفقدان السيطرة على نفسها بموازاة عجزها المتزايد عن تلبية  حاجات السكان.  وهكذا فقد أصبحت مجتمعات تنتج باستمرار الاضطرابات والعنف والارهاب.  

وقد أنتجت الأزمة أمرين: الأول بروز قوى احتجاج جديدة داخلية في مقدمها الحركات الاسلامية، نتيجة الاحساس بضعف النظام. والثاني تنامي مخاوف الدول الكبرى ذات المصالح المهددة وسعيها إلى بلورة استراتيجيات جديدة لاحتواء الأزمة المتفجرة في المنطقة العربية. وفي مواجهة هذه الأزمة التي لا تزال مستمرة بدأت الحكومات بحركات التصحيح. فمنذ السبعينات شهدت مصر أول حركة تصحيح، ومعنى التصحيح هو الاصلاح. بدأ السادات حركة تصحيح شملت الرجوع إلى الاقتصاد الحر والليبرالية والارتباط من جديد بالغرب وطرد السوفييت وتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي الذي طالبت به المؤسسات المالية الدولية وإعادة النظر في السياسات " ذات الطابع الوطني " التي كانت قائمة من قبل، وهجر قضايا العروبة والقومية والعودة إلى العمل في إطار جامعة الدول العربية التي هي إطار رمزي للتعبير عن مشاعر الانتماء العربية.  لكن لم يعد هناك أي نظام إقليمي فعال ولا أي حركة دفع في اتجاه التكتل العربي فعلاَ. بدأت حركات الاصلاح منذ ذلك الوقت إذن على أمل مواجهة الازمة والخروج منها. ونحن أيضاَ شهدنا حركة إصلاح مماثلة في التسعينات كانت بالطبع ضعيفة بالمقارنة مع ما حدث في مصر وبلدان أخرى مثل الأردن والمغرب والسعودية والجزائر سواء في ما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية أو بالاصلاحات السياسية المتعلقة بالسماح بالتعددية الحزبية.

 

بدأت في الثمانينات ثورات الخبز كما سميت في معظم البلدان العربية. وتبعتها في بلدان عديدة تمردات واحتجاجات اجتماعية قادتها نقابات مهنية عديدة للمطالبة بالحريات وإلغاء المحاكم الاستثنائية. وقد أخافت هذه الحركات الأنظمة التي شعرت بأن هناك موجة واسعة قادمة من الحركات الاجتماعية التي تطالب بالاعتراف بها وبحقوق المجتمع في المشاركة والاشراف. وقد دفع الخوف الأنظمة إلى التحالف مع الدول الغربية التي لديها نفس المصالح في إبقاء الشعوب العربية مغيبة ومهمشة. وبدعم من هذه الدول نجحت السلطات العربية، ربما باستثناء السودان وحده، في القضاء على حركات المطالب الاجتماعية ثم السياسية الاحتجاجية, وقد شجعها ذلك على التراجع عن الاصلاح الذي لم تعد هناك حاجة إليه ما دامت حركات الاحتجاج قد أحتويت. واستمر برنامج الاصلاح الاقتصادي هو الوحيد الساري المفعول لأنه يستجيب لمطالب المؤسسات المالية الدولية ولا علاقة له بمطالب الشعوب ولا بخدمة مصالحها ولا بإعادة السلطة لها ولا بتحقيق العدالة والمساواة. 

وبموازاة هذا الاصلاح الاقتصادي استغلت النظم العربية  انتصارها على الحركات الاجتماعية كي ترسخ أسس سلطتها وتنمي أجهزة الأمن وتضمن نفوذها وسيطرتها على القطعات الاجتماعية المختلفة، كما عملت على شراء الزبائن في جميع الميادين لتوسع قاعدة حكمها. وبالفعل نجحت الدول العربية منذ الثمانينات حتى الآن في أن تحافظ على نفس الأنظمة وعلى نفس المصالح وعلى نفس قواعد العمل وأن تطور بشكل أكبر سيطرة مصالح الأقلية الصغيرة على مصالح الشعوب والبلدان. لكن كان لهذا  النجاح في ضرب الحركة الاحتجاجية ثمن كبير أيضا. فقد ترك المشاكل من دون حل وفاقم من تراكم التوترات والاحتقانات داخل المجتمعات، كما أنه ساهم في تزايد تفسخ النخب الحاكمة بعد أن ضمنت لنفسها السيطرة المطلقة ولم تعد تخشى المحاسبة أو الاحتجاج. فهذا هو أصل الفساد، أعني السيطرة الشاملة للنخب وغياب المراقبة والمحاسبة مما يسمح بتكريس المصالح القائمة وتخليدها. وهو الامر الذي أدى إلى فشل سياسات الإصلاح التي طبقتها الدول العربية منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات ولم تعط النتائج المنتظرة منها؟ ما هي هذه النتائج ؟ كان من المفروض أن يخلق تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادية المدعومة من قبل المؤسسات المالية حركة استثمار أقوى تطلق التنمية من جديد وتساهم في خلق فرص عمل تستوعب الباطلين. وكان من المفروض أن تساهم الاصلاحات الاقتصادية في رفع القوة الشرائية عند السكان. وكان من المنتظر منها أن تحسن كثيرا وضع البنية التحتية والخدمات العامة الصحية والتعليمية وأن تعمل على ربط السكان بالحضارة الحديثة عن طريق العناية بالتنمية العلمية والتكنولوجية إلى غير ذلك من الأنشطة الاجتماعية. لكن كل هذه الأمور لم تتحقق. بالعكس ما زلنا نعيش تقريباَ في نفس المناخ منذ ثلاثين سنة.

 ومن هنا فما نعاني منه اليوم هو نتائج فشل الإصلاح العربي لأعوام الثمانينات من المغرب حتى العراق. ومن الواضح أنه مهما تحدثنا في الوطنية لا يمكن ان نخفي حقيقة أننا فقدنا القدرة على تنمية مجتمعاتنا والاستجابة لحاجاتها الضرورية.

  الرد الثاني على الأزمة المزدوجة الاقليمية والاجتماعية في بلادنا جاء من طرف الدول الغربية التي كان لها مصلحة في استقرار المنطقة  على ما هي عليه. في هذا السياق للرد على الأزمة العميقة العربية طور الأوربيون أولا مشروع الشراكة المتوسطية بعد محادثات برشلونة التي ارتبطت أيضا بمؤتمر مدريد للسلام العربي الاسرائيلي وبعملية السلام منذ 1991. كان الهدف من المبادرة الأوروبية أيضاَ إحتواء الأزمة في الشرق الأوسط. لكن انهارت المفاوضات العربية الاسرائيلية وضعفت القوة الدافعة للشراكة المتوسطية التي لا تزال حية لكن لم تقدم أي نتائج واضحة بعد حتى بالنسبة للبلدان التي وقعت عليها.

ومثل الأوربيين يشعر الأمريكيون بأن الأزمة التي تعيشها المنطقة العربية خطيرة وهي تحمل تهديدات كبيرة للمصالح الامريكية المتنوعة.  وأنا أعتقد أن سياسة كلينتون كانت كلها قائمة على محاولة إحتواء الأزمة عن طريق إيجاد حل للقضية الفلسطينية لأن العرب كانوا قد أقنعوا جزاء كبيرا من الإدارة الأمريكية السابقة أنه إذا نجحنا في حل النزاع العربي الإسرائيلي سنصل إلى نتيجة ونتعاون سوياّ للخروج من الأز مة. فشل مؤتمر مدريد للسلام الذي كان المبادرة الأمريكية الحقيقية لايجاد حل للوضع في الشرق الأوسط وفتحه أمام الاستثمارات الخارجية قد أفشل إدارة كلينتون في الشرق الاوسط وفتح الباب واسعا أمام ظهور الاستراتجية الجديدة لإدارة بوش المحافظة اليمينية.

أمام فشل برامج الاصلاح الداخلية وعملية الاصلاح الخارجية التي كانت مرتكزة بشكل أساسي على حل القضية الفلسطينية لخلق مناخ ملائم لتطوير الاستثمارات الاقتصادية بدا الأفق مسدودا تماما أمام المجتمعات. وفي مناخ اليأس والخوف هذا ظهرت الحركات الاسلامية. وقد حصل نوع من الشعور بأنه بعد فشل حركات الإصلاح الداخلية، أي من داخل النظام، والخارجية المرتبطة بحل النزاع العربي الاسرائيلي لم يبق هناك بديل آخر سوى التغيير. وقد برزت الحركات الاسلامية وتحولت إلى حركات شعبية بسبب ارتباط اسمها بالتغيير. ولم يعمل استخدامها للعنف إلا على زيادة مصداقيتها في نظر الرأي العام كحركات تغيير. باختصار لم يتعلق الرأي العام بشعار التغيير إلا لأنه يئس من شعار الاصلاح أو فقد الأمل به.  وكان الحديث عن بناء دولة اسلامية يزيد من وضوح صورة التغيير البديلة لصورة الاصلاح من الداخل أي من ضمن النظام.

مما لا شك فيه أنه كان للثورة الإيرانية تأثيرها. لكن بصرف النظر عن ذلك مثل هذا التيار الرد الأساسي التي بلورته المجتمعات على استعصاء الأزمة الداخلية وانعدام القدرة على الاصلاح الحقيقي. النتيجة كانت طبعاَ معروفة. ففي جميع البلاد التي نجح فيها وصل مشروع الدولة الاسلامية إلى طريق مسدود. وفي بلدان كثيرة تحول من مشروع تغيير إلى مشروع حرب أهلية. يعني انتهى إلى صراعات داخلية. وكان مناسبة لإجهاض فرص تحويل ديمقراطي محتمل بشكل أو بآخر.

لقد فشل الإصلاح الداخلي وفشل مشروع التغيير الداخلي وفشلت محاولات إيجاد تسوية لمسألة الصراع العربي الإسرائيلي ولمسائل أخرى من قبل الولايات المتحدة ومن قبل الأوربيين أنفسهم لأن الأوربيين والغربيين عموما لم يبذلوا جهدا لإشراك العرب بشكل فعلي في تقرير مصيرهم، أي لأنهم لا يريدون التخلي عن فكرة أن العرب يجب أن يبقوا خارج اللعبة. وهذا هو جوهر النظام شبه الإستعماري الشرق أوسطي. فالدول الغربية تنظر إلى العرب كمصدر خطر بسبب معاداتهم لإسرائيل وللغرب. ولم ينس الغربيون الحركة الناصرية الشعبية والقومية كما لا ينسون مواقف الحركات الاسلامية ولا يرون عند الرأي العام العربي سوى العداء للغرب. كما لا ينسون استخدام العرب للنفط في حرب 1973 وقطعهم لامداداته تحت زعامة الملك فيصل نفسه الذي كان معتبرا ملكا لدولة صديقة لأمريكا.  هناك شعور حقيقي أن العالم العربي والعرب كعرب بصرف النظر عن أي شيء آخر لا يمكن إلا أن يكونوا معادين للغرب ولا يمكن السيطرة عليهم إلا من خلال أنظمة استثنائية تحول دونهم والتعبير الحقيقي عن إرادتهم ومواقفهم.   

أعتقد أننا بسبب الفشل في مشاريع الإصلاح والتغيير التي كانت غير منطقية وغير عقلانية وصلنا إلى مواقف هزيلة كان من نتيجتها نجاح المشروع الشاروني. والولايات المتحدة الأمريكية تتبنى اليوم المشروع الشاروني في الشرق الأوسط . فمادام العالم العربي ضعيفا وممزقا ولا توجد فيه قوى حية، لأن القوى العربية قد حيدت بعضها البعض ولم تعد ذات قيمة ولا قادرة على الفعل - وهذا واضح اليوم من غياب رد الفعل على المجازر التي تجري في العراق وفي فلسطين حتى لم تقم مظاهرة لها معنى – فلماذا المفاوضات ولماذا القبول بالتضحيات وتقديم تنازلات للدول العربية. ومثل ما جرى في عام 1948 اعتقد الاسرائيليون الذي صوتوا لشارون أن الفرصة صارت سانحة لإطلاق وتوسيع عملية  الاستيطان. وعملياَ الولايات المتحدة الأمريكية في حربها في العراق وبعلاقاتها مع الدول العربية تتبنى الاستراتيجية الاسرائيلية بالضبط: لا نحاور لا نشاور بل نملي إرادتنا وبكل غطرسة لإعادة بناء الشرق الأوسط الجديد كما نشاء وأنتم تفعلون كما نطلب منكم عملياَ. هكذا يقولون للعرب: تتخلون عن الأسلحة الاستراتيجية، عن فلسطين، تتخلون عن العروبة، تلغون الجامعة العربية تعيدون النظر في الإسلام أو الخصوصية الخ وتدخلوا في المشروع الأمريكي لنستوعبكم في منطقة التجارة الحرة العربية الأمريكية والشرق أوسطية الأمريكية. هذا هو الحل المقترح في الحقيقة على العالم العربي اليوم.  لذلك العالم العربي أمام تحد حقيقي هو كما قلت، تحدي التدخل الأجنبي الذي يريد أن يصوغ مصير العالم العربي لعقود قادمة.  ونحن أحياناَ نفرح لأن موقف الدول الأوربية مختلف عن الموقف الأمريكي في بعض الأمور. ولكن في الحقيقة هم لا يقولون أي شيء آخر بل يقولون أن العالم العربي غير قادر على الأصلاح وعلى التغيير من الداخل ويلزم له تدخل خارجي، ولكنهم  يضيفون ضرورة المساهمة في حل النزاع العربي الإسرائيلي حتى يكون التدخل مقبولاَ. هذا هو إطار المخطط الإصلاحي المفروض.

 

الآن هل هناك جواب عربي على هذا التحدي الكبير؟ أنا باعتقادي أن جوهر المسألة كلها هو مكان وموقع الشعوب العربية في كل النظام الاجتماعي والسياسي القائم. المشكلة هي تغييب الشعب خلال عقود طويلة والذي تحول بالتالي إلى غياب حقيقي للشعب. يعني أن الشعب نفسه فقد ثقته بنفسه وفقد روح المبادرة وفقد روح المسؤولية وأصبح يعتقد أن كل شيء قدر ولا حل آخر سوى الحل الخارجي.  لقد تحول كل شيء إلى قدر، الولايات المتحدة الأمريكية في نظر الكثير من قطاعات الرأي العام قدر، واسرئيل قدر وهزيمتنا قدر وفقرنا قدر وتأخرنا قدر ونحن مجرد متفرجين. ليس هناك أي مصدر لمبادرة عربية اليوم لا أهلية ولا رسمية. وحتى لو انعقد مؤتمر القمة العربية القادم، وأنا أعتقد أنه سينعقد، لن تكون نتيجته إلا صدور بيان كآلاف البيانات العربية السابقة التي تغطي فيها النظم العربية الغير متفاهمة والغير متناغمة والغير قابلة لأي تغيير على إرادتها في إبقاء الأوضاع كما هي وعلى مفاوضاتها السرية أو أحياناَ العلنية المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية لإيجاد تسوية ما معهل, أنا أعتقد أنه لا يوجد حل آخر إلا في إعادة إدخال الشعوب في الحياة العمومية السياسية والإجتماعية بعد أن فقد الناس اهتمامهم بالشأن العام ولم يعودوا يفكروا بشيء إلا بمصالحهم الشخصية عائلاتهم وأمورهم الخاصة. كيف يمكن إدخال الشعوب في الحياة العمومية؟ كيف يمكن إعادة بناء هذه الشعوب؟ الأفراد لوحدهم لا يستطيعون شيئا.  إعادة بناء الشعوب تكون عن طريق بناء الجمعيات والمؤسسات والأحزاب. هكذا تتهيكل الشعوب. المجتمعات هي عبارة عن مؤسسات. المجتمعات ليست أفرادا، ليست مادة خام، هي مجموعة القواعد والقيم والقوانين والمؤسسات التي تنظم علاقات الناس فيما بينها وتخلق منها قوى فاعلة.  لماذا نحن لسنا فاعلين ؟ لأننا لسنا منظمين في أي إطار، لا تخت منظمون في أطر مدنية من جمعيات ونقابات وغيرها، ولا في أطر سياسية أو أية أطر أخرى. نحن خاضعون إلى قرار واحد وإرادة واحدة.  تتلاعب بنا أجهزة وقوى خارجية ونحن لا نملك القدرة لا على التساؤل ولا على الحوار ولا على التعبير ولا على النقاش. كيف يكون الرد على التحدي إذا أردنا فعلاَ مواجهة الوضع الراهن؟ مع العلم أنني  أعتقد أن الأمريكيين والغربيين غير قادرين اليوم على فرض إرادتهم على الشعوب العربية. وأعطي العراق كمثال على ذلك.  إن خطأ الأوربيين والأمريكيين كامن في تصورهم أن التفوق الاستراتيجي والعسكري يمكنهم من  إعادة بناء النظام شبه الاستعماري المنهار في المنطقة.  إنهم يغرزون الآن في العراق. فلا يمكن اليوم أن يحتل أي بلد بالطريقة العسكرية. لا يمكن للأمريكيين أن يحققوا استقرارهم في أي بلد من دون أن يكون لهم قاعدة محلية وحليف محلي. ومن الواضح أنهم اليوم غير قادرين حتى على أن يضمنوا استخدام القوات التي هم أنفسهم أعادوا تكوينها بعدما حلوا الجيش العراقي. فجزء منها تمرد عليهم ورفض الدخول في الحرب. هذا درس كبير جداّ. الشعوب لم تعد تقبل بأن تهدر حقوقها وسيادتها. لكن إذا كان الأمريكيون لن ينجحوا في إعادة بناء النظام شبه الاستعماري المنهار القائم على التجزئة والتبعية والأنظمة القمعية فإن بإمكانهم، إذا تركناهم ولم نتصدى لهم، أن يدفعوا الشعوب والمجتمعات نحو الدمار والفوضى. وهذا ما نراه يحصل في العراق. ففي العراق الأمريكيون لا ينتصرون ولكن نحن أيضاَ لا ننتصر ونحن نفقد الكثير من مواردنا وثرواتنا وبنياتنا الأساسية.  

لكن في الوقت نفسه الذي أقول فيه أن الاستعماريين لن ينجحوا في إخضاع الشعوب بعد اليوم أعتقد أيضا بأننا نحن أيضا كمجتمعات غير قادرين على إعادة بناء أنفسنا بوقوفنا باستمرار ضد الغرب وضد الدول الصناعية. يجب أن ننجح في بناء علاقة ليس مع الغرب ككل ولكن مع القوى الغربية الديمقراطية. ويجب أن نقنعها بأن المجتمعات العربية قادرة على أن تكون ديمقراطية وقادرة على أن تبني نظم حكم قائمة على قواعد سلمية في التعامل مع السلطة وفي التعامل مع الأفراد، قادرة على أن تبني دول قانون ودولا ديمقراطية. ينبغي علينا أيضاَ أن نفتح حوار مع القوى الديمقراطية الغربية والقوى الديمقراطية العالمية. أقصد بذلك أنه لا ينبغي لنا قبول الانعزال أو الانغلاق على النفس والتمسك بالخصوصيات. ولا يمكن  للعداء للخارج أن ينقذنا أو يقدم لنا حلاَ للخروج من الأزمة الراهنة. فنحن لا نستطيع إعادة بناء أنفسنا في العداء للآخرين ولكن أيضاَ لن يستطيع الآخرون أن يفرضوا أنفسهم من جديد علينا من دون أن يحترموا حقوقنا وإرادتنا. وأنا أعتقد بأن هذا هو محور العمل الأساسي الذي يجب أن نلتف من حوله لنستطيع الخروج من الأزمة الراهنة، وهي أزمة طويلة ستكبدنا خسائر كثيرة وستكلفنا صراعات داخلية وخارجية قد لا يستطيع أحد أن يقدرها إلا إذا نجحنا فعلاَ في الوصول إلى نوع من يقظة وطنية كبرى. وهذه معجزة كلنا نتمنى حصولها وباعتقادي من الممكن أن تحصل إذا أفرزت النخب الحاكمة في داخلها عناصر واعية تقدم القضية الوطنية على قضايا المصالح الشخصية والمصالح الخاصة. لذلك قلت في بداية الحديث أنا أعتقد أن المفروض على هؤلاء الذين يعيشون داخل النظام ويتحملون أيضاَ نتائج الأزمة وهم يستطيعون ذلك لو أرادوا، أن يقوموا بعمل كثير إذا مدوا يدهم إلى قوى الإصلاح والتغيير خارج النظام. وفي يدهم المبادرة. ولو تجرأ التيار الإصلاحي الموجود داخل الحزب الحاكم وداخل الإدارة وداخل الدولة، وأنا أعتقد أنه موجود، ولو كان محاصراَ، وأعتقد أنه لو أفصح عن هويته وعن برنامجه وفتح باب الحوار مع التيارات الإصلاحية والديمقراطية الأخرى فمن الممكن أن نخلق معجزة ونجنب أنفسنا صراعات طويلة لن يكون نتيجتها إلا التحييد المتبادل. العالم العربي غير قادر على القيام بأي مبادرة اليوم لأنه يعيش حالة من التحييد المتبادل. فالسلطة تحيد المعارضة والمعارضة تحاول أن تحيد السلطة. وهذا موجود في سوريا وفي العالم العربي كله. نحن قوى تحيد بعضها بعضاَ والمحصلة هي الصفر. المحصلة على المستوى الدولي في الصراعات الدولية محصلة 300 مليون إنسان هي صفر. لأن كل الطاقة الموجودة في هذه المجتمعات تهدر في الصراعات الداخلية. كل طرف يريد أن يسيطر على الطرف الآخر أو يريد أن يخضعه ويملي عليه مصالحه ولذلك لا يوجد أي أمل إلا بيقظة يكون مضمونها الإعتراف بالمصالح الخاصة بكل إنسان ضمن حدود قانون واضح ومقبول من جميع الأطراف وقائم على حياة سياسية صحيحة وسليمة وديمقراطية  وشكراً.

 

 

 

 

 

رد الدكتور برهان غليون :

 

أشكركم جميعاَ على هذه المداخلات التي أتفق معكم في أجزاء كثيرة منها والتي أحياناَ أثارت مشاكل ليس لدي لا الوقت ولا القدرة على الاجابة عنها كلها مع بعض.

 

لقد حاولت أن أعطي مخططا سريعا لتصوري لأسباب الأزمة وسأحاول أن أبلور بعض النقاط التي ربما لم تفهم بشكل دقيق أو أسيئ فهمها.

 

ما قاله الأخ علي العبد لله حول إصلاح النظام والقوى الإصلاحية، وأثيرت هذه النقطة من قبل الكثيرين. أنا باعتقادي أن النظام وعندما أقول النظام لا أعني أشخاصا بل أعني قواعد العمل والتعامل وطبيعة تنظيم المجتمع والقوانين وطريقة تطبيقها ودمج السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية كما هو حاصل في كل النظم الشمولية، هذا النظام لا يصلح ولا يصلح. هذا النموذج من النظم السياسية في العالم كله لم ينجح، في أي بلد من بلاد العالم، في أن ينقل نفسه وبصورة طبيعية إلى نظام ديمقراطي أو إلى نظام شعبي أو إلى نظام يحسن في التنمية أو في أي بناء والأمثلة كثيرة في كل العالم على هذه النماذج.

 

لكن الناس الذين يعيشون في هذا النظام، الأفراد والأشخاص، يمكن أن يغيروا أفكارهم. النظام لا يصلح لأنه محكوم بالفساد وبتفاقم الفساد بالرغم من كل الترقيع. لكن بقدر ما هو يتدهور نحو الفساد ويتفكك يفرز أفرادا من داخله من بعثيين وغير بعثيين، وأناسا كانوا قريبين من السلطة، يفرزهم ويدفعهم إلى التساؤل هم أيضا،َ لأنهم بشر، وإلى أن يطالبوا هم أيضا،َ بإصلاحات. وأنا أعرف أن في داخل حزب البعث اليوم يوجد مطالبات كبيرة جداَ وقوية جداَ للإصلاح. وهناك أيضاَ تبن من قبل بعض الأطراف للبرنامج الديمقراطي. وأنا أحيي هؤلاء وأريد من هؤلاء أن يظهروا موقفهم بشكل أفضل ويتجرؤوا حتى نعمل معاَ من أجل التغيير. وأنا أقول أن المطلوب اليوم هو تغير نمط النظام، ليس قتل الأفراد أو تغيير الأشخاص بالضرورة، وإنما تغيير أسس عمل النظام الاجتماعي والسياسي. يعني العودة عن النظام الشمولي نحو نظام قائم على التعددية وحكومة تمثيلية منتخبة من قبل الشعب عن طريق انتخابات ديمقراطية ونزيهة وحرة. هذا هو الرجاء وهذا هو الطريق الصحيح لأي إصلاح فقط حكومة منتخبة من الشعب وتحوز على ثقة الشعب ويؤيدها الشعب وتعكس ضغوطات الشعب قادرة على إخراج البلاد من الأزمة. نحن نفتخر بأننا لا نستجيب للشعب، نحن فوق الشعب. بالعكس الحكومة الديمقراطية هي التي تستجيب لضغوط الشعب وهي التي تعبر عن إرادته وهي التي تكون حساسة لما يقوله الشعب. فقط هذا النوع من الحكومات قادر على أن يدفع الشعب إلى التضحيات الكبيرة الضرورية لأي إصلاح اليوم. فالإصلاح لايقدم في البداية منافع كثيرة. إن إعادة بناء المؤسسات لن يستفيد منها الناس الآن مباشرة وإنما فيما بعد. فالإصلاح اليوم بحاجة لتضحيات وتنازلات. بحاجة إلى فهم جديد، إلى ممارسة، إلى ضبط النفس. فقط حكومة يثق بها الشعب ويؤمن بأنها تريد التغيير من أجل صالح الشعب هذه الحكومة فقط قادرة على تحقيق الإصلاحات الضرورية والتي أصبحت خطيرة ومستعجلة في كل الميادين السياسية والاقتصادية والإدارية والقانونية. تحدث شاعرنا عن الفساد. لا أحد ينكر اليوم من قمة السلطة إلى أسفلها أن مشكلة الإدارة ومشكلة المؤسسات بما فيها النقابات وغيرها وعدم فاعليتها تحتاج إلى تغيير كامل وجذري. وهذا التغيير لا يتم بالمحافظة على القواعد التي يسير عليها النظام القائم. نحن لا نراهن على النظام نحن نراهن على القوى الوطنية التي سيفرزها ويفرزها يومياَ تفكك النظام.

 

 

فيما يتعلق بالمشروع الأمريكي هل له علاقة بالإدارة الأمريكية الحالية أم أنه مرتبط باستراتيجية الدولة الأمريكية وبالتالي من الممكن أن يستمر ويبقى فيما بعد؟ أنا أعتقد أن نقطة الضعف في العالم العربي ليست في التفوق الاستثنائي للولايات المتحدة الأمريكية. فهي متفوقة على الأوربيين وعلى الآسيويين وعلى كل شعوب العالم وليس فقط على الشعوب العربية البسيطة والضعيفة، ولكنها لا تفرض نفس السياسات على تلك الشعوب. لماذا تعطي نفسها الحق في أن تملي على شعوبنا فقط هذه السياسات. إن نقطة الضعف هي نحن، أي الفراغ كما يسمى في علم العلاقات الدولية. يوجد فراغ استراتيجي في المنطقة، يعني لا توجد قوى تستطيع أن تقوم بملء هذا الفراغ أو تستطيع أن تقاوم أو تستطيع أن ترد أو تستطيع أن تخلق مبادرات حتى فكرية أو أن تعبئ حتى جمهور الدول العربية. وهذا ما يدل عليه غياب المظاهرات في كل الميادين. ترى البلاد العربية من الخارج كقواقع فارغة لا يوجد فيها قوى اجتماعية. فيها قوى مدجنة. الشعوب فيها مدجنة وغير قادرة على الحركة ومكبلة. هذا هو الوضع الحقيقي. الأمريكيون أنفسهم من عشر سنوات لم يكونوا ليجرؤوا على طرح المبادرة بالطريقة التي طرحوها اليوم. حتى من سنة ما كان يجرؤ الرئيس بوش على القول بأنه مع مخطط إسرائيل في المسائل الثلاثة مما يشكل تحديا سافرا واستفزازا، ليس للرأي العام العربي فقط، وإنما للأنظمة العربية الحليفة في مصر والسعودية وغيرهما. إنه تحد للشرعية الدولية. لكنه يجد أذنا صاغية عندنا لأنه لا يرى إمكانية لأي ردة فعل. بل حتى الأوربيون والرأي العام لا يرون في موقف الولايات المتحدة ما هو مستغرب كثيرا لأن الأمر متعلق بعالم عربي فقد سمعته كلياَ عند الرأي العام العالمي.

 

الرأي العام العالمي يرى العالم العربي اليوم كمجتمعات همجية بربرية لا تعرف القيم الإنسانية ولا الحريات ولا التنظيمات ولا التعددية ولا السلام، ولا تفرز إلا العنف والقتل. ولذلك يبررون للأمريكان تدخلهم. ولو حصل ذلك في أي بلد آخر لكان الرأي العام العالمي قال : إن هذا تدخل سافر وخرق لمبدأ سيادة الشعوب التي يقوم عليها النظام الدولي.

 

لقد فقدنا القوة السياسية الكافية وليس العسكرية فقط. والجيوش بدون سياسة لا تفعل شيئا ولا قيمة لها. هذا ما بينته الحرب في العراق كمثال. إذاَ طالما كان هناك فراغ وطني واستراتيجي إقليمي من الناحية العربية ستستمر التدخلات  بالطريقة نفسها وستزداد.  ستزداد نزوعات الدول الصناعية الكبرى للتدخل في الشؤون العربية، وكل دولة ستسعى للتدخل من أجل حماية مصالحها. اليوم الأمريكيون تدخلوا واليابانيون  بدأوا بالاهتمام بالعالم العربي وهذا سيستفز الأوربيين ويقولوا إذا لم نتدخل " منطلع من المولد بلا حمص "  مثلاَ ينظم اليابانيون اليوم ندوة للنقاش بين العرب واليابانيين هدفهم منها أن يربطوا علاقات ويروا، لأن الموضوع أصبح يهمهم. التدخل الآن هو السياسة التي ستبقى، مع كيري أو مع بوش بدون استثناء، طالما لم تشعر هذه الدولة أنه يوجد هنا صخور لا يستطيعون مناطحتها. فحتى الآن الثمن الذي يدفعه الأمريكان زهيد. وفي العراق عندما بدأت الإدارة الامريكية تشعر أن هناك ثمن ينبغي دفعه بدأن نقبل التفاوض. وعندما وجدت أنه هناك قوى اجتماعية تحارب وتضحي بدأت تعيد حساباتها. هذا هو قانون العلاقات الدولية. فهم يفرضون علينا ويتدخلون في شؤوننا ويهددوننا لإحساسهم بموقفنا الضعيف. وموقفنا ضعيف لأنه لا يوجد عندنا وضع سياسي قوي ولا يوجد لدينا قوى قادرة على المقاومة.

 

السؤال المطروح حول طبيعة المبادرة الأمريكية من عدة نقاط.. مثلا هل الكلام الموجود في نص المبادرة خطأ لا يطابق الحقيقة؟ أليس هناك مشكلة تنمية ومشكلة حريات عندنا؟  كل شيء يقال صحيح ولكن هناك فرق بين أن يخرج من داخلنا كأناس يحاولون التفكير بمصيرهم وبين أن يملى علينا من الخارج. الفرق هو جوهر الموضوع. بدون قوى اجتماعية محلية لا يوجد إصلاح. لا إصلاح بتقنيين أمريكيين أو فرنسيين أو أجانب. يجب أن يكون هناك قوى اجتماعية محلية تحمل الاصلاح والتغيير. يجب أن يكون هناك طبقات وسطى وقيم عند المجتمع تحمله وقواعد للعمل داخل المجتمع.

 

هل يمكن للاصلاح أن يفرض من الخارج؟ المشكلة الأكبر أنه لا يجب أن يخلط بين الشعار، بين الادعاء - كل حركة تحاول أن تعطي لنفسها أهداف أخلاقية وإنسانية - وبين الواقع.  يعني لا يوجد سبب لكي يكون الأمريكان رحماء مع العرب أكثر من العرب مع أنفسهم.  هم يستخدمون شعارات مثل قميص عثمان، كلمة حق أريد بها باطل. لأن هدفهم ليس الإصلاح في العالم العربي ولا الديمقراطية. فهم الذين كانوا وراء الفساد وهم الذين دعموا، باعتراف الرئيس بوش نفسه الأنظمة الاستبدادية خلال الستين سنة الماضية. وهم المستفيدون منها. ولا توجد أي حجة واضحة تجعلنا نعتقد بشكل منطقي بمصلحة أمريكا في الدفع نحو الديمقراطية.  بالعكس، هم يريدون أن يضغطوا على الأنظمة حتى تستكين أكثر لهم وتقدم لهم تنازلات أكث.ر هدفهم ليس تغيير الأنظمة نحو أنظمة ديمقراطية وإنما الإصلاح داخل الأنظمة بدفع الأنظمة إلى أن تقوم بأداء أفضل يوفر عليهم بعض العناء ويقود إلى استقرار أفضل في المنطقة. وهذا الاصلاح من وجهة نظرهم يعني توسيع القاعدة الاجتماعية للأنظمة القائمة. ونحن قلنا من البداية لا نراهن على أن هذا النموذج من الأنظمة قادر على إدخال أي إصلاح حقيقي. ما نقوله للأمريكان ليس أنكم كذابين، لكن برهنوا على أنكم قد غيرتم سياساتكم التقليدية فعلاَ وأعطونا مؤشراَ بأنكم منذ اليوم لن تدعموا الأنظمة الاستبدادية، لن تدعموا آرييل شارون، لأن الذي يريد أن يدفع باتجاه الديمقراطية في العالم العربي لا يؤيد البرنامج السياسي الاستيطاني المتطرف اليميني القومي لشارون. على الأقل يحاول أن يدفع مثلما فعل كلينتون سابقاَ نحو نوع من حل سلمي للنزاع العربي الإسرائيلي. من يريد أن يصنع ديمقراطية في العالم العربي لا يستفز الشعب العراقي بالمجازر كالذي يحدث في الفلوجة. إذاَ لا يوجد مؤشر، أي مؤشر، وأتوجه بذلك للناس الذين يعتقدون أن الأمريكان يريدون أن يصنعوا إنجازاَ في هذا الاتجاه، على أنهم غيروا فعلا من سياستهم، وهم زعماء الانقلابات العسكرية في كل مكان. وهم وراء الاستبداد في منطقتنا العربية. ليظهروا أنهم قد غيروا سياستهم والكلام فقط لا يكفي.

نحن نؤمن بالديمقراطية للعالم العربي لأنها من مصلحتنا وتهمنا. مصير ومستقبل شعوبنا يهمنا. ولكن لا يوجد أي سبب يجعلني أفكر بأن مصالح ومصير ومستقبل شعوبنا يهم الرئيس بوش أو يهم الإدارة الأمريكية. ممكن أن يقول أحد ما أنهم خائفين من أنه إذا استمرت الأوضاع هكذا فإن الإرهاب سيزداد وبالتالي فإن لهم مصلحة في تحسن الأوضاع. صحيح هم يفكرون بهذا. ولكن هم يختلفون في الطريقة للوصول إلى الهدف. فقسم يقول يجب أن نصلح حتى نخفف الضغط لكن لا نسلم للشعوب السيادة. إذا ما بقي من الديمقراطية إذا كانت تعني سيادة الشعوب وحكمها نفسها بنفسها؟ هم يريدون أن تقوم الانظمة ببعض الانفتاحات وقليلاَ من التعددية وبناء واجهة ديمقراطية ولكن يجب أن يبقى كل ذلك تحت السيطرة لأن الشعوب ومعادية للغرب إسلامية متعصبة ومعادية لإسرائيل وحتى معادية للسامية وغير مضمونة. والنتيجة من المستحيل أن يتركونها تتحكم بمصيرها. وهذا هو جوهر سياستهم من ستين سنة لم يتغير. لا يجب أن يكون لدينا أدنى أمل في أن الأمريكان يريدون فعلاَ دفع المنطقة نحو الديمقراطية. الأمريكان يريدون إعادة بناء نظام السيطرة الأمريكية والشبه استعمارية على أسس جديدة تنسجم مع المرحلة الليبرالية التي نعيشها. طبعاَ يريدون نظما تعددية ولكن ممسوكة من الداخل ومحكومة بخطوط حمراء. وكل الاستبداد قائم على فكرة الخطوط الحمراء التي لا يحق لأحد لا أن يتجاوزها بل ولا أن يناقش في أمرها. وخطوطهم الحمراء هي لا سيادة للشعوب العربية لكن تحالف مع طبقات و نخب وفئات مصالح جديدة من أصحاب المشاريع ومن أصحاب القطاع الخاص. هذا يتماشى مع برنامجهم الليبرالي.

 

إذا لم تتجاوب النظم مع بعض نداءات الإصلاح فما العمل؟  أنا أعتقد أن المشكلة هنا ليست النظم وإنما المشكلة هي المجتمعات؟ النظم تستبد، النخب تستكلب على السلطة، فئات المصالح تنهب وتسرق موارد الدولة، لأن المجتمع غائب لأن المجتمع غير منظم، لأنه لا يوجد من يضرب على يدها ويقول كفى. إن المجتمع عندما يعيد مبدأ الكفاءة والمسؤلية مقابل مبدأ الولاء والتبعية والاستزلام والمحسوبية الذي هو منطق كل السلطات الاستبدادية ، لا يمكن لأي سلطة استبدادية أن تستمر.  لذلك دعونا نفكر في المجتمع أكثر مما نفكر في السلطة. نفكر كيف نفعل الحياة الاجتماعية وكيف نفعل المجتمع من أجل أن يأخذ دوره ويدخل في الحياة السياسية وأن يفرض التغييرات. برأي الاستثمار الحقيقي الذي يجب أن يركز عليه المهتمون بمستقبل المجتمع وبمصيره هو الاستثمار في المجتمع، الاستثمار في الثقافة، في الوعي، في التنظيم، في التنشيط الاجتماعي، في الجمعيات الأهلية. هذا هو إطار إعادة بناء المجتمع، والذي أسميته تفعيل المجتمع حتى يكون مجتمعا مبدعا ناشطا قادرا على المبادرة والحركة والتدخل في الدفاع عن حقوقه وعن مصالحه. وقبل ذلك أن يدرك ما هي حقوقه وما هي مصالحه. وهذا يتطلب منا إدخال ثقافة جديدة، ثقافة مواطنية مدنية نكاد ننساها بسبب عودة القيم العشائرية والعائلية في مجتمعاتنا العربية.

 

ليس صحيح أنه لا يوجد خطة وطريق للعمل. هناك محور للعمل وهو إعادة تفعيل الشعوب. يعني إعادة تفعيلها وتنظيمها بعمل تربوي, بعمل ثقافي، بعمل سياس. ونحن نناضل من أجل الديمقراطية ونطالب بها وبالتعددية لأنه لا يوجد طريق ثان لإعادة تفعيل المجنمعات وبنائها وجعلها قوى فاعلة إلا عن طريق التفاعل والتواصل والنقاش والحوار والثقافة. فهل من الممكن أن يكون لدينا رأي عام واع حقيقة إذا لم يكن هناك صحيفة ولا تلفزيونا يمكن أن يشارك فيه الناس جميعاَ ويكون لهم الحق في التعبير عن رأيهم. وهل من الممكن أن يحتكر حزب واحد أو الدولة أو السلطة أو وزارة الإعلام كل وسائل الإعلام وتمنع الناس من أن يتكلموا مع شعبهم. هذا جزء من المشكلة. يجب أن تتغير عقلية البعثيين و عقلية الحاكمين. فهم من بيدهم السلطة ويشعرون أنهم لا يمتلكون امتيازات كافية في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يرفضوا أن يكون  لهم امتيازات على المواطنين الآخرين. أنا آمل وأتوقع من البعثيين الحريصين على مستقبل ومصير البلد أن يتنازلوا عن امتيازاتهم واحتكاراتهم ويشاركوا بقية المواطنين في كل شيء. وهذا الأمر ينطبق على مسألة المواطنين الأكراد. لا ينبغي أن ننظر للأكراد على أنهم مجتمع ثان يتنافس في سوريا مع المجتمع العربي على أي شيء. الأكراد هم مواطنون سوريون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. الآن عندما يعمم بعضنا ويقول لقد أحرقوا العلم ومؤسسات الدولة. هذا كلام فيه خطر بالنسبة لمستقبل البلاد. لا أحد يتهم مجموعة كاملة بإحراق أو إيذاء أو الإساءة، لأن الذين يسيئون هم أفراد. وأي دولة لا تحاكم مجموعة - مدينة أو قرية أو إثنية أو قوم -  لأنه حصل في منطقتها قلاقل أو جرائم. تحاسب المجرم كفرد ولا ينتقم من بل يطبق القانون على الخارجين عن القانون، وهم أفراد. إنما أي تعبئة ضد مجموعة اثنية ستكون نتائجها خطيرة. وإذا لم ننزع الفتيل وتركنا أنفسنا لنمشي بعواطفنا القومية التقليدية، نحن وهم، أي جعلنا من أنفسنا نقيضا، يمكن أن ندفع هؤلاء الناس الذين ليسوا متطرفين - المتطرفون الانفصاليون الذين يعيشون في وهم قومي كردي وهم أقلية - إلى أن يصبحوا أغلبية، يعني دفعنا بقية الأكراد الذين يشعرون بمواطنيتهم السورية والمتمسكين بسوريتهم إلى أن يشعروا بأنه لا يوجد لديهم خيار عن طريق سوريا الديمقراطية وإنما خيارهم هو عن طريق حركة قومية كردية استقلالية انفصالية. هذه قنبلة موقوتة على كل السوريين بعثيين وغير بعثيين أن يتعاملوا معها بدقة وروح وطنية لا يزيدوا فيها إشعال الفتن داخل الشعب السوري وإنما ينبغي عليهم بالعكس أن يحتضنوا الأكراد غير المسيئين وأن يحاولوا إشعارهم إلى أي حد هم يشكلون جزءا مهما من المجتمع السوري. ومن المفيد جداَ أن تقوم الحكومة بمبادرات سريعة وقوية في اتجاه تحسين ظروف حياة المنطقة الكردية وإدماجها إدماجأ حقيقيا في دورة الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية. كلنا نعرف أن مناطق الجزيرة شبه مهملة مثلها مثل كل المناطق المحيطية ليس لأنها منطقة أكراد وإنما لأنها مناطق طرفية.

 

كان على الحكومة أن تقرر مباشرة من دون أن تنتطر وتترك الامور تتدهور وتخضع للمزايدات في قضية المتجنسين.  وبإمكانها أن تعرف بسرعة وبساطة من هو مهاجر ومن هو لاجئ ومن يستحق الجنسية ومن لا يستحقها. مثلما تفعل أي بلد تحترم نفسها وتحترم القانون كان المفروض من السلطات أن تحل المشكلة قبل ان تتفكر، ضمن القانون إما عن طريق إعطاءهم بطاقة لجوء تحترم فيها حقوقهم المدنية أو تتفاوض مع البلد الأصلي. وأنا أستغرب لماذا حتى الآن لم يحصل هذا الشيء. إذا كانت السلطة تقول بأنها لم نمنحهم الجنسية لأنهم جميعاَ قادمون من الخارج فلماذا حتى الآن لم يتم التفاوض بشأنهم. هذه الأمور يجب أن تحسم بروح قانونية وروح وطنية ودفن كل محاولات التسعير بين الأقوام الموجودة داخل سوريا.

 

بالنسبة للوحدة أنا أعتقد أنه لا يوجد أمل للخروج من التفكك العربي وتفكك النظام العربي وانهياره إلا بإعادة السلطة للشعب في الدول العربية. فقط الدول الديمقراطية قادرة على الاتحاد والتفاهم والتكتل. هذه دروس التجارب التاريخية. الأوربيون تكتلوا بعد حربين عالميتين وبعد صراع مرير بين بعضهم وهم يتألفون من قوميات مختلفة ومتنافسة. استطاعوا الوصول إلى التكتل بطريقة إنسانية وسلمية وطبيعية لأنهم حكومات ديمقراطية. أنا كرئيس حكومة أفاوض من أجل أن أبين لشعبي بأنني أحقق له مصالح جديدة وأعرف بأني سوف أخرج من الحكم ومن أجل أن أنتخب مرة ثانية علي أن أبين له أنني أنجز وأنني أفكر في المنفعة العامة. والتفكير في المنفعة العامة والوطنية عند الحكومات الديمقراطية هو الذي يدفعها إلى التكتل مع الحكومات الديمقراطية الأخرى لزيادة المنفعة المتبادلة. وبالعكس التفكير بالمصلحة الخاصة ضد المصلحة الوطنية هو الذي يدفع الجكومات الاستبدادية إلى ألا تستبعد أي  محاولة تكتل لأنها لا تهتم بالمصلحة العامة والمصلحة الوطنية ولكن ما يهمها هو الحفاظ على مواقعها وعلى مصلحتها الخاصة. أسباب التفكك العربي وانهيار النظم العربية هو عدم وجود نظم عربية تفكر بالمصالح الوطنية، ولا  أقول بالمصالح القومية وإنما بالمصالح الوطنية فحسب، وجميعها تفكر بمصالح النخب الحاكمة.

 

لماذا شعوبنا تبدو عاجز؟ة أعتقد بأن الثقافة لها دور ولكن الثقافة ليست كل شيء في مصير المجتمعات. أعتقد بأنه يجب إعادة النظر بأسلوبنا السياسي وبخياراتنا السياسية وبطريقة حكمنا للشعوب. لا يجب أن نعيد كل شيء للنظام البطركي. نحن تكنولوجياَ متأخرين لأننا لم نستثمر بالتكنولوجيا. علمياَ متأخرين لأننا لم نعتن بنظم التعليم التي تكون الأفراد. مشكلتنا نستطيع أن نحددها في كل ميدان بالاختيارات. هل كانت صحيحة أم كانت خاطئة. هل كان تأميم كل المؤسسات الاقتصادية مثلاَ صحيح. قد نعتقد جميعنا بأنه كان من الصحة أن نتبنى نظاما اقتصاديا أسميناه نظاما اشتراكيا وهو في الحقيقة نظام بيروقراطي أدى إلى قتل كل الجهود والمبادرات الخاصة، وبالنهاية أدى إلى نظام اقتصادي بيروقراطي فاسد. هذه خيارات ليس سببها تربيتنا وإنما اختياراتنا السياسية أو اختيارات بعضنا ممن حكموا في البلاد.

 

هناك من دافع عن المبادرة الأمريكية وقال بأن العرب لأنهم محافظين يضيعون الفرص. أنا باعتقادي أن هناك شيء من الصحة في هذا الكلام. اليوم في الحقيقة لا يوجد تنمية على مستوى قطر واحد ولا ديمقراطية على مستوى قطر واحد. إذا نظرتهم في تجربة العقود الماضية تجدون أن كل الدول التي تحولت لدول ديمقراطيه معظمها تحولت في إطار المجموعة الأوربية اليونان وإسبانيا والبرتغال وبعدها أوربا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وروسيا. بقدر ما تخلوا عن النظام الشيوعي بقدر ما تقربوا من المنظومة الديمقراطية. والتنمية أيضاَ تحصل بالتفاعل بين الرساميل والاستثمارات العالمية. اليوم نحن إذا أردنا أن ننمى فمراهنتنا هي على جذب الاستثمارات الخارجية. نحن نقول بأننا سنغير النظام الاشتراكي لأنه وصل إلى طريق مسدود وأننا سنتبنى سياسة ليبرالية سياسة السوق والقطاع الخاص لأنها تجذب الاستثمارات ليس فقط الخارجية وإنما الداخلية التي تهرب إلى الخارج. العلاقات الدولية اليوم علاقات متداخلة ولا يوجد عوامل داخلية مفصولة عن العوامل الخارجية وعوامل خارجية تعمل لوجدها من دون العوامل الداخلية. ليس هناك من إمكانية للتنمية والتطوير ضد الدول الصناعية. إذا قطعت عنا الدول الصناعية الرساميل والاستثمارات و التكنولوجيا والعلم والخبرة من المؤكد أننا لن ننمى. ونفس الشيء إذا قررت الدول الصناعية التي تحكم العالم اليوم أن تصنع أنظمة استبدادية في سوريا أو مصر أو لبنان أو غيرها أو في الشرق الأوسط  فهي قادرة على ذلك، قادرين على انتزاع السيادة من الشعب بالعنف والمناورات وغيرها كما فعلوا في الستين سنة الماضية. لذلك من الواجب علينا أن نفكر أكثر بالخيار الديمقراطي وبخيار الحوار مع التكتل  الصناعي الذي هو اليوم مركز الابدعات التككنولوجية والعلمية ومركز الاستثمارات. لكن مشكلتنا هي كيف يمكن أن نصل إلى هذا الحوار من دون أن نحل مشاكلنا الكبيرة معهم ونظرتهم السيئة لنا التي تجعلهم يؤيدون إسرائيل وينتهكون أبسط حقوقنا. هناك معركة كبيرة حتى يتم الإصلاح والتغيير والتنمية والإصلاح الديمقراطي، معركة ليست فقط داخلية من أجل إعادة بناء المجتمعات وتوعيتها وإنما خارجية أيضا من أجل وصل الروابط مع التكتل العالمي ومع الرأي العام الدولي وتجاوز الصورة السلبية السيئة التي تستخدم لتبرير  الممارسات اللا قانونية ضدنا. هذا هو الدور الذي يجب أن تلعبه السلطات أو الحكومات. ولكن بقدر ما تتطور نظمنا السياسية وبقدر ما تصير أقرب لمعايير العصر بقدر ما سينظرون لنا من الخارج على أننا جزء من هذه الإنسانية وجزء من هذا العصر ونستحق الدعم والاستثمارات والتضامن، نستحق أن ينظر الناس لقضية فلسطين نظرة مختلفة. فنحن اليوم نفتقد لورقتين أساسيتين: تفعيل الشعب وتعبئته وتقويته وصورة ايجابية في الخارج مما يمنعنا من الاستفادة من الدعم الخارجي والرعاية الخارجية والاستثمارات الخارجية.

 

أنا شعوري أنه يوجد في العالم العربي اليوم قبول عميق نفسي لفكرة التمييز الاجتماعي، بمعنى يحق لي مالا يحق لغيري. وهذا سببه انعدام مفهوم القانون بالمعنى الحقيقي، القانون بمعنى الحق. لا أحد يشعر أن حقه ليس له قيمة وغير مبرر إلا بقدر ما يجب أن يحترم حق الآخر المساوي له، حريتي لا معنى لها إذا كان الآخر منتقصة حريته. هكذا يقول قانون المجتمعات الحديثة ومن أجل هذا ينزل الناس إلى الشوارع ويدافعون ضد الاعتقالات وضد خنق الحريات ومن أجل حرية التعبير. نحن نريد  لشعبنا أن يكون جزءا من هذه الإنسانية الجديدة حيث يشعر كل إنسان بأنه حر وسيد وصاحب سلطة ومشارك وله قيمة في المجتمع وليس صفراَ أو ملغياَ أو مغيباَ لأي سبب من الأسباب. كيف سنصل لهذه الثقافة الديمقراطية التي تجعل كل واحد يشعر أن من واجبه أن يحترم ويضمن حرية وحقوق الآخر لأنه المبرر والمشرع الوحيد لحقوقه وحرياته الخاصة.  وهذا جميعنا يجب أن نعمل عليه.

 

لا أعتقد أن الإصلاح لن يكون إلا من الخارج. أنا أعتقد أنه إذا لم تخرج قوى داخلية على مستوى من الوعي والكفاءة والذكاء و التنظيم لدرجة تنجح في إقامة تغييرات قائمة على أسس متينة في الداخل فالتدخلات الخارجية لن تقود إلا إلى الفوضى والخراب. وأنا أعتقد أن ما نعيشه اليوم هو  نتائج التدخلات الأجنبية. نحن نعيش اليوم نتائج النظم التي قامت على أساس التدخلات الأجنبية وبالدعم الأجنبي. وأتأمل أن تكون مراهنتنا في المستقبل على بناء القوى الداخلية. ولكن هذا لا يعني أن الخارج غير مهم. مثلما قلت، لا يوجد داخل منفصل عن الخارج. لكن الخارج ليس له قيمة إلا بقدر ما يكون في الداخل قوة وتكون فيه ذاتية وأناس يتحاورون مع الخارج ويطلبون منه و يفرضون عليه. يجب أن يكون في داخل مجتمعنا بشر يشعرون أنهم بشر وقادرون على التصرف كبشر في القرن الواحد والعشرين بجميع القيم والمعايير التي تحدد الإنسانية في هذا القرن.