مستقبل الإسلام

2004-05-17:: دار الفكر

 

إن الصورة السائدة اليوم في العالم عن الاسلام صورة سلبية تماما. وصورة الاسلام الذي يقاوم الحداثة والمسلمين غير المتسامحين أخلاقياً وسياسياً تلقي بظلها الثقيل على مصير المجتمعات الإسلامية. ويرى الكثير من المحللن أن الصعوبات الكثيرة التي تواجهها هذه المجتمعات هي، في غالب الأحيان، النتيجة المباشرة للعدم قدرة الإسلام والمسلمين على التأقلم مع قيم زماننا ورفضهم النظر نظرة جديدة إلى دينهم القديم. والإسلام الذي يُنظر إليه كمعيق للتحرّر يثير اليوم ردود فعل سلبية قوية من قبل الرأي العام العالمي ويحرض على المسلمين وضدهم[1].

بل إن هذه الصورة قد انتقلت، أو انتقل جزء منها على الأقل، إلى داحل المجتمعات الاسلامية نفسها. وأكثر فأكثر يظهر في قلب هذا العالم مفكرون ورجال سياسة لا يترددون في الاعتقاد بأنه ليس هناك حل آخر لتجنب المخاطر وتجاوز الصعوبات التي تواجهها حركة التقدم والتطور ومسايرة العصر سوى تقييد الحريات الدينية والسياسية والمدنية معا. أما خارج هذا العالم فإن القلق الناجم عن غليان العرب السياسي وتصاعد نشاطية الحركات الإسلامية المتطرفة يعيد الحياة لنزعات معاداة العرب والمسلمين القديمة. وهي النزعات التي تغطي نفسها اليوم بنظرية تبدو من حيث المظهر ذات طابع فلسفي أو جيوسياسي أعني نظرية صدام الحضارات التي أطلقتها الأوساط العلمية اليمينية الأمريكية. وهي النظرية التي تعني أن الخلافات العميقة التي تمزق العالم اليوم وتدفع للحرب لم تعد مرتبطة بالايديولوجيات السياسية كما كان الأمر خلال حقبة الحرب الباردة ولا بتناقضات المصالح الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية وإنما بالتمايزات الثقافية الحضارية. وبما أن المواجهة بين الحضارات والثقافات مواجهة حتمية فليس هناك مهرب للغربيين، كما يرى استراتيجيون المحافظين الجدد، من تشكيل جبهة غربية واحدة قادرة على إيقاف الأطماع التوسعية التي لا حدود لها عند المسلمين وحلفائهم الكامنين من الصينيين. وهكذا فإن الإسلام أخذ يحتل بالتدريج، ولكن بشكل مؤكد، الموقع القديم الذي كان يحتله الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة الماضية، أي موقع العدو التاريخي، السياسي والايديولوجي والحضاري للغرب، كما أصبح ينظر إليه على أنه عالم بالطبيعة والتكوين الثقافي منحط وعدواني في وقت واحد. لقد أصبح باختصار في قلب محور الشرر[2].

هكذا دفع التركيز على الخطر الصاعد عبر الصور المتعددة والمتناقضة أحيانا التي تقدم في وسائل الاعلام الغربية عن الاسلام على إعادة بناء الاستراتيجيات الدولية للقوى العظمى، وللولايات المتحدة بشكل خاص[3]. وهو ما أوحى بمشروع إعادة بناء الشرق الاوسط الكبير التي أطلقتها الإدارة الأمريكية في بداية عام 2004. ولا يؤثر هذا التركيز على الخطر الإسلامي المتنامي والجاثم معا على إمكانية اندماج الجاليات الاسلامية المهاجرة في البلاد الغربية المضيفة فحسب ولكنه يفتح الباب أمام جميع أشكال العداء للاسلام والمواجهة الاستراتيجية مع البلاد والدول الاسلامية. وكما يشجع الشعور بالخطر الاسلامي المجتمعات المضيفة على الضغط على الجاليات المهاجرة في سبيل دفعها إلى التخلي عن هويتها الجماعية والثقافية واستبعادها من الحياة والنشاطات العمومية وفي مقدمها النشاطات السياسية، يدفع الشعور بالظلم والاضطهاد والتمييز العرقي الجاليات الاسلامية التي تعيش تحت وطأة وسواس النبذ والاتهام المسبق والتشكيك إلى الانغلاق على نفسها والقبول بالتهميش والانكفاء على الذات. 

لكن فكرة التعارض بين الإسلام والحداثة ليست فكرة جديدة. فمسؤولية الإسلام عن الانحطاط التاريخي للمجتمعات الإسلامية كان الموضوع الرئيسي للجدال بين المفكرين المسلمين والأوروبيين منذ نهاية القرن التاسع عشر[4]. ولم تتغير مواضيع هذا الجدال منذ ذلك الوقت بشكل كبير. إلا أن المواجهة في هذا الجدال لم تعد محصورة بين مفكرين مسلمين وأوروبيين بل انتقلت بشكل أكبر إلى دائرة النقاش  داخل صفوق المفكرين المسلمين أنفسهم. فالإسلام بات يشكل بالنسبة لقطاع عريض من النخبة المثقفة الإسلامية حاجزاً قويا، هذا إذا لم نقل الحاجز الأقوى، أمام تقدم العالم الإسلامي.

تصدر هذه الأطروحات وما يرتبط بها من اقتناع راسخ بالتناقض العميق بين قيم الاسلام وقيم الحداثة عن تحليلات عديدة سيطرت على ساحة العلوم الاجتماعية ووسائل الاعلام الدولية وارتبطت ببعض الوقائع العملية الحقيقية. ويغذي هذا النوع من التصورات حول الاسلام أدبيات غزيرة تراكمت في العقود الماضية لتبرز التصدعات العميقة التي تتعرض لها في المجتمعات الإسلامية. وهكذا لم يعد ينظر إلى الاسلام ومجتمعاته كما كان الحال من قبل من منظور التطورات التي يعيشها والتحولات التي يشهدها في إطار عملية التحديث الاجبارية التي يخضع لها ولا من منظور الصراعات والمشاكل العديدة التي يثيرها تحديث الاسلام هذا وإنما بالعكس من ذلك من منظور الصراع بين الاسلام والحداثة. وهذا يعني أن الطرح الجديد يضع الاسلام مباشرة في مواجهة الحداثة وينظر إليه كما لو كان هوية ثابتة ومنجزة تقف على طرفي نقيض مع الحداثة التي تخفض هي أيضا إلى ماهية معيارية وقيمية ثابتة وناجزة أيضا. وبهذا لا يصبح الاسلام والحداثة بالتعريف مصطلحين متعارضين فقط ولكن سيرورة التاريخ نفسها تكف عن أن تكون سيرورة تفاعل وتبادل وتحول مشترك لتصبح عملية تأكيد مستمر ومتكرر للصراع الأبدي والأسطوري بالضرورة في هذه الحالة بين الهويات والثقافات المتنافية والمتعادية. وتتغذى هذه الرؤية المانوية من الاعتقاد المتنامي الذي شجع عليه الكثير من علماء الإسلاميات بأن الموروث القديم للإسلام والذي جعله غير قادر على التجدد نابع من بنية خاصة متجذرة في المعتقد الإسلامي ذاته. وهي البنية التيوقراطية  الأصيلة التي تحرمه من القدرة على التمييز بين مجال الحياة الروحية ومجال الحياة الزمنية الدنيوية وتمنع عنه بالتالي أية إمكانية، حتى وإن كانت نظرية، لمجاراة الحضارة الحديثة العلمانية.

ومن هذا المنظور يصبح المسلم غير قادر على تمثل القيم التي لا بد منها لإقامة عالم الحداثة، أي عالم تحكمه القيما الدنيوية العقلانية والعلمانية طالما أنه مدان بأن يظل محكوما، بسبب بنيته العقدية المغلقة والجامدة ذاتها، بألا يرى العالم بكافة مظاهره إلا عبر الصبغة الدينية. وطالما أن الإسلام لن يقبل، وهو لن يقبل أبداً في نظرهم، أن يفصل في السلوك الإنساني المجالين الزمني والروحي، فإنه يحكم على نفسه بالبقاء جامدا، ويقود المجتمعات التي تعتنقه وتمارسه إلى اللاحركة، إن لم نقل إلى الخمود. إن مأزق المسلمين يصبح في هذه الحال مأزق جذري ومطلق. ذلك أنه ليس أمامهم إلا أن يختاروا بين طريقين، كما قال لورد كرومر Lord Cromer منذ بداية القرن العشرين: الحفاظ على الهوية الإسلامية مع ما ينجم عن ذلك من السقوط في الهامشية والتأخر التاريخي، أو التحول نحو الحداثة وبالتالي التخلي الحتمي عن الإسلام أو القيم والهوية الاسلامية. فالإسلام والحداثة لا يمكن أن يتفقا فيما بينهما، لأن الإسلام إذا تحدث لن يكون إسلاماً[5]

لكن هذا الطرح، المنتشر جداً اليوم، حول التصلب الجوهري في الإسلام، مرفوض مع ذلك من قبل كثيرين من علماء الإسلاميات الآخرين الذي يجتهدون في التمييز بين الإسلام والمسلمين، بين العقيدة الثابتة إلى حد كبير والتاريخ الاجتماعي. فلا يرى هؤلاء أن ركود المجتمعات الإسلامية هو نتيجة حتمية لما تتسم به عقيدتهم من بنية خاصة استثنائية بقدر ما هو ثمرة تخشب فكر المسلمين وهرمه التاريخي.  فقد. منع موت روح الابتكار[6] والإبداع كما منعت النزعة المحافظة لعلماء الدين الذين فرضوا وصايتهم على العقيدة المسلمين، ولا يزالان يمنعانهم، من القيام بالقطيعة الإبستمولوجية الحقيقية  مع عقلية ومناهج العصور الوسطى، كما حصل في الغرب من قبل. وبسبب تأخر حصول هذه القطيعة حكم المسلمون على أنفسهم بالضرورة بالعيش في الماضي،لأنهم ظلوا محرومين من مكاسب الفكر العقلاني الحديث وغير قادرين على تمثل ومتابعة الثورة العلمية أيضا. إن نمط الآلية الفكرية التي يستمرون في التعلق بها هو نمط العصور ما قبل العلمية. وهكذا فإنهم يتعلقون، لعجزهم عن فهم حقائق العالم الحديث، بوعي ومعرفة جامدتين ويأملون أن يجدوا في الدين الملاذ ضد حداثة مهدِّدة[7].

وهكذا سيحاول طلبة العلوم الاسلامية الجدد الكشف في تاريخ الفكر الاسلامي عن جذور هذا المنطق، العربي و / أو الإسلامي، وعن عناصر الثبات والمحافظة التي أدانت الفكر العربي والاسلامي بالجمود.  وقد ركز الكثير منهم، في إطار الإشارة إلى بعض الأحداث الكبرى التي حكمت انبثاق هذا الفكر، على هزيمة العقائد الفلسفية و / أو العقلانية للـ "متكلمين" حوالي القرن الثالث عشر[8]. فلم تكرس هذه الهزيمة في نظرهم انتصار العقائد السنية والمدرسة الشرعية الشكلية المحافظة فقط ولكنها وضعت أيضا حداً لجدال الأفكار في الإسلام التقليدي عندما قامت بفرض  الحجر على كل ابتكار وتجديد باسم محاربة البدع والزندقة وإلزام الجمهور باتباع مناهج التقليد والتحوط والاتباع عند المسلمين[9]. وهكذا كان من الصعب جداً على الفكر الإسلامي أن يلحق ضمن هذه الشروط بأحداث الثورة المعرفية (الإبستمولوجية) والعقلانية والعلمية التي شهدها القرن السادس عشر. كما كان من الأصعب عليه بالتأكيد القيام بأي مساهمة فيها.

وهناك مجموعة أخرى من الباحثين الذين يرجعون في كشوفاتهم لأصل الجمود والتقوقع في الفكر الاسلامي إلى فترة أقدم من تلك التي ذكرنا، هي التي يسمونها بعصر التدوين أو التكوين والتشكل. ويرى هؤلاء  أن السبب الرئيسي في عجز الفكر الاسلامي وضعف بنيته العقلانية هو انتصار الميول الغنوصية الشرقية على الميول العقلانية والبرهانية منذ القرنين السابع والثامن. فالعقل الإسلامي، الذي خضع منذ ذلك التاريخ لسيطرة منطق يشبه المنطق العقائدي، ظل منطقا بيانيا أو خطابيا يعمل عن طريق القياس، قياس الحاضر على الماضي والشبه على الشبيه، وبقي من أجل ذلك دون المنطق العقلاني الذي يعمل بالإثبات والبرهان الجدلي. لقد كان هناك بكل تأكيد ابن رشد الأرسطي العظيم، لكن مذهبه لم ينجح للأسف في شق طريقه وفي الاستمرار في البلاد الإسلامية كما سار عليه الأمر في أوروبا[10].

إن عجز الفكر الإسلامي عن تجاوز هذا المنطق التماثلي أو القياسي نحو منطق برهاني، وعن التغلب على تصلب الصيغ التقليدية الموروثة، وعن عقلنة لامعقوله الخاص، حكم عليه بالجمود والتكرار والثبات. ويشكل استمرار الميول الثيوقراطية واللاعقلانية عند الحركات الاسلامية كما تشكل الخطابية العربية السائدة التي تعبر عنها الأدبيات السياسية وروح المحافظة العميقة التي تفتك بالوعي الاسلامي العام  أفضل برهان على ذلك.

يستنتج من كل تلك الأطروحات العديدة السائدة منذ المدرسة الاستشراقية حتى المقاربات الابستمولوجية والفلسفية المعاصرة أن تجديد الفكر الإسلامي المعاصر، وفي ما وراء ذلك، إطلاق عملية تحديث المجتمعات الإسلامية التي توقفت أو تراجعت، يستدعي قبل أي شيء آخر محاربة هذه النزعة الماضوية الجذرية المستبطنة داخل الكينونة المفكرة نفسها عند المسلمين. ويتحقق ذلك بشكل أساسي عبر النقد التاريخي والعقلي للعقل الإسلامي والديني والدنيوي، أو من خلال تفكيكه. والهدف من هذه العملية هو إظهار الهوة التي تفصل هذا العقل، المجمد منذ قرون عديدة، عن الفكر العلمي. مثل هذا الجهد الابستمولجي وحده يمكن أن يسرّع مجيء فكر فعّال جديد ويجعل من الممكن ظهور عملية إعادة تأويل جديدة وخلاقة للنص القرآني. إن التقدم الذي حققته العلوم الاجتماعية، وبشكل أساسي علوم اللغة خلال العقود الأخيرة، لا يمكن إلا أن يجعل هذا النقد أكثر فعالية وأكثر معاصرة في آن معاً. ومن هنا سنجد أن كافة جهود العقل الإصلاحي والتجديدي التي تنتشر اليوم على امتداد البلاد الاسلامية تتركز، في هذا المجال، أعني مجال إعادة التأويل والقراءة للنص القرآني الكريم[11].

إن هذه الجهود الرامية إلى تجديد أدوات تأويل النص القرآني ليست جديدة. فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر عمل المفكرون الدينيون والفلاسفة المسلمون معاً من أجل تحرير الفكر الإسلامي من التأثير العقيم للمقاربات القانونوية والتشريعوية والتبريرية التي طورها فقهاء المسلمين. كان الإصلاحيون في نهاية القرن التاسع عشر هم أول من أشار بقوة إلى النتائج المدمرة للجمود الفكري الذي أدى إليه "إغلاق باب الاجتهاد،"[12]، وذلك في وقت غير محدد من التاريخ الكلاسيكي للإسلام، وهو الأمر الذي فَرَض على العلماء، لا نعرف متى ولا من قبل مَن، ألا يعترف المسلمون بعد ذلك التاريخ المفترض بأي اجتهادات جديدة أو مذاهب أو تأويلات وتفسيرات ناجمة عن البحث الشخصي الحر والاكتفاء بدل ذلك بما قدمته المذاهب الأربعة الكبرى للتشريع المعترف بها رسمياً[13]. وينطبق الأمر نفسه على ما يتعلق بالنقد الذي يواجه به المصلحون الفرق الصوفية والزهدية المتهمة بأنها ساهمت إلى حد كبير بجمود أو فتور الفكر الإسلامي وذلك بزرع منطق الجبر والتوكل والاستسلام للقدر والقبول بمنطق السحر والخرافة المخالف للعقل ومنطق الأسباب والعلل العقلانية. لكن، على عكس الانتقادات الحالية للفكر الإسلامي التي تؤكد كلها على ضرورة تغيير مناهج مقاربة الوقائع وتأويل النصوص الاسلامية، كان المصلحون يشددون بشكل خاص على تجديد طرق الاجتهاد ويرون فيها الطريقة الأفضل من أجل عودة مأمولة إلى المعاني والدلالات الصحيحة الأولى، والتي ما كان من الممكن إلا أن تتماشى مع القيم العقلانية والعلمية.

لكن، مهما كانت اتجاهاتها ومصادرها، تلتقي المقاربات والتأويلات المقترحة لتجديد الفكر الديني الاسلامي حول اعتقاد راسخ بأن هناك قطيعة عميقة بين الفكر الاسلامي والحداثة إن لم نقل، بالنسبة للبعض على الأقل، بين هذه الحداثة والدين الاسلامي نفسه. وهكذا، ومهما كان السبب، أكان عقائدياً ملازماً لبنية الإيمان الإسلامي نفسها أو تاريخياً يرجع إلى شروط تطوره، فإن الإسلام بعد أربعة عشر قرناً من ولادته يقدم نفسه للرأي العام الخارجي ولقسم كبير من الرأي العام الاسلامي الحديث أيضا كما لو كان دينا جامدا لم ينجح في التجدد أو لم يعرف، بالرغم من مرور أكثر من قرن على حركة الاصلاح الدينية الاسلامية،  كيف يتأقلم مع الحداثة ويتفاعل معها. وهو على عكس المسيحية وديانات آسيا أو أي دين آخر، لم يتمكن من تلقيح نفسه بالحداثة، أو أنه لم يستطع أن يولد من ذاته الثورة التي قادت الديانات الكلاسيكية الأخرى إلى طريق العَلمَنَة. وبقي بالتالي حبيسا لمعوقاته البنيوية التي لم يتمكن من تجاوزها.  ومن هنا فقد أصبح تجديده هدفاً معلناً لجميع الكتاب الذين يهتمون به أو يجعلونه موضوع دراسة خاصة.  فهل ظل الإسلام بالفعل ديناً من الماضي، ولم ينجح في تأهيل نفسه، إلا بدرجة بسيطة، للاستجابة للطلبات الجديدة التي ترفعها له المجتمعات الإسلامية المعاصرة؟ هل هو غير قادر على التجدد الذاتي، وهل هو غير منسجم أو لا يمكن أن ينسجم نتيجة بنيته العقدية الخاصة مع الحداثة؟

إذا ظهر أن أطروحة عدم توافقية العقيدة الإسلامية مع متطلبات الحداثة هي أطروحة مقبولة علميا، وأنه من الصحيح أن الإيمان الإسلامي لا يستطيع أن يقبل بأية طريقة كانت فصل الزمني عن الروحي، أي أنه غير قابل للتمييز بين ميادين النشاط الانساني المختلفة كما يقول عدد من الإسلاميين المعاصرين، فإن المجتمعات الإسلامية لن تستطيع الإفلات من المصير التراجيدي في الاختيار بين الحداثة المُستَلِبَة التي ترتكز على رفض الذات وبين هوية فاقدة لقيمتها تقود إلى الاستبعاد والتهميش. وفي هذه الحالة سيجد المسلمون أنفسهم محكومين، مهما فعلوا، بالفصام وعذاب الضمير.

فهل يشكل الإسلام بالفعل مزيجاً شمولياً بحيث أن الاعتقاد الديني لا يكون صحيحا ما لم يكن مرتبطا أيضا بالالتزام بأشكال خاصة من الفكر والسلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي النابعة منه بالضرورة والمؤكدة له؟ أم أن لدى الإسلام، على العكس، في بنيته العقائدية نفسها، إمكانية استيعاب مستويات النشاط الانساني المختلفة والتمييز بين المنطق الإلهي الذي يحكم بعضها والمنطق العقلي الذي تعتمد عليه نشاطات أخرى حسب ما إذا كان النشاط دينيا عباديا أو دنويا مرتبطا باستخدام العقل ؟ هل قام المسلمون عبر التاريخ الواقعي بالتمييز بين المعتقد بحصر المعنى، أي العقيدة الدينية، والشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك فعلى أي أساس؟ هل كان الإسلام جامداً، وغير حساس للتغيرات التاريخية، ومنغلقاً أمام كافة جهود التجديد ومتسمراً في منظوماته اللاهوتية منذ القرن السابع، أم أنه كان على العكس موضوع تحول لا مفر منه طال أنماط معتقداته وعقائده السياسية ـ الاجتماعية وممارساته التاريخية على حد سواء؟

هل شكّل الإسلام كابحاً لتقدم المجتمعات الإسلامية، أم أنه لعب دور رافعة روحية لها؟ وهل أن المجتمعات الإسلامية كما نعرفها اليوم هي نتاج الايمان والإرشاد والحماسة الدينية أم هي بالأحرى تشكّلات تاريخية صيغت من خلال تقلبات التاريخ الدنيوي والعالمي؟

تكتسب الإجابة على هذه الأسئلة التي تطرحها مختلف المقاربات الحالية للإسلام أهمية كبيرة. فالأمر يتعلق هنا بتحديد دور ومكانة الإسلام في صوغ المستقبل الأخلاقي والفكري، وبالنتيجة التنظيم السياسي والاجتماعي، للمجتمعات المسلمة. ولكن لا بد من أجل البدء بالإجابة على هذه الأسئلة من الرد مسبقاً على سلسلة أخرى من الأسئلة المنهجية. فإلى أي حد سيكون من الممكن، على سبيل المثال، تفسير حالات العجز التاريخية للمجتمعات من خلال معتقداتها الدينية؟ أو ما هي مسؤولية الإيمان الديني في الممارسات التاريخية للمجتمعات، بل في تشكيل سلوك الأفراد؟ وهل يمكن لنقد النص القرآني أن يعوض عن غياب نقد العمل والسلوك التاريخي للمجتمعات أو أن يكون بديلا عنه، مع العلم أن فهم النص الديني هو جزء من هذا التاريخ الاجتماعي؟ وهل تعكس العودة الحالية إلى الإسلام كمصدر للإلهام الأخلاقي والسياسي والاقتصادي جمودية المجتمعات الإسلامية أم أنها تشكل بالأحرى رد فعل على نموذج غير فعال إذا لم نقل ضال ومشوش للحداثة؟ وباختصار، هل أن الإسلام هو الذي يمنع المجتمعات الإسلامية من التقدم على درب الحداثة، أم أن الحداثة، على العكس، بالشكل الذي تم فيه إدخالها وتطبيقها في معظم البلاد الإسلامية، أي كحداثه آلية وتقنية هي التي تعيق تطور الإسلام وتشوه تجدّده؟ وما يمكن أن تكون أسباب رفض الإسلام للتجدد اليوم إذا كان قد استطاع القيام بذلك فيما مضى؟

في الواقع وجد المسلمون أنفسهم مجبرين، منذ فترة مبكرة جداً، وقبل المجتمعات المسيحية بوقت طويل، على أن يفصلوا في ممارساتهم المعتقد بحصر المعنى، أي ما هو ديني، عن الأمور الدنيوية المتعلقة بالشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. وكان هذا الفصل هو الصدى المباشر ، كما سبق وبيّنا في مواضع أخرى، للحرب الدينية الكبرى التي حصلت خلال العقود الأولى من تاريخ الإسلام، والذي لا يزال يضغط حتى اليوم على الضمير الإسلامي ويؤثر على تطوره من حيث هو مجتمع وتراث وتقاليد. لكن هذا الفصل العنيف بين الدولة والدين، بين الرسالة الألهية وبين السياسة الزمنية، بين الأسرة الهاشمية والأسرة الاموية المالكة، لم ينته بخلق سلطتين حاكمتين متضادتين كما في المسيحية، سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، بل كرس هيمنة الدولة على الدين، ومن هنا نشوء نمط جديد من العلاقة بين الديني والسياسي، مع وجود فضاءات خاصة للتداخل فيما بينهما، كما هو الحال بشكل خاص بالنسبة للفضاء القضائي ـ الشرعي الذي يفرض تعاوناً وثيقاً بين الحكم السياسي والسلطة العلمية الدينية.

لم يبق الإسلام جامداً أبداً طيلة أربعة عشر قرناً ويزيد، بل تعرض لتحولات عميقة، أكان على مستوى النظم العقائدية أو على مستوى الممارسات التاريخية السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك كانت التغيرات عميقة فيما يخص امتثالية المجتمع الإسلامي وشعوبه وجغرافيته السياسية وأنماط تنظيمه وشروط تطوره وأنماط إلهام أفراده أكانوا من المؤمنين أم ممن هم أقل إيماناً. إن تحول وتجدد الإسلام والمعتقد والجماعات السياسية هو أحد العلامات الكبرى في القرن العشرين وفي أيامنا هذه. وعلى الرغم من تأخرها الحضاري الواضح، فإن المجتمعات الإسلامية لا تعيش في إطار مغلق ولا خارج إطار زمانها. بل هي منغمسة تماماً في الحداثة، بإنجازاتها الإيجابية وآثارها السلبية معا.

ومع ذلك، فإن غياب التأسيس الفكري والأخلاقي للمجتمع الجديد وهو نتيجة هذا الانغماس الآلي وغير المفكر فيه في الحداثة قد أفرغ الحداثة من قيمها الإنسانية، وقلصها إلى مكتسب تكنولوجي على حساب الحريات الأخلاقية والمدنية والسياسية. وهكذا فقد تحولت ولا تزال إلى تحديث لأدوات اضطهاد الإنسان في حين أن أصل شرعيتها كان تحريره.

فرضت الحداثة نفسها في الحقب الأولى في البلدان الاسلامية كنمط جديد من الاستهلاك المادي الذي يعني التفتح والاذدهار. لكن سرعان ما انتهى بها الأمر إلى طريق مسدود. ففي الوقت الذي كانت قدرة الدولة على تلبية الحاجات المادية التي ولدها المجتمع العالمي تنهار، كانت آمال الشعوب وافتتانها بنمط جديد للحياة والحرية والكرامة تتأكد بقوة. ومن هنا تحولت الحداثة التقنية والآلية والمادية البحتة إلى وسيلة تفرغ البشر من معنى الحياة نفسه وتدفعهم للحيرة والضياع تماماً.

إن النقص في البنى العلمية والتكنولوجية، وإخفاق مشاريع بناء الأمم، والأزمة الأخلاقية التي تزعزع هذه الشعوب عميقاً، ذلك كله يثبت المأزق الذي لا يمكن تخطيه: أعني مأزق تشكل الحداثة بلا إنسان أو ضد الإنسان. وبقدر ما عجزت الحداثة عن تنمية وتشجيع الحريات الإنسانية فقد وجدت نفسها بالضرورة غير قادرة أيضا على استخدام التقنية وضبطها والسيطرة عليها. وبقدر ما حرمت الإنسان من االذاتية والشخصية بقيت هي نفسها من دون هوية.

لم يكن الاعتقاد الديني كابحاً لتقدم المجتمعات الإسلامية ولكنه كان أحد أقوى المؤثرات والروافع في تاريخها. لقد كان مصدراً للإلهام والارتقاء وتزويد الجماعات بقيم أساسية ووعي قوي بالذات، كما كان دافعاً للمسلمين إلى التنافس والتباري مع المجتمعات الأخرى في بلوغ التقدم والكمال. ولا ينبغي للأزمة الراهنة التي أثارها تطرف الحركات الاسلامية الحديثة وعداؤها لقيم الحداثة أن يدفع إلى استنتاجات وتعميمات خاطئة لا أساس لها من الواقع. إن نشوء التطرفية الاسلامية ونموها لا يمكن أن يفهما هما أنفسها من خارج سياق تكون هذه الحداثة المفقرة المخيبة للآمال، السالبة والمستلبة والمثيرة للتمرد والاحتجاج.

وعلى عكس الأفكار المتناقلة، ليست عطالة العقيدة الاسلامية ولا جمود العقل المسلم المفترض هما الذان يفسران تأخر بنياتهم الحديثة أو الطابع السوقي والآلي اللإنساني للحداثة, وإنما الحداثة السالبة هي التي تفسر تعطيل الفكر الاسلامي وانعدام تجديده في الاتجاه الصحيح. فبتخليها عن الإنسان ضميرا وفكرا وثقافة لم تدن نفسها بالفراغ الأخلاقي فحسب ولكنها حكمت على نفسها أكثر من ذلك بالتشوش والتنافر والفساد وجعلت من العودة إلى الدين المصدر الأول لاستعادة معنى الانسان، أي الملجأ الأخير للفكر والأخلاق. إن الأزمة التي يشهدها اليوم مشروع الحداثة العربي ـ الإسلامي كفكر وممارسة على حد سواء هي التي تفسّر، أكثر من أي مقاومة دينية أو موروث إسلامي مثالي ولا عقلاني، رفض الشعوب للسياسات التي فقدت الاعتبار والتي تعدّها وتطبقها نخبة حاكمة باسم الحداثة.

لا بد من أجل إعادة إطلاق الديناميكية التاريخية من إعادة تأسيس القيم المحرِّرة للإنسان من خلال ممارسة النقد السياسي والأخلاقي والفكري. فبهذا الثمن يمكن أن يستعيد المسلمون هوية تشوشت أو يجددونها ويستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة وبالتالي ممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها. إن أي تقدم إنساني، أي أخلاقي بشكل أساسي، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تقدم مسيرة الحداثة الإنسانية التي نخضع العقلانية الأداتية إلى حرية الوعي والضمير، والقومية إلى المواطنة، وسلطة الدولة إلى سلطة الأمة، والتضامن السياسي إلى احترام الكرامة الإنسانية.

من هنا فنحن نعتقد أن مستقبل الاسلام مرتبط بمستقبل مجتمعاته. وأن تجديد الفكر الاسلامي لن يكون بعد الآن، أعني في العصر الذي نعيش، إلا جزءا من تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه. وهو يفترض مقاربات ووسائل بحث وعمل أخرى غير تلك المستوحاة من النقد الكلاسيكي التاريخي والنصي للفكر الديني المسيحي أو اليهودي. أعني مقاربات مستوحاة من النقد الاجتماعي الذي ينظر إلى الدين عبر استخداماته الاجتماعية المختلفة والمكانة الفعلية التي يحتلها في نظم المجتمعات التي يتحرك فيها.

ولو دققنا النظر لوجدنا أن النقاش الدائر اليوم حول الاسلام ليس نقاشاً فكريا فقط يتعلق بتحديد القيم الأساسية التي تحكم مجتمعات المسلمين والغايات التي تقوم عليها مجتمعاتهم الحديثة. فهو سياسي أيضاً وربما بشكل أكبر. ذلك أن الحديث في الاسلام وتأويلاته المختلفة يرتبط اليوم ارتباطا وثيقا ببروز الحركات الاسلامية كفاعل جمعي سياسي يقترح على المجتمعات نمطا من الحكم ونموذجا من الإدارة والسلطة يقول إنه استمدها ويستمدها من مضمون الرسالة الالهية ويسعى إلى فرضها على المجتمع كما لو كانت جزءا من العقيدة الدينية. ومن هذه الزاوية يتقاطع النقاش حول الاسلام وتأويلاته المختلفة مع النقاش حول التحول السياسي والخيارات المتعددة التي تقف في وجهه: القومية منها والديمقراطية والاستبدادية. لكن في ما وراء هذا وذاك ينطوي النقاش من حول الاسلام منذ 11 أيلول 2001 على بعد جيوسياسي وجيوستراتيجي حقيقي، لأنه أصبح جزءا من معادلة السياسة الدولية من جهة بعد أن تحول إلى فاعل دولي، في صورته المتطرفة أساسا ولكن في جميع صوره أيضا، ولأن التحولات داخل المجتمعات الاسلامية أصبحت أيضا أحد موضوعات السياسة الدولية الجديد من جهة ثانية. وهذا ما أصبح يعطي للاسلام أو بالأحرى للنقاش حول الاسلام والصراع على تعريفه وتحديد قيمه الأساسية رهانات تتجاوز كثيرا البعد الديني والعبادي لتصب في معارك وطنية وإقليمية وحضارية تشكل اليوم جزءا من صراعات العولمة الكونية.

كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال حول التأويلات الدينية من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي سوف تحكم أعادة بناء المجتمعات الاسلامية المفككة أو اجتماعاتها السياسية؟ وكيف يمكن تجديد الفكر الاسلامي الديني من دون تحرير الدين من الاستخدامات السياسية والاستراتيجية ؟ وكيف يمكن فصل الرهانات الدينية عن الرهانات السياسية عن الرهانات الاستراتيجية مع استمرار انحلال الدولة واستمرار منطق الحرب الحضارية؟ ؟ وكيف يمكن بلورة وعي ديني جديد قائم على الممارسة الشخصية والخصوصية في الوقت الذي تفتقر فيه الحياة السياسية العربية والاسلامية إلى قيم الحرية الفردية واستقلال المبادرة الشخصية؟

لا يشكل الاسلام اليوم المصدر الأول لتكوين الوعي ولتربية الأفراد مع تراجع صدقية الثقافة الحديثة وعقائدياتها الاشتراكية والرأسمالية ولا المنتج الرئيسي لمشاعر الولاء والانتماء المكونة لجماعة فقدت أسس وجودها القومية في أكثر من مكان ولكن، أكثر من هذا وذاك، مصدر التضامن الروحي والسياسي الأساسي في مواجهة الضغوط السياسية والاستراتيجية والثقافية التي تتعرض لها المجتمعات الاسلامية في سياق العولمة والحرب الطاحنة الاقتصادية والاستراتيجية التي تثيرها في إطار البحث عن الهيمنة الدولية بين التكتلات العالمية. وكما سيكون من الصعب تجديد الفكر الديني من دون فصل الرهانات الروحية عن الرهانات السياسية سيكون من المستحيل تجديد الفكر السياسي وتحريره من النزعات المعادية للخارج وبالتالي من نزوعه لاستخدام التعبئة الدينية من دون وضع حد للحرب الحضارية التي تعني قبل أي شيء آخر اليوم توسيع دائرة الضغوط المادية والمعنوية على المجتمعات الاسلامية. 

 

أكثر فأكثر يتحول الاسلام إلى مزيج شامل من الدين والثقافة والانتماء الجمعي والتضامن أو التحالف الاستراتيجي لجماعات تشعر أكثر فأكثر أنها مجردة من أي سلاح، مادي كان أو معنوي، ومتروكة لنفسها في مواجهة قوى السيطرة والهمنة العالمية. وهو في الوقت نفسه عبادة وعقيدة ووطنية واستراتيجية مقاومة للضغوطات الأجنبية. وبقدر ما يتحول الاسلام إلى سلاح شامل يصبح كلا واحدا يرفض التمييز. وفي هذه الحالة يواجه البحث عن تجديده أو تغيير رؤية الأفراد له في أي مستوى من مستويات وجوده، الروحية أو السياسية أو الاستراتيجية، ردودا شمولية قوية تعكس تعدد الرهانات الثقافية والاجتماعية والاستراتيجية التي يعبر عنها.

يفسر كل هذا المقاومة الكبيرة التي تواجه حركات التجديد وتعزل المفكرين المجددين وتهمشهم. لكنه يطرح في ما وراء ذلك أسئلة وتحديات كبيرة على المجددين أيضا. فإذا كان مصير المجتمعات الاسلامية اليوم إو إذا شئنا إذا كان مستقبل كفاحها الأليم لفرض وجودها وسيادتها وحريتها الداخلية والخارجية وتقدمها مرتبط هذا الارتباط الوثيق بالاسلام من حيث هو فكر وانتماء وجيواستراتيجية معا، فهذا يجعل من تجديده غاية رئيسية في الوقت الذي يحيل فيه مثل هذا التجديد إلى مسألة إشكالية. ومن هنا إن تجديد الفكر الديني ومستقبل الاسلام كديانة وعبادة مرتبط أكثر من أي حقبة بتجديد شروط حياة المجتمعات العربية الثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية، أي بإعادة بناء بنيانها العلمي والسياسي الخرب وتعظيم دورها في المساهمة الحضارية.  

 

 

 

[1] انظر حول مختلف مراحل النظرة الغربية إلى العالم الإسلامي كتاب مكسيم رودنسون، سحر الإسلام ، وبخاصة الفصل "رؤى ودراسات للإسلام في الغرب منذ أربعة عشر قرناً"،

Maxime Rodinson, La fascination de l'Islam, Nijmegen, Publications de l'Association néerlandaise pour l'étude du Moyen-Orient et de l'Islam, 1978؛

وانظر أيضاً: هشام جعيط، أوروبا والإسلام، Hichem Djaït, L'Europe et L'Islam, Paris, Seuil, 1974؛

و E. W., Pantheon Books, N. Y. N. Y. 1978.

 ونجد أن تفسير تأخر أو ركود المجتمعات الإسلامية بسبب طبيعة الدين الإسلامي موجود بشكل واضح في فكر مونتسكيو وبشكل خاص عند المستشرقين الكلاسيكيين.

[2] الكتب والمقالات التي تذكر هذا الموضوع لا تحصى في كافة اللغات وكافة الاتجاهات. ونذكر أهمها وهي التي حاولت وضع نظريات في الموضوع ومن بين أشهرها فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير؛ وصموئيل هنتنغتون، "صراع الحضارات؟" (مجلة الشؤون الخارجية، صيف 1993) والذي يمكننا أن نجد موجزاً عنه في "الغرب وصدام الحضارات، في مجلة Défense nationale, Paris, avril 1996.

[3] أعلن الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية ريتشارد نيكسون في كتابه Seize the Moment, New York, Simon and Schuster, 1992 أن الإسلام سيصبح القوة الجيوسياسية المتعصبة التي سوف تتحدى العالم الغربي. وقد دعى ذلك العالم الغربي للتحالف مع روسيا من أجل مواجة هذا الخطر.

[4] نجد آثار هذا الجدال في رد جمال الدين الأفغاني على إرنست رينان في كتابه

Averroès et l'averroisme, Paris, 1961.

انظر أيضاً كتاب ألبرت حوراني

Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal age, Oxford University Press, 1962.

[5] كان إيفلين بارينغ كرومر Evlyn Baring Cromer (1841-1917) قد عين مستشاراً وحاكماً عاماً بريطانياً على مصر منذ عام 18833 إلى عام 1907. ونجد أفكاره حول الإسلام في Modern Egypt, New York, Macmillan, 1908.

[6] نجد في الكتابات المتأخرة للعلماء المسلمين أنه تمت مماثلة مصطلح البدع الذي يعني التعديل في الموروث الإسلامي مع مصطلح الابتكار الذي يراد به التجديد. وقد استعاد الكثيرون من علماء الإسلاميات هذا الخلط لكي يؤكدوا على المحافظة الفطرية للإسلام بما هو دين. ويرتكز رفض البدع على حديث للنبي يقول: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

[7] Fatima Mernissi, La peur-modernité, Islam et démocratie, Albin Michel, 1992.

[8] وتعني حرفياً  الذين يصوغون خطاباً (متجانساً)، والذين يعرفون كيف ينظمون تفكيرهم. غير أن هذا المصطلح يشير في هذا الإطار إلى مدرسة فكرية وإلى جماعة من المفكرين كانت المسؤولة عن إيجاد خطاب عقلاني في اللاهوت الإسلامي.

[9] انظر حول ذلك أعمال محمد أركون، وبخاصة

 Pour une critique de la raison islamique, Maisonneuve-Larose, 1984

و Ouverture sur l'Islam, Jacques Grancher éditeur, 1989؛

وانظر أيضاً كتاب حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، 6 أجزاء، القاهرة، دار مذبولي 1988.

[10] انظر أعمال عابد الجابري، وبخاصة مؤلفه الكبير نقد العقل العربي، في ثلاثة مجلدات، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982. ويعرض الجابري في هذا المؤلف نظريته حول أصل التأخر العربي الذي ينسبه إلى ثقافة متجمدة ومتوقفة عند بنى أعدت في العصور الكلاسيكية (القرنان الثامن والتاسع) والتي تضحي بالإضافة إلى ذلك بالفكر العقلاني لصالح الفكر العقائدي.

[11] إنه لمن المهم أن نشير من جهة أخرى كم شكّل العنوان الذي أعطاه محمد أركون لكتابه الذي ظهر في عام 1984 بعنوان نقد العقل الإسلامي صدى لكتاب الجابري الذي نشر قبله بقليل. لكن أركون نشر كتباً أخرى متمحورة على مشاكل تفسير النص القرآني ونقد الفكر الإسلامي منها بشكل خاص قراءات قرآنية، دار النشر نفسها، 1982 والخطاب الإسلامي والفكر العلمي، دار سندباد، 1989.

[12] تعني كلمة اجتهاد الجهد الحر في التفكّر والتفسير في سبيل التجديد في مجال الأحكام التشريعية.

[13] يخص ذلك بالتأكيد المجتمع السني. أما الشيعة فلم يعرفوا مثل هذا الحدث. ولكن على المستوى العملي فإن سلطة التفسير ظلت محفوظة هنا بيد حفنة من العلماء. وكانت النتيجة النهائية هي نفسها، لأن أصول المحافظة والجمود الفكريين ليست كامنة فقط في توقف التفسير بل بالأحرى في الشروط الاجتماعية ـ التاريخية. أما فيما يتعلق بالمذاهب الكبرى المقبولة من العموم والمتبعة فهي المذاهب الحنفية والشافعية والملكية والحنبلية. وهنا فإن معظم العلماء المعاصرين يعارضون اليوم إغلاق باب الاجتهاد هذا ويدعون إلى العودة لجهود التفكر معتبرين حتى أنه فرض ديني. إن كثيرين يرفضون الشرعية التاريخية لهذا الحدث، أي لإغلاق باب الاجتهاد. ويبدو في الواقع أنه بمواجهة الخطر المتمثل بكثرة التفاسير الحرة فإن عدداً من العلماء المؤثرين نصح بنوع من تجميع لكافة التفسيرات الفردية الجديدة حول المذاهب الأربعة الكبرى المذكورة أعلاه من أجل تجنيب الإسلام التشتت بغياب سلطة مركزية قادرة على الحفاظ على تجانس ووحدة العقيدة. لقد تشكل مع الزمن نوع من الإجماع بشكل تلقائي في المجتمع السني من أجل حدّ تسمية المذهب (أو المدرسة التشريعية) بالتفاسير الأربعة الكبرى المعترف بها حتى ذلك الوقت. وفي الحقيقة، لم يكن المنع يتعلق بحرية التفسير أو بوجود إعادة تفاسير جديدة، بل بإمكانية إيجاد مذاهب جديدة يُعترف بها كمدارس تشريعية. وهو يهدف إلى دفع المفسرين الجدد للانضواء تحت جناح المذاهب الموجودة. فالمسألة هي بالتالي مسألة تنظيم وإدارة للاجتهاد وليست إبطالاً له كما يميل بعضهم للاعتقاد.