الاسلام وأزمة المجتمعات العربية

2007-11-10::

 

1 -
خلال عقود طويلة لم يشعر المسلمون ولا غيرهم بأن الاسلام يشكل عائقا أمام تقدم المجتمعات العربية والتحاقها بركب الحضارة الحديثة. فقد اعتمدت النهضة الفكرية التي انبعثت في حجر المجتمعات العربية والاسلامية منذ القرن التاسع عشر على إعادة تأويل التراث العربي والاسلامي، واكتشاف قيم الحداثة العقلية والسياسية فيه. وسيطر هذا المنحى على غالبية النخبة العربية حتى عقد الثمانينات من القرن العشرين. فانقسمت النخب السياسية والمثقفة أساسا بين ليبراليين متمسكين بالحريات الفردية وقوميين ينادون بتكوين الأمة، العربية أو القطرية، وماركسيين يؤمنون بالاشتراكية ويعتبرون أن العدالة الاجتماعية، كما عرفتها الفلسفة الحديثة، غاية ال نظم الاجتماعية. ولم يشكل الاسلاميون حتى ذلك الوقت إلا تيارا واحدا من بين تيارات عديدة في الثقافة والسياسة على حد سواء i .
لم يبرز التفكير بأن الاسلام، أو الفهم السا ئد له في المجتمعات الاسلامية، يشكل مصدر أزمة فكرية وسياسية إلا منذ الثمانينات من القرن الماضي مع صعود ماسمي في البلاد العربية بالصحوة الاسلامية، وفي الادبيات الغربية بإعادة أسلمة الحيا ة العامة وسيطرة القيم والتقاليد والمعاني الدينية على ثقافة أجيال كاملة من العرب والمسلمين. وبينما نظر الاسلاميون إلى هذه الصحوة، أو الانتشار المتزايد للقيم الدينية واللاهوتية في ميادين الحيا ة الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية والسياسية، والسعي إلى إعادة تعريف نشاطاتها من منطلق ديني ، على أنها تعبير عن عودة الذات أو استعادة الوعي الأصيل لمجتمعات ضيعت هويتها في سراديب الثقافة الغربية، العلمانية والمادية وربما الملحدة، لم ير فيها أغلب الباحثين، وقطاعات واسعة من الرأي العام في الغرب، إلا ظاهرة شاذة تتعارض مع منطق التطور التاريخي للمجتمعات وانتقالها من النظم الفكرية القديمة المعتمدة اعتمادا قويا على الدين إلى النظم الفكرية الحديثة التي تدور بشكل أساسي حول تحرير الإنسان وتأكيد مركزيته في الكون وتوجيه النظم الاجتماعية عموما في اتجاه الارتقاء بوعيه وبشروط حياته المادية والنفسية. وإذا كانت الصحوة تعني عودة الوعي للمسلمين بأصالة تراثهم وأهميه الرهان عليه لتحق يق النهضة المطلوبة، فإن مفهوم الشذوذ ينقل مباشرة إلى نظرية الأزمة، وهنا أزمة الفكر الاسلامي.
وقد تبلورت، في مواجهة هذه الظاهرة الاسلامية الجديدة، أو المد الاسلامي، نظريتان، الأولى إصلاحية ترى أن عجز الاسلام عن استيعاب الثورة المعرفية التي عرفتها الأديان الأخرى في القرنين الماضيين، وبالتالي عجز المجتمعات الاسلامية عن مواكبة التحولات العلمية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية الحديثة، ناجم عن سيادة المنحى اللاعقلاني على الفكر الديني في الاسلام، وضعف الجهود التي بذلها المثقفون المسلمون لتجديد تفكيرهم الديني. وأن الرد الفعال على هذه الأزمة يحتاج إلى ثورة إصلاحية كتلك التي عرفتها المسيحية البابوية على يدي كالفان ولوثر وغيرهما من المصلحين الدينيين في الغرب. وجوهر هذا الاصلاح كما عبر عنه العديد من المحللين والمفكرين المسلمين الحديثين هو إدخال المناهج العقلية والتاريخية في الاسلام الذي لا تزال تسيطر عليه مناهج الفقهاء والعلماء  التقليدين المقلدين، وتطبيق أساليب النقد التاريخي على الفكر الاسلامي لتخليصه من المنطق الاسطوري الذي لا يزال يحيط به ii .
من هنا بدت أزمة المجتمعات العربية، وما تعيشه من تاخر اقتصادي واستبداد سياسي وفقر في الانتاج العلمي والتقني وضعف في قوى الابداع والابتكار في جميع الميادين، وكانها الانعكاس المباشر لعجز المسلمين عن أو تأخرهم في تجديد فكرهم، وأن مصير المجتمعات الاسلامية مرتبط بتجديد الاسلام، وأن هذا التجديد يستدعي إعادة تأويل النصوص الدينية وتفكيك الغلاف الأسطوروي الذي ألصق بالاسلام عبر التاريخ، وليس له علاقة ضرورية بقيمه ومبادئه واعتقاداته الأصلية. أما الأطروحة الثانية فهي لا تختلف عن الأولى من حيث اعتبار أن المد الاسلامي الجديد الذي عرفته المجتمعات الاسلامية في نهاية القرن العشرين، ولا يزال يشكل ظاهرة  بارزة في حيا ة المسلمين، حتى لو أنه غير أحيانا من مطالبه السياسية وتحول إلى إطار للمحافظة الاجتماعية، يعكس جمود الفكر الديني في الاسلام وافتقاده للتجديد وضعف استيعابه للمفاهيم والقيم الحديثة النابعة من الثورات العلمية والاجتماعية. وإنما تختلف هذه الأطروحة عن سابقتها من حيث اعتبارها أن الاسلام غير قابل للتغيير والتجديد بسبب ما تكوين بنيته العقدية ، تلك البنية التي تفرض على المسلم أن لا يرى العالم في كل تفاصيله ومستوياته من منظور آخر غير منظور الدين، وتقضي على نشوء أي وعي زمني او منطقي أو علمي. فهذه البنية تفرض أن لاشيء يمكن أن يقوم أو يستقيم خارج الايمان والسعي الديني، لا أدب ولا فن ولا حيا ة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. فالزمني والتاريخي والمادي ممهور أبديا بطابع الدين، وهو بالتالي مجرد من هويته الخاصة. فليس عند المسلم، مهما كان ومهما فعل أو طمح إليه، سوى الدين مبدأ ومنتهى لتوجيه حياته الفردية والعامة. وهذه النظرة هي التي ستنتج مفهوما خاصا للعلمانية يقوم على تأكيد تعارض العقيدة الاسلامية مع متطلبات تطوير القيم الزمنية والمادية الذي يعتمد عليهما بناء الدولة والمجتمع العصريين والدخول في الحضارة الحديثة ، وهي الفكرة التي اعتمد عليها هانتنغتون في نظريته حول صدام الحضارات iii .
فأزمة الإسلام في الأطروحة الأولى هي أزمة تاريخية مبعثها تخلف القائمين على أمره عن مسايرة التحولات التاريخية، أما في الأطروحة الثانية الرديكالية فهي أزمة وجودية نابعة من رفض الاسلام نفسه لأي تجديد، وانطوائه على بنية عقدية تمنع أي حداثة إسلامية بمقدار ما تلغي إمكانية الفصل داخل الوعي الاسلامي بين مسائل الدين والسياسة الزمنية أو مسائل العقيدة والمعرفة العلمية والموضوعية.
لكن مهما اختلف الفريق ان في تحليل أزمة الاسلام وطابعها التاريخي أو البنيوي، فهما يشتركان في نشر الاعتقاد بأن واقع الاسلام، هو الذي يفسر، سواء أكان ذلك بسبب أزمته الفكرية النابعة من جموده أو بسبب بنيته العقدية، هو الذي يفسر وضع المجتمعات العربية والاسلامية ، وبشكل أساسي، تخلفها وهامشيتها وعجزها عن الانخراط في حضارة عصرها.


2 -
من هنا ولدت أيضا فكرة الاستثناء العربي والاسلامي التي تعني أن جميع المجتمعات سارت في مسار واحد هو الانتقال من النظم السلطوية والدينية معا نحو النظم الديمقراطية وهيمنة القيم المدنية ما عدا المجتمعات الاسلامية التي بقيت تعيش في عالم ما ق بل الحداثة. وهي تطرح بهذا مشاكل عويصة على الباحث الاجتماعي الذي يجد نفسه عاجزا عن فهم هذه المجتمعات من خلال المناهج ووسائل البحث الكونية السائدة في العلوم الاجتماعية، وبالتالي مضطرا إلى أن يبلور مفاهيم خاصة بها مستمدة من الاسلام ذاته، أو من التجربة التاريخية  لهذه ا لمجتمعات. كما تطرح مشاكل عويصة أيضا على حكومات الدول الغربية التي تدعي أنها تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع المجتمعات الاسلامية بحسب قواعد ومباديء تتنافى مع مبادئها وقواعدها القائمة على قيم الديمقراطية واحترام الحريات الفردية والعلاقات  السلمية.
للرد على هذا التحدي المنهجي استنجد الباحثون الاجتماعيون بالدراسات الاسلامية التقليدية بعد أن حولوها إلى ما يشبه العلم، أو ميدان البحث العلمي الجديد، الذي وضعوا عليه اسم الاسلامولوجيا. وقد زاد الطلب على هذا العلم وأصحابه في العقود الثلاث الأخيرة من قبل الجامعات والحكومات والقادة السياسيين، وصار لكل مؤسسة علمية أو بحثية أو سياسية عالمها الخاص بالاسلاميات أو مستشارها في الشؤون الاسلامية، ممن يعرفون فك رموز علومها الدينية وكتبها الفقهية. وشيئا فشيئا حلت الاسلامولوجيا محل العلوم الاجتماعية الحديثة كأداة لتحليل المجتمعات الاسلامية والنفاذ إلى عمق الديناميكات التي تحركها. فصار التأليف في الاسلام، وترجمة معاني القرآن، ودراسة الحركات الاسلامية هنا وهناك، والبحث في موقف الاسلام كعقيدة ودين من القضايا الدولية الكبرى، قضايا الحرب والسلام والتعاون الدولي والديمقراطية والعلمانية والتنمية الاقتصادية والدولة والسلطة والثقافة والقيم الإنسانية، بديلا للدراسات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية iv .
عمقت هذه المقاربة الثقافوية ذات البعد الواحد، بمقدار ما خفض الباحثون الثقافة نفسها إلى الدين، وجردوها من جميع مضامينها الزمنية، من الشعور بأن أصل الأزمة المجتمعية بأكملها هو الأزمة الدينية، أي تخلف الفكر الديني أو الطبيعة غير القابلة للتطور والتحول و التغير داخل الاسلام كعقيدة ودين. وقد تلقف الرأي العام العالمي وقسم كبير من الرأي العام الاسلامي أيضا هذا التفسير اللاهوتوي للأزمة التاريخية التي تشهدها المجتمعات العربية بشكل خاص، لما يتسم به من تبسيط، فأصبح يعتقد بالفعل أن جميع المشكلات التي تعيشها هذه المجتمعات مرتبطة بالدين. وقد أغلق هذا التفسير الباب أمام أي إمكانية للتساؤل حول أزمة الفكر الديني الاسلامي ذاته، والكشف عن الجذور الاجتماعية والسياسية والتاريخية لها، وعزز الاقتناع بأن الاسلام عقيدة صلدة واحدة، تفرض على جميع من يتبعها تفكيرا واحدا وسلوكا مشتركا يتسمان بعناصر ثابتة، وأن الاختلاف الذي نلحظه بين المسلمين هو خلاف مظهري أو ثانوي وسطحي. ومن أهم هذه العناصر التدين المعمم والشامل، والانطواء على الذات، ورفض الآخر، والنزوع إلى العنف والاعتداء على من هو مختلف في العقيدة والرأي من أصحاب الديانات الأخرى أو الأقليات غير الإسلامية التي تعيش في بلاد المسلمين.
ومن هذه الصورة التي عززها المنهج الثقافوي التبسيطي، والطابع السلبي العميق الذي ألحقته بالاسلام كعقيدة ودين لتفسير بعض ظواهر العنف التي قامت بها بعض الجماعات الاسلامية المتطرفة والأقلوية، ولدت الاسلاموفوبيا، أو الخوف المرضي من الاسلام والمسلمين v .
وفي موازاة هذا التفسير واستجابة له سوف تبنى أيضا استراتيجية الحرب العالمية ضد الارهاب التي تستبطن في الواقع فكرة التمييز القاطع بين محور الخير الذي تمثله الثقافات والأديان العالمية العديدة ومحور الشر الذي يمثله العالم الاسلامي وعلى رأسه العالم العربي. وفي منطقة الشرق الأوسط التي بقيت لعقود طويلة سابقة مسرحا لنزاعات جيوسياسية واقتصادية واجتماعية مديدة ، متعلقة بالسيطرة على النفط وتوطين إسرائيل ومنع نشوء قوة استراتيجية مهددة لأوروبا في جنوب المتوسط، تغير في هذا السياق مضمون الصراعات جميعا. فلم يعد التحرر من الهيمنة الأجنب ية والسعي إلى السيطرة الوطنية على الموارد الأولية وتحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي، وتحسين شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للرد على حاجات النمو السكاني السريع، هو المحرك الرئيسي للنزاعات المحل ية، وإنما صار هذا المحرك كبح جماح الاسلام والحركات الاسلامية، ومنعهما من الوصول إلى السلطة. وقد كان لانتصار الثورة الاسلامية في ا يران عام 1979 دور كبير في تبدل رهانات الصراع وتعزيز الخوف المرضي من الاسلام. فمبناسبة هذه الثورة التي أسقطت نظاما ملكيا من أعتى أنظمة الطغيان العالمية، ظهر الاسلام وكأنه قوة جبارة ، قادرة على تعبئة جياشة للجماهير، حتى في ظروف الحياة الحديثة، وعلى تفجير ثورات شعبية ناجحة وإق امة دولة مستقرة. وبينما عاشت دول المنطقة بأكملها تحت رعب الثورة الاسلامية، وتحول محور اهتمامها إلى محاربة حركاتها الاسلامية وتجفيف ما سمي بينابيع الارهاب، أي قطع جذور الدعوة الاسلاموية وتطهير النصوص مما يمكن أن يساهم في إشعال فتيل المقاومة ضد السلطات المحلية، وجدت الدول الصناعية الغربية التي تعتمد إلى حد كبير على نفط الشرق الأوسط، أن أفضل طريقة للحفاظ على نفوذها ومصالحها الحيوية في البلاد العربية والاسلامية هي التحالف مع النظم الاستبدادية والتفاهم معها ل قطع الطريق على أي تحولات ثورية مما ثلة لما حصل في ايران vi .


3 -
لقد أدخلت هذه التطورات العالم في ما أسميه الحرب الباردة ضد الاسلام، من دون العناية بأي تمييز بين الاسلام كتدين طبيعي والاسلام كثقافة اوالاسلام كمجتمعات أو جماعات لها مشاكل اجتماعية وسياسية ومطالب وتطلعات. ومن المؤكد أن هذه الحرب التي تدور منذ ثلاثة عقود، والتي لم تستبعد أ يضا حروبا ساخنة مفتوحة في مناطق متعددة، ضد حركات اسلامية تتفاوت في القوة، تخوض معارك متفاوتة الأهداف أيضا، وقسم كبير منها يشكل الركيزة الأساسية للمعارضة المن تشرة ضد النظم القائمة المدعومة من الغرب، قد تركت آثارها على عالم الاسلام وعلى الضمير أو الوعي الاسلامي الجمعي بشكل عام. فمن جهة، عمل التفاهم الاستراتيجي بين النخب الحاكمة المحلية والدول الكبرى الغربية التي كانت تحتل موقع الدول الاستعمارية في هذه المنطقة ، وهو التفاهم الذي تحقق على أرضية توحيد الجهد ضد الحركات الاسلامية، على تعميق القطيعة بين النظم السياسية القائمة وشعوبها. وسمح لهذه النظم الاستبدادية، التي كانت قد فقدت شرعية وجودها بعد فشلها في اكثر من ميدان، أن تست قر وتستمر وتتحول إلى نظم طغيان منفلتة تماما من عقال أي دستور أو قانون، تتصرف في البلاد والشعوب كما لو كانت مزارع إقطاعية او ملكيات عبودية خاصة.
ومن جهة ثانية دخل الضمير الاسلامي الجمعي في أزمة طاحنة تجلت في انقسامه على نفسه وتفتته وزوال أي سلطة دينية حقيقية في صفوفه وفقدان معالم التوجه في عالم جديد لا تعادل جاذبية الانخراط فيه سوى العداء والعنف الرمزي والمادي الذي يصدر عنه ضد الاسلام والمسلمين. وهكذا تفجر الوعي الاسلامي وأصبح شظايا تتجه كل منها وجهة مخالفة للأخرى. فإلى جانب الاسلام الجهادي المتطرف الذي يحظى باهتمام الباحثين والسياسيين الغربيين، ليس لما يمثله من تهديد وإنما لتعزيز المقاربة الثقافوية لقضايا المجتمعات الاسلامية، وما  يقدمه من مبررات لاستراتيجية المواجهة العسكرية وإعاقة الديمقراطية في الشرق الأوسط، هناك مروحة واسعة من أطياف التدين السياسي والاجتماعي والتقليدي الفقهي والصوفي لكل منها مصطلحاتها وقيمها ومعايير سلوكها. وكل منها تنكر الأخرى أو تنظر إليها نظرة سلبية.
والسبب الرئيسي في تفجر الضمير الاسلامي هذا وانقسامه على نفسه، وتحويله الاختلاف ات الطبيعية في التأويل والفهم إلى مذاهب متن افية ومتنابذة، هو ما حصل للسطلة الدينية من تفكك وانهيار ساهم فيه تكلسها العقا ئدي والفكري وعجزها عن متابعة حاجات المسلمين المتطورة للانخراط في عالم عصرهم من جهة، واستسلامها لضغط السلطات السياسية وقبولها بان تستخدم كأداة من ضمن أدوات السيطرة والحكم من جهة ثانية. فكانت النتيجة ترك الدين مجالا سائبا تسرح وتمرح فيه جميع القوى ذات المصالح والغايات الخاصة السلبية والايجابية. إن ما حصل في العقود الثلاث الماضية من استثمار مكثف في الدين، بقصد تعزيز نظم الحكم، أو بناء الهوية الجمعية، أو تعزيز الروح الوطنية أو بناء حركات المقاومة لمواجهة السيطرة الاجنبية، أو التغطية على مشاريع النصب المالي والاجتماعي المختلفة المشارب، جاء كله على حساب اتساق الوعي الديني وحيويته وديناميكية تجديده كوعي إنساني، يتجاوز المصالح الفئوية والمؤقتة، السياسية أو الاقتصادية، ويصب في بناء القيم الكونية. لكن من بين جميع هذه الاستثمارات، كان استثمار الدولة واستثمار حركات الاسلام السياسي الأخطر على الضمير الاسلامي الجمعي والأبعد مدى.
إن اكتساح السلطة الدينية من قبل السلطة السياسية وتذريرها في المجتمعات العربية هو السبب في نشوء أزمة مزدوجة ومفتوحة في حجر الاسلام السني لا تزال آثارها البعيدة والمتفجرة تتفاعل حتى اليوم. فقد أدى هذا الإلحاق البسيط والمباشر إلى إفقاد النظام العام التوازن الطبيعي الذي ميزه خلال عقود طويلة سابقة والذي سمح للمجتمع الخاضع لطغيان السلطة السياسية من الاستناد إلى سلطة دينية تقوم بدور رئيسي في تنظيم الحياة الاجتماعية وحل النزاعات وبناء أطر التعاون والتضامن على مستوى الحيا ة اليومية بين الأفراد. وكان ذلك ايذانا بولادة تسلطية سياسية جديدة تتجاوز ما كانت المجتمعات العربية قد عرفته في عهد السلطنة التقل يدية، لا تجد السلطة السياسية التعسفية أمامها أي قوة موازنة أو انتقاد أو اعتراض تملك الحد الأدنى من الشرعية وتستند على قاعدة شعبية كما كا نت تحظى به الهيئة الدينية في النظم التقليدية. وهذا ما يفسر الذيلية الملفتة التي تميز سلوك رجال الدين وأصحاب الولايات الدينية في المجتمعات العربية اليوم. فأمام ما تشهده المجتمعات العربية من فساد إداري وأخلاقي لا سابق له، وما تتعرض له فئات متزايدة من قهر واضطهاد وعسف وانتهاكات صارخة لحقوقها الانسانية والدينية، وما تقترفه النظم الاستثنائية من مجازر جماعية، وما تعاني منه قطاعات واسعة من معاملة لا إنسانية، وما تقترفه فئات متزايدة باسم الاسلام غالبا من جرائم عنف لا يوصف، لا تكاد الهيئة الدينية السنية تحرك ساكنا، أو تعلن موقفا أو تقترح طريقا جديدا. فهي غائبة تماما عن الساحة السياسية ومسلمة بمصائر المجتمعات التي تنتمي إليها لأولي اء الأمر، مهما كا نت سياساتهم واختياراتهم الاستراتيجية. إذا صالحوا صالحت وإذا عادوا عادت، حتى لو تعلق الأمر بفئات داخلية.
أما البعد الثاني الذي لا يقل خطورة لهذه الأزمة، فيتمثل في دخول ال فكر الاسلامي في أزمة تاريخية طويلة تجلى في تكاثر التأويلات والمدارس والمذاهب والتأويلات، وتضاربها من دون ضا بط ولا رقيب. فقد أدى القضاء على أي سلطة دينية مستقلة وإخضاع رجالاتها لاجندة السيطرة السياسية المباشرة، إلى حرمان الاسلام والمسلمين من أي مرجعية شرعية ذات احترام وصدقية. وهذا ما يفسر ما نشهده اليوم مما ينبغي أن نطلق عليه اسم فتنة دينية بالمعني الحقيقي للكلمة، أي تفاقم الاختلافات والتأويلات المتن اقضة، بما فيها الأكثر تبريرا للسلوكات اللاإنسانية، بين المسلمين من دون أن تكون هناك سلطة معنوية ق ادرة من خلال تعبئة الرأي العام والاستناد إلى قوة ضغطه، على التأثير على أصحاب التأويلات المغالية والمتطرفة. وليس هناك أكثر تجسيدا لهذه الفتنة من تزا يد نفوذ الجماعات التكفيرية التي تزرع العنف والدمار بين المسلمين أنفسهم، حتى أصبح القتل والعنف واللجوء إلى القوة، أي كل ما يشكل نقيضا لجوهر الدين ورسالته في تعزيز التواصل بين البشر والتوحيد بينهم، سمة من سمات إسلام مجتمعاتنا حتى وقت قريب، قبل انتصار ثورات الديمقراطية العربية. ومن الطبيعي أن تشجع مثل هذه الفتنة المجتمعات الأخرى على تغذية المخاوف من الاسلام والملسمين وتدفع إلى تعبئة الرأي العام العالمي ضدهم، وتبرر كل أشكال العدوان ومشاريع السيطرة الخارجية عليهم. هكذا يعيش الاسلام اليوم حالة سقوط فكري واستراتيجي معا.
وتعيش مجتمعاته انتقام الدين من الدولة وتمرده على السلطة الدينية الشكلية والكاريكاتورية معا. فلم تعد السلطة السياسية هي المهيمنة على السلطة الدينية مع مراعاة استقلالها النسبي والحفاظ على صدقيتها، والتحالف معها، كما كان عليه الحال في النظام القديم ، وإنما أصبحت السلطة الوحيدة التي لا تقبل بأي سلطة حية وفاعلة إلى جان بها، حتى لو كانت سلطة أصحاب الاختصاص وأرباب الحرف، كما يدل على ذلك إخضاعها للنقابات المهنية وتفريغها من محتواها وسحقها لأي هامش استقلال يتيح لها التفاعل مع مشاكل أعضائها والحصول على ثقتهم وتأييدهم. السلطة السياسية في الدولة الحديثة العربية تريد أن تكون استثنائية، متحررة من أي قيد وقادرة على فعل أي شيء، أي تعسفية لا قانون لها ولا منطق ولا انتظام. فالهمجية والجنون سمتا القوة الأخرق التي لا تقاوم ولا مجال لضبط سلوكها أو التواصل معها. لقد أحدث الاستثمار المفرط للدين في السياسة والصراع السياسي شرخا عميقا في الحياة العمومية، واختلالا في موازين القوى بين الدول والمجتمعات، يتمثل في اكتساح الدولة والسياسة عموما للسلطة الدينية وحرمانها مما تبقى لها من هامش استقلالية اقتصادية ومدنية. فلم يبق هناك في الواقع أي سلطة دينية فعلية تتجاوز النفوذ الشخصي المحتمل لرجال الدين من حيث هم أئمة أو كتاب أو قادة سياسيين. ومن أجل إلحاق السلطة الدينية بها، عمدت الدولة إلى تأميم المرافق والاوقاف الدينية وإخضاعها مباشرة للسلطة التنف يذية، وربطت مصير رجال الدين ورزقهم بها بتحويلهم جميعا، كبارا وصغارا، إلى موظفين. فصاروا في خدمة الدولة وتحت إشرافها وأتباعا لها، ليس في ما يتعلق بمسائل الدولة والسياسة فحسب، ولكن أكثر من ذلك في مسا ئل الدين نفسه. فتفككت السلطة الدينية، من حيث هي قوة منظمة تجمع بين رجال الدين والقائمين عليه وتوحد رؤيتهم ونظرتهم لشؤونه، وتجعل لهم إرادة مشتركة في العمل لتحقيق أهداف واحدة . كما فقدت هيبتها ونفوذها في المجتمع. وهذا ما يسم اليوم الاسلام السني ويميزه عن الاسلام الشيعي الذي نجح في أن يحتفظ لنفسه بسلطة دينية مستقلة عن الدولة خلال حقبة طويلة، حتى لو لم تكن سلطة بابوية تدعي الاشراف على جميع سلطات المجتمع الأخرى.
إن عودة الدعوة للدولة الدينية تجد جذورها العميقة في هذا التحول الذي طرأ على الدولة ذاتها، وحولها من دولة مواطنة، أو بالأحرى من مشروع دولة مواطنين إلى دولة طائفية، أي لا تمثل سوى الطائفة من الناس المسيطرين عليها والمالكين لسلطتها، بشكل يكاد يصبح ملكية وراثية. وفي مواجهة هذه الدولة التي تقف ضد المجتمع ولا تضمن وجودها واستمرارها إلا من خلال تفكيك عراه وقطع الطريق على تكوين أي إرادة جامعة ووعي مدني فيه، أي أمة بالمعنى السياسي للكلمة، ومن الفصل الذي حدث بين الدولة والأمة، سوف تولد النزعة إلى استعادة النموذج الاسلامي أو إعادة بنائه، بوصفه المثال لانسجام الجماعة مع الدولة واتساق عملهما. فصارت الدولة الاسلامية، تعبيرا عن الآمل في الخلاص من دولة القهر التي تمثلها السلطة القائمة التي فقدت أي مصدر للصدقية والشرعية. لا يغير من ذلك أن هذا الدمج بين مفهوم الدولة والجماعة، ومطابقة الأول على الثاني، مما يشكل جوهر الدعوة الإسلاموية الجديدة، يناقض ما كان سائدا في التجربة الاسلامية العربية التقل يدية من تمييز واضح بين السلطات. فليس الوفاء للتراث هو محرك هذه الدعوة الاسلاموية الجديدة ولا مرشدها، وإنما الرد على القطيعة الحاصلة بالفعل بين الدولة، وهي اليوم مصدر القانون والسياسة والثقافة والوظيفة والثروة، والجماعة. ولا يهم بعد ذلك معرفة حقيقة  تعاليم الإسلام في هذا المجال أو حقيقة الممارسة التاريخية للمسلمين. وليس من الصعب إعادة تأويل الاسلام بما يحقق هذا التماهي بين الدولة والجماعة، ويلغي القطيعة القائمة والمدمرة معا.
ففي حلم استعادة الاتساق والانسجام بين الدولة والجماعة، والسلطة والثقافة، ينمو العداء لفكرة العلمانية، التي أصبحت تجسد أ يضا في ذهن قطاعات واسعة من الراي العام العربي والاسلامي هذه القطيعة وتفسرها. وتبدو علمانية الدولة وكأنها العطب الرئيسي فيها، لا سياساتها ولا اختيارات القائمين عليها ومصالحهم. بل إن الكثير ممن ينادون بالدولة الاسلامية لا يربطون بين مطال بتهم هذه ومسألة الفصل بين السلطات بل وتحقيق الديمقراطية. ومنهم من يؤمن فعلا بأن تديين الدولة أو بالأحرى أسلمتها هو السبيل الوحيد لدمقرطتها وتوسيع دائرة المشاركة فيها. إذ ليس المهم لإقامة الديمقراطية كما يرونها احترام الحريات الفردية أو التعددية الفكرية وتطبيق قوانين واحدة وعادلة تضمن المساوا ة بين الأفراد بصرف النظر عن عقائدهم، وإنما احترام السلطة لرأي الأغلبية، وبقاء الدولة تحت سيطرتها، أي انتزاعها من يد الأقلية التي تستخدمها لتحقيق مصالحها الخاصة، سواء أكانت أقلية سياسية أو إتنية أو طائفية. وهذا هو اصل الصراع على هوية الدولة، أي نشوء قضية اسمها هوية الدولة.
هكذا، بقدر ما أصبحت الدولة خارجية، كما يتجلى ذلك في نمط اشتغالها كتعبير عن مصالح وعقائد وثقافة وقيم الأقلية الحاكمة، وامتداد للمنظومة الدولية، وأحيانا أداة في يد الدولة الاستعمارية، أصبح تأهيلها وتدجينها والتحكم بها مرتبطا بتأهيلها أو توطينها في البيئة الثقافية والدينية المحلية. وينتج هذا التوحيد بين الدولة والجماعة، والدين والسياسة، والتراث والحداثة، مفهوما جديدا للنظام السياسي والمدني، وأمثولة مثالية توجه الفكر والممارسة معا وتتحكم بعلاقة الأفراد مع السلطة والمجتمع والعالم معا، وتتحكم بسلوكهم بصورة طبيعية. فبهذا التوحيد فقدت الدولة في المفهوم أو شبه المفهوم السا ئد في الوعي، وظا ئفها الطبيعية، السياسية والإدارية التاريخية، وأصبحت رديف للهوية. الدولة هي خلاصة الجماعة وروحها ومحركها. ولا يمكن أن تكون دولة الجماعة إلا بقدر ما تعكس قيمها وفكرها ومشاعرها وإحساسها وألوانها ومظاهرها. في هذا المنظور بدت علمنة الدولة وكأنها تعني انتزاعها من الجماعة لصالح قوى خارجية،محلية أو أجنبية، وتهديد هويتها واستمرارها وتعريضها للضياع والفوضى وانعدام الشخصية.


4 -
لا تشكل السلطة الدينية في تاريخ الإسلام سوى واحدة من بين سلطات عديدة اجتماعية، اختصاصية أو مهنية، في حين أن السلطان، كان في الاسلام من نصيب الدولة البيرقراطية أو الامبرطورية. فهي مركز سلطة عامة ليست كباقي السلطات ولا تخضع لأي منها، ولا يمكن تجاوزها أو الخروج عنها، وهي المشرفة على حسن سير جميع السلطات الأخرى والمصادقة على سلوكها. وقد كان لنمط علاقة الدولة والدين في التجربة التاريخية الاسلامية العربية أثر كبير على تطور أنماط الممارسة الدينية والسياسية معا. فلأن الدولة كانت منذ بداية تكوين
الاجتماع السياسي الاسلامي، أي السلطنة، هي مركز السيادة، وذات الكلمة الأخيرة في تقرير شؤون الجماعة، لم يعد من الممكن للدين أن يشكل سلطة سيادية، بل مركزية. وهذا ما حرم الدين أو الهيئة الدينية من إمكانية بناء سلطة دينية مستقلة وسيدة منافسة لسلطة الملوك، وفرض عليها بالضرورة التكيف مع السلطان السياسي، وبالتالي تبني مسلك مختلف تماما عن مسلك النخبة الدينية المسيحية. وهذا ما يفسر غياب السلطة المركزية الدينية، بما تعنيه من وجود هيئة مركزية تضم جميع العامل ين في الدين وتشرف على تأهيلهم وتنظيم شؤونهم وتجعل منهم قوة واحدة منظمة حسب تراتبية واضحة، وتوزيع للأدوار والصلاحي ات الدينية كما هو الحال في الكنيسة البابوية.
وبفقدانها مثل هذه السلطة المركزية، واضطرارها إلى الخضوع لأجندة وحسابات وتأثيرات سياسية وغير سياسية خارجة عن دا ئرة نفوذها وقرارها، وجدت الهيئة الدينية الإسلامية نفسها، من دون أن تدري في حالة من التعددية والتنوع والاعتراف بالاختلاف، المتمثل في وجود مذاهب متعددة، شرعية. وأصبح من المستحيل والحال كذلك تصور ولادة أي نزوع قوي في الإسلام إلى إقامة سلطة دينية مركزية ومعصومة تفرض إشرافها ووصايتها على جميع الممارسات والنشاطات غير الدينية، بما فيها السياسة، وتحتكر شرعية المصادقة على ايمان الأفراد وخلاصهم، وتقرر في المادة الدينية ما ينتمي لعالم الفكر المسموح به والمقبول ولعالم الهرطقة وال تجديف والزندقة vii .
فبقدر ما منع وجود دولة امبرطورية أو سلطانية قوية، هي وريثة تقاليد الإمبرطورية الساسانية التي حلت محلها، رجال الدين، أو المتعاملين بتراث الدين ورصيده في المجتمع، من إمكانية تكوين كنيسة، أي هيئة مركزية لإدارة الشؤون الدينية وشؤونهم الخاصة بها، ساهم أيضا في تحديد نطاق عمل الدين ورجاله، وعزز استقلال ا لسلطة السياسية وأولويتها على أي سلطة دينية يمكن أن تنزع أو تحلم بالنزوع إلى فرض وصايتها على السلطان. وهذا ما سيدفع قسما من رجال الدين إلى الاستناد في معارضتهم السلطة، او في سبيل التأثير عل يها، إلى الاندماج بحياة الشعب والارتباط به. كما سيدفع رجال السلطة والحكم إلى الرهان بشكل أكبر على العصب ية الطبيعية، أي على القوة العسكرية، لا على الروح الدينية، في الصعود إلى السلطة. فصارت العصبية هي القانون الذي يحكم عملية التداول على السلطة وتجديد دورتها في المجتمعات العربية الوسيطية، كما وصف ذلك بدقة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة viii .

ونجم عن ذلك بناء سلطة سياسية حرة من أي قيد ديني، مطلقة ومنيعة على أي إشراف مدني وأهلي، خاضعة لإرادة السلطان الفرد ومزاجه، ورهينة في علاقتها بالقيم الدينية بتدينه او زندقته. وهكذا اقتصر دور علماء الدين في السياسة، في نموذج الدولة السلطانية، على النصيحة، فصار الدعاء للسلطان بالتوفيق والتأييد، وإسداء النصح له والمشورة لحاشيته، أو الدعاء عليه، هو المساهمة الرئيسية لعلماء الدين في بناء النظام السياسي والمشاركة فيه. كانت نتائج هذه العلاقة الخاصة التي نشأت بين الدولة والدين في التاريخ الاجتماعي للاسلام، والتي تختلف كثيرا عن تلك التي عرفتها المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطي بين الملكية والبابوية، واضحة في الميدانين السياسي والديني معا. فعلى مستوى الدولة، حرر غياب الكنيسة، أو التنظيم المركزي للسلطة الدينية، في التجربة الدينية والسياسية للاسلام، السلطان من الضغط الديني التي كان يمارسه البابا عليه، بل عمل على العكس من ذلك على تمكين السلطة السياسية من توظيف الدين في استراتيجية
السلطة بقدر ما أتاح لها التلاعب برجال الدين واستغلال اختلافا تهم ال فكرية وحساسياتهم الشخصية لخدمة أغراضها . وعلى المستوى الديني ظهر الانقسام في التجربة الدينية بين تيار الفقه الذي يهدف إلى تلبية الطلب السياسي على التشريعات اللازمة لتسيير الدولة والمجتمع، وتيار التصوف الذوقي الذي يسعى إلى ردم الهوة بين المؤمن وربه وتعميق سبل التواصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب. وفي مناخ التعددية الدينية أصبح الاجتهاد العقلي سمة أساسية للتفكير الديني، بل مطلبا وقيمة في حد ذاته.
فلم يقبل المسلمون بمبدأ التعدد في التأويلات الدينية والمذاهب الفقهية فحسب ولكنهم قطعوا الطريق على محاولة أي رجل دين أن ينصب نفسه حكما على ايمان المسلمين أو فرض رأيه عليهم أو الارتقاء إلى مرتبة الزعامة الدينية المعصومة. في المقابل، ستولد النزعة الكنسية والبابوية، ولو في صورة مخففة عن الكاثولويكية، عبر حركات المعارضة السياسية التي اتخذت شكلا دينيا. ومثالها الحركات التي ستتخذ افي التاريخ الاسلامي اسم الشيعة وفرقها. فجميع هذه الفرق التي أعادت الربط بشكل أكثر بين الدين والدولة وألحقت السلطة السياسية والقيادة  المدنية بالإمامة ذات المهمة الدينية، نزعت إلى تكوين هيئة دينية مركزية، ذات تراتبية واضحة في السلطة، كانت هي نفسها مرتكزا لبناء دول أو امبرطوريات جديدة على هامش السلطنة الأساسية، وفي حواشيها تميزت بطابعها العقا ئدي الواضح. وتقدم الجمهورية الاسلامية الايرانية اليوم مثالا على المسائل التي تثيرها الرؤية الشيعية للعلاقة بين الدولة والدين، والمشاكل التي يطرحها تحرير الدولة من سيطرة الكنيسة أو رجال الدين. وسيكون من الضروري متابعة هذه التجربة ال فريدة أيضا، حيث توجد عناصر عملية ونظرية قوية لإعادة بناء الدولة التيوقراطية لكن في بيئة ثقافية وجيوسياسية واجتماعية بعيدة جدا عن أجواء القرون الوسطى ومعادية في العمق لمناخاتها الفكرية والروحية ولنزوعاتها الأخروية.
هذا هو الموروث النظري والعملي الذي انطلقت منه المجتمعات العربية للرد على حاجات الاندراج في الحداثة واستيعاب قيمها وقواعد عملها، ومن ضمنها العلمانية. ومن الواضح أن مثل هذا الإرث لا يمكن أن يكون تحديا للعلمانية، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية. فقد اعتاد الرأي العام أن يرى في الدولة والسلطان مصدر الشرعية، كما أن غياب سلطة مركزية لرجال الدين يحرمهم من أي فرصة لتكوين قوة قادرة على مزاحمة الدولة في احتلال موقع المسؤولية السياسية. ولهذا السبب لم تثر معركة الحداثة والتحديث صراعا بين هيئة دينية وهيئة سياسية،  بقدر ما أثارت نزاعا عنيفا داخل الدولة ذاتها بين التي ارات الإصلاحية المتأثرة بأفكار التنوير والحرية والوطنية، والتيارات  المحافظة التي ضمت إلى جانب فئة رجال الدين الأكثر رجعية قوى الانكشارية العسكرية وأصحاب المصالح الاجتماعية المكرسة. كما أثارت نزاعا داخل صفوف المثقفين ورجال الدين المصلحين أيضا، أي داخل الوسط الثقافي بين الليبراليين الذين دافعوا عن العلم، واعتبروه مثالا للمعرفة العقلية ونموذجا لها، وزملائهم من الإسلامي ين المصلحين الذين كانوا يعتقدون أن للدين مكانة أساسية في تربية المجتمعات وتأهيلها، وأن أي مساس به يهدد وجود الجماعة وأخلاقها. وهذا هو في الحقيقة منطلق المصلحين الاسلاميين. فبسبب أهمية الدين وتأثيره في المجتمع ينبغي العمل على إصلاح الوعي الديني ب القطع مع التأويلات القديمة الفاسدة واستئناف العمل في تأويل جديد، عقلاني وإنساني ix .
وقد اعتقد المسلمون تحت تأثير الحركة الاصلاحية أن دينهم هو الأقرب إلى أطروحة العلمانية طالما أنه قضى مسبقا، كما سيكتب محمد عبده، على فكرة السلطة الدينية من جذورها ولم يقبل بتكريس أي هيئة كهنوتية. وهذا ما تشير إليه أيضا طروحات عبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين ومن قبل جمال الدين الأفغاني وغيرهم من المصلحين الذين لم يكن هجومهم العنيف على سلطة رجال الدين وعقلية التقليد والخرافة والجهل هجوما على الدين، وإنما بالعكس دفاعا عنه، وسعيا وراء تأويل عقلاني يحرر أذهان مواطنيهم من القيود التي فرضت عليهم باسم الدين، ويحرر الدين نفسه من الاستخدامات المغرضة له والتفسيرات المضرة بحقيقته ونقائه x .
لهذا صرف الاصلاحيون المسلمون النظر عن النقاش في مسألة العلمانية واعتبروا أنها مشمولة في دعوتهم الإصلاحية ولا علاقة لها بالنزاع الن اشيء بين أنصار العلم الطبيعي وأصحاب الحمية الدينية. أما المسلم العادي فلم تطرح عليه المسألة أصلا، طالما لم يشعر بأن هناك نزاعا لا يجبر بين الدولة والدين، أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، بل كان النزاع يدور دائما داخل أوساط السلطة السياسية وأوساط رجال الدين بين فريق المصلحين وفريق المحافظين.


5 -
لن تدخل إشكالية العلمانية في النقاشات العربية والاسلامية إلا بموازاة ولادة المشاريع القومية التي ارتبطت بشكل رئيسي بإعادة تعريف الهوية الثقافية والسياسية، في إطار عملية التحديث الإرادي التي تبنتها نخب ثورية أو شبه سورية تحديثية لم تجد صعوبة في السيطرة على الحركات الوطنية بعد أن انهارت، الواحدة تلو الأخرى، حركات المقاومة الاسلامية التقليدية للقرن التاسع عشر. وهذا ما يفسر التباين الكبير في الموقف من العلمانية ووضعيتها حسب الاستراتيجيات القومية وما قبل القومية التي ستتبعها المجتمعات المختلفة. فمن الواضح أن الانتماء لعالم الاسلام وثقافته السياسية والدينية لم ينتج أي نموذج مشترك في هذا المجال. فليس هناك أي علاقة بين السياسات العلمانية الرديكالية التي اتبعتها الحركة الوطنية التركية التي قادها كمال أتاتورك مثلا، والسياسات العلمانية المعتدلة التي ميزت حركة القومية العربية التي انتشرت في البلاد العربية بعد الحرب العالمية الثانية. فما حدث في تركيا الكمالية لا يختلف في المضمون عما حدث في فرنسا قبل قرن من ذلك، لكن على شكل ثورة شعبية كبرى لا على صورة انقلاب عسكري لنخبة وطنية. ففي الحالتين كان التطرف في القضاء على السلطة الدينية وإزالة آثارها جزءا من استراتيجية القضاء على جذور السلطة السياسية الارستقراطية الملكية أو الامبرطورية التي كا نت تستند بشكل قوي على السلطة الدي نية وتتحالف معها. وقد ذهبت الكمالية بعيدا في مشروعها لتغيير الهوية التركية لقطع الطريق على أي احتمال لعودة السلطة الملكية لدرجة تحولت فيه العلمنة بالفعل إلى نزع للشخصية الثقافية وتغريب بالمعنى الحرفي للكلمة لمظاهرها وشاراتها. وهو ما عبر عنه إحلال الأبجدية اللاتينية محل الأبجدية العربية.
وبالعكس بدت القومية العربية التي لم تضع على أجندتها ، كما حصل في تركيا الكمالية، قلب سلطة الخلافة الصورية القديمة واستبدالها بسلطة جمهورية حديثة وإنما إحياء الشخصية القومية التي كادت تنمحي تحت سيطرة الدولة العثمانية، وتعبئة الوطنية الناشئة في مواجهة السيطرة الغربية الصاعدة. فوجدت في الاستحواذ على تراث الاسلام ودمجه في منطق القومية الحديثة وإعادة تفسيره بما يتفق مع الحاجات القومية وسيلة رئيسية لتعزيز مكانتها وتوسيع دائرة نفوذها والاعداد لبناء دولة قومية منشودة. ولم يمنع انتماء بعض قادتها للدين المسيحي، مثل قسطنطين زريق وميشيل عفلق، من اكتشاف أهمية الرهان على تراث الاسلام في سبيل تطوير حركة القومية الحديثة وتوسيع قاعدة شعبيتها ونفوذها xi .
ونجد مثالا آخر لا يقل وضوحا لهذا الارتباط للعلمانية باستراتيجية الحركات القومية والوطنية الحديثة في شبه القارة الهندية. فمسلمو الهند، الذين كان تعدادهم قبل انفصال الباكستان يزيد عن تعداد المسلمين العرب جميعا، لم يطرحواسابقا، والذين بقوا داخل الدولة الهدنية لا يطرحون اليوم، أي أسئلة أو تساؤلات على الطابع العلماني للدولة الاتحادية الهندية. وبالمقابل تشكل النزعة الأصولية المتطرفة التهديد الرئيسي للدولة شبه العلمانية في الباكستان، بالرغم من غياب أي تهديد للهوية الاسلامية الغالبة على هذا البلد.
وما يقال عن عالم الاسلام ينطبق بالقدر نفسه على العالم العربي. فبالرغم من وشائج القربي الثقافية القوية التي تربط بين شعوبه، وتشابه شروط التحول ال تاريخية التي شهدها في طريق الاندراج في الحداثة، لا يمكن الحديث هنا أيضا عن تجربة واحدة. فقد طورت بلدان المشرق العربي التي عرفت الحداثة أو دخلت في مناخها عبر بوابة ما سمي بعصر النهضة العربية، علاقة بالعصرنة والعلمانية مختلفة نسبيا عنها في بلدان المغرب العربي التي دخلت الحداثة عبر بوابة السيطرة الاستعمارية قبل أن تتاح لها فرصة التمثل الذاتي والطوعي للكثير من مبادئها كما فعلت المجتمعات التي عاشت لحظة ال نهضة، بما تميزت به من حرية في الاختيار وثقة بالذات وبالمستقبل. وهذه التجارب نفسها مختلفة أيضا عما حصل في بلدان الخليج العربي التي لم تندرج جديا في مسار الحداثة إلا مع توسع الاقتصاد النفطي وبموازاة تنامي العوائد الناجمة عنه وتحكم النخب المحلية والشركات الكبرى بها. ومن الممكن تقصي أثر هذا الاختلاف الناجم عن اختلاف سياق الاندراج، الطوعي أو المفروض، في الحداثة عبر تمثل الهوية وصورتها، بناءا على العلاقة بين الثقافة المحلية والثقافة العالمية. كما يمكن تقصي أثره عبر نمط الممارسة السياسية. هكذا غلب عنصر الانتماء للثقافة الزمنية في عملية إعادة تشكيل الهوية الجمعية السياسية على عنصر الانتماء للدين في بلدان المشرق العربي، سواء كانت مرجعية هذه الثقافة عربية أو وطنية محلية. فظهرت العروبة بوصفها السمة الطاغية على تمثل الهوية السياسية في جميع بلدان المشرق التي شهدت النهضة الثقافية وشاركت فيها بنشاط، مع تنويعات مصرية ولبنانية وسورية وعراقية. أما في الجزائر فقد بقيت تصورات الهوية السياسية شديدة الارتباط بالثقافة الدينية. ولهذا ما كان من الممكن أن تتقدم الحداثة من دون أن تثير أزمة هوية حادة، وتطرح مسألة الاختيار بين ثقافتين بقيتا تتعايشان من دون أن تختلط واحدتهما كثيرا بالأخرى. وهذه الازدواجية الثقافية، اللغوية والفكرية والنفسية، التي شكلت سياق الحداثة الجزائرية هي التي تفسر التصدع الذي شهده المجتمع السياسي، في مواجهة الأزمة، على قاعدة الانتماءات الثقافية، واستمرار الازدواجية الثقافية واللغوية كفاصل حاسم ومحدد للمواقف والاختيارات السياسية الرئيسية، ومن ثم كعقبة في طريق تكوين وطنية محلية ناضجة ومستقرة. وهو ما يشكل أكبر تحد امام تطور مشروع الحداثة في العمق، وتثوير البني الروحية والفكرية وتجديدها.
أما في المجتمعات الخليجية فقد عمل وجود عوائد نفطية ريعية وفيرة على تمثل الحداثة بوصفها بضاعة أجنبية مستوردة، إستهلاكية لا دخل لها في وعي أغلب الأفراد وثقافتهم الاجتماعية واعتقاداتهم. وبقدر ما تمثلت الحداثة كسعلة، حتى لو كانت سلعة مرغوبة، أصبحت الثقافة المحلية الوعاء الوحيد للهوية، وصار الحفاظ عليها في وجه الاستلاب السلعي والاستهلاكي يتطلب تجذير التوجهات السلفية والتشديد على ما يؤكد الخصوصية. هكذا ظهرت إزدواجية من نوع جديد تتعلق بالسلوك والممارسة على مستوى المجتمع والدولة معا، ليست ازدواجية لغوية أو ثقافية، كما في المغرب العربي، وإنما إزدواجية في الشخصية، تتجسد في التعامل حسب السياقات والظرف بمعايير وقيم متباينة ومتناقضة أحيانا، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع العالم. وهو ما يبدو للمراقب الخارجي تعبيرا عن ازدواجية نفسية وأخلاقية، يشكل عقبة كأداء أمام تقدم أي مشروع حداثة ناجعة وحية تتوسل الصدق والشف افية. ومن الطبيعي أن لا تجد العلمانية هن ، خارج نطاق اعتقاد أقلية من الأفراد المتحررين والمتمردين على النظام، أي أمل لها في التحول إلى ممارسة اجتماعية، في ظرف يتعايش فيه داخل الفرد ذاته نمطين متباينين من التفكير والنظر والسلوك، وتتطور فيه الأصولية الأكثر اقدائية وجمودا جنبا إلى جنب مع آخر صرعات الحداثة الاستهلاكية وما بعد الحداثة. في هذه الحالة لا يعمل التحديث، المعتمد بشكل رئيسي على توظيف العوائد الريعية المستفادة من استثمار النفط من قبل الشركات الأجنبية، على تكريس النماذج القديمة للحكم والايديولوجية الاجتماعية فحسب، ولكنه يدفع، أكثر من ذلك، إلى تحجيرها، محولا الهويات المستعادة إلى ما يشبه المستحاثات الانتروبولوجية. هكذا يتعايش على الأرض نفسها أكثر نظم الاقتصاد الاستهلاكي الحديث ازدهارا وأكثر أشكال التبعية الشخصية والقبلية القرسطوية انحطاطا، على مستوى العلاقات الاجتماعية. ومن الممكن الكشف عن مسارات مختلفة للعلمنة أيضا داخل أي مجموعة من المجموعات العربية الثلاث المذكورة. فمصير العلمنة ليس منفصلا عن ظروف نشوء الدولة ومسار تكوين السلطة العمومية وبناء شرعيتها، وعن مصيرها. فلا تتخذ العلاقة بالدين، وتعيين موقعه ودوره في الحياة السياسية والمدنية عموما، وبالتالي بالعقل وتراثه الجديد، كمنبع للمعرفة الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، أشكالا وصورا واحدة في جميع البلدان. بمعنى آخر لا يمكن فصل الموقع الذي يحتله الدين والدور لذي يقوم به هنا وهناك عن قواعد الصراع السياسي المتبعة، والاستراتيجيات التي تبلورها القوى الاجتماعية المتصارعة، والتي يشكل الدين، استغلالا أو استبعادا، أحد أهم عناصرها،وذلك حسب ما يمثله في تصورات الهوية السياسية وتمثلاتها. وفي العقود الثلاث الماضية لم ي أت الاستثمار الأكبر في ال فكرة الدينية من قبل الفئات الاجتماعية الغنية والمسيطرة في سبيل المحافظة على الأوضاع القا ئمة وحمايتها، وإنما جاء بالعكس من لدن النخب المهمشة في النظام، وما استطاعت أن تلحقه بها من قوى شعبية مفقرة ومستبعدة، في سبيل قلب النظام القائم واستبداله بنظام أقل قسوة وتهميشا وقهرا. وليست "المتاجرة" بالدين، على الدرجة ذاتها من الأهمية بالنسبة للنظم القائمة أو للقوى السياسية المتنازعة على السلطة والموارد، وليس لها المسالك والأوزان والمعاني ذاتها أيضا لدى مختلف الأوساط الاجتماعية. فهي أكثر أهمية في تلك النظم التي تلغي حقل السياسة، وتفرض على المجتمعات البحث عن ساحات أخرى للتعبير عن نزاعاتها الداخلية وترجمتها إلى لغة شرعية أو قانونية. وهي أقرب إلى أن تتخذ شكل الاستثمارات الطائفية لدى النخب الحاكمة والأهلية التي تفتقر للقواعد الاجتماعية العامة أو للثقافة السياسية الحديثة، والتي تجد نفسها في مازق، بسبب إغلاق السلطة أمامها أبواب المفاوضات والحلول السياسية. وبينما يتمتع الرهان على السلفية بجاذبية أكبر عند الأوساط الاجتماعية المحافظة التقليدية، تشد الجهادية المعاصرة بشكل أكبر قوى الشباب الضائعة الباحثة عن وسيلة تظهر تمردها على النظام وخروجها منه وعليه.
وبالمثل، ليس هناك علاقة بين الدين والسياسية منفصلة عن مصير وتحولات النظم المجتمعية. وبالتي لا توجد حتى داخل المجتمع نفسه علاقة ثابتة ونهائية. فكما تتفاوت الحاجة إلى استخدام الدين في الصراعات السياسية والاجتماعية حسب الأوضاع والمواقع والأزمان، يختلف تأويل المطالب الدينية والنظرة إلى الدين وغايته، من وقت لآخر أيضا داخل المجتمع الواحد. فالدور الكبير الذي احتله الدين في المعركة الوطنية ضد الاستعمار، والذي عكس في العديد من ال بلدان العربية غياب الرؤية الوطنية، سوف يتراجع لصالح الفكرة العربية في الخمسينات والستينات، قبل أن يعود من جديد في صورة قومية دينية، ليملأ الفراغ الذي تركه انهيار الايديولوجية العربية في السبعينات.
ثم أن مجالات الاستثمار المتعددة للدين لاتنطوي على منطق واحد وليست على درجة كبيرة من الاتساق كما يتصور بعض الباحثين الذي يثيرهم أي مظهر من مظاهر انبعاث الدين أو صعوده. فلا تؤدي التعبئة الدينية في ميدان محاربة العداون الخارجي أو الاستعمار تلقائيا إلى زوال الفصل بين السلطات داخل الدولة أو إلى التراجع عن المكتسبات العلمانية. وأكبر دليل على ذلك أن حركة التحرر الوطني الجزائرية التي استخدمت الاسلام كوسيلة للتعبئة القومية ضد الاستعمار لم تسع إلى بناء نموذج دولة إسلامية وإنما وطنية، مماثلة لما حصل في بقية بلدان العالم الثالث النامية. كما لا يؤدي بناء الهوية الوطنية على المرجعية الدينية تلقائيا أيضا إلى إلغاء فكرة الدولة الديمقراطية أو العلمانية . فالباكستان التي أقامت استقلالها عن الهند على أساس التمايز  الديني ولم يكن لها أي مبرر آخر، لم تولد دولة دينية وإنما ليبرالية، ولم تتنامى فيها قوة الحركات الاسلامية الأصولية الساعية إلى بناء الدولة الاسلامية إلا بموازاة انحطاط الدولة الحديثة الليبرالية واختراقها من قبل القوى العسكرية وتحويلها إلى دولة مافي ات اقتصادية وسياسية خاصة. في جميع هذه الحالات، لم تظهر العلمانية كاجندة خاصة مستقلة عن السياسة والنزاعات السياسية الداخلية ومصير الدول الوطنية. وما كان من الممكن أن تطرح، خلال عقود طويلة من عمر الدول الوطنية الحديثة، ولم تطرح في الواقع إلا بصورة هامشية ومترددة. وعندما كان يحصل ذلك، فللتذكير بخطر الانجرار وراء الدعوة المعادية للدين، أو من باب الخوف والقلق على الهوية الوطنية التي تستند بشكل رئيسي على المخيلة والرمزية الدينية، أو كما هو الحال في المشرق، في سياق التحذير من مخاطر الطائفية والكفاح ضدها، لما تمثله من تهديد للهوية الوطنية أ يضا  لذلك بعكس ما يعتقد باحثون كثيرون اليوم، تدفعهم رغبة التأسيس للعلمانية في التراث العربي والاسلامي، وبشكل خاص في تراث القومية، لم تؤسس الحقبة الوطنية لتراث نظري مهم في العلمانية وإنما مارستها ببساطة فحسب. وهذا ما أبقى فكرتها هشة بل غائبة في الوعي الجمعي والرأي العام. وجعلها ضعيفة الجذور، غير قادرة على المقاومة والاستمرار في حقبة العواصف ال قادمة الناحمة عن الأزمات العميقة التي ستواجهها المجتمعات العربية، على مستوى الهوية والسياسة الوطنية معا.


6 -
لا مجال هنا إذن للحديث عن فض اشتباك بين الدولة والدين، لا وجود له في الواقع، ولا يمكن له أن يوجد طالما أن هناك سلطة سيدة معترف بها، ولها الأسبق ية والأرجحية في القرار النهائي بشأن الهيئة الاجتماعية، أعني السلطة السياسية xii .
إن الهيمنة الطويلة للسلطة السياسية والدولة على الدين، وتعيينها ميدان عمله واستخداماته، تجعل أن نقد السياسة مقدم على نقد الدين، في أي محاولة لإصلاح أوضاع الدول الإسلامية، ليس بالمعني الزمني بالتأكيد ولكن بالمعنى المنطقي. ففك مفهوم السياسة عن مفهوم الدين وفصله عنه هو شرط لا غنى عنه لإنهاء الزواج غير الشرعي، بالمنظور الحديث، بين الدولة والدين، وإعادة بناء علاقات أكثر شفافية وفاعلية معا بين سلطتين رئيسيتين يتوقف على تعاونهما وتفاهمها واحترام كل منهما لمجال عمل الطرف الآخر واعترافه باستقلاله وأصالته، تقدم الهيئة الاجتماعية ونجاعة نظامها وصلاحه xiii .
لكن التأكيد على الاولوية المنطقية لنقد السياسة، أي السلطة المسؤولة عن تنظيم الشأن العام، بما فيه الحقل الديني، لا يعني نفي الحاجة إلى نقد الفكر الديني، ولا يعفي منه. فقد عانى الدين من سيطرة النموذج الاتوقراطي عناءا شديدا، وتعرض لتشويهات عميقة، بسبب تحويله إلى متاع فقهي موضوع، بشكل رئيسي، في خدمة السلطة. وأهم مظاهر هذا التشويه تغليب المقاربة الفقهية والقانونية على التجربة الدينية، وتقديم الأصول الإجرائية والمراسم الظاهرية التي تعنى بتكوين العصبية الاجتماعية على التجربة الشخصية والروحية، وبالتالي تحويل الدين إلى ما يشبه القانون الاجتماعي على حساب أصالة التجربة الايمانية. وهذا ما جعل من المجتمعات الاسلامية مجتمعات دينية بامتياز، أي ملحقة بمؤسسات الدين وطقوسه وإشاراته وتجارته وتابعة له، حتى كأنه مؤسسة دينية، لكنها مفتقرة للحوافز المفجرة لمنابع الرحمة والإحسان، أي للايمان العميق النابع من الذات والمنزه عن الأغراض والغايات الشخصية أو الجمعية. ومن هنا لا تقتصر إعادة بناء العلاقة بين الدولة والدين على أسس جديدة تتماشى مع حاجات التنظيم الاجتماعي في العصر الحديث على إحداث تغييرات عميقة في نماذج التنظيم السياسي وبنيات الدولة فحسب، ولكنها تستدعي أيضا مراجعات جذرية للتجربة الدينية تؤسس أو يمكن أن تؤسس لما يمكن أن نسميه الضمير الديني الذي ينير طريق الفرد في حياته اليومية ويجعل منه منبع قيم إ نسانية، في مقابل العصبية الدينية التي تعنى بتأكيد الروح الجماعية وتراهن على تنمية آليات الامتثال والتبعية التي شجع على إنتاجها التأويل الأتوقراطي للدين.

 

 


i حول عصر النهضة العربية مؤلفات عديدة أشهرها الفكر العربي في عصر النهضة 1798 – 1939 ، ألبرت حوراني، ترجمة: كريم عزقول، دار النهار للنشر بيروت، ، – 1968 ، ويقظة العرب، جورج أنطونيوس، طبعة دار العلم للملايين، بيروت 1978 . وعن الحركة
القومية العربية، يوسف شويري، القومية العربية، سردياتها ورهاناتها، دار النهار, وبالانكليزية
Yousef Chouiri, Arab Nationalism: A History, Youssef M. Choueiri , Blackwell Publishers, Ltd, Oxford UK, First published 2000 وكذلك كتابي المحنة العربية، الدولة ضد الامة. مركز دراسات الوحدة العربية، بير وت 1991


ii هذا هو ا لمنحى ا لذي نحا ه ب احثون كثيرون من أشهرهم محمد أركون: POUR UNE CRITIQUE DE LA RAISON ISLAMIQUE, MAISONNEUVE ET LAROSE ?
ونصر حامد أبو زي د: PARIS, 1984 CRITIQUE DU DISCOURS EDITION 1998 E), CAIRE, 4DINI-KHITAB AL-NAQD AL( ISLAMIQUE ،
وعاب د ا لجا بري : INTRODUCTION A LA CRITIQUE DE LA RAISON ARABE, TRADUIT DE L'ARABE PAR AHMED MAHFOUD ET MARC GEOFFROY, PARIS, ED. LA DECOUVERTE


iii على سبيل المثال
Lewis, B. (2003) What Went Wrong? The Clash Between Islam and Modernity in the Middle East. New York:
Harper Perennial.
Huntington, S. (1996) The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. New York: Simon &
Schuster.


iv أنظر حول هذه الفكرة مقالتنا
“Islamology Comes to the Aid of Islamism”, Diogenes 226: 1–8
ISSN 0392-1921


v أنظر حول الاسلاموفوبيا
Caroline Fourest, Fiammetta Venner - Tirs croisés. La laïcité à l’épreuve des intégrismes juif, chrétien et musulman, Calmann-Lévy Paris 2003, Vencent Geissert La nouvelle islamophobie, Éditions La découverte, 2007


vi انظر BURHAN GHALIOUN « THE PERSISTENCE OF ARAB AUTHORITARIANISM », JOURNAL OF DEMOCRACY, VOLUME 15, NUMBER 4, OCTOBER 2004


vii كتابنا نقد ا لسياسة : الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، ط 4 بيروت 2007
viii اكتشف ابن خلدون بعبقريته أن الدين لا يؤسس لدولة ولكنه رافدا لها. ورأى فيه ضرورة في الفضاء العربي ما قبل الاسلامي من حيث هو أداة لتوحيد قبائل متنافسة وحرة لا تقبل أي منها الخضوع لسلطة من خارجها. الدين جاء هنا ليقدم إمكانية خضوع لسلطة لا تنتمي إلى أي قبيلة ولكنها تقوم فوق جميع القبائل وتعبر حدودها..


ix ليس لإشكالية النزاع بين العلم والدين علاقة بمسألة العلمانية في الواقع. وإنما هي إشكالية نشأت حتى في أوروبة ولا تزال، أمام صعود النزعة العلموية على أثر التقدم الهائل الذي أحرزه العلم الطبيعي. ولعل الخلط بينهما عند بعض الباحثين العرب والغربيين ناجم عن فهم العلمانية كاعتقاد بمقدرة العلم أو تبشير بها، باعتبار العلم والعقل شيئا واحدا، أو أن الواحد يقود إلى الآخر. ولم تفد قضية العلمانية ولن تفيد من ربطها بمسألة النزاع بين العلم والدين. فبصرف النظر عن أنهما قضيتين مختلفتين، الأولى سياسية تتعلق بمفهوم الدولة والثانية فكرية تتعلق بمفهوم المعرفة والحقيقة، فإن العلمانية لا ترتبط بانحسار الدين أو الايمان وإنما بممارسة السلطة السياسية والدينية كما سنرى في ما بعد. ولعل إدخال مسألة الموقف من العلم والدين في إشكالية العلمانية كان نتيجة البيئة الأولى التي ولد فيها النقاش، أعني داخل أوساط الكنيسة الشرقية التي تعرضت لضغوط قوية من قبل حركات التبشير البروتستنتية دفعتها إلى اتخاذ موقف عنيف من أنصار الاصلاح، وكان من نتيجة ذلك أيضا بروز رد فعل قوي من قبل بعض المثقفين المسيحيين ضد الكنيسة أولا ثم ضد الدين نفسه. أنظر ملفات هذا النزاع في كتاب محمد كامل الخطيب، حرية الاعتقاد الدني، مساجلات الايمان والإلحاد منذ عصر النهضة إلى اليوم، دار ورد، دمشق 2005 .
x على سبيل المثال محمد عبده، الاسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، ص 79 من طبعة دار الحداثة، بيروت 1983
xi بالتأكيد لم يستعد الاسلام بوصفه مقوما من مقومات القومية العربية كعقيدة دينية وإنما كجزء من التراث العربي ومن حيث هو كذلك فهو يعني
المسلم كما يعني المسيحي. ولعفلق وقسطنطين زريق وغيرهما مقالات عديدة في مجال استيعاب الاسلام في العروبة من حيث هو تراث عربي.


xii ولم يحصل هذا في ا ل ت اريخ الاسلامي ا لكلاسيكي إلا في حالات الأزمة ا لمت فجرة ا لتي تصيب ا لدولة أو تهد دها ، أو كجزء من استرا تيجية ا لسلطة ن فسها لمواجهة أزمة عميقة تعيشها ، كما حصل مع تجربة ا لخليفة ا لمأمون ا لذي أراد أن يفرض عقيد ة بعض ا لمتكلمين في خلق ا ل قرآن على ا لمجتمع ورجال ا لدين.


برهان غليون، العلمانية في السياق العربي الاسلامي: من العلمانية إلى العلمنة، مجلة الآداب البيروتية، ملف خاص، xiii
10 / 11 / 2007