إدوارد سعيد : المنفى والحرية

2003-09-30:: ألقيت في حفل تكريم الراحل إدوارد سعيد في الجامعة الاميركية في بيروت

 

 الحديث عن ادوارد سعيد يعني بالضرورة الحديث عن المثقف والمنفى. ليس ذلك لأن إدوارد سعيد هو نموذج للمثقف الذي نجح في أن يبقى فاعلا بالرغم من وجوده في المنفى، ولا لأن المنفى في تجربة ادوارد سعيد عنصر لا يستغنى عنه في فهم الدور الذي يلعبه. ولكن لأن إدوارد سعيد هو، ربما، الوحيد الذي ربط بين مفهوم المثقف ومفهوم المنفى، أي جعل من النفي شرطا تأسيسيا للمثقف كما يراه اليوم. وهو بهذا الربط يعكس تجربة شخصية فريدة، قادته من موقف الاحترافية العلمية إلى ما يسميه هو الهواية ليس بمعنى العمل غير المحترف، ولكن بالعكس بمعنى العمل النبيل والمجاني الذي يدخل ضمن تلك الممارسات التي لا هدف نفعيا لها، والتي أسميها مانحة للمعنى، أي ببساطة تلك التي تعطي للوجود معنى.

 

المنفى المجازي هو المنفى الحقيقي

في ما وراء العلاقة الخاصة بالمنفى، تطرح تجربة سعيد بالنسبة لي، أو تثير عندي فضول السؤال الكبير التالي : كيف وبأية آلية يتحول المرء، إلى هاو على طريقة ادوارد سعيد، أي إلى إنسان مهموم بالعالم من دون أن يسعى إلى أي غاية أخرى سوى الانخراط في العالم نفسه وإعطاء معنى لحياته فيه؟ وهو سؤال يكتسي اليوم أهمية استثنائية في الوقت الذي يكاد التمسك بمثل هذا المنظور يجعل الفرد يبدو، في منظومة القيم السائدة لما بعد الحداثة، ديناصورا خارجا من التاريخ القديم، أو مستحاثة عجائبية.

لكن ما هو هذا المنفى الذي يخلق المثقف المهموم بالشأن العام، المنخرط في الدفاع عن قضية من دون أن يكون ذلك المثقف الملتزم الذي تحدث عنه سارتر، ولا ذلك المثقف العضوي المتماهي مع قضية طبقته وحزبه ومؤسسته كما نظر له غرامشي؟

المنفى البسيط، والكئيب معا، هو بالتأكيد البعد عن مكان الاقامة الأصلي، أو عن الوطن الأم، للانزراع في وطن جديد يجهل المرء كل شيء عنه، أو يحتاج ليجد مكانه فيه إلى إعادة تأهيل قليلا ما تنجح. لكن مثل هذا المنفى لم يعد موجودا بالقوة نفسها التي وجد عليها في الفرن الماضي، حيث كان العالم مكونا من دوائر ثقافية وحضارية مغلقة نسبيا أو متباعدة. إن معنى الابتعاد عن المكان لم يعد أساسيا ولا موحيا في تكوين الشعور العميق بالنفي أو بالغربة الذي يعاني منه مغتربي عصرنا، أي أولئك الذين يعيشون أكثر فأكثر في عالم أصبح مفتوحا بشكل واسع بعضه على البعض الآخر. ولا يمكن الحديث عن مثل هذا المنفى بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بمثقفين حديثين يعرفون عن بلد استقبالهم الجديد، أعني الغرب، أكثر بكثير أحيانا مما يعرفون عن مواطنهم الأصلية. ولا أقصد بذلك رجال على قدر كبير من التأهيل العلمي واللغوي والثقافي مثل إداورد سعيد فحسب، ولكن جميع إولئك الذين سنحت لهم الظروف لتحصيل بعض التعليم الذي يتيح لهم استيعاب ما تبثه كل يوم وسائل الاتصال الحديثة عن العالم >الآخر<. وعندما يتعلق الأمر بعالم الغرب، أظن أن من المسموح أن نقول إن ثقافته وعاداته وتقاليده ومشاكله لم تعد غريبة على أحد في العالم.

 

صحيح أن المعرفة والثقافة واللغات ليست كافية للتأقلم بصورة تلقائية مع جغرافية المكان ومجتمعاته. وقسم كبير من المثقفين الذين يرحلون نحو الغرب من مختلف بقاع العالم الأفريقي والأسيوي يخفقون في النفاذ إلى حقيقته وبواطنه، وفي تطوير وسائل التعامل الفعال والمنتج معه. إن الغرب يتحول إلي مكان إقامة أكثر مما هو مجال تحقيق للذات، أي إعادة تكوين وإبداع. وصحيح أن المجتمعات الغربية التي تمثل اليوم، ثقافيا على الأقل مركز العالم، وشطره المسيطر بامتياز، تمارس أكثر فأكثر سياسة اللغظ والطرد والتطويق بالنسبة للقادمين الجدد بصرف النظر عن مؤهلاتهم وقدراتهم وأصولهم، إلا أن ذلك لا يمنع أن بأمكان هؤلاء الاستفادة من عناصر عديدة في النظام لتأكيد وجودهم ، وتجاوز عقدة المنفى بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي الانتقال من دائرة ما هو أهلي، حميم وقريب من الذات، إلى دائرة ما هو أجنبي، غريب وفاقد للحميمية وبالتالي للأمان. ففي جميع المجتمعات الغربية المعاصرة، تبرز، تحت أنظار المجتمع الأصلي، وبالرغم منه في كثير من الأحيان، فضاءات تتبلور فيها مجموعات ثقافية وممارسات وأنماط سلوك وقيم، مستقلة نسبيا، وقادرة على إعادة بناء ما بشبه عالمها الأصلي، على درجات متفاوتة من الصفاء، بحيث تشعر وكأنها تعيش في عالم أهلي لا أجنبي. بالتأكيد ليس لهذا العالم الأهلي الجديد علاقة كبيرة بالعالم الأصلي، فهو كثيرا ما يكون عرضة للعنصرية في شتى أشكالها. ولكنه وهو يدافع عن نفسه ضد سياسات اللفظ والازدراء والتمييز، يؤسس في الوقت نفسه لموطنية جديدة.

إن المقصود بالمنفى، أكثر من عدم التأقلم مع المكان، عدم التأقلم مع المجتمع أو مع الاتجاهات السائدة في المجتمع والسياسة. وهذا النوع من عدم التأقلم أو رفض التأقلم، الذي يبقي الانسان غريبا عما يحيط به أو عن أقرانه يحصل للأفراد المقيمين في مجتمعات أجنبية، كما يحصل للمقيمين في مجتمعاتهم الأصلية، كما يحصل للأفراد داخل أحزابهم أو أسرهم، بل إزاء أنفسهم. فحتى المثقفون المنتسبون مدى الحياة إلى مجتمع ما، يمكن تقسيمهم إذا أمكن القول إلى مندمجين وغير مندمجين. أولئك الذين ينتمون كليا إلى المجتمع كما هو ويزدهرون فيه دون أي شعور غامر بالتنافر أو الانشقاق، أولئك الذين من الممكن تسميتهم الإمعيين، من جهة، ومن الجهة الأخرى القائلين لا، هؤلاء الأفراد الذين على نزاع  مع مجتمعهم، ولذا فهم غير منتمين ومنفيين في ما يختص بالامتيازات والسلطة ومظاهر الحفاوة والتكريم. وخير ما يمثل النمط الذي يحدد المسار للمثقف كغير منتم هو وضع المنفى، تلك الحالة من اللاتكيف أبدا على نحو تام، والشعور دائما أنك خارج العالم المألوف المهذار الذي يقطنه سكان أصليون، إذا صح التعبير، والميل إلى أن تتجنب زين التأقلم والرفاهة القومية أو حتى أن تكون كارها لها1. فليس المنفي مواطنا أصليا ولا أصيلا، ولا أغلبيا ولا امتثاليا في أي مكان.

لكن، بعكس المنفي القديم الذي كان يعيش في ما يشبه حالة المنبوذ أو المطرود الأبدي من الجنة الأصلية أو الأهلية، لا يعيش المنفي المعاصر، وإن كان يقيم بعيدا عن موطنه الأصلي، في عزلة  حقيقية. فهو ليس مقطوعا تماما عن أهله ومجتمعه، وهو وإن كان ليس مندمجا تماما في المجتمع الجديد، فهو ليس غاسلا يديه تماما منه. إن المنفي المعاصر يعيش بين عالمين، همين، حقيقتين، أو في منفيين إذا شئنا. ولذلك فإن جوهر المنفى المعاصر هو الهم المتصل والمفجر للاحتجاج وليس الحنين المولد للحسرة والأنين. لذلك يرتبط هذا المنفى، بهذا المعنى الميتافيزيقي ب >لتململ والتحرك وكونه (المنفي) على الدوام قلقا، ومقلقا للآخرين. فأنت لا تستطيع العودة إلى وضع ما سابق وربما أكثر استقرارا كنت تشعر فيه وكأنك في بيتك، ولا يمكنك أبدا، ويا للأسف، أن تنجح تماما، وتنسجم مع مقرك أو وضعك الجديد"2 .

يرتبط إذن مفهوم المنفى في هذا المنظور بالانزياح والانشقاق والهامشية والأقلوية والخروج على الاجماع والتمرد على السائد، والخروج على المألوف. وسوف نري كيف أن هذا المفهوم هو منطلق ادوارد سعيد في تحديد مفهوم المثقف ووظيفته كما يقترحها في كتابه صور المثقف.

 

مثقف المنفى

السؤال الذي يطرحه مثل هذا التصور للمنفى هو: كيف يمكن لهذا الوضع الذي يتساوى مع الحرمان المادي والمعنوي أن لا يدفع نحو البؤس والابتئاس، نحو الكآبة الدائمة كما حصل مع ادرنو الذي رأى : "أن السكني بالمعنى الصحيح أصبحت مستحيلة الآن، وأماكن الاقامة التي نشأنا فيها أصبحت لا تطاق : كل أثر راحة فيها مدفوع ثمنه بخيانة ما للمعرفة، وكل بقية ملاذ ضئيلة ثمنها الميثاق العفن للمصالح العائلية"3.

الجواب هو في العمل كمثقف، أي كمغامر في الحياة العامة والقضايا العامة. فعمل المثقف لمن لم يعد عنده وطن، هو الوسيلة الوحيدة للاستيطان، أو للتأهل في عالم لم يعد فيه للانسان أهل. وبينما يصح القول إن المنفى هو الوضع الذي يميز المثقف كإنسان يقف كرمز هامشي بعيدا عن متع الامتيازات، والقوة، والشعور بالبيتوتية إذا جاز التعبير، فإن من الأهمية بمكان التشديد على أن ذلك الوضع نفسه يحمل في طياته مكافآت معينة، لا بل حتي امتيازات. إن المثقف لأشبه بإنسان نجا من سفينة غارقة، يتعلم كيف يعيش بمعني ما مع الأرض، لا عليها، لا مثل روبنسون كروزو الذي كان هدفه استعمار جزيرته الصغيرة، بل أقرب إلى ماركو بولو الذي لا يخذله أبدا حسن تقديره للروائع، وهو مسافر دائم وضيف مؤقت، لا طفيليا أو فاتحا، أو مغيرا4.

نستطيع أن نقول إن ادوارد سعيد يقترح أن  يحول، بهواية المثقف، حتى لا نقول بمهنة المثقف، جحيم المنفى إلى دار بقاء، فهذه هي الوسيلة الوحيدة للتغلب على المنفى وتجاوزه. لكن هواية المثقف لا تعيد بناء المنفى على شكل وطن فحسب، وطن شبيه بوطن ماركو بولو، إلا لأن المنفى وشروطه تعيد تكوين المثقف نفسه، تخلقه خلقا جديدا. فيتحول من مثقف الأمير أو المثقف المحترف أو المثقف العضوي، إلى مثقف حر بالمعنى المطلق للكملة. فالمنفى يحرر المثقف من الضغوط الخارجية، ضغوط المجتمع والدولة والسلطة والأهل والأوهام. وهو يشكل بذلك مجالا استثنائيا للتدرب على التفكير الصحيح. فهو يحمل معه >بهجة الاصابة بالدهشة، ويعلم المرء النظر إلى الأمور نظرة مقارنة وبالتالي شمولية، ويقدم للمثقف موقعا استشرافيا لأنه يدفع إلى رؤية الأمور ليس فقط كما هي عليه، وإنما كيف تطورت لتصبح على تلك الحالة، كما يدفع إلى تفحص الأوضاع وكأنها ممكنة الحدوث لا محتومة، واعتبارها النتيجة الناجمة عن سلسلة من الخيارات التاريخية التي حددها رجال ونساء، ووقائع مجتمع حددها بشر، لا كأوضاع فطرية أو من نعم الله، وبالتالي ثابتة ودائمة لا تنقض. كما أن المنفى يعلم المرء أن يكون مبدعا ذلك أن معناه هو أن تظل على الدوام هامشيا، وأن ما تفعله كمفكر يجب أن يخلق من العدم، لأنك لا تستطيع سلوك سبيل استخدم من قبل. وإذا تمكنت من اختبار ذاك المصير، لا كحرمان ولا كأمر يتفجع عليه، بل كضرب من ضرورب التحرر، وعملية استكشاف تنفذ فيها الأمور وفقا لنمطك الخاص بك، .. (ص .7).

باختصار إن المنفى هو التدريب الضروري والدواء لتحويل محترف الثقافة إلى مثقف. فهو النموذج الذي ينبغي للمثقف أن يضعه نصب عينيه عندما تغويه، بل وتغدق عليه وتغمره، مكافآت التكيف، والإمعية، والركون. إن صيرورة المثقف هامشيا وغير مدجن مثل من هو في منفى فعلي، تتطلب منه أن يستجيب على نحو غير اعتيادي لموقف المسافر لا لموقف الحاكم، للمؤقت والمحفوف بالمخاطر لا للمألوف، للابتكار والاختبار لا للوضع الراهن المكرس سلطويا. فالمثقف الذي تتقمصه حالة المنفى لا يستجيب لمنطق التمسك بالأعراف، بل لجراءة المغامرة ولتمثيل التغيير، وللمضي قدما، لا للركود والجمود.

ولأن مثل هذا المثقف الذي يعيد ادوارد سعيد بناء مفهومه ودوره لا يمكن أن يوجد من خارج المنفى   وهامشيته، فإن مفهوم المنفى يكاد يكون بالنسبة لادوارد سعيد شرطا تكوينيا للمثقف الحديث، أي للمثقف كما يريده أن يكون : حاملا لأوجاع العالم وقضاياه العادلة، متمردا على السلطة، صادعا بالحق، نبيا مشردا ومطرودا من جميع الجنان.

 

عاشق المقاومة

لكن من هو هذا المثقف، وما هو الدور الذي يقترحه عليه ادوارد سعيد ليكون صادقا مع نفسه ومحققا لمفهومه، بل ليوجد بالمطلق؟

يضع ادوارد سعيد مفهوم مثقفه الحديث على مسافة متوسطة بين مفهومين. الأول هو مفهوم  ما أسميه المثقف العملي الذي  يعبر عنه مفهوم غرامشي للمثقف العضوي الذي ينخرط في نشاط جماعي يتجاوز مهنته ومفهوم المهنة نفسه، ليشارك في تنظيم ممارسة تاريخية لطبقة أو لمجموعة اجتماعية، سواء من خلال تنظيم عملها أو وعيها. والثاني هو مفهوم المثقف المثالي الذي يشير إليه جوليان بندا في كتابه الشهير خيانة المثقفين، والذي يرى في المثقف ذاك الفرد الذي يتحلى بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكل ضمير الانسانية. فهو عند غرامشي حامل رسالة اجتماعية تحويلية، سياسية، وهو عند بندا حامل رسالة أخلاقية. وهو عند الأول حائك لايديولوجية ضرورية لتنظيم الطبقة، وهو عند بندا ناقل لقيم نبيلة تتجاوز أي فرد وطبقة بما في ذلك المثقف نفسه. إن المثقف البندي يهب نفسه لقضية إنسانية كليه ومشتركة معا، هي قضية الحق والعدل الذي لا يقدر عليها سوي القلة القليلة من الأفذاذ. وهو لا يهدف من نشاطه إلى تحقيق أي غرض عملي. فالمثقفون بالنسبة إليه هم "كل الذين ينشدون السعادة في ممارسة فن ما أو علم ما أو في تأملات ميتافيريقية، أي باختصار، في التحلي بمزايا غير مادية، ومن هنا يقولون بطريقة ما مملكتي ليست من هذا العالم ".

بالنسبة لادوارد سعيد، المثقف ينبغي أن يكون بالتأكيد إنسانا عمليا، يهتم بشؤون المجتمع ويسعى إلى تغييره أو التأثير فيه. لكنه لا ينبغي أن يربط من أجل ذلك مصيره بمصير طبقة أو فئة اجتماعية أو شركة أو مؤسسة، أو حتى قوميته نفسها. إنه قبل أي شيء آخر إنسان أو وعي إنساني يتجاوز شرطه السياسي والاجتماعي والجغرافي، أو قادر على تجاوزه.  وهو  عنده أيضا، كما يشير بندا، كائن ذو رسالة أخلاقية لا شك في ذلك. لكن هذه الرسالة ليست كذلك رسالة الحق والعدل بصورة مجردة. إن عليه أن يجسد رسالة أو موقفا أو وجهة نظر أو رأيا ويعرضها للجمهور أو نيابة عنه، بيد أن "مبرر وجوده هو تمثيل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تنسى ويغفل أمرها على نحو روتيني. ويقوم المثقف بهذه المهمة على أساس المباديء العمومية : إن من حق البشر كلهم توقع معايير سلوكية لا ئقة من القوى الدنيوية أو الأمم، وإن الانتهاكات المتعمدة أو الناجمة عن إهمال هذه المعايير يجب أن يشهد ضدها وأن تحارب بشجاعة".

إن ما يميز المثقف الحديث الذي يصفه ادوارد سعيد عن الواعظ الأخلاقي هو أنه، بعكس الثاني، ليس أخلاقيا كئيبا لا هم له إلا تذكير الرعية بالقيم المغدورة، ولكنه ناقد اجتماعي، وممارس فنان لهذا النقد الذي يتحول عنده أو ينبغي أن يتحول "إلى أسلوب حياة وأداء اجتماعي غريب الأطوار فعلا، بل خشن يتفرد به من دون الناس".إنه في الحقيقة ليس عميلا ثقافيا لحزب أو طبقة، ولا هاديا دينيا أو أخلاقيا، ولكنه محام يدافع عن القضايا الخاسرة ويقول الحق ضد الظلمة، ليؤكد جملة من المباديء الأخلاقية، وفي مقدمها معيار الأخلاقية ذاته، أعني عدم التعامل بمعايير مزدوجة، و"إعلاء شأن حرية الإنسان ومعرفته". ولعل المفهوم الأكثر قربا من مفهوم ادوارد سعيد للمثقف هو مفهوم رايت ميلز الذي يرى أن الفنان والمثقف المستقلين هما في عداد الشخصيات القليلة الباقية المجهزة لكي تقاوم، ولكي تحارب خطر تحويل الأفكار الحية إلى قوالب جامدة وبالتالي قتلها.

وليس في ذهني شك، يقول إدوارد سعيد، في أن المثقف، الذي لربما يقول بعضهم إنه مثل روبن هود، مؤهل للتوحد مع الضعفاء ومن لا ممثل لهم. ومع ذلك ذلك فإن دوره ليس بتلك البساطة، ولا يمكن بالتالي صرف النظر عنه بسهولة وكأنه مجرد مثالية رومنطيقية. وجوهر الأمر، أن المثقف، حسب مفهومي للكملة، لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق إجماع، وإنما إنسان،  يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الاحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة المجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله، ولما يفعلونه.

 

حد المنفى

إن تجربة المنفى تجربة استثنائية بالتأكيد. وأعتقد أن ما يظهره ادوارد سعيد من ارتباط وتلازم بين المنفى والوظيفة الثقافية النقدية، يشكل إضافة أساسية لنظرية تكوين الفاعلين الاجتماعيين. ونحن نعرف أن العديد من المفكرين، ومن القادة السياسيين الذين لعبوا أدوارا كبيرة في الثورات التي أعادت تشكيل جغرافتنا السياسية والثقافية لهذا القرن، في جميع القارات، تعمدوا، لفترات تقصر أو تطول، بالمنفى، المادي منه والفكري. وكل فعل تثقف هو نوع من النفى بقدر ما هو تعبير عن اغتناء للشخصية بالمقارنة مع آلية التماهي مع الروح الجماعية والذوبان في الرحم المولدة.

إن صورةالمثقف الحديث كما رسمها ادوراد سعيد في كتابه صور المثقف، بل معالجته لقضية المثقف اليوم من زاوية علاقة المثقف بالمنفى، وهي معالجة جديدة كل الجدة،  لا تلخص تجربةشخصية فحسب ولكنها تبرز محاولة ابداعية لبناء هذه التجربة أيضا. ومن الممكن اعتبار تجربة المنفى هي موضوع كتاب صور المثقف أكثر مما هو المثقف نفسه. مثل ما هي تلخيص لتجربة شخصية تعكس تعامل الكاتب مع المنفى الفعلي، وفي الوقت نفسه بناء  لهذه التجربة. ويستطيع القاريء أن يختار في الكتاب بين قراءتين ممكنتين، قراءة في موضوع المنفى، أو قراءة في موضوع المثقف.ومع ذلك ليس المنفى شرطا لتكوين المثقف النقدي، وليس للمنفى دائما وبالضرورة الأثر نفسه على جميع المثقفين. لكن ليس من الممكن مناقشة هذه التجربة الأصيلة لمنفى تحول إلى مصدر للمقاومة والابداعية، بمبضع التحليل الموضوعي أو العلمي. سيعني ذلك قتلها تماما. إن المناقشة الوحيدة الممكنة هي وضعها وجها لوجه أمام تجارب أخرى لمثقفي المنفى.

 في هذه الحالة لا يبقى علي كي أجيب على السؤال الضمني الذي يخفيه الموضوع، المطروح علي، وهو ما العلاقة بين المثقف والمنفى، إلا أن أعرض تجربتي الشخصية وأضيف إلى النماذج العديدة التي ذكرها ادوارد سعيد في كتابه عن المثقفين والسلطة، أو صور المثقف كما ترجم إلى العربية، نموذجا جديدا لعيش المنفى، يؤكد بعض النماذج المذكورة أو يتفاعل ويتحاور معها.

 

الغربة كتجربة في الحرية والتحرير الذاتي

ومع ذلك، أعني بالرغم مما يبدو على السؤال من طابع بديهي، لا يبدو لي أن الأمر بهذه البساطة التي يظهر عليها. فمن جهة لا أدري ماذا يعني المثقف المشار إليه هنا، أو ما هو نوع الثقافة التي ينبغي فحص علاقتها بالمنفى، كما أنني لا أشعر بأنني أستطيع بسهولة أن أحدد المعنى الممكن للنفي أو الحياة في المنفى. فهل أنا في المنفى مثقف أم سياسي بالدرجة الأولى، أي هل ينبع منفاي من همي الثقافي أم هو ثمرة هم سياسي يمكن تمييزه بدقة عن الهم الثقافي؟ وهل يكون العامل الرئيسي الذي يميز المثقف عن السياسي، هو فردانية المثقف في سعيه إلى تأكيد القيم الكبرى، بالمقارنة مع السياسي الذي لا يمكن أن يكون صادقا مع نفسه إلا إذا عمل في إطار منظمة جمعية، لأن العمل المنظم هو شرط الوصول إلى السلطة، وهو هدف السياسي بقدر ما هو وسيلة التغيير الذي يراهن عليه؟

وفي هذه الحالة ألا يكون من الأصح أن نقول إن ما يميز المثقف أو يجعل له مقاما متميزا عن غيره من الفاعلين والذوات الفاعلة الاجتماعية ليس تمسكه بالدفاع عن الحرية ولكن ما يتمتع به هو نفسه من حرية داخلية. هل تكون هذه الحرية التي يتمتع بها المثقف هي نفسها المحرك الذي يميز المثقف كما يصفه ادوارد سعيد عن السياسي.

بالتأكيد هناك تعريفات كثيرة ومعترف بها للمثقف. وكتاب ادوارد سعيد يعرض لأكثرها. لكن ليس هذا ما أقصده عندما أقول إنني لا أشعر أن مفهوم المثقف واضح تماما عندي، بل عند من طرح السؤال الضمني. ولا أدري كذلك في ما إذا كانت إقامتي في فرنسا بسبب كوني مثقف، كما لاأدري في ما إذا كان يجوز لي أن أسجل هذه الاقامة تحت عنوان واحد هو المنفى.

ومع ذلك هناك من دون شك ثقافة في الموضوع، وهناك كذلك منفى. وليس هناك ما يمنعني من التأمل في هذه العلاقة التي تربط بين الثقافة والمنفى، عبر شخص هو في الوقت نفسه انسان بصرف النظر عن أصله وفصله، وهو كذلك مواطن، أي شخص ينتمي شاء أم أبى إلى جماعة بشرية خاصة، وبالتالي له ثقافة خاصة هي ثقافة هذه المجموعة أيضا. وهكذا نرى أن الموضوع المثار حول علاقة المثقف بالمنفى يثير هو نفسه، ويبطن، موضوع العلاقة بين الثقافة والنفي.

 سأنطلق من تعريف جديد للمثقف، لا من أجل إضافته إلى التعريفات العديدة الموجودة ولا من أجل معارضة هذه التعريفات، ولكن في سبيل فتح الثغرة التي تسمح لي بالحديث عن المثقف كما توحي لي به تجربتي الشخصية.

هناك تعريفات عديدة للمثقف، وهي تختلف باختلاف السياق والميدان الذي تصاغ فيه. لكن جميع التعريفات ليست في هذا الميدان إلا اقتراحات هدفها تحديد وظيفة المثقف أو الاشارة إلى الدور الذي يلعبه أو الذي ينبغي أن يلعبه في المجتمع. ويختلف هذا الدور وتعيين طبيعته وحدوده  حسب المجال الذي يصار فيه إلى تعريفه، اجتماعيا كان أم سياسيا أم فلسفيا وأخلاقيا.

 

وأود أن أغامر واقترح تعريفا يقول إن المثقف هو ذلك الكائن الاجتماعي الذي يهتم بانتاج المعنى، سواء أكان هذا الاهتمام على شكل ابداع أو تنشيط أو تعميم أو نشر. والمقصود بالمعنى هنا بالضبط هو كل ما يضفي على الممارسة الجمعية، أي ممارسة، قيمة ويحولها إلى فعل ايجابي. ولانتاج المعنى أساليب مختلفة وله أيضا أشكال متميزة. ففي المجال الأخلاقي يتخذ إضفاء المعنى صورة  رعاية القيم الانسانية وتنميتها، وفي المجال السياسي يتخذ إضفاء المعنى صورة بلورة الغايات الجمعية الكبري وبناء الايديولوجيات التي تبرر هذه الغايات أو تجعلها محسوسة ومعبئة. وفي المجال الجمالي يتخذ إضفاء المعنى صورة الابداع الفني والأدبي، وتفجير طاقات الكتابة والخط والصورة واللون والحركة. وفي المجال العلمي يتخذ إضفاء المعنى صورة الاكتشافات التي تنير الواقع وتفكك آلياته.

فالجهد الايديولوجي الذي يقوم به المثقف الغرامشي العضوي من أجل تكوين الفاعل التاريخي هو انتاج للمعنى، أي إضفاء قيمة على الممارسة السياسية الرامية إلى تغيير البنيات الاجتماعية وقلب التراتبيات المستقرة. والتدخل الأخلاقي من أجل تسويد قيم كونية واحدة ورفض التمييز العنصري أو السياسي بين الناس هو عمل ابداعي بقدر ما يجعل من البشرية مجموعة واحدة ومتضامنة، أي ينتج لها بهذا التضامن كقيمة أساسية، معنى يميز فيه الاجتماع البشري عن الاجتماع الحيواني القائم على قانون الطبيعة الذي هو قانون غلبة الأقوى من دون منازع. والابداع الفني بقدر ما يرتقي بالذائقة الفردية والجمعية، ويسمح للناس بالارتفاع إلي مستوى الفكرة والقيم الرمزية، يضفي على الحياة الانسانية معنى بقدر ما يبدع رموزا وأساطير موحية، بل بقدر ما ينشيء عالما متميزا للمعنى، يضع الانسان فوق شرطه المادي المباشر أو يساعده على الارتقاء إلي مستوى القيم الرمزية.

من هذا التعريف أريد أن أرد على السؤالين الذين يطرحهما عمل إدوارد سعيد. الأول هو المتعلق بارتباط الجهد والابداع بالمنفى، أو إذا شئنا إضفاء قيمة ايجابية على المنفى، أو جعل المنفى منتجا هو نفسه لمعنى، والسؤال الثاني الذي يؤكد على الدور الخاص الذي يمكن لمثقف المنفى أن يلعبه في مجتمعه، وبشكل خاص في المجتمعات العربية.

 

تثمين فكرة المنفى و صعود مثقف المنفى

خصني منظموا هذه الندوة بالحديث في موضوع المثقف والمنفى. ويبدو لي أنه لا يمكن أن توجد طريقة حية للتعبير عن هذه العلاقة الخاصة سوى الغوص في التجربة الشخصية. أفهم من هذا التكليف أن المطلوب مني إذن أن أتحدث عن تجربتي، أنا نفسي، كمثقف، مع المنفى، أو معايشتي له. ولأن ادوارد سعيد جعل من تجربة المنفى أساسا لتجربته كمثقف، بالمعنى الميتافيزيقي الذي سوف أحاول تبيانه في ما بعد، صار من الطبيعي أن يكون حديثي عن هذه التجربة الشخصية حديثا بالمقارنة، أي محاولة لتلمس الفوارق بين تجربتين، هما إضافة إلى تعبيرهما عن مسارين فرديين وفريدين بالضرورة، انعكاس لتجارب جيلين مختلفين أيضا من أجيال مثقفي المنفى الحديثين. ولذلك قبل الحديث عن تجربتي الخاصة، أو عن الطريقة التي أعيش فيها المنفى، أود أن أتوقف قليلا عند تجربة ادوارد سعيد وأحاول أن أتبين معالمها أو ما يبدو لي سمتها الحقيقية.

في هذا السياق يهمني  كتاب ادوارد سعيد صور المثقف، وأنظر له من زاوية أنه محاولة لإعطاء معني لتجربة شخصية قادت المثقف الذي يمثله ادوارد سعيد إلى نوع من الالتزام السياسي والأخلاقي. وكل عمل من هذا النوع يعتمد على التأمل في التجربة الشخصية هو محاولة لفهم هذه التجربة. والمقصود بالفهم هنا إعطاء تجربتنا الشخصية معنى. أي ليس ما يهمني فيه هو ما يمثله من بحث علمي أو موضوعي في الثقافة والمثقف وعلاقته بالسلطة. إن أهميته تكمن في إنارته للاختيار الشخصي لسعيد.  

 

كيف يرى ادوارد سعيد تجربة المنفى في الثقافة، وكيف يعيشها هو نفسه كمثقف؟

للاجابة على هذا السؤال سوف أعيد قراءة كتابه أو مجموعة المحاضرات المنشورة بالعربية تحت عنوان صور المثقف. وهذه المحاضرات التي يسعى فيها ادوارد إلى إعادة تحديد دور المثقف في اللحظة التي نعيش، هي في الوقت نفسه تقرير عن دور المثقف كما يراه ويعيشه ادوارد سعيد نفسه. فهي بهذا المعنى لا تعكس تجربة شخصية فحسب ولكنها تقدم في الوقت نفسه مفاتيح لفهم هذه التجربة، أي لفهم الاختيارات الأساسية والظروف والمناسبات التي جعلت من ادوارد سعيد الناقد الأدبي، أو المحترف وصاحب الاختصاص، كما يقول هو، مثقفا، أي مكافحا هاويا في سبيل تأكيد مثل عليا وقيم إنسانية لا يبين هو نفسه السبب الذي يجعل منها قيما تستحق الكفاح والتضحية.

 

"وجوهر الأمر، يقول ادوارد سعيد، أن المثقف حسب مفهومي للكملة، لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق اجماع، وإنما إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الاحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الافكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة المجامفة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله، ولما يفعلونه. ويجب ألا يكون عدم الاستعداد هذا مجرد رفض مستتر هامد، بل أن يكون رغبة تلقائية نشطة في الافصاح عن ذلك علنا" (صور المثقف، ص 73).

تجربة ادوارد تقول إن المنفى هو موطن المثقف بما هو هاو، وأن المثقف هو، شاء أم أبى ابن المنفى. ليس بالضرورة بالمعنى المادي والجغرافي المباشر، ولكن بالمعنى المجازي.

في نظري أن المنفى بالنسبة لادوارد هو مصدر المعنى نفسه، هو الذي يضفي على دور المثقف معنى، ولا دور للمثقف من دون وعي المنفى. إن التضامن مع الآخرين، هو تعبير عن التضامن بين مضطهدين، منفيين بشكل أو آخر. المنفى والهامشية صنوان. المثقف هو وعي الضعفاء والمظلومين.

 مع ذلك لا أعتقد أن تجربتي مماثلة لتجربة ادوراد سعيد. فالمنفي بالنسبة له ينطوي باستمرار على مضمون سلبي، مأساوي. إن كونه حامل لمتع متعددة يعددها الكتاب في محاضرته  لا يعني أنه ليس مرعبا. فهو قطيعة و.... لكن على المرء أن يتحمله كما يتحمل سيزيف صخرته، وأن يجعل منه مصدر متعة وتحقيق للذات.

بالنسبة لي المنفى ليس  حياة بين عالمين لا يستطيع المرء أن يحسم فيهما، عالم البلد المضيف حيث يبقى المرء غريبا، وعالم البلد الأصلي الذي يرفض أن ينسحب من الصورة. إنه بالعكس الحياة في عالمين معا، أعني في ثقافتين وجماعتين. وهذا الموقع بين ثقافتين هو الذي يسمح للفرد أن يحظى بالحد الأكبر من الحرية. المنفى يساوي عندي الحرية بجميع المعاني.

ينقلني هذا إلى الحديث عن المثقف، من هو بالمقارنة مع النماذج المتعددة التي يخلقها الاجتماع الانساني والمدني، وما هو الشرط الذي يكونه كمثقف، وما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه وينبغي له أن يقوم به في العصر الراهن.

 

المثقف هو الانسان الحر، أو الوعي الحر. ودوره هو توسيع دائرة هذه الحرية

وتكوين المثقف هو صراع للتحرر من كل القيود التي تمنعه من التفكير الحر

والنقد ليس هو كل التفكير الحر، ولو أن لا تفكير حرا من دون قدرة على النقد والنقد الذاتي.

 

لا مثقف إذن من دون وعي حر. والتزام المثقف الأساسي، المنطلق من شرط وجوده نفسه، ليس شيئا آخر سوى توسيع دائرة هذه الحرية. ونشوء المثقف هو نفسه تعبير عن صراع دائم للتحرر من كل القيود التي تمنعه من التفكير الحر، أي التفكير المتحرر من أي ضغوط سوى ما تفرضه مقتضيات العقل والضمير. والنقد ليس هو كل التفكير الحر، ولو أنه لا تفكير حرا من دون قدرة على النقد والنقد الذاتي. ولأن الثقافة فعل حرية بالدرجة الأولى، فإن المنفى يصبح، في ظروف المجتمعات المغلوبة على أمرها، فعل تحرير أيضا وتكوين للذات الحرة، أي للوعي والضمير في الوقت نفسه.

هل يسمح لي بالقول إذن، لاختتام هذا الحديث، إن المنفى لا يصبح وطن المثقف، إلا بقدر ما إن المثقف هو هبة الحرية وأن التمرد الذي يتيحه منفى ادوراد سعيد ليس هو نفسه إلا فعل تأكيد هذه الحرية؟