أفكار لمؤتمر الثقافة العربية

2010-02-04:: مؤوسسة الفكر العربي

 

 في نظري ليست أزمة الثقافة العربية الراهنة إلا جزءا من أزمة الحداثة أو، بشكل أدق، التعبير عن إخفاق مشروع إدخال العالم العربي ومجتمعاته في دائرة الحداثة الفاعلة والمنتجة وتركه، بسبب ذلك، في ما يشبه الفراغ المعياري والايديولوجي والاستراتيجي أيضا، عرضة لكل الهزات والصدمات والمفاجآت.

من هنا، لا تستطيع الثقافة الراهنة، ولن تستطيع، في العالم العربي كما هو الحال في بقية بلاد العالم، أن تقدم من تلقاء نفسها الردود الايجابية والخلاقة المنتظرة على التحديات التي تواجهها اليوم جميع ثقافات العالم، وبشكل خاص الثقافات الضعيفة التي لم تشارك كثيرا في بناء الحداثة الفكرية والمادية معا: تحدي اكتساب المعرفة الابداعية العلمية والتقنية والأدبية والفنية والدينية، وتحدي التأسيس الفكري والأخلاقي للمواطنة الديمقراطية، وتحدي تجاوز الخصوصية للمشاركة الفعالة في بناء الكونية أو العالمية الانسانية الجديدة. إن مثل هذه الردود تتوقف على قدرة المجتمعات والنخب التي توجهها وتقودها على الاستثمار المتجدد في الثقافة وتدعيم وظيفتها وتعزيز مكانتها الاجتماعية.

 وأرى أن هناك ثلاث محاور رئيسية لا بد من العمل عليها لإنقاذ مشروع الحداثة العربية المجهض، وهو في جوهره مشروع ثقافي بامتياز:

 

الأول محور اللغة واللسانيات

فلا تزال الدول العربية تفتقر حتى اليوم إلى سياسة جدية للتعامل مع اللسان العربي، من حيث العمل على تحديثه وتبسيطه ليواكب العصر ويقارع في مجال اللغات العلمية والتقنية الألسن المنافسة، ويستجيب لحركة الابداع العلمي المستمر، ومن حيث تسهيل استيعابه من قبل الناطقين به بالسرعة والكفاءة الكافيتين حتى يصبح أداة تواصل عامة قوية ولغة معرفة وثقافة عليا متسقة معا. وبالرغم من العمليات الواسعة التي تمت لتعريب التعليم في جميع المستويات، بما فيها المستوى الجامعي، في معظم البلاد العربية، لا يزال اللسان العربي يفتقر إلى مرصد للمصطلحات العلمية، وآلية للتدقيق فيها والتحقق منها وتعميم استخدامها من قبل المستعملين لها. كما لا يزال العالم العربي يفتقر لأي بنية أكاديمية موحدة لرعاية الشؤون اللغوية التي هي بالضرورة مشتركة، مما يساهم في ضياع اللسان، وتشويش متزايد في لغة المصطلحات، وإعاقة ولادة لغات علمية منسجمة. ولا تزال أكثر الدول العربية تتردد بين التعريب الشامل والاستخدام المكثف للغات الأجنبية. وقد غيرت بعض الدول خياراتها أكثر من مرة منذ الاستقلال. ويزداد المشهد اللغوي اليوم تشوشا مع انتشار ظاهرة الجامعات الخاصة التي تستخدم اللسان الأجنبي، وبشكل أكبر مع تبني بعض الدول اللسان الانكليزي أو الفرنسي كلغة رسمية في الإدارة أو الشركات الخاصة. والحال لا ثقافة مستقلة ومبدعة من دون لغة مستقلة وواضحة.

 

والثاني محور التعليم والبحث العلمي المرتبطة به

 فبالرغم من الجهود الاستثنائية التي بذلتها الدول العربية لتوسيع دائرة المستفيدين من هذه الخدمة الاجتماعية الكبرى إلا أن الاهتمام بتحسين نوعية التعليم وربطه بمسائل التكوين المهني والتعليم المستمر والتأهيل الاجتماعي بقي ضعيفا جدا إن لم نقل معدوما.وربما كان السبب الرئيسي لذلك كامن في غياب أهداف واضحة ومحددة للتربيةوالتعليم في جميع مراحلهما وانفصالهما عن عالم العمل والانتاج والاهتمام الاجتماعي. وهكذا لم تنجح الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الدول العربيةفي هذا القطاع، من تجنيب الدول العربية التبعية شبه الكاملة في تأمين حاجاتها المعرفية للخارج. فهي لا تزال تستورد الخبرة الفنية والتقنية بكثافة، ولا تزالتعتمد، منذ أكثر من قرن، في تكوين الاطر العلمية والفنية والتقنية المتقدمة،على ايفاد البعثات إلى الدول الأجنبية، كما لا تزال تعتمد في إعداد البرامج التعليمية على المناهج المصاغة لمجتمعات أخرى.

ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يصعب نشوء تقاليد علمية راسخة، أو أن تثمر الجهود الكثيفة عن تكون قطب مستقل للتطور العلمي والتقني يملك ديناميات نموه الداخلية. فكما يظل العلماء والتقنيون منقطعين واحدهم عن الآخر وغير قادرين على التواصل والتعاون بسبب تباين مناهج تكوينهم واختلاف ألسنتهم ولغات اختصاصهم ومرجعياتهم وموارد بحوثهم، تظل ابداعاتهم مرتبطة باستمرار بتبعيتهم لمصادر تكوينهم وإلهامهم. وبقدر ما يمنع هذا التباين في مناهج تلقي العلم والتبعية المتواصلة والمباشرة لمناهله الأجنبية من التواصل والنمو العمودي للمعرفة، يمنع من نشوء بيئة علمية محلية مستقلة أو ذات حد أدنى من الاستقلالية، قادرة على صهر المعارف والخبرات المتباينة المستمدة من مصادر وثقافات أخرى، وتحويلها إلى معرفة محلية، وتكييفها مع حاجات المجتمع المحلي وأولوياته. فالأطر العلمية من فنيين علماء ومفكرين ومبدعين تبقى مشتتة ومتباعدة، تعيش كل فئة منها في مناخ المجتمع الذي استمدت منه معرفتها, ولا تنجح في ايجاد ما يجمع بينها. وهي تظل أيضا بسبب هذا الارتباط بالذات غريبة عن ديناميات مجتمعها وغير قادرة على التأقلم مع حاجاته والرد على طلباته. كما تبقى المعرفة التي تملكها مشتتة وغريبة في معظم الوقت عن المجتمع الذي تعيش فيه. وبقدر ما تفتقر لمرجعية واحدة محلية، تظل الأوساط العلمية مرتبطة بمرجعيات خارجية تجعلها غير قادرة على التفاعل مع بعضها البعض ومع بيئتها الجديدة بصورة إبداعية.

 

والثالث محور الثقافة

بالمعنى الضيق للكلمة، أي من حيث هي نشاطات إبداعية، تتجسد في الفنون والآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية وتعنى بتكوين نمط التفكير وحدود المعاني والدلالات التي تجمع بين أفراد المجتمع وتقرب بينهم رغم اختلاف مذاهبهم وعقائدهم. وبناء ثقافة الابداع والتجديد الروحي والفكري مهمة أصعب بكثير من مهام تحديث اللسان وتبسيطه، وتطوير البحث العلمي والتقني. وهي لا تنفصل عن عموم السياسات الاجتماعية والاقتصادية، أي عن نمط التنمية نفسه، في أبعاده السياسية والاقتصادية والروحية. فبقدر ما تكون التنمية ذات رؤية إنسانية أو متمحورة حول الانسان وطامحة إلى تعزيز مكانة الفرد وحرياته وقدراته الابداعية تكون الحاجة أكبر لزيادة الاستثمار في الثقافة وتحويل التنمية نفسها إلى تنمية ثقافية. وبالعكس، بقدر ما تتنكر التنمية للانسان وتركز هدفها على تحقيق الربح التجاري أو بناء القوة الأمنية والتفوق فيها تزول الأهمية النسبية للثقافة ويقل الاهتمام بها ومن ورائها بقيم العقل والحرية والقانون والسلام. وهذا يعني أن الثقافة ليست هي التي تفسر تراجع الوعي الانساني في العالم العربي ولكن إهمال هذه الثقافة وضعف الاستثمار فيها. فلا يمكن لأي ثقافة أن تساهم في التنمية الانسانية وتساهم في تطوير قيم والسلام والعدل والحرية ما لم تتمتع هي نفسها بفرص تنميتها الخاصة.

إن نظم القهر والاستبداد والتمييز بين الجماعات وإقصاء بعضها لصالح البعض الآخر، مثلها مثل نظم احتكار الموارد الوطنية من قبل فئات محدودة وحرمان الأغلبية الاجتماعية منها، وكذلك نظم الاقتصاد القائم على المضاربة والتوزيع المجحف للثروة، لا تستطيع أن تستمر من دون أن تفرض ثقافتها القائمة على نفي الانسان والاستهتار بمصيره وحرمانه من الحريات والحقوق الأساسية التي لا مكان لإبداع أو إنتاج علمي أو تطور أخلاقي من دونها.

 

وعلى العموم، يشكل غياب سياسات ثقافية وعلمية متسقة، وافتقار العملية التعليمية لأهداف واضحة، وركاكة ثقافة النخبة العليا، أي ثقافة السلطة والإدراة والقيادة، وتخبط السياسات اللغوية وعدم نجاعتها وسيطرة مناخ الاستهلاك الثقافي الرمزي والتعويضي على الانتاج الثقافي وعلى المشاركة الثقافية والعلمية في النشاطات والفعاليات العالمية، وبحث النخب الحاكمة عن المشروعية في نوع من التعبئة الايديولوجية الوطنية والقومية الرخيصة والشكلية تعويضا عن الافتقار للشرعية السياسية، كل ذلك يشكل عوامل رئيسية في إعاقة نمو وتراكم المعرفة العلمية والتقنية ويساهم في تعميم مشاعر الاضطهاد وثقافة الأنانية، ويغذي عند الجميع مشاعر الخوف والانكفاء على الذات والتشكيك بالعالم. فكل هذا يتعارض بالتأكيد مع بناء نظم ثقافية حية، مرضية، وناجعة. ولا يمكن لمثل هذه الثقافة، التي تستحق اسم ثقافة التخلف، أن تشجع على التعلم والتجدد، ولا أن تدفع إلى البحث والمعرفة ولا أن تعمق التفكير المبدع في القضايا الكثيرة المطروحة على أي مشروع يهدف إلى استعادة روح النهضة، سواء أكانت قضايا دينية أم علمية أم اجتماعية أم سياسية أم عالمية إنسانية. النهوض بالثقافة العربية، لغة وأدوات معرفة وفكرا وضميرا هو ما يشكل، كما يبدو لي، موضوع مؤتمر القمة الثقافية القادم ومحور نقاشاته.