ماذا تبقى من دولة العقد الاجتماعي؟ 

2021-04-30:: حرمون، المجلة السورية للدراسات الاجتماعية

يطل مثقفو سورية أو أغلبهم، من النقطة التي يقفون فيها اليوم، بعد عشر سنوات من الحرب، بين خرائب مجتمعهم على ماضي بلادهم فلا يرون فيه سوى الفراغ: لا دولة وطنية ولا هوية جامعة ولا مجتمع مدني ولا ثقافة ولا فكر. فالدولة كانت صناعة اجنبية، والهوية لا تطابق الصورة المتخيلة عنها، والمجتمع بدائي عشائري ومناطقي وطائفي لا حل له، والثقافة دينية تقليدية متحجرة منافية للعصر، والفكر عقيم عاجز عن الابداع والانتاج وغارق في أوهام الأيديولوجيات الدينية والقومية التي تعمل على قطع السوري عن حضارة عصره وعن واقعه وأرض وطنه. 

على هذه الأرضية السوداء يحاول السوريون اكتشاف السياسة وإعادة امتلاكها واختبار مفاهيمها وأدواتها بعد ان حرموا من ممارستها، بل التفكير فيها، خلال أكثر من نصف قرن. ومن بين هذه المفاهيم  مفهوم العقد الاجتماعي الذي يحظى اليوم باهتمام خاص من قبل المثقفين الذين يجدون أنفسهم، بحكم التأخر الشديد في المناظرة العلمية، في موقع الباحثين وعلماء الاجتماع والسياسة والاستراتيجية والجيوسياسة ومناضلين ونشطاء حقوقيين وإنسانيين في الوقت نفسه. هكذا يبدو للكثير من الباحثين أن غياب العقد الاجتماعي هو السبب أو احد الأسباب الرئيسية للأزمة بل للعاهة التي عانت منها الدولة السورية، ومن ثم الانفجار الذي حصل، وأن التوافق على هذا العقد هو وحده الذي يمكننا من تجاوز العداء الذي برز بين الدولة والمجتمع، وبناء دولة حديثة تتماهى فيها السلطة مع الشعب وتتحقق الحرية لكل فرد وتتأسس المواطنة وتتشكل الأمة التي لم تتشكل من قبل أو التي غابت بين التشكيلات الأهلية الطائفية والقبلية والجهوية. 

ولا نغالي عندما نقول إن جل الجهد الذي بذله النشطاء من مثقفين وغيرهم في هذا العقد قد انصب على صياغة وثائق وتوافقات ونصوص تعيد وتصقل هذا "العقد الاجتماعي" الذي تعتقد انه مفتاح الدخول في حقبة المدنية والحضارة السياسية، على حساب الجهد العملي والتنظيمي الذي بقي هامشيا بمقدار ما أبقى الممارسة الجماعية في حالة انفصال عن النظرية، وخاضعة للانطباعات الشخصية لأولئك الذين ملكوا، من بين أبناء الشعب البسيط، الشجاعة وروح المبادرة ورموا بأنفسهم في المعارك الطاحنة من دون أن يملكوا أي رؤية واضحة للتحديات التي تواجههم في طريقهم لتحطيم نظام اخطبوطي بالغ الخبث والشراسة، والوصول الى الحرية والكرامة التي ينشدون. 

والهدف من هذا البحث تقديم رؤية نقدية لهذا المفهوم ونسبيته من جهة، وحدود الرهان عليه ومجال استثماره من أجل بناء علاقة مواطنة فعلية أو لفهم ديناميكيات تشكل الديمقراطية في القرنين السابقين، وفي الحقبة الراهنة بشكل أخص من جهة أخرى. ولا يحتاج ذلك لا إلى رفضه ولا إلى قبوله وإنما إلى وضعه في سياقه التاريخي و الديناميكيات السياسية والجيوسياسية التي ميزت صراعات القرن السابع عشر والثامن عشر وتعبيراتها الفكرية والانتقال مما اسماه اليكسي دو توكفيل، مؤرخ الثورة الامريكية، "العهد الاجتماعي القديم" إلى نظام "العهد الاجتماعي الجديد"، والذي ميزه بالنزوع العام والمتنامي للمساواة في مقابل استبطان المراتبية الثابتة وما تنطوي عليه من حقوق متفاوتة بين الأرستقراطية والطبقات الشعبية.

1 - الحرب الأهلية وتآكل نظام الشرعية التقليدية

بداية، لا يوجد أي شك في أن نظرية العقد الاجتماعي شكلت ثورة في الفكر السياسي الأوروبي الحديث بالمقارنة مع ما كان سائدا من تفكير في الشأن العام وأسس قيام دولة وحكم سياسي. وقد جاءت لتملأ الفراغ الذي احدثه تأزم منظومات الحكم التقليدية وتآكل الشرعية التي ارتكزت إليها والتي مزجت بين شرعية التقاليد الملكية او الامبراطورية والشرعية الدينية التي رعتها الكنيسة البابوية، فجعلت من السلطة السياسية والدولة نقطة التقاء سلطتين قويتين دينية ودنيوية. وقد ساهمت في هذا التآكل العديد من العوامل. منها الحروب المتواصلة التي ارتبطت بها، الخارجية وأبرزها الحروب الصليبية، أو الداخلية التي كان محركها التنافس بين الملوك على توسيع ممالكهم، ثم الحروب الدينية التي أعقبتها واستنزافها موارد البلاد وجهد مجتمعاتها. ومنها التحديات التي وجهتها الانتصارات العثمانية "الاسلامية" في شرق أوروبا وما حملته من تهديدات لأمنها وتماسكها الثقافي والديني، والذي تجلى بشكل بارز في سيطرة جيش محمد الفاتح على القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة للسلطنة عام 1453. 

وقد فاقم ذلك من أزمة الكنيسة البابوية. فلم تمر عقود قليلة حتى بدأت الانشقاقات والحروب الدينية التي عمت أوروبا. فأعلن هنري الثامن ملك انجلترا منذ عام 1534 انفصال الكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة الكاثوليكية. ولم يكن المهم في هذا الإعلان تحدي الملك الانجليزي لبابا روما وإنما أكثر من ذلك رسم قاعدة جديدة للتعامل نجح فيها الملوك في إخضاع سلطة رجال الكنيسة لسلطانهم بعد أن ظلت الملكية تستمد شرعيتها بالعكس منها. فصارت سلطتهم سلطة سيدة، اي سلطانا، لا سلطة فوقه، وتأسست لأول مرة كنائس وطنية لا تخضع لسلطة روما مقر البابوية وإنما لملك البلاد وحده. فعندما أصدر البابا كليمنت حرمانا كنسيا ضد هنري الثامن ملك انجلترا، قطع هذا الأخير علاقاته مع روما، وأصدر ما يسمى بالقانون السيادي الذي ينص على أن بريطانيا "ليست خاضعة لسلطة بعد الله إلا للملك".

وفي 1562 اندلعت أولي حروب فرنسا الدينية عندما استولى البروتستانت على بعض المدن الفرنسية. وتوالت بعدها سبع حروب اهلية تدخلت فيها دول مجاورة لمساعدة الأطراف المتناحرة حيث دعم فيليب الثاني ملك إسبانيا الكاثوليكيين، ودعمت إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا البروتستانتيين. وفي 1568 بدأت حرب الثمانين عاماً أو حرب الاستقلال الهولندية بتمرد سبعة عشر مقاطعة بقيادة  ويليام أمير أورانج المنفي على فيليب الثاني ملك إسبانيا صاحب السيادة في هولندا. 

وفي هذا المناخ ظهرت نظرية القانوني والاقتصادي الفرنسي جان بودان (1530-1596) في الملكية المطلقة بعد ان حررها من الوصاية والشراكة البابويتين معا، وجعل منها نموذجا لسلطة سيدة حرة بنفسها تشمل صلاحياتها كل ما يقع تحت سيطرة الدولة، واحدة لا تتجزأ، تنفرد في القرار العام والقيادة، لا شريك لها ولا مدة زمنية تحدد ولايتها. وفي سياق هذه النظرية التي تجاوزت  التمييز الذي فرضته الحركات الدينية الاصلاحية بين مملكة السماء ومملكة الأرض واستقلال واحدتهما عن الأخرى، جاءت الصياغة الأدق لمفهوم السيادة التي ينبغي أن تتحلى بها الدولة، والتي سوف يستفيد منها أصحاب نظرية العقد الاجتماعي، توماس هوبز وجون لوك، وروسو فيما بعد لبناء فلسفتهم السياسية

وبموازاة معركة الملكيات الأوروبية للتحرر من وصاية الكنيسة البابوية وإملاءاتها تطورت الاكتشافات العلمية والجغرافية. وشكل اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1481 منعطفا في انتقال احتكار التجارة نحو آسيا من أيدي العرب والعثمانيين إلى الأيادي الأوروبية. وما كادت الحروب الصليبية، التي فجرتها الكنيسة لتعزيز السلطة البابوية على أوروبا، تلفظ أنفاسها حتى انطلقت الدول المستقلة في اجتياح العالم تجاريا قبل أن تجتاحه عسكريا. وقبل أن تحوله إلى مستعمرات خالصة أنشأت الإمبراطوريات التجارية الكبرى التي وفرت لها الثروة والموارد الغزيرة. وكانت شركة الهند الصينية البريطانية التي ولدت في عام 1600 هي الرائدة في فتح الطريق أمام الدول الأوربية النشطة وعلى رأسها هولندا وفرنسا لتأسيس إمبراطوريات تجارية مماثلة

وأضاف اكتشاف القارة الأمريكية وغزوها والتوسع في استغلال الرقيق الأفريقي في المزارع العبودية مجالا جديدا لمراكمة الثروة والموارد التي كان من نتيجتها تعزيز استقلال السلطة الملكية من جهة وتطور الطبقة البرجوازية التجارية ثم الصناعية مع التوسع في اقامة الشركات التجارية والمشاريع الحرة والمبادرات الشخصية، من جهة ثانية. ومهد كل ذلك لصعود الرأسمالية ونشوء فئات وطبقات اجتماعية متحررة نسبيا من قيود التقاليد والقيم والأعراف الارستقراطية

وفي سياق هذه التحولات العميقة والاضطرابات السياسية والفكرية التي رافقتها، استعاد التفكير الفلسفي زخمه، وأعيد طرح الأسئلة التي كان القدماء يعتقدون انه صارت لديهم إجابات شافية وواضحة لها: فيما يتعلق بكل ميادين المعرفة: الطبيعة والإنسان والفلسفة والدين والتاريخ والمجتمع والسياسة والأخلاق إلخ. وهذه هي الحقبة التي أطلق عليها المؤرخون الغربيون اسم عصر النهضة التي لم تكن في الحقيقة سوى حقبة مراجعة شاملة لكل الإرث النظري والعملي للعصر السابق، وارتكز فيها المفكرون والأدباء والفنانون عموما على الإرث الكلاسيكي اليوناني والروماني وجزئيا العربي-الإسلامي حتى لو انهم مالوا إلى إنكار أثره فيما بعد.

ومن بين المسائل الاساسية لهذه المراجعة التاريخية كانت منظومة  الحكم والسياسة والدولة وغاياتها وطرق ادارتها وشرعيتها وتمييزها كاشكالية مستقلة عن اشكالية الحرب التوسعية او الدفاعية، وكذلك عن اشكالية  الدين والسلطة الدينية او العقدية المتمثلة في الكنيسة البابوية التي بقيت صاحبة السيطرة  المطلقة على المسيحية الأوروبية، فكرا وممارسة، منذ تبني المجمع المسكوني في نيقية عام 325 بضغط من قسطنطين الأول أطروحاته في مواجهة الفرق المسيحية الاخرى

استرجاع هذا السياق التاريخي يشكل في نظري شرطا ضروريا لفهم المعاني الحقيقية لهذه المفاهيم في وقتها. فهي لم تكن ثمرة نقاشات نظرية أو فلسفية محض ولكنها ولدت في مخاض التحولات الاجتماعية والسياسية والجيوسياسية وكانت جزءا منها بمقدار ما ساهمت ايضا في دفعها الى الأمام. لقد كانت بمعنى آخر إجابات نظرية وتصورات استراتيجية لسبل الخروج من الحرب الأهلية الدينية والسياسية ووضع أسس بناء سلام اهلي مستدام، ما كان يمكن أن يتحقق من دون تجديد ابداعي في نظرية شرعية السلطة ومفهوم أصل السلطة ومبرر وجودها وغايتها وسبل استقرارها ورضى المحكومين عنها. 

2-  من السلطة المطلقة إلى الثورة السياسية 

على طول تلك الحقبة الوسيطة، أي حتى نهاية  القرن الرابع عشر، وهو تحقيب نسبي دائما، بقيت العلاقة متوترة وتنازعية بين السلطة البابوية والسلطة الزمنية بالرغم من تحالفهما. ولم تنجح ايا منهما في حسم الصراع على الاولوية والسيادة. احيانا تتفوق الكنيسة واحيانا يستعيد الملوك سلطانهم. لكن الأمور أخذت منحى آخر بعد الثورات الدينية الإصلاحية وانشقاق الكنائس الوطنية عن الكنيسة البابوية. خسرت الكنيسة الحرب السياسية بالرغم من أن مقاومتها ل"لعهد الجديد" لم تتوقف حتى بداية القرن العشرين حين فرض عليها القبول بالنظرية العلمانية وفصل الكنيسة عن الدولة

لكن ما ان استقر الأمر على أسبقية السلطة الملكية على الكنيسة في الدول التي تغلبت فيها الحركات الإصلاحية حتى تفجرت ازمة السلطة الجديدة نفسها تحت ضغط صعود الاضطرابات الاجتماعية التي طرحت من جديد مسالة السيادة والشرعية والتنازع فيهما، إنما هذه المرة بين الملك والبرلمان، وبين الملكية والجمهورية. ويقدم الجدال بين روبرت فيلمر وجون لوك صورة واضحة عن الرهانات التي كانت تكمن وراء هذا الصراع الجديد. فبينما جادل الأول لصالح نظرية الحق المقدس للملوك كرس الثاني جهده للدفاع عن البرلمان وحقه في تقييد سلطات الملك والحد من مخاطر الاستبداد السياسي

ففي عام 1642 اندلعت حرب أهلية بين الملك الإنجليزي تشارلز الأول وبرلمانه على تحديد سلطة وصلاحيات كل منهما. وفي عام 1649 أُعدم الملك بسبب تبنيه مذهبا إصلاحيا واستلم البرلمان الحكم. لكن هذا الانتصار لم يدم طويلا. وفي هذه الأثناء حرر توماس هوبز كتابه "ليفياتان" Leviathan الذي نشره عام 1651. وقبل انتهاء عام 1653 أعلن كرومويل نفسه حاكما بدل الملك والبرلمان. لم يكن هذا الاعلان مفاجئا لهوبز لأنه كان يعتقد ان المهم هو وجود السلطة المطلقة التي تستطيع ان تدرأ الفوضى والاقتتال الأهلي، بصرف النظر عمن يملك تلك السلطة، ملكا كان أم قائدا عسكريا. أما جون لوك فقد أيد القيود المفروضة على سلطة الملوك وأكد على سيادة القوانين التي وضعها البرلمان. وفند في كتابه "رسالتان في الحكم" حجج روبرت فيلمر ونظريته في الحق الإلهي الذي يجسده الملوك . وكان فيلمر،  قد اعتبر أن السلطة الملكية ممنوحة له من الله لا تقبل ان يحدها اي قانون بشري. وأن السيادة التي يتمتع بها الملك لاتناقش ولا تقيد، مثلها مثل السيادة التي يتمتع بها الأب على أفراد أسرته، وهي موروثة وقائمة بذاتها ومفيدة لأنها كذلك. ولا تكون السلطة مطاعة وقوية إلا لامتلاكها صفة السيادة المطلقة على الرعية والأفراد: لا تقبل التقسيم ولا المشاركة ولا التقييد. فقد ورث الملك الحقوق والصلاحيات التي كانت لآدم الأب الأول للبشرية، وهو بمثابة أب الجميع.  

في سياق أزمة نظم السلطة الملكية المطلقة والثورات المتفجرة أعاد منظرو العقد الاجتماعي طرح السؤال الرئيس الذي يقبع في أصل الفلسفة السياسية: ما الذي يفسر قيام نظام سياسي وسلطة ودولة؟ وكان الهدف إعادة بناء السياسة على أسس علمية وعقلية تخالف ما كانت تقوم عليها من اعراف واعتقادات موروثة او دينية. وذلك تحت تأثير تقدم المناهج العقلية والتجريبية التي بدأت تفرض نفسها في فلسفة الطبيعة، كما عبرت عنها نظريات فرانسيس بيكون وغاليلو غاليلي، و الألماني يوهانز كيبلر  في علم الفلك. وكان هم أصحابها أن يكشفوا ويكتشفوا القوانين الطبيعية، أي المستمدة من طبيعة الأشياء،  التي تحكم قيام الدولة والسلطة السياسية وممارستها، سواء تعلق الأمر بطبيعة الاجتماع أو بالطبيعة الانسانية. 

هكذا لاحظ توماس هوبز، على منوال غاليلي الذي اكتشف في دراسته حركة الكواكب قانون العطالة أو القصور الذاتي، أن الأفراد تحركهم الرغبات الأنانية التي يسعون إلى إشباعها. وهذا ما يفسر صراعهم فيما بينهم عندما يتحول الآخر ألى عقبة تحول دون تحقيق رغباتهم كما ما يفسر تقاربهم فيما بينهم عندما يجدون فيه مصلحة لهم وفرصة مناسبة لإشباع رغباتهم. وكما يشير إليه قانون العطالة الذي يفيد بأن الجسم المندفع يواصل حركته في الاتجاه ذاته ولا يتوقف ما لم يتدخل شيء لإيقافه كذلك لا توجد وسيلة لوقف حرب الجميع ضد الجميع إلا دولة وسلطة قاهرة. 

ولأن التفاهم على مثل هذه السلطة مستحيل بين أفراد جبلوا على التنازع، لا يمكن قيام المجتمع المدني اي السياسي الواعي لذاته، إلا من خلال الاعتراف الضمني بأن أي شخص يفرض النظام ، بالقوة أو بغيرها، هو صاحب السيادة طالما بقي قادرا على المحافظة على النظام. وبأن الخضوع له يشكل مصلحة للجميع، لأن وجوده، حتى بشروط قاسية، يبقى أفضل من البقاء في حالة الطبيعة التي تعني الحرب الدائمة والفوضى والاقتتال. وهذا ما يفسر، حسب هوبز، أننا نسلم بمحض اختيارنا ومحاكمتنا العقلية أمرنا للدولة وسيادتها المطلقة ونعترف لها بما تطلبه من سلطات وصلاحيات للحفاظ على نظام، هو مهما كانت مساوئه، يظل الحل الوحيد للأنانية المستحكمة في النفس البشرية. فجميع الناس أصحاب مصالح أنانية ومتضاربة ولا مهرب لهم إذا أرادوا الاتحاد في المجتمع الكلي المنظم، من القبول بدولة تقهرهم، لكنها تشكل الشرط الوحيد لبسط السلام وحثهم على التعاون الذي هو شرط التقدم والتطور والحضارة

ينطلق جون لوك أيضا من التساؤل عما يحكم الطبيعة البشرية وما يحرك الفرد في عموم المجتمعات. لكنه بعكس هوبز ينظر إلى هذه الطبيعة نظرة ايجابية. فهي ليست بالضرورة منبع الأنانية وإنما هي حميدة في معظم الأوقات. وهي تورث الفرد حقوقا فطرية تشكل سمة لوجوده، قبل نشوء الدولة والمجتمع السياسي، كالحرية والحق في الحياة والملكية الخاصة. ولأن هذه الحقوق ليست مستمدة من وجود الدولة ولكنها سابقة عليها فهي لا تقع تحت سلطتها ولا تشملها السيادة التي تتمتع بها كما يجادل هوبز وانصار السيادة المطلقة للدولة الملكية والجمهورية، القدماء والمحدثين. فالإنسان الفرد يولد حرا ولا يحتاج للدولة ان تمنحه الحرية، وهو يشعر بالظلم عندما يعتدي عليه شخص آخر ولا ينتظر الدولة حتى تقر له بواقع الظلم وتعطيه الحق في الدفاع عن نفسه، وأكثر من ذلك ليست الدولة هي التي تمنحه الحياة. 

ولأن هذه الحقوق طبيعية او فطرية، وليست ناجمة عن وجود الدولة ولا هي هبة منها، فلدى الأفراد الحق في مقاومة الحاكم الذي لا يحترمها ولا يتصرف بموجب القوانين التي اقروها في مجالسهم التشريعية. مما يعني أيضا إن هذه المجالس هي مقر السيادة وليس السلطة الملكية. وهذه الحرية الفطرية التي تولد مع الفرد بوصفه إنسانا هي التي تعطيه الحق في إنشاء تشريعات جديدة كما يمكن أن تضمن له السلام والأمن عندما تعجز السلطة السياسية عن ذلك. كما يعني أيضا أن من الممكن للأفراد الحفاظ على علاقات مدنية أو متمدنة في ظروف غياب الدولة والسلطة من دون ان يعني ذلك أن المجتمعات لا يمكن أن تدخل في حالة الحرب من وقت لآخر. لكن هذه حالة استثنائية لا الحالة الطبيعية او السائدة.  

وبعكس هوبز أيضا يعتقد لوك أن للعقل الدور الأول في توجيه سلوك الفرد الإنسان وليست العواطف والغرائز الطبيعية التي يصفها هوبز. ولذلك ليست حرب الجميع ضد الجميع نتيجة حتمية للوجود الاجتماعي الطبيعي، أي ما قبل الدولة. فالعقل الموجود عند كل انسان يلهم الأفراد معنى المساواة واحترام مصالح الآخرين وحرياتهم الشخصية وحياتهم. كما أن هذا الشعور بالمساواة الذي يغذيه العقل يدفع الأفراد إلى تنمية مشاعر متبادلة من الألفة والتعاطف الضرورية لبناء منظومات أخلاقية. ويستنتج جون لوك من كل ذلك أن هدف الدولة ومبرر وجود السلطة السياسية السيدة ليس درء عدوان طبيعي وشامل ومتبادل يحكم علاقة الأفراد فيما بينهم، والذي لا يقوم من دونه سلام أهلي ولا بالتالي أي اجتماع إنساني، ولكن الحفاظ على الحقوق الطبيعية التي تولد مع الانسان. وهذا يعني انه لا يحق للسلطة السياسية أن تتدخل في شؤون الفرد إلا عندما يحصل تهديد لهذه الحقوق الفطرية. هذه هي غاية النظام السياسي والدولة. 

في المقابل ما يشغل جان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي هو تفسير الدافع الى تشكيل "إرادة عامة" توحد الافراد وتجعل منهم واحدا سيدا او الشعب صاحب السيادة. وهنا تبرز أهمية مفهوم "الصالح العام" الذي يختلف كليا عن مفهوم التسوية بين المصالح المختلفة من خلال قبول التنازلات المتبادلة ويشير الى ما هو مشترك بالفعل بينها وما يتجاوزها ويمثلها جميعا في الوقت نفسه. 

من هنا لا يعكس نشوء الدولة قانون الطبيعة، سلبيا كان كما عند هوبز أو ايجابيا كما عند لوك وإنما تعبر عن تجاوز المجتمع للحالة الطبيعية، التي ليست بالأصل سيئة ولا حميدة، وذلك من خلال أخذه على عاتقه مسؤولية تنظيم نفسه على أسس قانونية وأخلاقية. يتنازل في هذه الجدلية الفرد عن حريته الفردية الفطرية، ليبادلها بحرية سياسية ومدنية جديدة قائمة على القانون الذي ينظم العلاقات بين الأفراد. وهي الحرية المدنية، عكس الطبيعية، التي ينتجها النظام الاجتماعي أي الدولة والسياسة بالقانون وعبرهن ولا توجد من دونه. من هنا الاهمية القصوى لسيادة القانون الذي يشكل وحده الضمانة الحقيقية للحرية بمقدار ما يؤسس الإرادة العامة، ويحقق المساواة الطبيعية بين الناس. وهذه هي الحرية الحقيقية.  لذلك لا يخدم الشعب الحر أحدا ولكنه يطيع القوانين، ولا يرفض ان يكون له قادة لكنه لا يقبل أن ينصب عليه اسياد أوصياء. فحريته منبثقة من خضوعه للقوانين التي اختارها بمحض إرادته، ولا يمكن أن يخضع لغيرها، وهي التي تحميه من خطر الوقوع تحت سلطة أقرانه. من هنا يميل الباحثون إلى أن يروا في فلسفة روسو السياسية واصل الدولة بأنها نظرية في معنى السيادة وأسسها.

3 - العقد الاجتماعي بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية 

بالرغم من تباين المقاربات والمفاهيم تلتقي فلسفات العقد الاجتماعي في التأكيد على أن أصل الدولة من حيث هي سلطة سيادية وأساس قيام الاجتماع المدني/السياسي هم البشر انفسهم، في بحثهم عما يضمن مصالحهم وحاجاتهم. وهذا يعني أن المجتمع صناعة بشرية لم يولد عرضا ولا من الهام فطري او قانون طبيعي أو قانون الهي. 

وعلى ضوء هذه الطروحات الفلسفية في تفسير أصل الاجتماع السياسي سوف تنشأ منظومة حقوق وأخلاقيات سياسية ومدنية تدفع إلى إعادة النظر في طبيعة السلطة ومؤسساتها وغايات السياسة وتتبلور منظومات من الحقوق المدنية، كما تعبر عنها اليوم مدونات الحقوق والحريات التي تبنتها الثورات السياسية وفي مقدمها الثورة الفرنسية، وكرس فكرتها الدستور الذي صار احد الأركان الرئيسة للدولة والذي لا تستقيم السيادة ولا السياسة من دونه. 

 ومن المفاهيم الجديدة هذه سوف تستمد القوى والأحزاب السياسية المتنافسة على السلطة فكرة صياغة مواثيق سياسية وبرامج تتوجه فيها إلى الجمهور والرأي العام لكسب تأييده. وكل ذلك يعكس جوهر ما أدى اليه القول بأن الدولة ثمرة تعاقد ضمني بين الحاكمين والمحكومين، ومن ثم الإقرار بأن مصدر السلطة هو الجمهور نفسه الذي يتحول إلى شعب متى ما وعى شرطه ونظم نفسه في دولة وصار صاحب قراره. وبذلك يمكن القول إن الفلسفة التعاقدية حلت مشكلة شرعية السلطة بالعودة إلى الجمهور، وتتويج الشعب نفسه ملكا أو حاكما سيدا، لا إلى الكنيسة والشرعية الدينية ولا الى الحق الملكي الابوي الطبيعي. واقتضى ذلك نقل السيادة إليه بوصفه أمة أو دولة او تآلف افراد أحرار بكل ما يقتضيه ذلك من تجديدات في قواعد ممارسة السلطة وتوزيعها وفي طبيعة المؤسسات والقيم والمباديء ومعايير السلوك التي توجه عملها وتحدد غايات كل منها. وهكذا برزت الدولة بمعناها الجديد، دولة الشعب الحر مقابل دولة الملك أو مدينة الله الممثلة بحكم رجل الدين او من يمثله

في سياق صعود البرجوازية الطبقة الحرة الوليدة، وفي مواجهة السيطرة التاريخية للارستقراطية. وفي الثورات السياسية التي قادتها النخب البرجوازية ومثقفوها ولضروراتها الاستراتيجية والسياسية والأخلاقية، ولد مفهوم الشعب وولد الشعب نفسه كحقيقة وقوة سياسية. وحصل الاعتراف به شكليا، أي رسميا وقانونيا، صاحب السيادة. وكانت فلسفة العقد الأساس النظري والايديولوجي أيضا لبناء التحالف بين الطبقة الصاعدة والشعب الذي كان ينظر إليه كما مهملا، ومن هذا التحالف ولدت سلطة جديدة، سلطة الأمة التي أخرجت منها تماما الارستقراطية وقضي فيها على مؤسساتها السياسية والاجتماعية القديمة وحطمت قدراتها على المقاومة وأصبحت بقايا طبقة آفلة فاقدة لأي وحدة ذاتية أو إرادة هيمنية. وعلى أساس هذا التحالف الوطني/القومي الجديد، على أنقاض سلطة الارستقراطية، واعتماد قيم الحرية والمساواة والتضامن او الاخوة بين أفراد الشعب الجديد، المولود من حطام دولة الأرستقراطية والكهنوتية، قام نظام العهد السياسي الجديد. لكن استقراره واستمراره لم يكن تلقائيا وإنما نجم عن نجاح النخب السياسية "البرجوازية" في التفاوض الدائم على اعادة ترجمة العقد الجديد، بما يقلل من التناقض بين الطابع الشكلي والقانوني للسيادة الشعبية المعترف بها، والهيمنة الحقيقية للطبقات البرجوازية على السلطة والدولة. والتفاوض يعني الاعتراف بالتناقض القائم والقبول بحق القوى الاجتماعية في التعبير عنه بوسائلها الخاصة لكن القانونية، والاستعداد للعمل من اجل ايجاد الحلول والتسويات الضرورية لبقاء التحالف الاجتماعي الذي هو أساس وجود الشعب كمفهوم وقوة وحقيقة سياسية. ومن هذه الجدلية التي تجمع بين الصراع المكشوف والشرعي والبحث عن التسويات الاجتماعية لتقليص الفوارق بين الشكلي والواقعي ولدت الطبقة الوسطى مفهوما وحقيقة اجتماعية أيضا وتوسعت قاعدتها في العقود الأخيرة. وكان هذا التوسع أساس السلم الاجتماعي وضمان الاستقرار بمقدار ما كان إشعارا بصدقية العقد الاجتماعي أو اشتغاله الفعلي في الوقت نفسه. 

لكن التحالف الشعبي الذي صنع الثورة السياسية وقضى على سلطة ارستقراطية مترهلة سرعان ما بدأ يواجه تحديات كبيرة. فتعميم صفات السيادة والمساواة وإخراج الجمهور الشعبي من حالة الرعاع إلى حالة الأفراد الأحرار المتساوين في المواطنة لا يمكن أن يتحقق بين ليلة وأخرى. وبعد استتباب الوضع للبرجوازية في السلطة، والتوسع المستمر للاقتصاد الرأسمالي على مستوى الأسواق الداخلية والخارجية، لم يكن أمام أصحاب رأس المال إلا المراهنة على تخفيض الأجور لرفع مستوى الربح وتسريع وتيرة تراكم رأس المال والتقدم التقني. هكذا بدل أن تحرر الثورة الفرد من "رعاعيته" وتحوله إلى سيد مثله مثل أي فرد آخر، حولت الرعاع إلى بروليتاريا، فاعلة ورثة، وجيش من العاطلين الذين ينتظرون على قارعة الطريق. بمعنى آخر فتحت ثورة الحرية السياسية والأخلاقية شهية الجمهور الواسع للسيادة والكرامة في الوقت الذي فاقمت فيه من شروط استغلاله وبؤسه وفقره وعبوديته. وما كان يمكن لهذه الثورة إلا أن تفجر في أثرها وخلال عقود قليلة الثورة الاجتماعية التي كانت تستبطنها بالضرورة. 

هكذا فقد الوعد السياسي الكامن في فلسفة العقد الاجتماعي وهجه ومضمونه. وأصبح مرادفا، في نظر العديد من المفكرين الأخلاقيين للوعد الكاذب وخدعة ايديولوجية لرسالة برجوازية في الحرية والمساواة والعدالة والسعادة فارغة من المعنى ولا تحمل أي قيمة مادية. فبعد الثورات البريطانية والأمريكية والفرنسية التي كانت نموذجا للثورات التحررية، الليبرالية أو الرديكالية، لم تستلهم ايا من الثورات اللاحقة، لا في الصين ولا في روسيا ولا في البلاد النامية، ولا حتى في أوروبا التاسع عشر وبداية العشرين أفكار العقد الاجتماعي والأفكار والقيم الليبرالية. وجاءت جميعها في ثياب اجتماعية/اشتراكية تركز على قيم العدالة المادية والإنصاف وتحسين شروط معيشة الشعب العامل إلى درجة وضعت قيم التقدم المادي، في هذه الشروط، نقيضا للقيم التحررية الليبرالية. 

ومن بين أبرز صانعي هذه النظريات الاجتماعية/الاشتراكية كان كارل ماركس ولا يزال صاحب القدح المعلى والقلم الأمضى في تحطيم المفهوم الليبرالي للسلطة والدولة وفي صياغة النظرية التي لا تزال الأكثر تأثيرا إلى اليوم في معنى التحرر الاجتماعي، وإعادة النظر في الديناميكيات المحركة للمجتمع والدولة في مجتمعاتنا الحديثة. وفي جوهر هذه النظرية التمييز في مفهوم العدالة بين المساواة القانونية والسياسية "الشكلية" والمساواة الفعلية في شروط الحياة المادية، أي العملية. والواقع أن نظرية الرأسمالية التي بنى عليها كارل ماركس نقده للمنظومة البرجوازية التي رأي فيها مرحلة على طريق التحول التاريخي نحو الشيوعية، لم تكن نظرية اقتصادية أو في الاقتصاد بمقدار ما كانت في العمق نقدا للنظام السياسي الذي أقامته البرجوازية والذي سعى من خلال قيمه المعلنة في الحرية والمواطنة الواحدة، التي تعني المساواة في الحقوق والواجبات، إلى التغطية على حقيقة نظام الاستغلال والاستعباد وانعدام الحرية والحقوق الانسانية الفعلية. وكما أن التشيؤ يمر من خلال الايديولوجية الحقوقية، التي تضفي عليه سحره الروحي. فشبح الحرية يخفي حرية الشبح: اي حركة  الأشياء، التي تعمل من وراء ظهر الأفراد. باختصار، مع احتكار وسائل الإنتاج ، تصبح الحرية القانونية مرادفة لمصادرة ملكية المنتج. إن المحتوى غير المرئي للتبادل هو العلاقة بين القطبين المختلفين نوعيا، الطبقة التي ليس لها سوى قوة عملها والطبقة التي تحتكر وسائل الإنتاج: وهذا في الوقت الحالي قانوني من حيث هو أيديولوجي.

وانطلاقا من هذا التحليل النظري ربط ماركس وانجلز نشوء الدولة كأداة سيطرة وقهر بظهور الملكية الخاصة واعتبر زاول احداهما مرتبط بزوال الأخرى. فبمقدار ما تتقدم المجتمعات على طريق الشيوعية أي إشاعة الملكية، تزول الحاجة للدولة، وتتلاشى الدولة من تلقاء ذاتها. وهذه هي الحرية التي تلتقي وتتعانق مع المساواة المثلى والنوعية عندما تقوم العلاقات الاجتماعية على التكافل التام بحيث لا يطلب من الفرد إلا حسب طاقته ولكنه يجزى من قبل المجتمع حسب حاجته.

لهذا، منذ منتصف القرن الثامن عشر، لم تعد الفلسفة الليبرالية وعقدها الاجتماعي وقيمها هي التي تلهم الحركات الاجتماعية المؤثرة والمتنامية وتصنع أيديولوجية الثورة والتمرد والتغيير الاجتماعي. وحلت محلها القيم والأفكار الثورية الراديكالية التي صاغ ماركس النسخة الأكثر جذرية وتماسكا منها، والتي وجدت الأفكار الاشتراكية السابقة، الطوباوية والتعاونية والمثالية،نفسها منساقة لاقتفاء أثرها واستلهام أفكارها وقيمها وتأويلاتها الفلسفية والتاريخية. وتحت راية هذه الافكار الماركسية والدعوة الشيوعية نظمت القوى الشعبية الجديدة العمالية والبروليتاريا الريفية والمثقفين والبرجوازية الصغيرة مسيراتها واحتجاجاتها وثوراتها في روسيا والصين وبلدان آسيا وفي أوروبا والعالم أجمع حتى منتصف القرن العشرين.  

فهذه الأفكار هي التي أشعلت حماس معظم النخب المثقفة والسياسية والهمت سلسلة من الثورات الأوروبية التي أوحت بأن التغيير الحقيقي لشروط حياة المجتمعات والشعوب أو غالبيتها لن يأتي من تطبيق النظم التمثيلية البرلمانية والحريات الشكلية وإنما من تغيير نمط الإنتاج وإحلال نظام اقتصادي اشتراكي محل النظام الرأسمالي. وكادت المجتمعات، بما فيها الغربية الصناعية، تنسى نظرية العقد الاجتماعي لقرن كامل تقريبا تفرغ فيه الليبراليون لنقد الماركسية في الوقت الذي كان فيه الماركسيون أو مستلهمو نظرياتهم يتفرغون لتنظيم الثورات البروليتارية، وخوض الحروب الأهلية في سبيل اقتلاع جذور الرأسمالية ومعها الاستغلال والاضطهاد والتمييز الاجتماعي والاستعمار والامبريالية التي أصبحت أقوى سمات المنظومة الليبرالية. 

لم يتجدد الاهتمام بالفلسفة السياسية الليبرالية ويعود النقاش من جديد في مفهوم العقد الاجتماعي إلا مع أفول نجم الشيوعية التي قضى على حلمها الإخفاق الذريع، المفجع بالنسبة لمئات ملايين الناس، للتجربة السوفيتية، ثم في مرحلة تالية الفشل الذي لا يقل فاجعة لمحاولات التنمية الاقتصادية التي اتبعت طريق التخطيط الاقتصادي، أو رأسمالية الدولة التي أطلق عليها السوفييت الطريق اللارأسمالية، في البلدان النامية أو الخارجة من نير الحكم الاستعماري. وأعاد سقوط الاتحاد السوفييتي الأفكار الليبرالية إلى موقعها الأول كمصدر إلهام جديد للنظرية السياسية، وزاد الاستثمار النظري فيها وتجديدها وكذلك الاحتفاء بانتصارها على باقي الايديولوجيات السياسية وتحولها الى فلسفة تحرر عالمية كما عبر عن ذلك الياباني الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه: نهاية التاريخ وخاتم البشر

4 - العقد الاجتماعي: الواقع والأسطورة

لا يمكن لأحد أن يجادل اليوم في أهمية الطبقات والصراع الطبقي الذي تحدث عنهما ماركس في تفسيره الثورات والصدامات الاجتماعية التي طبعت الحياة السياسية لمجتمعاتنا منذ القرن الثامن عشر. لكن شروط هذا الصراع تغيرت كثيرا عن تلك التي وصفها ماركس في عهد الرأسمالية المبكرة، وهي تتغير باستمرار، كما تتغير بنية الطبقات أو القوى الاجتماعية المتصارعة، التي أصبحت تختلف كليا عن تلك البنية الثنائية الميكانيكية التي تسم العلاقة بين طبقة من الرأسماليين الجشعين في رأسمالية متوحشة لأنها بدائية، وطبقة عمالية مجردة من أي وسيلة للدفاع عن حقوقها، ولا خيار لها كما يقول ماركس سوى حرية العمل بشروط الرأسمالي أو الالتحاق بجيش العاطلين عن العمل والموت جوعا. 

وربما يرجع الخطأ الذي وقع فيه الراديكاليون الاجتماعيون/الاشتراكيون عموما ومن بينهم ماركس، بمقدار ما أراد لهذا النقد أن يكون أكثر ما يمكن جذرية، إلى سيطرة الرؤية الآلية والتجريدية في نظري للعلاقة بين المجال السياسي والمجال الاقتصادي، والذي ادى إلى الاستهانة أكثر مما يحتمل الواقع العملي والتاريخي بخصوصية البنية السياسة وما تتمتع به من استقلال نسبي عن البنية الاقتصادية. وهو استقلال نابع من أن المجتمع لم يكن ولا يمكن أن يكون مستقطبا كليا بين طبقة برجوازية مالكة لرأس المال وطبقة بروليتاريا محكومة بانعدام أي خيار سوى بيع قوة عملها للبرجوازي وبشروطه الكاملة. فللمجتمعات بنى مركبة أعقد من ذلك وأغنى بكثير ببنية العلاقات والتشكيلات والتضامنات المحلية والطبقات وأنصاف الطبقات المتقاطعة والمتداخلة، وكذلك  بالأفراد الذين يمكن أن يتجردوا، الى هذا الحد او ذاك، وفي هذا السياق أو ذاك، من الشرط الاقتصادي القاهر والمؤسس للعبودية الاقتصادية/الطبقية. وانشقاق ماركس نفسه مع الكثير من المثقفين الذين خاضوا الثورات مع الطبقات الشعبية أكبر دليل على ذلك. 

كما أن هناك عوامل اجتماعية وثقافية واخلاقية كثيرة تقدم للافراد فرصا ووسائل للتقارب والتعاون والتفاهم فيما وراء هذا الشرط، وتمكنهم من الضغط على القوى المسيطرة في الدولة وخارجها للأخذ بالاعتبار قيما أخرى غير الربح الأقصى أو زيادة هامش الربح أو الساعات غير المدفوعة ومعدل فائض القيمة. ومن هذه العوامل والحوافز الحفاظ على السلم الأهلي وتجنب العنف ودفع الثمن الباهظ للثورات الشعبية وحتى للإضرابات المطلبية التي قد تكلف الرأسماليين أكثر بكثير من زيادة طفيفة في الأجور وتحسين شروط العمل. وهذا ما أعطى للنخبة السياسية والبيروقراطية الحاكمة، حتى عندما كانت الدولة فعليا تحت سيطرة مباشرة للبرجوازية الرأسمالية، هامشا من المبادرة، خارج حسابات الصراعات الطبقية الحدية. وهو ما يفسر الاصلاحات التي تحققت في إطار السياسات العامة لصالح المجتمع أيضا. فمن الواضح تاريخيا ان اجتماع الحريات الاساسية مع الحريات الفكرية وحرية الرأي مع حكم القانون فتح حيزا واسعا للعمل الإصلاحي وساعد على تطوير النظم الليبرالية الفجة وسمح لها بالمناورة والبقاء، في الوقت الذي ادى فيه تجاهل الديناميكيات السياسية والفكرية او الاستهانة بأثرها وفاعليتها الى تكلس النموذج الاشتراكي والشيوعي وما سمي بالطريق اللارأسمالي، أي رأسمالية الدولة، وقاد الى فسادها وخرابها جميعا. 

بل إن هذا الصراع ذاته ما كان سيحصل في الصورة السياسية الجديدة، والتي حولت الانتفاضات الاجتماعية إلى مشاريع تغيير سياسي بعد أن كانت مجرد انتفاضات وتمردات وأعمال شغب وفوضى أو تدمير وتخريب وفتن. هذا التحول في معنى التمرد الاجتماعي لا يمكن أن يفهم إلا على ضوء تنامي الاعتقاد بالقيم الجديدة التي ارتبطت بفلسفة العقد الاجتماعي وفي مقدمها سيادة الشعب والمساواة الاصلية والحرية مما يشكل جوهر الثورة السياسية.

لكن في المقابل، إن فشل الثورة الاجتماعية/الاشتراكية نتيجة المطابقة الميكانيكية بين النموذج النظري التجريدي لفهم عمل الرأسمالية من جهة والمجتمع الحي بتشكيلاته العينية وتنوع دينامياته وتعقد بنياته، بما في ذلك المجتمع الرأسمالي ذاته، لا يلغي القيمة التفسيرية الكبيرة لنظرية صراع الطبقات وما ينطوي عليه من مبدأ قوة لا يمكن من دونه فهم بعد رئيس من أبعاد العلاقات الاجتماعية، ولا فهم أصل نشوء الدولة والسلطة وآليات الحكم والسيطرة والسيادة. 

وفي الاتجاه ذاته، لا يمكن في رأيي النظر باستخفاف الى ما أثاره روبرت فيلمر، منظر السلطة الملكية المطلقة، من تساؤلات وانتقادات وجيهة في رده على طروحات جون لوك، وضمنا على طروحات جان جاك روسو، عندما قال بأنه لا يوجد دليل تاريخي على وجود حالة طبيعية على الإطلاق. كما انه لا توجد حرية طبيعية ولا أحد يولد حراً. كما لا يوجد دليل تاريخي على أن أي شعب اختار حكامه في الأصل. وهذا ما سوف يعيد التذكير به فلاسفة لا حقين مثل ديفيد هيوم وإميل دوركهايم وغيرهم من علماء الاجتماع والمفكرين السياسيين، وما ساهم في تطوير النقاش في مسائل السلطة والدولة والسياسة والشرعية وتجديد إشكاليات الاستبداد والديكتاتورية والشمولية وإعادة طرح اشكالية الديمقراطية والتحولات الاجتماعية والسياسية في إطار أكثر شمولية وتنوعا.

 لا يوجد شك في أن نظرية العقد الاجتماعي قد قدمت مساهمة كبرى في تسليح الثورات السياسية ضد الاستبداد الملكي والديني بنظرية ألهبت حماس النخب البرجوازية الصاعدة والشعب المقهور والمهمش الذي حلم بمصير افضل، لكن نبوءتها الضمنية بزوال الاستبداد لم تتحقق. ولم تثبت فلسفة العقد الاجتماعي أمام امتحان الواقع التاريخي. وهذا ما يفسر التفاوت الكبير بين الموقع الواسع الذي تحتله في النظرية السياسية اليوم والانتشار المحدود للنظم الديمقراطية بالمقارنة مع حجم المناطق التي تغطيها الديكتاتوريات الوحشية والأقل وحشية. فلا بزال حكم الاستبداد مهيمنا على الحياة السياسية لأغلب المجتمعات حتى لو تغيرت الأسس التي يستند إليها. وفلسفة العقد الاجتماعي التي كافحت ببطولة نموذج السلطة الملكية المطلقة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لا يبدو انها لا تزال قادرة اليوم على الحيلولة دون ظهور ديكتاتوريات من طراز جديد، أكثر قسوة احيانا من الاستبداد القديم. 

فلم يكن الشعب الألماني جاهلا بنظريات العقد الاجتماعي عندما سلم للنازية ولا كان الشيوعيون الذين أقاموا اكبر امبراطورية شمولية مفتقرين للمعرفة النظرية السياسية والفلسفية، ولا عكست الحركة الاستعمارية القيم التحررية الكونية والتقدمية. كما لم يمنع انتشار فكر العقد  الاجتماعي الدول الديمقراطية المركزية في أوروبا من حرمان المرأة من المشاركة في "السيادة" الشعبية والمساواة السياسية حتى منتصف القرن الماضي، بالرغم من إعلان الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية وقبلها الثورة الامريكية حقوق الانسان والمواطن. ونظم التمييز العنصري النموذجية كما تجسدت في القرن الماضي في أبارتيد جنوب أفريقيا وروديسيا واليوم في اسرائيل ابرزت الى اي حد يمكن للنظام الليبرالي ان يتعايش مع نظام العنف والاستبداد داخل حدود الدولة ذاتها. ولا شيء يحول دون ان يقبل فريق او طبقة أو شعب يؤمن بقيم الليبرالية ويطبق على الآخر، طبقة او شعبا عقد استعباد لا سند له سوى القوة وأن يجيره لصالح تعزيز العقد الاجتماعي الداخلي لجماعته. وأعتقد ان السلام العالمي النسبي القائم اليوم يستند إلى مثل هذه العلاقة التي تحكم على شعوب قليلة بأن تحتكر حق السيادة والحرية وحكم القانون وعلى أغلبية من الشعوب الأخرى بالبقاء في التبعية وعقد الإذعان للأقوى. 

يصعب علينا اليوم ان نرى عمق الثورة الفكرية والاخلاقية التي تمثلها فكرة السيادة الشعبية. فلم يكن من السهل أن يتصور أحد قبل قرنين أو ثلاثة أن جمهورا شعبيا، يفتقر الى الخبرة والمعرفة والعلم والارادة، بل إلى الحد الأدنى من الفضائل الأخلاقية والإنسانية، كما كان ينظر إليه، وما كان يشكل بالفعل شرطه الانساني البائس، يمكن أن يحل محل رجال الطبقة الارستقراطية ذات التقاليد العريقة والخبرة الطويلة في القيادة والحكم، وهي التي كانت موطن الفضائل الكبرى كالشجاعة والمروءة والاقدام التي لا يمكن من دونها خوض الحرب ولا حماية الدولة من دونها، وما تنفرد به من المعرفة والثقافة الرفيعة وقوة الكلمة والخطاب والذوق المرهف. فمن اين له ان يمتلك المواهب والقدرات التي كانت من اختصاص هذه النخبة الحاكمة والوارثة للحكم أبا عن جد خلال قرون متعاقبة حتى يحتل موقع القيادة والإدارة وتسيير الدولة و خوض حروبها وتوجيه المجتمعات؟ 

حصل ذلك في الظروف الخاصة التي عرفتها القارة الاوروبية عندما وجدت طبقة صاعدة، مدفوعة بقوة التقدم الرأسمالي والتقني والعلمي، وهي البرجوازية، نفسها في تحد تاريخي مع طبقة هرمة وعاجزة عن الاستمرار. وما كانت تملك لا نبالة اللقب الارستقراطي ولا قداسة القول الديني لرجال الكنيسة وإنما كانت جزءا من الشعب المفتقر للالقاب والمكانة والاعتبار. كان سلاحها الوحيد لفرض نفسها وبسط سلطتها حشد الشعب المهمش والمنبوذ وراءها. وهذا هو أصل دولة الشعب التي ولدت نظريا وعمليا من المراهنة على الشعب والتطوع للارتقاء بشروط حياته المادية والثقافية، وهو ما سوف يشكل نموذج  برنامج الثورات الاجتماعية القادمة جميعا ومشروع تاريخي للتقدم مضمونه: تحويل "الرعاع" إلى أسياد. هذه كانت وظيفة الجمهورية ومهمتها التاريخية والدافع لتعميم التعليم وتحرير الفرد من عقدة الدونية والخوف، وإطلاق حريات التفكير والتنظيم، وتطوير وسائل التربية والتأهيل المدني والأخلاقي والمشاركة السياسية ونشر عقيدة الاحترام المتبادل للفرد الإنسان بصرف النظر عن شرطه الاقتصادي والاجتماعي. 

هكذا تحولت فكرة الشعب النظرية الوليدة إلى واقع عملي بموازاة تطوير الاستثمار في التنمية الانسانية والاجتماعية والثقافية و"تسييد" الأفراد الذين بقوا لقرون من دون اسم او لقب، ومعاملتهم كأعضاء متساوين في شعب واحد واع لذاته وحقيقته، وقادر بوعيه ومن ذاته على أن ينتظم ويسوس نفسه ويبني دولة ويملك مفاتيح توجيهها وإخضاع بيروقراطيتها لقبول مشاركته والعمل لصالحه أي للصالح العام. ومن خلال عمل هذه الدولة، ونتيجة تطبيق برنامجها الثوري في تحويل الشعب الرعاع إلى شعب أسياد متساوين، اكتسبت الدولة شرعية جديدة، وعميقة، واكتسب الفرد أيضا هوية "وطنية" وخصائص كانت من سمات الارستقراطية وحدها. وصار يرى في نفسه سيدا ويتعامل مع أقرانه كأسياد متساوين، أمام القانون وأصبح موطن ضمير وأخلاق وصاحب مسؤولية. وهذه هي الأجندة التاريخية للثورة السياسية التي حولت الدولة إلى جمهورية حرة تعكس في حريتها واستقلالها وسيادتها حرية الأفراد المواطنين الذين يشكلونها.

لكن ما حصل في سياق تحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية عميقة، وما اجتمعت شروط تحقيقه في منطقة صغيرة من العالم ليس من الضروري ان يعاد انتاجه في جميع مناطق العالم ومجتمعاته وأقطاره. 

وهذا هو التحدي الذي تواجهه الثورات السياسية ودولة العقد الاجتماعي في عصرنا الراهن في أكثر البلدان، مع فارق مهم جدا هو أن النخب التي جعلها الإمساك المديد بالسلطة في معظم هذه المناطق، وتوظيفها موارد المجتمعات لتطوير نفسها وقدراتها وثقافتها وعلاقاتها الدولية، لا يبدو أن لها مصلحة في تطبيق مثل هذا العقد، وأن مجرد التفكير في مشاركة ما تنظر إليه على أنه من "الرعاع"، وهو وصف اسوأ من الرعية، يعني التضحية بالدولة وتسليم البلاد للفوضى وتعميم الخراب. وهنا يكمن الفرق بين برجوازية القرن الثامن عشر والتاسع عشر الصاعدة ومثقفيها، وفي طليعتهم فلاسفة العقد الاجتماعي، وبرجوازية البلدان التابعة ونخبها التي أدانتها علاقات الهيمنة الامبريالية بتخلف مديد، وأورثتها عاهات ونقائص بنيوية، اقتصادية واجتماعية وأخلاقية، جعلتها لا ترى إمكانية للحفاظ على حرياتها ومكاسبها المادية وتميزها إلا في تحويل الجمهور الطامح إلى الاندماج في العصر وتمثل قيمه في الحرية والعدالة والمساواة وحكم القانون إلى "رعاع" جدد، جهلة ومتطرفين وارهابيين وجهلة وطائفيين ومتعصبين لا دواء لهم سوى النبذ والتحييد والقمع الدائم. ومن هذا التمييز في الهوية والمعاملة معا تولد علاقة عنصرية اجتماعية، تبرر للنخب الحاكمة نمط سيطرتها القهرية التي تكاد تحول البلدان إلى معسكرات اعتقال جماعية

باستثناء الحالات التي تشعر فيها النخب الحاكمة التي خلفت سلطة المعمرين الاجانب بالخطر على وجودها وعلى استقرار حكمها، لا تكاد تشعر بأي علاقة مع شعوبها ولا تملك اي شعور بالمسؤولية إزاءها. وهي تنظر للشعوب على انها خطر كامن يهدد مصالحها، وتبحث دائما عن تحالفات خارجية تعزز موقفها. فالعلاقة هنا بين النخب الاجتماعية والكتلة الشعبية هي علاقة تناقض وعداء تقوم على احتكار القوة ولا تترك مجالا لأي عقد اجتماعي، سوى عقد السيد والمسود، والسيطرة والاستسلام. 

أردت بهذا الاشارة إلى أن اختلاف طبيعة النخب التي قادت الثورات السياسية وأخذت على عاتقها مسؤولية تحقيق برنامج تحرير الفرد وتحويله من رعاع إلى سيد، يغير من نوعية علاقتها بالطبقات الدنيا، وبالكاد تعترف بوجود شعب.  وهو يفسر أيضا الاختلاف في النتائج، على مستوى بناء المجتمعات وعلى مستوى بناء الدولة ونضج مفهومها عن ذاتها وواجباتها وتطور مؤسساتها. كما يفسر ما هو أهم، أعني إخفاق العديد من هذه النخب، بعد ما يقرب من ثلاث قرون على إعلانات حقوق المواطن والإنسان، في الارتقاء بنفسها الى مستوى نخب سياسية ديمقراطية، وانحطاطها المتواصل إلى نخب مارقة، فاسدة ومفترسة، لا يعادل استهتارها بشروط حياة الجمهور الشعبي واحتقاره إن لم يفقه، سوى سلوك النخب الاستعمارية الأولى.  

 تفترض الفلسفة التعاقدية أن الناس حكماء أو عقلانيون في خياراتهم يعرفون ما يضرهم وينفعهم. وان المجتمع مكون من أفراد أحرار لا يصدرون في قراراتهم من ضغوط خارجية محلية او دولية. وان المصلحة هي موجه سلوك الناس. وأن الفرد سابق على المجتمع، منطقيا، وأن الأفراد متساوون في الاعتبار والحقوق، طبيعيا، وأن ما يحركهم هو طلب السعادة المتمثلة بالأمن والمساواة والحرية. ويفترض كذلك أن الدولة التي تنعقد عليها إرادتهم سيدة قرارها، وقادرة على أن تحمي قرار شعبها المستقل. وان النظام الدولي مكون من دول تعترف ببعضها وتحترم سيادة بعضها كما نصت عليه ربما معاهدة "وستفاليا" التي لم تطبق حتى  في أوروبا حيث تم توقيعها، وإلى يومنا هذا، إلا في حقب محدودة وعلى نطاق ضيق. وأخيرا أن تقدير سياسات الدول وخياراتها ينبع من حرصها على مصالح شعوبها لا من تلبيتها تطلعات النخب التي تسيطر عليها والتي قد تكون نخبا فاسدة وعصابات تتصرف بمنطق لا يمت إلى السياسة وليس له صلة بأي أخلاق. 

وفي تقديري أن الواقع الاجتماعي، حتى لا نعود إلى مفهوم الطبيعة البشرية ليس محكوما بقانون الصراع الوحشي والانانية المحضة كما جادل هوبز، وليس واقعا عقلانيا وعاقلا أيضا. إنه مزيج منهما. هناك بعد عميق من الوحشية في العلاقات الاجتماعية يعادله نقيضه من الحكمة والعواطف والمشاعر الانسانية المتراكمة عبر التجربة البشرية الطويلة في العيش الاجتماعي والمشترك والمخزنة في الثقافة والذاكرة الجمعية والمخيال الاجتماعي. وهي تجربة لا تكف عن الاغتناء والتطور والتجدد. يتوقف الأمر على الطريقة التي تسعى نخبة او طبقة اجتماعية حاكمة أو مسيطرة، لأسباب مختلفة، إلى استغلال هذا الواقع والقيم التي تريد أن تركز عليها والاتجاه الذي تريد أن تدفع المجتمع إليه. مما يعني أننا لا نحصد في السياسة حقيقة إلا ما نكون قد زرعناه من بذور، وأنه في هذا الميدان لا يمكن فصل النظرية الوصفية عن المعايير الأخلاقية أو الخلقية. ولا يمكن ان نتوقع من الافراد أن ينتجوا إلا ثمار ما كنا قد استثمرناه في تأهيلهم وتدريبهم وتثقيفهم من قبل. وهذا يفترض أن تكون هذه القيم والمباديء والعواطف موضوع نقاش وتفاهم واتفاق أيضا، وأن المدنية، بما تعنيه من تقدم في ممارسة الحقوق وتعميق التواصل وتطور قيم الكرامة والحرية وفي إقامة منظومات حكم وسياسات اكثر عقلانية وانسانية لا تولد من تلقاء ذاتها وإنما تستدعي جهدا متواصلا يعكس عمل المجتمعات على نفسها وقدراتها على ابداع ذاتها واعادة تجديد فكرها وقيمها وممارستها التاريخية. 

والنتيجة

لم تفقد نظرية العقد الاجتماعي قيمتها كفكرة موجهة لسياسة أخلاقية كما رأى فيها إمانويل كنت. وهي تكمن في صلب اشكالية الديمقراطية التي حلت محلها وأصبحت جزءا منها في تأطير حركة التحولات السياسية وفهم فحواها ورهاناتها ومرجعا من مرجعياتها النظرية. وفي هذا الاتجاه تدخل جهود جون رولز منذ الثمانينيات من القرن العشرين لبناء نظرية في العدالة محاولة من طرفه لتقليص الفجوة بين النظريات الليبرالية المحافظة التي فرضت نفسها بقوة التقدم الذي حققته النظم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والنظريات الثورية والراديكالية التي سعت إلى توجيه النظر نحو الواقع التاريخي والملموس للمجتمعات، والشروط المادية لتحقيق الحرية ووسائل ممارستها. أي ايضا على أصل الديكتاتورية والأسباب التي تعيق المجتمعات عن الدخول في مجتمع الحرية والحق والعدالة والمساواة والسيادة. هدفي يقول رولز "هو تقديم مفهوم للعدالة يعمم ويرفع إلى مستوى أعلى من التجريد النظرية المعروفة للعقد الاجتماعي كما وجدت، من بين أمور أخرى، عند لوك وروسو وكانط. لهذا، يجب ألا نعتقد أن العقد الأصلي كان مصممًا لإلزامنا بدخول مجتمع معين أو لتأسيس شكل معين من الحكومة. الفكرة التي ستوجهنا هي أن مبادئ العدالة الصالحة للبنية الأساسية للمجتمع هي هدف الاتفاق الأصلي".

لا تزال فكرة العقد الاجتماعي أساس نظرية الشرعية في النظم الديمقراطية القائمة، من حيث انبثاق السلطة عن الشعب وتمثيلها الصادق لإرادته. لكن هذا لا يعني أن السلطة التي تستمد شرعيتها من تمثيل الشعب، أو التعبير عن إرادته ستكون ديمقراطية بالضرورة، ولا ان السلطة تفترض نموذجا واحدا للحكم والحكومة، ولا أن هذه السلطة ليست معرضة لمخاطر واختلالات وربما تحديات تمنعها من الاستمرار. وما شهدناه في القرن الماضي من أنظمة شمولية و ديكتاتوريات عسكرية لم يستمد شرعيته إلا من هذه النظرية ذاتها، لكن بتفريغ الإرادة الشعبية من محتواها الاصيل واستبدالها بشعبوية تعد فيها السلطة الشعب بتحقيق الأجندة الاجتماعية التي لا تكف عن خيانتها في كل خطوة من خطواتها. 

وحتى السلام الاهلي لم يعد ينطوي على المعنى نفسه. فاليوم نحن نتحدث أكثر عن توازن هش يغطي تناقضات عميقة ومتعددة ومتقاطعة يقوم عليها الاستقرار ويمكن أن تتفجر او ينفجر بعضها في اي وقت. بل إن حياة معظم المجتمعات اليوم بما فيها الديمقراطية المستقرة في المراكز الصناعية الغنية بفائض انتاجها وثروتها الوطنية تتعرض لهذه الانفجارات بشكل مستمر. أما الأغلبية الساحقة من المجتمعات/الدول الفقيرة او التي اخفقت في الاندماج في الدورة العالمية للاقتصاد والتقنية والبحث العلمي فهي تقف على برميل بارود يمكن أن ينفجر ويفجر معه الحرب الاهلية في اي وقت. ولم يعد يوجد فيها إن كان قد وجد في السابق في بعضها أو في مرحلة من مراحل حياتها معنى: لا للحرية ولا للسيادة ولا للأمن ولا للحق. أما الملكية الخاصة فقد تخصخصت إلى حد لم يعد الكثيرون يهتمون بها كشرط للسعادة إن كان قد بقي هناك مفهوم للسعادة عند الفرد في هذه المجتمعات. 

في هذه الحالة من المشروع أن نطرح السؤال: هل لا تزال هناك، في الشروط التاريخية الراهنة لمجتمعاتنا، في سورية والمجتمعات العربية والنامية، امكانية حقيقية لإرساء أسس مجتمع ديمقراطي يستجيب لمطالب العقد الاجتماعي الليبرالي او التحرري في تحقيق سلطة تستمد شرعيتها من الشعب وتخضع لإرادته الحرة؟

في نظري نعم لكن بشرط عدم التثبت المرضي على النموذج النظري الجاهز، والنظر إليه بالعكس كعملية تراكمية وجدلية. وهذا يعني: اولا الاعتراف بالواقع، اي الاختلاف في المصالح الخاصة والجماعية، وثانيا القبول بحقها في الوجود كأمر واقع، وثالثا القبول بمبدأ التفاوض كأساس لحل الاختلاف في المصالح والتوصل الى رؤية مشتركة للمصلحة العامة، والقبول بتسويات مختلفة ومتغيرة للمصالح. وهذا يفترض رابعا نبذ اللجوء إلى العنف في حل الخلافات وحسم الاختلاف في المصالح، وخامسا التفاهم المسبق أو العمل على بناء معايير للتفاوض تتيح للمختلفين وللمجتمع ككل أن يطور ممارسة تفاوضية بالفعل على جميع المستويات. اي تطوير مفهوم التفاوض ومناهجه ووسائله ووضعها في متناول الأفراد داخل الجمعية والمؤسسة والجماعة والأمة. لكن قبل هذا وذاك وضع معايير العدالة التي لا يمكن إلا ان تكون متغيرة بتغير القيم والثقافة والاندماج الاجتماعي. فما كان يعتبر ذروة في العدالة عند إقرار مبادئ المساواة القانونية في القرن الماضي وإلغاء التمييز العنصري او القانوني والسياسي والأخلاقي لم يعد كذلك اليوم. والفقراء الذين حصلوا على حق الانتخاب تجسيدا لحريتهم في اختيار ممثليهم يشعرون بالمهانة عندما يضطرون إلى بيع صوتهم لتلبية بعض حاجات ابنائهم، وبظلم أكبر عندما يجدون أنفسهم مكرهين على العيش في عشوائيات تفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية. والمهاجرون الذين نجوا ربما من موت محقق يشعرون بظلم بالغ عند التمييز بينهم في بلاد المهجر في الحصول على فرص العمل التي يحتاجونها لتحقيق تطلعاتهم. 

ما الحوافز التي يمكن المراهنة عليها في التغلب على قانون القوة وتغليب قانون العدالة الذي لا يمكن من دون إحياء فكرة العقد الاجتماعي من جديد، أي السلطة القائمة على التوافق بين مواطنين احرار ومتساوين؟ دفع الضرر وتقديم النفع العام. أما العوائق التي ينبغي تذليلها فهي: أخلاق التناحر والجشع والأنانية والافتقار العام والشائع للثقافة عموما وللتربية بما تعنيه من تهذيب العقل والفكر والضمير.

فلا تقدم من دون ثقافة، ولا ثقافة من دون سياسة حكيمة وعادلة. وتعني السياسة الحكيمة أنه لم يعد من الممكن اليوم تحقيق الاصلاح بالانكفاء على حدود الدولة الواحدة وإنما يحتاج الأمر إلى سياسة عالمية ترد على التحديات العولمية والمشتركة التي تواجه المجتمع الإنساني العالمي ولا تتحقق من دونها. أما السياسة العادلة فتعني إيجاد الطريق الأمثل لمصالحة القوة مع الأخلاق في سبيل تعظيم فرص إصلاح شروط حياة الإنسان لا استغلاله ولا السيطرة عليه. وهنا يكمن تحدي السياسة وامتحانها. 

…..

المراجع العربية:

  1. روسو، جان جاك، (العقد الاجتماعي) عادل زعيتر (مترجماً)، (القاهرة: مؤسسة هنداوي 2013)
  2. فوكوياما، فرانسيس، نهاية التاريخ وخاتم البشر، حسين أحمد أمين (مترجماً)، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر،1993)
  3. هوبز، توماس، اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ديانا حبيب حرب وبشرى صعب (مترجمتان)، رضوان السيد (مقدماً) (أبو ظبي: هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، 2011)

المراجع الفرنسية:

  1. Bodin, Jean, Les six livres de la République, (Un abrégé du texte de l'édition de Paris de 1583), (Paris : Librairie générale française 1993)
  2. Cassirer, Ernst, Rousseau, Kant, Goethe : deux essais, Jean Lacoste (traduit et présenté), (Paris : Belin, 1991)
  3. Marx, Karl, Le Capital, Livre I, tome 1 de l’édition des "Éditions Sociales" (Paris : Éditions Sociales 2016)
  4. Rawls, John, Théorie de la justice sociale, (Paris : Seuil, 1997).pdfhttps://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2021/04/ماذا-تبقى-من-دولة-العقد-الاجتماعي.pdf