صلاح الدين البيطار والمسألة السورية

2006-01-04:: العربي الجديد

لم تبدأ الأزمة السورية مع صدور قرار مجلس الامن رقم 1959 الذي دعا الحكومة السورية إلى سحب قواتها من لبنان والاعتراف باستقلاله وسيادته، ولا مع قرارات مجلس الامن 1636 و1644 التي تلته، والمتعلقة بإنشاء لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتعزيز دورها في الكشف عن مرتكبي الجريمة. لقد بدأت كما تظهر ذلك هذه المقالات، قبل ذلك بكثير، مع ولادة نظام البعث العسكري نفسه وترسيخ أقدامه بالحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد في مطلع السبعينات من القرن الماضي. والكشف عن معالم هذه الأزمة التي ستقود سورية إلى الحالة المأساوية، والتي يحاول أن يرسم ملامحها ويحللها بدقة، هو موضوع هذا الكتاب الذي جمع الناشر بين دفتيه آخر ما حرره  الراحل صلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، وواحد من قادته التاريخيين. وفيه أيضا يتعرف القاريء على عناصر الخلاف الفكري والسياسي الذي أودى بحياة كاتبه في واحدة من عمليات  الاغتيال المريعة التي لا تزال تشكل الخبز اليومي للحياة السياسية السورية واللبنانية، أو بالاحرى لانعدام السياسة أو إعدامها في هذين القطرين الأكثر من شقيقين، لعقود طويلة متتالية.

كانت مقاومة هذا الاغتيال، اغتيال السياسة، الشاغل الأول لرئيس وزراء سورية السابق، عندما تخلى عن مشاغله العملية، وربما الحزبية أيضا، وقدم إلى باريس لإصدار مجلة الإحياء العربي التي نشر فيها مقالاته الأخيرة. فقد اتصل بي البيطار فور عودتي من الجزائر في منتصف عام 1978، وطلب مني أن أعمل معه في مشروعه الفكري الجديد الذي أراده أن يكون تجديدا للفكر القومي العربي، الذي أدرك، قبل الكثيرين من رفاقه، الطريق المسدود الذي دخل فيه، بعد أن سيطر عليه العسكريون ورجال السلطة، وربما أكثر من ذلك، النقص الخطير الذي يعتريه، والذي سمح لطالبي السلطة والطامحين إليها، من كل المشارب والاتجاهات، باستخدامه وتجييره لمشاريعهم السياسية، من دون أن يكلفهم أي التزامات. ولم يخف صلاح البيطار أن الذي دفعه للاتصال بي هو كتابي الأول الذي نشرته عام 1977 بعنوان "بيان من أجل الديمقراطية"، الذي دعوت فيه الحركات اليسارية والقومية، التي كانت مسيطرة على ساحة العمل الوطني في ذلك الوقت، إلى مراجعة نقدية لمسألة الحرية.

ولم نحتج إلى نقاش طويل للوصول إلى اتفاق. فقد جمع بيننا الايمان المشترك بمركزية المسألة الديمقراطية وتنمية ثقافة الحرية في المجتمعات العربية، بالرغم من أن كلامنا كان ينطلق من خلفية فلسفية مغايرة للآخر. فقد كان البيطار قوميا يريد تعزيز خياراته القومية بالديمقراطية وكنت "ماركسويا" يطمح إلى وضع الديمقراطية والحريات الفردية والنزعة الانسانية في صلب مسألة العدالة الاجتماعية، ومن خلالها مقاربة الحداثة التاريخية التي كانت أيضا من همومنا المشتركة، ولا تزال هما رئيسيا للمثقفين والمجتمعات العربية إلى اليوم. وهكذا بدأنا سوية في تصميم المجلة وإعداد ملفاتها. وأثناء نقاشنا حول تسمية المجلة ادركت إلى أي حد كان صلاح البيطار حريصا على أن يضع عمله في السياق نفسه الذي انتظمت فيه أعمال سابقيه من قادة النهضة والاصلاح العرب. وقد تلقف صلاح البيطار كلمة الإحياء عندما ذكرتها من بين كلمات عديدة استعرضناها لمفهوم النهضة والتجديد والتحديث وغيرها. وكانت سعادته واضحة عندما توقف عندها قائلا إن الاسم الأول لحزب البعث كان الإحياء العربي. وهكذا تم اختيار الاسم، وانطلقنا.

لم يستمر العمل المشترك فترة طويلة. ربما شهرين أو ثلاثة بعد صدور المجلة. ولم تستمر المجلة طويلا أيضا بعد افتراقنا. وتوقفت بعد رحيل مؤسسها وصاحب فكرتها غيلة على مدخل المكتب الذي كانت تصدر منه. وغطت عملية الاغتيال، وما واكبها في سورية من أحداث دامية، على تلك الفترة السوداء، فلم يخطر لي بعدها استعادتها في الذاكرة. لكن من الواضح لي الآن أن الهم الديمقراطي المشترك الذي جمعنا لم يكن كافيا لإزالة الاختلاف العميق أيضا في أسلوب عملنا وفي رؤيتنا للأوضاع السياسية وتحليلها. فلم تكن مجلة الإحياء العربي في الواقع، إلا استئنافا للبعث ولو بحلة ديمقراطية جديدة. ولم يكن البعث والإحياء العربي إلا استئنافا لتلك الإشكالية المركزية التي تبلور حولها الفكر العربي وحصر نفسه فيها لمدة تتجاوز القرن، أعني إشكالية النهضة، بصرف النظر عن مسمياتها. في الوقت الذي كان فيه نقد هذه السردية النهضوية التي تتصور تاريخ المجتمعات والجماعات على المنوال ذاته، والقطع مع التاريخانية الإحيائية، والانتقال نحو إشكالية عالمية، هو جوهر ما قام عليه "بيان من أجل الديمقراطية" وما سيليه من أعمال.

تابع البيطار عمله الدؤوب في مجلة الإحياء العربي بمساعدة حسين عبد الرزاق. وحدث أن تفجرت في سنة 1979 الأزمة الأكبر التي شهدها نظام الرئيس حافظ الأسد في كل تاريخه، والتي انتهت بمواجهة دموية  بين الجماعات الاسلامية التي أطلقت على نفسها اسم الطليعة الاسلامية المقاتلة وقوى النظام وميليشياته العديدة التي نشأت على أطراف المؤسسة العسكرية والأمنية وأحيانا في مواجهتها، باسم سرايا الدفاع والصراع وغيرها. واضطر البيطار إلى الانخراط من جديد في المداولات السياسية التي فجرتها الازمة الخطيرة. وفي هذا السياق وجد البيطار نفسه مضطرا إلى الخروج من دائرة التفكير النهضوي وتجديد الفكر القومي العربي، الذي أراد أن ينذر قلمه له، ليكتب مقالاته عن المسألة السورية وعن سورية المريضة المريضة.

لكن في ما وراء ما تعالجه هذه المقالات من حالات محددة، يظهر بشكل واضح التفكير الجديد لصلاح البيطار وتحليله العميق لأزمة الأمة العربية الذي جمع فيه بين عاملين. الأول هو ما أراد أن يعالجه عندما اصدر مجلة الإحياء العربي. فقد أدرك البيطار، أكثر من أي عضو آخر في الحزب الذي كان ينتمي إليه، الانقلاب الفكري الذي حصل، داخل حزب البعث والحركة القومية العربية بأكملها، على تراث الفكر القومي التاريخي، تراث الإحياء العربي والنهضة القومية والحداثة. ومن هنا كان يعتقد أن أحد أسباب الانهيار القومي يكمن في ضمور الفكر الديمقراطي داخل الحركة القومية وضرورة العمل على تطويره. أما العامل الثاني فيرجع إلى طبيعة النظام الذي أقامه العسكريون في البلدان التي شهدت وصول القوميين إلى السلطة، ومن بينها سورية التي شهدت ولادة نظام البعث الذي أعاد بناءه على أسس أكثر تصلبا الرئيس حافظ الأسد، منذ إطلاقه حركته التصحيحية عام 19970. فقد تحول هذا النظام الانقلابي العسكري إلى نمط للحكم الغاشم الذي لا يستمر إلا بفضل قانون الطواريء والأحكام العرفية الدائم وإلغاء الحريات العامة والاستهتار بالحقوق والشرائع المحلية والعالمية، واستخدام جميع وسائل الضغط والتخويف والتلاعب والإفساد للحفاظ على الوضع القائم والدفاع عن الامتيازات والمغانم لضمان إخضاع المجتمع واستتباع أعضائه للسلطة الفردية الاستبدادية.  

هكذا، تنطوي صفحات هذا الكتاب على ملامح قطيعتين مكملتين واحدتهما للأخرى. القطيعة مع الفكر الشمولي السائد في الحركة القومية، والقطيعة مع نظام حكم الحزب الواحد العسكري والبوليسي، كما انتهى إليه على أيدي النخبة العسكرية، لصالح نظم تعددية ومفتوحة على المجتمع والعالم.

فكما اكتشف البيطار المطبات التي قاد إليها الفكر القومي المتساهل مع مسألة الحرية والحقوق الفردية والدستورية، اكتشف بالقدر نفسه الطريق المسدودة للنظام العسكري الأوحدي ، وأدرك مبكرا أن مستقبل العالم العربي وتقدمه مرتبطان بتحقيق التعددية والبناء على الشرعية الديمقراطية. بهذه القطيعة مع الفكر الشمولي، الذي كان هو نفسه أحد ضحاياه، أعاد البيطار تواصله مع فكرة الديمقراطية. فوجد أنها المدخل الضروري إلى مواجهة جميع التحديات وعلى رأسها الوحدة العربية التي كانت تشكل الشعار والهدف المركزي لجميع الحركات الوطنية والشعبية العربية في الستينات. فالعودة إلى الديمقراطية كمرشد للفكر السياسي وأساس نشوء حركة عربية جديدة، هي في الوقت نفسه عودة إلى المنابع والجذور، منابع فكر البعث الأصلي، بعث الإحياء العربي، قبل أن تنحط به السياسة ويفسد قيمه ومبادئه التمسك بالسلطة والانفراد بها.

وبالمثل، كان البيطار، كما يقول هو نفسه، من القلائل الذين وعوا حجم المأساة القابعة وراء الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التي أدت إلى كارثة عام 67، والتي كانت ثمرة الثورية المزيفة لنظام الحكم العسكري الذي فرض نفسه بالقوة، وقضى على الآمال الكبيرة التي كانت معقودة على الحركة القومية. وفي روايته للقاء الأخير مع رفيق دربه وخصمه في الوقت نفسه في 25 أيار عام 1978 يبرز بشكل لا مواربة فيه الخلاف العميق بين خيارين بل بين عقليتين وثقافتين لا علاقة لإحداهما بالأخرى: خيار الديكتاتورية الشعبوية التي تقيم الوحدة الوطنية على صهر الجميع في بوتقة الحزبية الأوحدية على الطريقة السوفييتية، وخيار الديمقراطية التي تعتقد أن التعددية السياسية هي الرد الضروري على تعدد الرؤى والمصالح والمكونات الوطنية، وأساس الوحدة الوطنية الحية والخلاقة معا. فالحقيقة كما يراها البيطار لا يمكن أن يمتلكها شخص أو حزب أو نظام، وإنما هي دائما قيد البحث وبنت النقاش والحوار.

ومن هنا رأي صلاح البيطار أن الخروج من الأزمة العميقة التي تعيشها سورية، كما تعيشها العديد من البلاد العربية، لا يكمن في تغيير النظم والنخب الحاكمة فحسب، وإنما يحتاج، أكثر من ذلك، إلى تغيير الفكر الذي يستطيع وحده أن يخرج الأمة من حالة التشتت الذهني وغياب الوعي السياسي وهيمنة الانقسام المرضي في النفس والمجتمع العربي، نحو حالة إشاعة الأمل في النفوس والصفاء في العقل والحداثة في التفكير. وهذا  ما يضع الثقافة على قمة أجندة العمل ا لسياسي نفسه، ويجعل من المثقفين أصحاب الدور الأول في التغيير، أي أيضا أصحاب رسالة. ولذلك ترك صلاح البيطار الحزب والعمل الحزبي ليشرع في إصدار مجلته التي أراد لها أن تكون استكمالا لمجلة النهضة والاصلاح التي أسسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في باريس. ولأن الأتوقراطية المسيطرة على العالم العربي لا تسمح بالتفكير الحر الموضوعي ولا تقبل أن يرتفع صوت العقل على صوت المعركة، معركتها من أجل التشبث بالسلطة، لم يجد بدا من أن يصدر مجلته الجديدة، الإحياء العربي، انطلاقا من  العاصمة نفسها التي صدرت فيها مجلة النقد الفكري السياسي الأولى. أراد لمجلته النقدية الثانية أن تستكمل عمل المجلة الأولى وأن تسعى إلى الإجابة عن الأسئلة نفسها التي لا تزال من دون جواب، والتي يلخصها السؤال الذي سيطر على فكر كل عربي في ذلك الوقت:  كيف السبيل لتحقيق النهوض القومي أو الإحياء العربي الحضاري؟ كيف العمل لبعث الأمة العربية؟

ما لم يدركه البيطار هو أن إغتيال السياسة يعني أيضا إلغاء الأسئلة وموجهيها. فلا يمكن للاستبداد أن يتعايش مع الفكر، ومن باب أولى مع النقد. لكن بالرغم من أن يد الجريمة لم تترك لصلاح البيطار الوقت ليعبر عن تجربته الأصيلة، فقد كان من الواضح، بالنسبة لي، أن ما دفع صلاح البيطار المثقف إلى ترك السياسة والانخراط في الثقافة هو سعيه لانتزاع الفكر القومي، الذي وحد نفسه به، من أزمته العميقة. فقد أدرك قبل جميع رفاقه أن ما ينقص هذا الفكر القومي ويشكل مقتلا فيه هو نظرية الديمقراطية. وكان هدفه وطموحه معا أن يساهم في تحقيق الدمج بين الفكرة القومية والفكرة الديمقراطية، بين فكر الوحدة العربية وفكر الحرية الفردية والحقوق السياسية. وفي هذه النقطة تجلى الحس السياسي العميق لصلاح الدين البيطار وتميزه أيضا عن جميع أولئك الذين تابعوا مسيرة البعث العسكرية.