الخروج الصعب للعالم العربي من الهمجية السياسية

2001:: الاتحاد الظبيانية

  

 حول مشاكل التطور السياسي في العالم العربي

تثير الاجراءات التي يتخذها العهد الجديد في سورية  في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي انتعاشا كبيرا للآمال في بلد ظل مغلقا بشكل هوسي خلال ما يقارب الأربعين عاما· لكن هذه الإجراءات لا ينبغي أن تغطي على واقع أن المنطقة العربية كانت في العقدين الماضيين من أقل المناطق الاقليمية في العالم تأثرا برياح التغيير القوية التي هزت المعسكر السوفييتي والاشتراكي سابقا، وأن خروجها من النظام السياسي الشمولي لا يزال إشكاليا بالمعنى العميق للكلمة،  ولا تزال السلطة فيه، بالرغم من المظاهر السطحية، حكرا على فئات محددة من السكان والطبقات، كما لا يزال مفهوم المواطن ضعيفا لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتعرفوا على حقوقهم المدنية والسياسية فما بالك بالدفاع عنها أو المطالبة بها· وقد دلت التجربة على أن السلسلة الأولى من الاجراءات الانفتاحية التي تساهم في انعاش النظام لا تطرح مشاكل كبيرة على الممسكين بالسلطة، بل إنها تبدو لهم الطريق الوحيدة لانقاذ الحكم من الركود الاقتصادي والجمود السياسي الذي يهدد بأعظم المخاطر· لكن الأمر يختلف بعد ذلك عندما تنفتح عملية التغيير على إجراءات أو نوع من الاجراءات التي تتضمن حدا أدنى من تداول السلطة أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بجدارته السياسية·

هكذا على سبيل المثال بدأ التحول من نظام الحزب الواحد منذ بداية السبعينات ومع مجيء حكم أنور السادات إلى السلطة في مصر· لكن السلطة السياسية لم تهجر يوما واحدا الحزب الحاكم الذي غير اسمه وسياساته جميعا ليبقى في السلطة ويتحول إلى حزب الرئيس· ولم يتطور أي شكل من أشكال المشاركة السياسية للنخب المعارضة أو للمواطنين عموما في القرارات المصيرية· ولا تزال عملية التحويل تراوح مكانها منذ ثلاثين عاما مقتصرة على مظهر واحد من مظاهر الحياة السياسية الحديثة هو التعددية الشكلية، أي الاعتراف الرسمي ببعض أحزاب المعارضة والسماح لصحافتها بهامش لا بأس به من حرية التعبير· ولا تزال المواعيد الانتخابية، سواء ما تعلق منها بالانتخابات التشريعية أو الانتخابات الرئاسية تشكل إحراجا حقيقيا للسلطة القائمة، وتمارس في مناخ من الحرب الفعلية التي  تقف فيها أحزاب المعارضة في مواجهة الحكومة وحزبها بينما لا تتردد السلطة لحظة واحدة في استخدام جميع الوسائل التي تملكها لتهميش المعارضة وفرض أغلبية الحزب الحاكم· ويؤكد هذا السلوك المحاصة التي يعيش فيها مسار التحول السياسي في أهم البلدان العربية وأكثرها خبرة سياسية· فعدا عن أن القاعدة لم تستقر بعد لا يزال التلاعب بعملية التصويت العام وسعي السلطة لحرمان هذا الطرف أو ذاك من المشاركة الطبيعية يشكل عائقا كبيرا أمام ترسيخ التجربة التعددية وبث مناخ من التهدئة العامة والاطمئنان·

أما في الجزائر فقد قادت عملية الانتقال نحو التعددية إلى حرب أهلية لا تزال مستمرة حتى اليوم، ولا يزال الفريق العسكري الذي يتحكم بهذه العملية ويسعى إلى توجيهها بما يخدم مصالح الاستمرار في احتكاره السلطة يضع العراقيل أمام أي مبادرة تطرحها القوى الاجتماعية أو حتى رئيس الجمهورية نفسه للخروج من الأزمة· وقد استهلك العسكريون الجزائريون حتى الآن، أي في أقل من عشر سنوات من الالتفاف على استحقاقات التغيير السياسي، أربع رؤوساء جمهورية اغتيل بعضهم واضطر الآخرون إلى الانسحاب من الحكم قبل إكمال ولاياتهم، أما الخامس الذي يحتل قصر الرئاسة اليوم، وهو من القادة التاريخيين لجبهة التحرير التي صنعت الاستقلال، فهو يتعرض لهجومات علنية من قبل زعماء القيادة العسكرية، ولا أحد يعرف بعد فيما إذا كانت حرب المواقع الراهنة ستنتهي بتركه السلطة قبل استكمال ولايته هو الآخر أو أن مواجهته للوصاية العسكرية سوف يؤدي إلى عودة النزاع والاضطرابات إلى البلاد وفي داخل النظام كما يظهر من عودة المجازر العنيفة إلى مقدمة أخبار البلاد·

ولا تزال الفوضى إلى جانب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبين أحزاب المعارضة الشمالية المتحالفة مع قوات التمرد أو الانفصال والحكومة المركزية المعتمدة على الأحزاب الاسلاموية هي السمة السائدة في الانتقال من الحكم العسكري الفردي نحو التعددية في السودان· فلم تعش تجربة الحكم التعددي الليبرالي الذي أعقب حكم النميري العسكري في الخرطوم سوى سنوات قليلة نجحت الحركة القومية الاسلامية في وضع حد سريع لها باسم الدولة الاسلامية والشرعية الدينية· أما تونس التي كان من المتوقع لها أن تسلك طريقا ديمقراطيا واضحا بعد إبعاد الزعيم السابق الحبيب بورقيبة بسبب ما تتمتع به من مؤسسات قوية ونخب حديثة وتواصل مع الثقافة والبيئة الأوربية فقد شهدت بالعكس من ذلك أكبر انتكاسة في حياتها السياسية· وبدل الانتقال نحو ديمقراطية المشاركة السياسية حصل التحول من الحكم الاتوقراطي الفردي  إلى حكم الأجهزة الأمنية· وهذه الأجهزة هي، أيضا، المؤسسات الرئيسية التي لا تزال تتحكم في القرار السياسي وفي مصير المجتمعات في سورية والعراق منذ ما يقارب الأربعين عاما من دون أن تخضع في حكمها وسلوكها لأي حدود أو ضوابط قانونية· أما ليبيا التي بدأت حياتها السياسية الحديثة بالمزاودة على الجمهورية والعداء للنظم البيرقراطية فقد سارت حثيثا نحو التفكك الاداري والسياسي  وغرقت أكثر فأكثر في وحل الفوضى المنظمة والتدمير المنهجي لأي بنيات سياسية أو فكرية خارج إرادة العقيد الذي نجح في أن يختصر في شخصه ويلغي في الوقت نفسه كل حياة سياسية أو فكرية ليبية وأن يقيم أكثر أشكال الحكم الفردي فظاظة ومزاجية ومجانية ولا عقلانية واحتقارا منظما للشعب ولحقوقه المدنية والسياسية معا· وإذا كان بعض النظام والأمن والاستقرار لا يزال قائما في الكثير من البلاد العربية الأخرى فليس ذلك بسبب وجود نظام سياسي حي أو قادر على بلورة أي إرادة جمعية والتعبير عنها وتنظيمها بقدر ما هو ثمرة الاعتماد المباشر على فعالية الأجهزة الأمنية المدعمة من الخارج والمتماهية معه·

لا يمكن لمثل هذا الوضع السياسي العربي المطبوع بالتخبط  والركود والعجز عن مسايرة التطورات السياسية العالمية إلا أن يطرح أسئلة عديدة على المحللين والمتابعين للقضايا العربية· ومن الممكن اختصار الاتجاهات العلمية لتفسير هذه الأوضاع في اتجاهين رئيسيين· الأول هو التفسير الثقافوي الذي يرى أن جوهر الأزمة كامن في التخلف الحضاري العام، وينسب الدور الأول في إحداث هذه الأزمة إلى الثقافة، والاسلامية منها بشكل خاص بسبب ما تطبعه في الفرد من خصائص تدفع إلى الاعتماد على القوة الغيبية والتسليم لها ونبذ التفكير العقلاني والتعلق بالأساطير· ويكمن الأمل للخروج من هذه الأزمة في التحديث العميق، ولو جاء بالقوة، للفكر والدين والقيم الاجتماعية، وفي نشر العلمانية وبث الروح العقلانية والعلمية في المجتمعات العربية·  ويتفاعل هذا النمط من التفسير بشكل كبير مع الثقافة السطحية لجماهير الطبقات الوسطى العربية نصف المتعلمة ونصف المتحدثة  ويرد على قلقها ويأسها وتوقها للارتقاء بنفسها نحو آفاق الحداثة الحقيقية· ولذلك يظل هو الاتجاه السائد فيما يسمى البحث الاجتماعي العربي وفي الخطابات الصحفية على حد سواء·

والثاني هو التفسير البنيوي الماركسي أو الوضعي الذي يرى جوهر الأزمة في الطابع المشوه للبنيات والمؤسسات المجتمعية نتيجة السيطرة الرأسمالية بالنسبة للماركسيين أو التدمير الاستعماري أو التجميد التاريخي الطويل لآليات وفعاليات المجتمع العربي تحت ضغط نظم قامت منذ العصر الاسلامي الأول حتى عصر السلاطين العثمانيين على العنف والقهر والانقلاب العسكري والاستخدام المكثف للقمع  والاخضاع·

بقدر ما تثير النظريات الأولى مسألة الوعي الاجتماعي وقدرته على التجدد في جميع مستوياته أو بعضها، تثير النظريات الثانية مسألة البنيات الاجتماعية المدنية والسياسية وقدرتها على التكيف مع الأوضاع الجديدة أو مع الرأسمالية الحديثة· وبالفعل يفسر جمود الوعي العديد من مظاهر التناقض والمفارقة وعدم الاتساق التي نلاحظها حتى اليوم في مجتمعاتنا على سلوك الأفراد ونمط تفكيرهم· بيد أنها لا تستطيع أن تفسر الحركة العامة التي شهدتها هذه المجتمعات والتي طبعت في القرنين الماضيين بإرادة التحديث الواضحة·   وبالمثل، إن لتعقيم البنيات الاجتماعية وتكليسها تحت تأثير النظم السلطانية المطلقة أو لتدمير هذه البنيات من قبل الاستعمار ثم من قبل النظم الأقلوية والانقلابية أثر بارز في عدم الاستقرار الذي تعرفه مجتمعاتنا وضعف القوى الحيوية والمنظمة فيها· لكن التركيز على هذا الجانب بقدر ما يساعد على فهم النقائص الكامنة في الأوضاع لا يقدم أي تفسير عقلاني للأمر الأساسي والرئيسي في العملية التي شهدتها مجتمعاتنا في العصر الحديث، أعني الانجازات الايجابية ونشوء وتنامي قوى اجتماعية حديثة وبلورتها لاستراتيجيات ومخططات ومشاريع سياسية واقتصادية كان لها الدور الأول في نقل هذه المجتمعات إلى العصر الحديث·

 

في أسباب فشل التحولات الديمقراطية في البلاد العربية

من الممكن أن نعزو بطء الانجازات الديمقراطية أو تعثرها في البلاد العربية إلى استمرار الثقافة الاسطورية أو الخرافية القديمة أو إلى  عدوانية الرأسمالية العالمية التي تزعزع التوازنات الداخلية، كما يمكن أن نعزوه إلى تكلس البنيات الاجتماعية التقليدية السياسية والاقتصادية أو هرمها وتشوهها· فلكل هذه العوامل دوره من دون شك في النتيجة التي وصل إليها المجتمع· فالظواهر الاجتماعية التاريخية متداخلة ومن الممكن النفاذ إليها من مداخل متعددة ومتنوعة· ونحن نميل اليوم في الدراسات الاجتماعية إلى تصور أكثر تركيبية لمفهوم الأسباب والمسببات التصور السببي التقليدي الذي ينحصر في البحث عن علة من دون غيرها· بيد أن تكوين نظرة تركيبية لا يعني جمع العناصر جمعا حسابيا أو ذكرها جميعا بصورة عشوائية· إنه يستدعي الكشف عن الفاعل الذي يربط فيما بينها· والذي يجمع بين العناصر المختلفة التي تقف وراء الحركات والظواهر الاجتماعية ويفعلها، أي يعطيها موقعها وقيمتها ليس إلا عمل الانسان· وعمل الانسان هذا على نفسه، أي صراعه من أجل إدراج نفسه في التاريخ وفي حضارة  عصره هو الذي ينبغي أن يشكل مركز اهتمامنا وتحليلنا إذا أردنا بالفعل أن نفهم ما تتميز به نظمنا الراهنة من قصور وتشوه· وهذا يعني في الواقع أن موضوع التحليل في الدراسات الاجتماعية ينبغي أن يكون الممارسة المجتمعية ذاتها، وليس بنيات المجتمع ولا أنماط تفكيره· فهذه الممارسة من حيث هي مواجهة  لمصاعب وسعي لحل مشكلات عملية تتوقف عليها حياة البشر اليومية وربما مصيرهم  تفرض عليهم بالضرورة إعادة نظر يمكن أن تكون جذرية في أنماط تفكيرهم وفي بنياتهم الاجتماعية ذاتها·

وينجم عن ذلك، أنه بعكس ما تفيده النظريات الاجتماعية السائدة لاتشكل البنيات الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية ولا أنماط التفكير التقليدية حواجز لا تقاوم وعوامل لا تتحول تخضع المجتمعات لتأثيرها وحيد الجانب وتفرض عليها البقاء في مكانها أو جمودها· ولكنها تشكل مرتكزات لهذه المجتمعات التي تستطيع أن تعيد النظر فيها أو تستبدلها ببنيات من نوع جديد عندما تشعر بالحاجة لذلك وعندما تتوفر لديها الامكانات لتحقيق ذلك· وعندما لا تتوفر مثل هذه الامكانيات تنحو المجتمعات إلى إعادة بناء المؤسسات القديمة ذاتها بما يمكنها من الرد على الحاجات  والوظائف والتحديات الجديدة·

ينجم عن ذلك أن هذا الخراب المدني والسياسي الذي عرفته المجتمعات العربية ليس ثمرة الجمود الفكري وثقافة الخرافة والأسطورة ولا تشوه البنيات المجتمعية وتكسيرها وإنما هو ثمرة عمل ايجابي وممارسة تاريخية وخيارات قام بها العرب أنفسهم أو بالأحرى قامت بها نخبهم التي عبرت عن خلاصة وعيهم واختصرته في حقب معينة، وهذه الممارسة ليست شيئا آخر سوى مشروع تحديث المجتمعات العربية أو إدراجها في الحداثة، وعلى مستوى الوعي الذي حظيت به بطبيعة هذه الحداثة وجوهرها· فالأوضاع الراهنة هي الثمرة الطبيعية للحداثة الرثة كما سميتها في كتابات سابقة· وليس المقصود بالحداثة هنا التقنية والصناعية أو المادية منها عموما، ولكن قبل ذلك الحداثة الثقافية، أي كل ما تعلق بمنظومات القيم وأساليب التفكير والبناء النظري والعلمي أيضا· فالوضعيات التي نعيشها اليوم والتي تتميز بالفوضى وانعدام المبادرة وغياب الوضوح في الرؤية وبالتالي ضعف القيادة السياسية والاجتماعية بل تهافتها هي ثمرة إفلاس هذه الحداثة الرثة التي أقامت نظما من النظر والتأمل والتفكير والأخلاق والسياسة والانتاج حديثة بالفعل، لكن قائمة على أسس هشة للغاية، وفيما وراء هذا الافلاس انهيار روح المبادرة التي كانت تقف وراءها وسيطرة الحيرة التي ترافقها على مستوى الإرادة· وتعني الهشاشة هنا أمورا كثيرة منها هشاشة المفهوم ذاته، أي فقر المفاهيم الحديثة وضعفها وقلة الجهود المبذولة لبنائها وإعادة بنائها، ومنها هشاشة التشكيلات والهياكل الحديثة وعدم استقرارها، سواء ما تعلق منها بطبيعة الدول وحجم الموارد التي تنطوي عليها وتكوين السكان واتساق مصالحهم، ومنها هشاشة القاعدة الاجتماعية الحاملة لقيم الحداثة ورموزها، أعني بشكل أساسي الطبقات الوسطى الضيقة والمحدودة· هذه البنيات، الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ميزت الحداثة الرثة هي المسؤولة الرئيسية عن المأزق الذي وصلت إليه دولة الحداثة أو الدولة الحديثة ومؤسساتها الرسمية، بما في ذلك المؤسسة السياسية، وعجزها عن تحقيق الديمقراطية·

وتعكس هذه الحداثة أو النموذج الرث الذي وصلت إليه المجتمعات العربية نوعية الاختيارات التي تبنتها النخب الحديثة أو التحديثية منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم والاستراتيجيات التي اتبعتها·  وهي خيارات ثقافية وسياسية واقتصادية وجيوسياسية معا· فعلى المستوى الثقافي سادت اختيارات الاعتماد على الخارج واستيراد العلم والتقنية على بلورة قطب داخلي للتربية الحديثة والانتاج العلمي والتقني· وعلى المستوى الاقتصادي ترددت هذه الاختيارات بين الانفتاحية الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية من جهة والانغلاق البيرقراطي الاقتصادي الذي قطع البلاد عن موارد التطور التقني· وعلى المستوى السياسي التردد بين النظم العقيمة الجامدة والأبوية والنظم الشعبوية الباحثة عن مصادر للشرعية أكثر من بحثها عن تحقيق أية أهداف جدية· وفي الحالتين كانت النتيجة أحادية فكرية وسياسية قاتلة· وعلى المستوى الجيوستراتيجي ساد اختيار التنمية القطرية والوطنية على مشروع بناء كتلة واسعة إقليمية·

بيد أن الخيارات ليست مسألة ذاتية وليست مستقلة عن الشروط والظروف التي عاشتها المجتمعات وعبرت عنها نخبها المحلية· وفي اعتقادي أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية ساهمت في الضغط في اتجاه المنحى الذي اتخذته الممارسة السياسية في المجتمعات العربية والخيارات التي تبنتها النخب الاجتماعية في ميدان السياسة كما هو الحال بالنسبة لميادين الممارسة التحديثية التاريخية برمتها في نصف القرن الأخير· الأول هو عامل الثروة الريعية الكبيرة بصرف النظر عن طريقة توزيعها· والبلدان العربية  من البلدان الرئيسية المصدرة للنفط والتي يشكل الريع الناجم عن هذا التصدير أهم مورد من مواردها الاقتصادية والعامل الرئيسي في تأمين استمرار المجتمعات الاقتصادي· وهي تقدم من هذه الناحية أفضل الأمثلة عن طبيعة الدولة الريعية وما يميز نخبها السائدة من أنماط التبذير والهدر وسيطرة النزعة الاستهلاكية واحتقار العمل أو تخفيض قيمته على حساب الاثراء السريع، وغياب روح الاستثمار العقلاني والمراهنة على علاقات القربى السياسية والتحاق النخبة الاجتماعية بالدولة والسلطة وانعدام الجدية والتساهل أمام الفساد والفوارق الخطيرة بين الطبقات·  وأهم من تظهر فيه آثار هذا العامل هي دول الخليج والجزائر وليبيا والعراق·

والعامل الثاني هو الثورة الديمغرافية وما يمثله التزايد المطرد والسريع في عدد السكان من ضغط على الموارد ومن تحديات كبيرة للتنمية المستدامة القادرة على أن تستوعب التكاثر السكاني السريع وتضمن الحد الأدنى من الأمن والاستقرار الاجتماعيين· ومن البلدان التي عانت وتعاني من النتائج السلبية لضغوط الزيادة السكانية على الاستثمار الاجتماعي والسياسي مصر وسورية والعراق واليمن والمغرب والسودان·

والعامل الثالث هو فشل النظم الليبرالية الارستقراطية التي أعقبت فترة الاستعمار في الرد على التحديات الاقتصادية والاجتماعية وخصوصا الوطنية المتعلقة بحرب فلسطين· مما قدم فرصا كبيرة للنمو السريع والواسع للنزعة الشعبوية القومية· وقد ارتبطت هذه النزعة في جميع البلاد العربية التي ظهرت فيها بتطبيق برامج وسياسات سميت اشتراكية كانت في الواقع تجسيدا لإرادة بناء وطني مستقل ولوطنية متفجرة تهدف إلى تأكيد الذات وتحقيق التنمية الصناعية مع أكثر ما يمكن من استقلال عن الدول الصناعية الغربية وما تمثله رأسمالياتها التوسعية من مخاطر على تكوين سوق وطنية· وقد لاحظنا ذلك في كل من الجزائر ومصر وسورية والعراق وليبيا واليمن والسودان· فقد اشتركت جميعها لهذا الحد أو ذاك وخلال فترة أو أخرى في تجربة اعتماد سياسات مقاومة التبعية وتطبيق برامج تنمية إرادية تهدف إلى تحقيق مهام الثورة الصناعية وفي التعاون من أجل ذلك بشكل واسع مع الدول الاشتراكية·  هكذا حكمت التجربة التحديثية في البلاد العربية ثلاث سمات أساسية : منطق الثروة الريعية المكتسبة من دون جهد، وتفجر الثورة الديمغرافية التي جعلت الشباب تحت سن العشرين يشكلون أكثر من ستين بالمئة من العدد الاجمالي للسكان، وانتشار قومية شعبوية تقوم على تأكيد الاستقلال والتعبئة الوطنية· 

ودراسة هذه العوامل بقدر ما تظهر لنا عمق التحديات التي يواجهها التحول الاجتماعي في البلاد العربية تساعدنا أيضا على معرفة العوامل التي أدت إلى أزمة النظام المجتمعي الذي قام بعد الاستقلال مع استنفاد المفعول الحاسم للريع النفطي، وتزايد المطالب الاجتماعية بسبب ابتلاع الضغط الديمغرافي لنتائج التنمية وبروز انعدام التماسك النظري والاتساق  السياسي في مشروع القيادة القومية الشعبوية لعملية التحويل أو البناء الوطني، وتراجع نفوذ هذه القيادة لصالح السيطرة الشاملة والمنتظمة لبيروقراطية الدولة المدنية والعسكرية·

 

حدود الاختيار الديمقراطي

مهما كان الأمر، يبدو لي أن ظاهرة بروز مسألة الديمقراطية وتصدرها قائمة المطالب السياسية لا تختلف في معطياتها الرئيسية في البلاد العربية عنها في بقية البلدان الجنوبية عموما· فلا تعكس هذه الظاهرة، بالضرورة، نضوج الشروط العقدية والسياسية والاجتماعية التي تسمح بتحقيق ديمقراطية ناجزة،  ولا ازدياد نفوذ القيم التي يمثلها نظامها والغايات التي يسعى إليها، ولا نشوء الايمان الشامل براهنيتها، بقدر ما يعبر عن ردة أو انقلاب شامل إلى هذا الحد أو ذاك على النظام القائم· والدافع إلى هذا الانقلاب هو الشعور المتعاظم بإفلاسه وإخفاق سياساته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي زوال الثقة الكامل بالقيادة الموجودة· إن الحديث عن الديمقراطية في البلاد العربية والحماس لشعارها على مستوى الجمهور العريض أو على مستوى النخب السياسية هو قبل كل شيء آخر حماس من أجل التغيير· وتستخدم الديمقراطية من قبل مشاريع التغيير غير الدينية المتعددة والمتنافسة على وراثة النظام القديم كمصدر رئيسي للشرعية،  بعد أن فقدت العقائديات التقدمية الكلاسيكية صدقيتها· وهي تقف في هذا السياق في صراع مباشر مع فكرة الدولة الاسلامية التي تستجيب بشكل أكبر لآمال التغيير التي تتمحور بشكل أساسي حول مطالب عدالية ومساواتية استهلاكية· وترتبط هذه الآمال أساسا بجمهور عريض ومتنوع يجمع بين نخب همشت لفترة طويلة وأبعدت عن السياسة، وقطاعات واسعة من الرأي العام لم تحصل على أي ثقافة سياسية حديثة، عدا تلك التي أنتجها نظام الحزب الواحد والقائمة على التبعية والتسليم للدولة والأجهزة عموما والاستسلام لسلطة الزعيم المطلق أو الملهم·  ونستطيع أن نقول إن التعلق بالتغيير وليس بناء نموذج الديمقراطية ولا تحقيق شعارالدولة الاسلامية هو المحرك الفعلي أو الرئيسي لمقاومة النظام القائم·

وفي هذه النقطة بالذات تتجلى معضلة التحول الديمقراطي وإشكاليته في الوقت ذاته· إذ ما يبدو واضحا على مستوى الكلام ليس كذلك بالفعل على مستوى الممارسة· فإذا كان هناك إجماع واسع داخل المجتمعات العربية على ضرورة التغيير، فإن معالم مشروع التغيير هذا لا تزال إما غامضة في جزء كبير منها أو متباينة ومتناقضة· وهذا الغموض وذاك التباين والتناقض هما الذان يفسران قوة حركة المعارضة ورفض النظم القائمة من جهة وضعف انجازات هذه الحركة من جهة أخرى· وهما الذان يفسران كذلك الانهيار السريع للتحالفات الاجتماعية المعارضة للنظام أو تفككها ومن وراء ذلك إجهاض مشاريع التغيير التي برزت بقوة في بعض البلدان أو تعثرها وتخبط رجالها في بلدان أخرى· فلا الأهداف المنشودة ولا الدوافع المحركة ولا الآمال المعقودة ولا المناهج والوسائل المستخدمة واحدة عند جميع القوى أو معظمها لتحقيق هذا التغيير·

وعلى جميع الأحوال تبدو مطالب الحرية والمشاركة في السلطة السياسية أقلها سيطرة ووزنا في مشاريع التغيير المطروحة· بل ليس من المؤكد أن الشروط الصعبة النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي ترك فيها نظام السلطة الأحادية المطلقة مجتمعاتنا تسمح بنشوء قوى ديمقراطية معتبرة، وعلى درجة كافية من النضج، أي من الوعي والاتساق والتنظيم والقدرة، تسمح لها بانتزاع المبادرة لتوجيه حركة التغيير السياسي والاجتماعي الراهنة في اتجاه نظام المشاركة السياسية المعممة· وغياب هذا النضج الذي يعبر عن نفسه عبر تشتت الوعي والخلط المستمر بين الديمقراطية والرديكالية العلمانية أو التقدمية أو الحداثة هو الذي سمح للقوى الاسلامية بالوقوف على رأس حركة الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في العقدين الماضيين·

والمقصود أنه إذا كان من المؤكد أن المخرج الوحيد الناجع لأزمة نظام الحزب الواحد وتصفية ما نجم عنه من فساد وتفسخ في البنيات الاجتماعية هو الديمقراطية، إلا أن الانتقال من النظم الشمولية نحو نظم ديمقراطية ليست مسألة تلقائية وليست محسومة سلفا· وهذا من أهم ما تبرزه التجربة الجزائرية· إن الأمر يتعلق بمعركة حقيقية، وبالتالي بقدرة القوى الحاملة بشكل أساسي لمشروع التحول الديمقراطي على اقناع الجمهور الواسع، بما في ذلك النخب المشتتة والطبقات الوسطى، بصلاح هذا الاختيار وصلاح القيم الانسانية التي ينطوي عليها والامكانيات التي يحملها من أجل تجديد المجتمع وإطلاق طاقاته المكبوتة· كما يتعلق بقدرة هذه القوى على صوغ الاستراتيجية الصحيحة وبناء التحالفات الناجحة للتغلب على مقاومة القوى القديمة وتحييد القوى المترددة أو الانتهازية وتوحيد أوسع شرائح المجتمع ذات المصلحة بالتحولات الديمقراطية·

لكن حتى في حال النجاح في التغلب على الصعاب السياسية الكبيرة، وفتح طريق التحول الديمقراطي، التدريجي أو الناجز، تبقى حظوظ استقرار الديمقراطية وتوسع قاعدتها ضعيفة عموما في البلدان الفقيرة والنامية، ومنها البلدان العربية· فالموارد القليلة التي تملكها، أو بالأحرى هدر الموارد أو احتكارها من قبل طبقات طفيلية وتصديرها للخارج، تجعل من الصعب الركون إلى حركة إدماج وطني قوية للفئات المهمشة في النظام المجتمعي· فمن جهة أولى، تدفع قلة الموارد شرائح واسعة من المجتمع إلى الاستسلام لمشاعر الاحباط والخيبة الطويلة، وتغذي لديها نزوعا قويا للخروج الدائم على النظام، ومن جهة ثانية تزيد قلة الموارد هذه من حدة التنافس على احتكار السلطة داخل صفوف النخبة التي تتنازع على التحكم بالقسم الأكبر من الموارد النادرة للاحتفاظ بمواقعها وسيطرتها· فالصراع على السلطة داخل النخب السائدة ذاتها وبين النخب الاجتماعية وبقية الطبقات الشعبية يزداد شدة بقدر تضاؤل الموارد وما يعنيه من محدودية فرص الصعود نحو المراتب العليا الاجتماعية أو البقاء فيها· 

وفي الاشارة إلى هذه العلاقة بين السياسي ومعالجة المشاكل الاجتماعية، نحن نضع أصبعنا في الواقع على عامل أساسي من العوامل التي تعيق تطور التجربة الديمقراطية في البلاد العربية· فليس من الممكن الحفاظ على وتيرة ثابتة لدمقرطة المجتمعات النامية، أي لترسيخ قيم ومواقف وسلوكات ديمقراطية عند الأفراد والجماعات في علاقتها بعضها بالبعض الآخر إلا بالنجاح في ايجاد حلول ناجعة للمشاكل الكبرى غير السياسية، أعني الاقتصادية والاجتماعية· والديمقراطية لا تقدم بذاتها ومن تلقاء ذاتها مثل هذه الحلول ولا تزيد بالضرورة في فرص نجاعتها· إن العمل على توطين القوى والإطارات والرساميل المحلية وجذب الاستثمارات الخارجية وتوجيه الأولى والثانية نحو الاستثمارات المنتجة والارتقاء بالنوعية والانتاجية، كل ذلك لا ينبع تلقائيا من تطبيق نظام الديمقراطية ولا من وجود التعددية السياسية والفكرية ولا من عملية الانتخابات العامة الحرة· وهذا يعني أن النخبة التي تنجح في توطين نظام الديمقراطية في بلداننا هي تلك التي تستطيع أن تقدم، بفضل ما تتمتع به من كفاءة سياسية ولكن أيضا من معايير أخلاقية وصفات إنسانية عالية ومهارات علمية وفنية، معالجات أكثر نجاعة وفعالية للمشاكل القائمة، سواء ما تعلق منها بالتأخر الاقتصادي والبطالة أو بفقدان التنظيم العقلاني والديناميكي للادارة أو بانعدام الثقة وبسيطرة الاتكالية والجبرية على النفسية العامة· 

وليس هناك شك اليوم بأن مثل هذه الحلول تستدعي تكوين الفضاءات والأسواق الاقليمية الواسعة التي تتيح وحدها خلق شروط تراكم رأسمالي وتقني وعلمي كبير وتزيد من فرص جذب الاستثمارات والخبرات الأجنبية· فما كان لبلدان أوربة المذكورة أن تتغلب على النزوع نحو النظم العسكرية والفاشية الديكتاتورية العميق فيها، وأن ترسخ أسس ديمقراطياتها الحديثة لولا ما حققه لها اندماجها في الاتحاد الأوربي من مزايا كبرى اقتصادية وأمنية معا· وفي العالم العربي لا يمكن لأي مشروع تحويل ديمقراطي أن يتمتع بحد أدنى من الاتساق والصدقية، ويضمن بناء قوة اجتماعية قادرة على حمله والدفاع عنه ما لم يرتبط بمشروع تنمية إقتصادية واجتماعية مقنع وقابل للتحقيق· وهو ما يوجب حتما التفكير في أطر للعمل وتثمير الجهد والمبادرة الاستراتيجية والاستثمار الاقتصادي تتجاوز الحدود القطرية أو الوطنية· كما لا يمكن لمثل هذا المشروع أن يثير الحماس العام ويشجع على التضحية وبذل الجهد ما لم يترافق بمشروع لبعث القيم الانسانية وتأكيد احترام الفرد وضمان كرامته الذاتية وتنمية روح الحرية والثقة بالذات والمبادرة والمسؤولية، أي ما لم يقم بإعادة بناء الوعي المدني والتربية العمومية·

 

ومن هنا لا يتعلق التحول الديمقراطي كما يبدو من الملاحظة السطحية بالتغيير السياسي الصرف، ولا يتحقق لمجرد التصويت على قوانين أو توقيع مراسيم تبيح التعددية وتسمح بتنظيم انتخابات حرة· إنه يحتاج إلى إعادة بناء النظام المجتمعي بأكمله، ولا يمكن ضمان وصوله لأهدافه إلا  إذا تحول إلى مشروع متكامل للتحويل الاجتماعي، الاقتصادي والاداري والثقافي معا· وهذا يستدعي أن ينجح التيار الديمقراطي في أن يجعل من التغيير السياسي قاعدة للانطلاق نحو تغيير أشمل، اقتصادي واجتماعي وفكري لا يقل قيمة وأهمية عن التغيير السياسي في الدفع نحو إقامة الديمقراطية وتثبيت أركانها· أما إذا انحصر التغيير الديمقراطي في مستوى البنية السياسية العليا فسوف يبقى تغييرا سطحيا ومهددا بالتراجع والتقهقر في أي أزمة· ولن يكون هناك أي ضمانة كي لا يستخدم نظام التعددية الحزبية والانتخابات الحرة ذاتها من أجل إعادة بناء نظام الاحتكار الشامل على أسس جديدة· وفي العديد من البلاد التي شهدت تحولا في البنية السياسية باتجاه التعددية، أدى إخفاق النظام الجديد في ايجاد مخارج وحلول ناجعة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية إلى إفراغ التعددية من مضمونها، وتحويل المؤسسات البرلمانية والحزبية إلى واجهة شكلية تغطي على سيطرة النخبة المطلقة على القرار الوطني، وتحييدها الأغلبية الاجتماعية سواء بالقوة والقمع والتهميش أو بالخديعة والتلاعب وتزوير إرادة الناخبين أو شراء أصواتهم·

والقصد من ذلك أن مستقبل الديمقراطية في البلدان الفقيرة والنامية التي لم تحل الجزء الأكبر من مهام تحديثها وتحولها الرأسمالي وتنميتها وتأهيلها العلمي والثقافي، معلق بصورة مباشرة بقدرتها على توفير شروط أفضل لمواجهة هذه المهمات والمهمات الجديدة التي تنشؤها الثورة التقنية والعلمية· ولن تنجح في الحصول على الشرعية التي يحتاج إليها استمرارها ورسوخها إلا عندما تظهر مقدرة أكبر من النظم السياسية الأخرى، مهما بدت اليوم كراهة هذه النظم، على تحقيق الأهداف الاجتماعية·  فبعكس ما هو عليه الحال في البلاد الصناعية الكبرى، لا تشكل ممارسة الحريات الفردية ولا الاعتداد بتوفيرها لجميع الأفراد مصدرا كافيا للشرعية وضمان أمن النظام الديمقراطي واستقراره· فالنسبة الكبيرة من سكان هذه البلدان مكونة من المحرومين والمهمشين والمستبعدين فعليا ونظريا من النظام أو من مجالاته الفعالة· وممارسة الحريات الفردية لا تعني لهم بالضرورة شيئا كبيرا مقابل ما يعنيه توفر السكن والتعليم والضمانات الصحية والعمل والغذاء والضروريات· وتحقيقهم قيمهم الرئيسية أو الأولى، وبالتالي حصولهم على حد أدنى من الرضى عن الذات والشعور بالفعالية والانجاز، وبالتالي بالسعادة، لا يتوقف بشكل رئيسي على درجة مشاركتهم في السلطة أو في القرار السياسي، سواء أكان ذلك عن طريق الترشيح لمناصب المسؤولية أو عن طريق المشاركة في الاقتراعات العمومية، بقدر ما يتوقف على الانتقال من وضعية الحرمان والعزلة والاحباط والفقر الروحي والمادي والخوف من المستقبل إلى وضعية إشباع الحاجات والاستفادة من منجزات الحضارة العصرية· إن الاستهلاك هو للأسف العتبة الضرورية لدخول القسم الأكبر من الجمهور الهامشي والمغيب والمزبول إلى فضاء الحياة السياسية والأخلاقية·

لا يعني هذا أن توطين الديمقراطية مستحيل في البلاد الفقيرة والعربية منها بشكل خاص· ولكنه يظهر التحديات الكبيرة التي يواجهها مشروع هذا التوطين· فالخيار الديمقراطي لم يعد اليوم موضوع مناقشة، أو ليس هو موضوع المناقشة· ذلك أنه قد أصبح الآن، لأسباب داخلية ودولية معا، الخبار الوحيد المتاح· ولن يكون هناك أي أمكانية لدى أي نخبة اجتماعية في البلاد العربية وغيرها لتثبيت حكمها، بل لإقامة حكم سياسي في الأعوام القادمة، بالقفز عليه أو السير إلى جانبه· لكن موضوع النقاش يتناول وينبغي أن يتناول طبيعة النظم الديمقراطية القادمة ونوعيتها ودرجة استقرارها وقدرتها على التطور والتكامل· فمن دون مقدرة على مواجهة التحديات التي ذكرنا، لن تكون نتيجة التحول الديمقراطي شيئا آخر سوى إقامة نظم تعددية تتقاسم السلطة فيها نخب محدودة تحتل قنوات السلطة وأجهزة الدولة وتسيطر عليها، وتعيد استخدامها بشكل جماعي لضمان إعادة إنتاج سيطرتها الجماعية على الموارد الوطنية· ونموذج ديمقراطية الأسياد هذا موجود الآن في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وبعض البلدان الأفريقية حيث لا يؤثر وجود التعددية السياسية وضمان حق الانتخاب لجميع أفراد الجماعة الوطنية إطلاقا على طبيعة السياسات الاقتصادية الليبرالية أو النيوليبرالية الاقتدائية ولا على نمط توزيع السلطة السياسية بين النخبة والمجتمع ولا على نمط توزيع الثروة المادية· بل لقد قدمت بعض التجارب الحديثة الدليل على أن التعددية السياسية المترافقة مع سياسات نيوليبرالية مفروضة من الخارج موضوعيا أو إراديا تقود أكثر مما فعلت النظم الشمولية السابقة إلى تعميق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الطبقة العليا المحدودة والضيقة وبين جمهور الشعب الواسع وزيادة الهوة التي تفصل بين القاعدة والقمة، أي إلى تقليص فرص الديمقراطية الاجتماعية· ومن الطبيعي أن تتعرض مثل هذه النظم الديمقراطية الشكلية إلى هزات مستمرة وأن تواجه باستمرار معارضات شعبية قوية وإن كانت مشتتة وفوضوية،  وأن تضطر في سبيل الحفاظ على نفسها وعلى النظام والقانون إلى استخدام مقدار متزايد من القمع والعنف والارهاب والتلاعب والغش· وفي البلدان العربية والاسلامية سوف يبقى مثل هذا النموذج مهددا من دون رحمة بقوى تخريب قوية لمصادر مشروعيته ولأسسه الفكرية وتوازناته السياسية· والشعور بهذا التهديد هو الذي يفسر خوف النخب العربية العديدة التي قبلت بنظام التعددية من السير خطوات أكبر في اتجاه دمقرطة الحياة السياسية ونزوعها العميق إلى التحالف مع بيرقراطية الدولة والتعلق بأذيالها وتكالبها على احتكار مناصب الدولة والسلطة·  وهكذا تجد هذه النظم التعددية نفسها تتقهقر بدل أن تتقدم، وتزيد انطواءها واعتمادها في إعادة إنتاج نفسها على العصبيات القبلية والجهوية والطائفية من خارج النظام، كما تجد نفسها مضطرة لتكريس مبدأ المواطنية المتفاوتة، أي مواطنية السيد صاحب الحقوق جميعا من جهة ومواطنية العبد المجهض الحقوق من جهة ثانية، ولا تنجح في ضمان حد أدنى من استقرارها إلا بتعليق القوانين بذريعة التطبيق المجحف واللادستوري لقانون الطواريء· وبالمقابل، بقدر ما نجحت النظم التعددية في بلدان أوربة الجنوبية المتأخرة، كاسبانيا والبرتغال واليونان، وجزئيا في بقية أوربة الوسطى، في الرد على تحديات التنمية والأمن الجماعي وبناء الأمل والثقة بالمستقبل، رسخت أسسها وقضت على خصومها واحتمالات الردة عليها وصارت إطارا لتكوين إرادة وطنية جماعية حقيقية متسقة ومنسجمة ومتفاهمة، أي أصبحت أداة لبناء المواطنية المعممة والمتساوية·

إن الدفاع عن الديمقراطية لا يكون ولا ينبغي أن يكون على حدود العسف واستخدام القوة الأمنية والتجريد العملي الشامل بتطبيق قانون الطواريء للمواطنين من الحقوق المدنية والسياسية ولكن بالذهاب فيما وراء الديمقراطية الشكلية، ديمقراطية الواجهة البرلمانية، والبحث عن الحلول الناجعة للمشكلات المصيرية، وفي مقدمها مشكلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية·

 

الديمقراطية والاختيارات المجتمعية

في العالم العربي كما هو الحال في الواقع في كل البلاد النامية يتوقف مستقبل الديمقراطية، وبالتالي الاستقرار والتقدم الحثيث والثابت على نوعية الاختيارات التي ستقوم بها النخب الوطنية·

ومن هذه الاختيارات ما هو أخلاقي ثقافي· فهل سيقع الاختيار على منظومات قيم توجه المجتمعات نحو بناء نظام غايته تكوين الفرد الخانع المطيع المعدوم الارادة الذي يعجز عن أي مقاومة وردة فعل والذي ينفذ تلقائيا ومن دون تردد أو تساؤل قرارات بيرقراطية يمليها عليه القائد الملهم أو السلطان أو الحزب الحاكم أو الموظف الاداري، أم ستتجه النخب والمجتمعات نحو منظومات قيم تساهم في خلق الأفراد القادرين على التفاعل مع محيطهم والقبول والاعتراض والأخذ والرفض، أي المواطنين من أصحاب العقل المستقل والإرادة الخاصة والمبادرة الحرة؟ إذا أردنا السير في طريق الاختيار الثاني فالأمر يتطلب بلورة سياسات ثقافية تقوم على تقديس عقل الفرد وحريته وكرامته وعلى احترام ضميره وقراراته الذاتية بالفعل· وهذا يستدعي رفع الوصاية الأخلاقية والفكرية والايديولوجية للسلطة العمومية وللدولة عن المجتمع· ومن النافل القول أن الحظر على الضمير هو الذي يشكل في الوقت الحاضر محور أخلاقيات العالم العربي والاسلامي· ولن يكون من الممكن تجاوز البؤس الأخلاقي الذي نعيش فيه ما لم تصبح حرية الضمير مقدسة سواء أكان ذلك في الميدان السياسي أو في الميدان الديني·

ومن هذه الاختيارات ما يتعلق بسلوكنا وممارساتنا السياسية· لقد تكونت الحياة السياسية في المجتمعات العربية ثمرة لإرثين أساسيين:

الارث الاستعماري الذي يعبر عن نفسه في قيام الدولة الحديثة كجهاز مفصول كليا عن الشعب وعن المجتمع ومعد لتكريس سلطة الأقلية الأجنبية، وهذا هو مضمون بنيته الاستعمارية·

الارث التحريري  الذي يتضمن تماهي السلطة الوطنية مع نخبة تحريرية أو مع حركة وطنية سواء أكانت تلك الحركة خارجة من معركة التحرير بما تملكه من شرعية قيادة الكفاح ضد الاستعمار، كما هو حال جبهة التحرير الجزائرية، أو كانت حركة ثورية أو إصلاحية تقيم شرعيتها على تثوير البنيات الاجتماعية وتحقيق برنامج تغيير جذري للمجتمع، كما كان عليه الحال في الحركة الناصرية وفي جميع الأحزاب العقائدية الثورية الشيوعية والقومية·

وقد حصل أن النخبة الجديدة التي أرادت التغيير أو ادعته قد وجدت من المناسب أكثر لها، كي تحتفظ بسلطة مطلقة تسمح لها بتطبيق برنامج تغيير خاص بها من دون اعتراض أو مصاعب، أن تحتفظ بالعلاقة ذاتها بين الدولة-الجهاز والمجتمع الأجنبي· فكان أسهل لها أن تنتعل الحذاء الاستعماري نفسه من أن تصنع حذاءا على مقاسها· وكانت النتيجة أن الدولة الاستعمارية الأداة أعادت بسرعة إنتاج العلاقة الاستعمارية بين الدولة والمجتمع وذلك في موازاة تحلل منظومة القيم الوطنية أو فساد النخبة الوطنية وتخليها عن قيم التضحية والتضامن والجد والعمل التي ميزت فترة وقوفها في مواجهة الأجنبي·

وهكذا ستظهر حركة مقاومة الدولة الوطنية المحتفظة ببنياتها الاستعمارية في ما يشبه حركة تحرير ثانية، لكن ملتوية· أي كثورة شعبية اتخذت من الاسلام والتجمعات الاسلاموية محورا لها وأداة استقطاب· لكن الجوهر هو التمرد على الدولة الأجنبية،  وكسرها· وكانت نتيجة ذلك كله انفجار الحروب الأهلية في كل مكان·

وتفرض أزمة الدولة شبه الاستعمارية وما بعد الاستعمارية اليوم الاختيار بين نماذج للدولة تجعل المجتمع أجنبيا أو تعامله كأجنبي معاد ومصدر حتمي للاضطراب والقلاقل وعدم الاستقرار، وتعمل من خلال نظم إجرائية وقواعد قانونية وبنيات أمنية تهدف جميعا إلى تحقيق شروط مثالية لردع الأفراد وتسميرهم في مواقعهم وتأمين خضوعهم واستسلامهم، أو نماذج أخرى مختلفة تحيل الدولة والممارسة المركزية إلى تجسيد لإرادة المجتمعات بقواها المختلفة وقنوات للتعبير عن مصالحها وأفكارها وتأمين تفاعلها ومشاركتها في صوغ القرارات التي تتعلق بمصيرها· والاختيار الثاني يعني رفع الوصاية السياسية التي فرضتها النخب الحاكمة على المجتمعات العربية منذ الاستقلال كما يعني الايمان بأن الجماعة قادرة بالمتفاهم والتشاور والتحاور على التوصل إلى حلول لمشاكلها وتجاوز تناقضاتها، وأن الشعب ليس بالضرورة مجموعة من الغوغاء التي تهدد بالحرب والنزاع متى ما أطلقت من إسارها وأرخي سبيلها· والوصول إلى هذا الهدف يتطلب تعديلات جذرية في الدستور وفي طبيعة الإدارة وبنياتها وعلاقتها بالجمهور وبمناهج العمل السياسي عند رجال الحكم والأحزاب معا، كما يتطلب اعترافا بأصالة الحياة السياسية الحرة والتعددية· وهو يعني بناء نظم سياسية تعكس بالفعل إرادة الأغلبية وتنظم صدور السلطة العمومية عن الإرادة الشعبية· وفي هذه الحالة ينبغي الحديث عن تأميم الدولة أو السيطرة عليها، بمعنى منعها من أن تكون أداة بيد فئات خاصة لتحقيق مصالح خاصة، ومن ثم بناء الدولة القانونية أو دولة المواطنية التي تساوي بين المواطنين ليس بالكلام ولكن بالفعل، وتعكس طموحاتهم وتعبر عن امالهم، بدل أن تكون أداة لقمعهم وتمكين السيطرة عليهم كما هي الآن·

ومن الاختيارات المطلوبة اختيارات اقتصادية· فمنذ الاستقلال عاشت المجتمعات العربية، النفطية منها وغير النفطية، على نظام غير منتج يقوم تراكم الثروة فيه إما على الريع العقاري أو على المضاربة التجارية أو على العوائد النفطية· وفي جميع الحالات حصل تجاهل من قبل النخب الحاكمة للتثمير والاستثمار في كل النواحي التي تشكل اليوم أساس التراكم الرأسمالي وعوامل تقدم اقتصاد أي بلد، أعني الاستثمار في التقنية وتأهيل اليد العاملة تأهيلا فنيا قويا، والبحث العلمي· وكانت النتيجة بناء اقتصاد عربي هش وضعيف غير قادر على تلبية حاجات السكان ولا على المنافسة في السوق العالمية بل ولا على الاستفادة من المكاسب التقنية والعلمية الخارجية· وهكذا وجدت المجتمعات العربية، التي تريد ضمان المستقبل والاستقرار والسلام الأهلي، نفسها مكرهة على الاختيار بين اقتصاد غير انتاجي وغير منتج، ريعي، استهلاكي، يشكل اليوم القاعدة الحقيقية للأزمة الاجتماعية الراهنة التي تقسم المجتمع بين مهمشين وفاعلين، بين الدواخل والخوارج، واقتصاد منقسم على نفسه بين قطاع منتج، ديناميكي وفعال مندمج في السوق العالمية وتابع لها وغير خاضع لسيطرة المجتمع والسكان من جهة وقطاع واسع متهافت وراكد ومحروم من الموارد والدينامية من جهة ثانية·

ومن هذه الخيارات خيارات اجتماعية· إن ما نعيشه من استفحال التوترات الدينية والطائفية والعشائرية والجهوية وسيطرة الولاءات المتناقضة هو تعبير عن أزمة هوية المجتمع الوطني الذي أعلنا عن إقامته، وظهر بالتجربة أنه يفتقر إلى الحد الأدنى من الصدقية في طبيعة العلاقات التي يقيمها بين أفراده وجماعاته· ففيما وراء المظاهر المجتمعية الوطنية، ظلت العلاقة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية بين أقلية بيضاء وجماعة ملونة، أو أقلية بيضاء الثقافة وأغلبية من دون اعتراف ولا ثقافة معتبرة، هي العلاقة السائدة في الحياة الاجتماعية العربية· وقد أصبح من الضروري الاختيار بين الابقاء على نموذج المجتمع شبه الاستعماري هذا وبين بناء مجتمع الجماعة الوطنية الفعلي الذي يفترض وجود بنية حقيقية للمساواة والعدالة والتضامن وصعود ثقافة بديلة لثقافة التمييز والاحتقار والاذلال ، أي ثقافة الكرامة والحرية· وهذا يتطلب بناء حراكية تحل معايير الجهد والعمل والنشاط والقدرة محل معايير القيم والمكتسبات الجاهزة والجامدة في تحقيق التمايز الاجتماعي· وهذا يعني في النهاية الاختيار بين نموذج مجتمع مستعمر من قبل نخبة خاصة وذات نمط خاص لانتاجها السياسي والثقافي والاقتصادي، من جهة، ونموذج مجتمع تحكمه قاعدة واحدة للارتقاء الاجتماعي ولانتاج الحاكمين والمحكومين، وللحراك الاجتماعي من جهة ثانية· ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تسوية شروط حياة الأفراد القانونية والثقافية وضمان الفصل بين أصحاب السلطة السياسية العمومية وأصحاب السلطة الاقتصادية، وبالتالي وضع حد للفساد الراهن والمعمم القائم على امتلاك الفئة الحاكمة، شرعيا تقريبا، حق التصرف الشخصي بالموارد العامة· ولن يكون من الممكن الخروج من حلقة صراع العصبيات ما تحت الوطنية، العشائرية والطائفية والجهوية والعائلية، ما لم ننجح في القضاء على هذه البنية العميقة للمجتمعات العربية الراهنة، أعني لهذا الشرخ الذي يوزع الناس إلى صنفين غير متساويين : الداخلين في النظام والخارجين عنه وعليه فيما وراء المظاهر السطحية للانقسام المهني والثقافي·

ومن هذه الاختيارات أخيرا ما يتعلق بالتصورات الجيوسياسة· فمن الواضح أن البلدان العربية ليست مالكة لمصيرها اليوم· ومقاليد أمورها موجودة مشاركة بين أيادي نخبها المنفصلة أو المبتعدة عن المجتمع وأيادي حماتها في الخارج· مما يحرم هذه البلدان من يكون لها ديناميكية داخلية مستقلة نسبيا للتحول السياسي ويجعل مصير هذا التحول مرتبطا بدينامية العلاقة مع الخارج وبالموقع أو المركز الذي يحتله كل قطر عربي في الاستراتيجية الدولية· وهذا يعني، في كثير من الحالات والأوقات، أن الذي يتحكم بالتحول السياسي داخل كل قطر، وبالتالي بالانتقال الديمقراطي أو عدمه، هو حاجات الاستراتيجية الدولية الأطلسية، وأن مصير هذه البلدان معلق إلى حد كبير بغيرها· وهو ما يفسر إلى حد كبير عجزها المرعب عن التفاهم والتعاون والتكامل بالرغم من انتمائها إلى أصول واحدة وقوة دعوتها للوحدة والاتحاد·

والحال أنه في ظروف التحولات العالمية الراهنة وتهافت المنظورات القطرية، حتى في أوربة الصناعية ذاتها، صار لا بد من الاختيار لضمان الأمن والسلام الذين يشكلان أساس الاستقرار وشرطا لا غنى عنه للتقدم الاقتصادي والسياسي والعلمي معا، بين نموذجين: نموذج العودة إلى إحياء عقود الحماية التقليدية، سواء أكان ذلك بتوقيع اتفاقيات أمنية رسمية مع الدول الكبرى، كما فعلت دول الخليج، أو من خلال تفاهمات ضمنية، كما هو عليه الحال في البلاد العربية الأخرى، من جهة، ونموذج التفاهم على تكوين نظام للأمن الجماعي العربي والاقليمي يعتمد الحوار والتعاون والتضامن والبناء على المصالح المشتركة، ويقوم على مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية  وبالتالي يضمن الاستقرار والسلام الدائم من جهة ثانية· إن الهرب من هذا الاختيار لا يعني الحفاظ على الوضع القائم ولكنه يعني القبول بالتدهور المتزايد في هامش الأمن الوطني، وفي سياقه، وكمحاولة لدرء مخاطره، الاضطرار للتوجه شمالا وربما، في المستقبل، نحو اسرائيل بحثا عن التطمينات والحمايات الخارجية· وفي هذه الحالة لن تكون النتيجة تحقيق الأمن والسلام ولكن بالعكس، فتح باب جديد لتنمية الصراعات العربية العربية وفقدان فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الوطنية والاقليمية·