مأساة الشرق الأوسط في عدم الاستقرار

2003-06-26::

 

من الواضح أن تزايد الحديث عن الفجوة التنموية والسياسية والمعرفية والتقانية قد جعلت المنطقة العربية مركز جذب للباحثين الساعين إلى تجديد نظرياتهم في التخلف الاقتصادي أو ضعف النمو وفي غياب الديمقراطية وتدهور إكتساب المعرفة تماما كما جعلها ضعفها الهيكلي والاستراتيجي تتحول إلى مركز جذب لقوى السيطرة والهيمنة الدولية. والواقع أن الطروحات السائدة اليوم لتحليل وتفسير الحال العربية سواء ما اتسم منها بالثقافوية أو بالاقتصادوية أو بالتاريخانية ليست مستقلة عن إرادة الهيمنة هذه ولا بعيدة عنها. ولعل ما يجمع بين هذه الطروحات المتعلقة بتفسير الفجوة الحضارية العربية، والتي لا مجال هنا لمناقشتها، هو اتفاقها كافة على التقليل إلى أبعد الحدود من أثر البعد الجيوسياسي إن لم يكن تجاهله تماما. والواقع أن ما يعيشه العالم العربي هو حالة أزمة تاريخية عميقة وشاملة، وأن من المستحيل فهم هذه الأزمة التي تمس الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية من دون وضعها في سياقها الإقليمي والعالمي وتبيان التمفصل التاريخي واليومي معا بين الصراعات الداخلية التي تحكم تبلور القوى وتكون النظم والصراعات الاقليمية والدولية التي تكرس هذه النظم أو تعيد بناءها أو تحتويها لتوجهها في اتجاه مصالح وتوازنات أوسع منها. 

فليس هناك شك في نظري في أن السمة الرئيسة التي  تميز الوضع العربي والتي تفسر ضعف انجاز المنطقة العربية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية وخاصة العلمية والتقنية هو الانعدام المزمن والشامل للاستقرار الناجم عن شدة التنافس العالمي على النفوذ من حولها وتعدد بؤر الصراع والنزاع الإقليمي فيها وتفاقم الانقسامات الوطنية والعربية والاجتماعية داخل دولها وفي ما بينها أيضا. ومن نتائج ذلك تنامي الخلافات بين أطرافها وتفاقم التوترات التي تهزها وتخترق دولها ومجتمعاتها ومن ثم زيادة فرص التدخل الخارجي وإخضاع المنطقة للاستراتيجيات الدولية وبالتالي حرمانها من الحد الأدنى من الاستقلالية التي تمكنها من التوصل إلى تفاهمات مستمرة بين أعضائها والقبول بتسويات معقولة للمشاكل العالقة وفي ما وراء ذلك إقامة التعاون الذي لا مجال للتقدم من دونه في هذا المجال أو ذاك وبشكل خاص في مجال البحث والتجديد العلمي والتقني.

 

وليس لانعدام الاستقرار المزمن في المنطقة العربية مصدر واحد وحيد ولكن مصادر متعددة ومختلفة. وأول ما ينبغي الإشارة إليه في تحليل هذه المصادر الموقع الجيوسياسي المميز الذي احتلته المنطقة الشرق أوسطية في دائرة الحضارة القديمة وامتداداته في دائرة الحضارة الحديثة الأوربية المنشأ. فمما لا شك فيه أن المنطقة قد شكلت منذ القديم ولا تزال تشكل مركز جذب وميدان تنافس دائم وبالتالي ساحة صراع وتنازع دولي تتجدد أسبابه وتتبدل ولكنها مستمرة بلا انقطاع. وإذا استثنينا فترات تاريخية محدودة، نستطيع أن نقول إن الشرق الأوسط ربما كان من المناطق النادرة في العالم التي تميزت بهذا النوع المزمن من عدم الاستقرار ولا تزال معرضة بشكل قوي له. وكل الحضارة التي عرفتها كانت ثمرة هذا التجاذب المستمر بينها وبين الشعوب المجاورة التي نقلت إليها مكتسبات الحضارات الأخرى وجعلت منها مركز التوليف الحضاري الأشهر في العالم. لكن حركة التجاذب والتنافس الدولي على المنطقة هو الذي كان وراء الخراب المتكرر لحضارتها وازدهارها وتبديد فرص التراكم والتقدم المستمر فيها أيضا. فالصراع من حولها جعلها بؤرة جذب واستقطاب للمكتسبات العلمية والتقنية الكبيرة للحضارات القريبة منها لكنه بقدر ما حولها إلى منطقة تواصل في ما بين الحضارات زاد من شدة التنافس والصراع من أجل السيطرة عليها وعرضها للخراب في كل مرة تتغير فيها موازين القوة الاستراتيجية الدولية والإقليمية.

ففي العصور القديمة كانت المنطقة هدف غزوات مستمرة من الشمال والشرق لم تتوقف إلا مع صعود نجم الامبرطورية الرومانية التي وحدت المنطقة وطبعتها بطابع مشترك لقرون عديدة. لكن انقسام الامبرطورية وتفككها قد أعاد جدلية النزاع حول المنطقة إلى ما كان عليه حتى قدوم الفتوح الاسلامية التي أعادت توحيد المنطقة من جديد عبر الولاء المشترك لعقيدة دينية واحدة. وقد فتح انقسام الامبرطورية الاسلامية وضعفها الباب من جديد أمام الغزوات القادمة من الشرق التركي المنغولي ومن الشمال الأوروبي وأدخل المنطقة في دورة طويلة من التفكك وانعدام الاستقرار.

وفي القرون الوسطى كان التنافس على السيطرة على الأراضي المقدسة، وما كانت تشكله من رأسمال رمزي استثنائي يطمح إلى امتلاكه كل صاحب سلطة أو طموح كبير للسلطة الامبرطورية، في الغرب وفي الشرق، سببا رئيسيا في تفجير الحروب الصليبية التي غطت بنزاعاتها وحروبها المتواصلة ما يقارب الأربعة قرون. ولم يمكن للخراب المادي والمعنوي الذي خلفته أن ينتهي وتزال آثاره أو قسم كبير منها إلا مع ظهور الدولة العثمانية التي أعادت توحيد المنطقة ونشرت السلام فيها لعدة قرون. لكن الثمن الذي اضطرت المجتمعات إلى دفعه لقاء هذا الاستقرار كان عاليا جدا بقدر ما كان قائما على الإخضاع العسكري والسيطرة البيرقراطية والعزلة الدولية وتسويد عقائد وتأويلات جبرية في الدين وفي الثقافة معا. وقد تركت السياسات الاجتماعية المحافظة والحروب المستمرة التي خاضتها الدولة العثمانية أو اضطرت لخوضها للحفاظ على الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها في مرحلة توسعها المجتمعات العربية في حالة متقدمة من الجمود والاستنزاف المادي والمعنوي. ولم يأت القرن العشرون حتى كانت معظم هذه المجتمعات قد خضعت لسيطرة الدول الأوربية الصاعدة.

وفي العصور الحديثة، وفي موازاة تقدم النهضة الاقتصادية والعلمية والتقنية الأوروبية وتفكك القوة العثمانية استعادت جدلية الصراع على الشرق الأوسط حيويتها. وقد بدأت الدول الأوروبية القوية منذ القرن الثامن عشر تحركاتها للسيطرة على بعض المواقع المتوسطية واحتلالها في سياق البحث عن المواد الأولية ثم التنافس على الأسواق الذي دشن لدورة الحروب الاستعمارية. وما كادت الحروب العثمانية التي أرهقت شعوب المنطقة تصل إلى نهايتها، وكان آخرها الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة الإمبرطورية، حتى بدأت موجة الحروب والنزاعات الوطنية الرامية إلى فرض الاستقلال وتحرير المنطقة من السيطرة الأجنبية خلال حقبة ما بين الحربين.

ولم ينحسر النظام الاستعماري في الشرق الأوسط من دون أن يخلق بؤرا جديدة للتوتر والنزاع الإقليمي بعيدة الأثر. وبالرغم من أن العرب اكتسبوا على ضوء الحروب الاستقلالية الكثير من مفاهيم وقيم العصر الحديث إلا أن الاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية قد ترك محددات جيوسياسية وسياسية وإجتماعية وثقافية لاتزال تضغط بعواقبها السلبية على المنطقة وتحد من قدراتها على تمثل الحداثة والتعاون فيما بينها والاندماج. ومن أهم هذه العواقب وأعمقها أثرا من دون شك الخلل البنيوي في تركيبتها الجيوسياسية الناجم عن تفتيت المنطقة وما فرضه هذا التفتيت من تبعية هيكلية لدول المنطقة للدول الكبرى التي تستطيع وحدها ضمان أمنها واستقرارها.

ولا شك أن هذه الجغرافية السياسية الاستعمارية التي حددت مسبقا صيغة توزيع الثروة والسلطة والقوة في المنطقة وحكمت اتجاه وشكل تطور النظم المجتمعية فيها بعد الاستقلال هي المصدر الأهم لانعدام الاستقرار المزمن الذي عرفته المنطقة ولا تزال في العصر الحديث. ومهما كان الدافع لهذا الاستعمار، وهو مختلف بين دولة وأخرى، ولو ارتبط جميعه بالصراع على النفوذ الدولي وحماية المصالح الخاصة بالامبرطوريات الاستعمارية، عملت أطماع الدول الأوربية ونزاعاتها الخاصة على التشجيع على تقسيم المنطقة إلى مجموعة كبيرة من الدول الصغيرة التي يفتقر الكثير منها لعوامل الاستقلال بل حتى لعوامل البقاء. وكان هذا التقسيم في العديد من الحالات تقسيما اعتباطيا يستجيب لحاجات ضمان النفوذ الأوروبي الاستعماري بعد زوال الاحتلال أكثر مما يرد على حاجات التميز في شروط حياة السكان أوفي هويتهم الوطنية أو في مصالحهم أو أكثر مما يعكس رغباتهم. وقد كان لهذا التقسيم الذي يتجاوز اتفاقيات سايكس بيكو الشهيرة التي تشكل جزءا منه الدور الأول في تغذية التوتر والنزاع الإقليميين بما وسم به تلك الدول من الضعف الهيكلي وما بعث في ما بينها من تنافس على امتلاك الرساميل الرمزية المشتركة وعلى كسب الرأي العام العربي الواحد ومن رغبات متناقضة في تغيير الحدود أو تجاوزها أو تعيينها. وهو الذي يفسر جميع الحروب العربية العربية تلك النابعة من خيارات قومية وقطرية متعارضة أو تلك المتعلقة بتصحيح الحدود التي نشبت بين العديد من الدول الخليجية كالسعودية واليمن وقطر والبحرين وبين الجزائر والمغرب في بداية الستينات وفي ما بعد بين العراق والكويت وبين مصر والسودان. 

لكن ما هو أهم من ذلك أن هذا الترتيب الجيوسياسي غير المتفق مع حقائق مجتمعات المنطقة ولا مصالح تنميتها الاقتصادية والاجتماعية كان مناسبة ملائمة أيضا لتنصيب زعامات على البلاد الصغيرة التابعة مفروضة بوسائل ملتوية وأحيانا بالقوة المحضة. وحيثما كان ذلك ممكنا، أي في معظم الحالات, وقع اختيار السلطات الاستعمارية على جماعات تنتمي إلى أكثر فئات السكان هامشية أو افتقارا إلى ثقافة الدولة ومفاهيم السياسة الوطنية لتسلمها مقاليد الأمور في الدول الضعيفة الجديدة. وهكذا سيطرت على الحكم في أكثر هذه الدول نخب وجماعات عشائرية نظرت إلى الأقطار والمجتمعات التي خضعت أو أخضعت لها كما لو كانت ملكية إقطاعية خاصة بها وتعاملت مع مواردها وكأنها موارد شخصية يتصرف بها الحاكم وأسرته وحاشيته كما يشاؤون. ومنذ البداية استبعدت في العديد من الدول المستقلة فكرة انتخاب القيادة السياسية واعتبرت الديمقراطية نموذجا غريبا وغير ملائم لثقافة الشعوب العربية. أما في البلدان التي نجحت فيها النخب الوطنية الممثلة للطبقات الوسطى الحديثة الناشئة في فرض نفسها وقيادة الحركة الوطنية الاستقلالية فقد كانت الشروط الجيوسياسية والاقتصادية لضمان الأمن والازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي ضعيفة فيها لدرجة لم تجد النخب الحاكمة فيها مهربا من الاختيار بين التفاهم من جديد مع دول الحماية السابقة لضمان بقائها في الحكم أو التسليم بسرعة للقوى العسكرية التي بقيت معظم قياداتها موالية إلى حد كبير للدول المستعمرة السابقة أو السقوط ضحية الانقلابات العسكرية. وقد نجحت هذه الانقلابات التي عمت معظم الدول العربية الفقيرة وغير المتوازنة في وضع حد نهائي لمحاولات بناء ديمقرطيات محلية ودفعت المنطقة إلى نفق النظم العسكرية البيرقراطية الاستبدادية التي ألغت كل شكل من أشكال الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية السليمة.

 

وما كان من الممكن لهذا الوضع الناشز الذي يخضع سياسات المنطقة لمصالح الدول المستعمرة السابقة، بالرغم من زوال الاستعمار المادي، أن يستمر طويلا. ولن تمر سنوات قليلة قبل أن تتعرف المنطقة التي قضت النصف الأول من القرن العشرين في حروب الاستقلال على نمط جديد من الحروب والنزاعات الداخلية هو نمط الصراعات الاجتماعية والوطنية والقومية معا. ففي مواجهة النخب التقليدية شبه الاقطاعية والتابعة سوف تصعد وتتطور تيارات المعارضة الوطنية والقومية والاشتراكية في البلاد العربية الرئيسية. وكان هذا مصدرا ثانيا لتغذية حالة عدم الاستقرار. ومما سيقوي من حدة هذه الصراعات الاجتماعية السياسية العقائدية مناخ الحرب الباردة الأطلسية السوفييتية الذي سيقدم للنخب والتيارات والحركات المتنازعة غطاءا عقائديا ولوجستيا واستراتيجيا معا.

وفي سياق الحرب الباردة سيترسخ النزاع داخل مجتمعات المنطقة ويستمر من دون أن يكون لدى أي من النخب المتنازعة القدرة على الحسم. لكن العامل الذي ضاعف من عدم الاستقرار هو ما نجم عن هذه الصراعات الاجتماعية والسياسية والعقائدية التي تجاوزت حدود الأقطار منفردة من استقطاب عم المنطقة بأكملها بين أنظمة سمت نفسها تقدمية تدين بالولاء للكتلة السوفيتية أو وتحتمي بها وأنظمة اختارت أن تكون محافظة ويمينية تستمد قوتها وحمايتها وعوامل استمرارها من الدعم المباشر للدول الأطلسية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أفضل مثال لزعزعة الاستقرار وتغذية ديناميكيات الانقسام والتفتت في المنطقة العربية في سياق الحرب الباردة تلك الحروب التي وضعت الجيوش العربية في مواجهة بعضها البعض كحرب اليمن التي وقف فيها النظام القومي والتقدمي في مصر ضد النظام الملكي والمحافظ في المملكة العربية السعودية. وهي الحرب التي ستستنزف البلدين العربيين ولن  تتوقف إلا أمام تصاعد وتيرة الحرب الاسرائيلية التي وضعت الدول العربية جميعا أمام أقسى امتحان منذ اندلاعها وانتهت بهزيمتها مجتمعة في حزيران 1967.

هكذا أدت الاستقلالات المغشوشة وغير الناجزة التي فرضت فيها زعامات ونخب غير منتخبة وأحيانا لا شرعية إلى ثورات وانقلابات وتفجرات داخلية عنيفة أسفرت عن قيام أنظمة عسكرية وبيرقراطية وطنية أو قومية أجهزت على كل أمل في العودة إلى نمط ديمقراطي مقبول للحكم. وفي موازاة ذلك عملت الصراعات بين الأنظمة العسكرية الجديدة ذات التوجهات السوفييتية والأنظمة التقليدية المحافظة على تعميق الاستقطاب الاقليمي وعززت من فرص النفوذ الخارجي في الأقطار العربية جميعا. وكانت النتيجة حرمان المنطقة من أي استقلالية استراتيجية أو جيوسياسية واستسلامها لتلاعبات الدول الخارجية المتنافسة على كسب مواقع النفوذ فيها وعلى مواردها الرئيسية.

إن ثمن الخضوع لأنطمة مفروضة بالقوة ومفتقرة للشرعية لم يظهر في أي حقبة مرتفعا كما يظهر عليه اليوم. فهو لا يتجلى عبر الاستخدام الموسع من قبل النخب الحاكمة لوسائل القمع وتقييد الحريات بهدف قطع الطريق على أي تعاون أو تفاعل بين الأفراد وبين الشعوب في ما وراء الحدود السياسية فحسب، ولا يبرز من خلال الخوف المتبادل الذي يميز العلاقات بين الدول العربية ولكن أكثر من ذلك عبر العجز الكامل عن إنشاء أي علاقات تعاون وتكامل بين الأقطار العربية سواء أكان ذلك في ميدان المعرفة أو في أي ميدان آخر. وكم من مشاريع التنمية المعرفية العلمية والتقنية ومن المشاريع الصناعية انهارت بسبب عدم وصول الدول العربية المعنية إلى اتفاق أو تفاهم حول تحديد بلد المقر وذلك لأن مشاريع التعاون نفسها لم تكن إلا وسيلة دعاية للنظم لا مشاريع للعمل الجدي المنتج والفعال كل نظام يسعى بفرض مقر مشاريع التعاون في عاصمته أن يستفيد وحده من ريعها الإعلامي والدعائي كي يزيد من مشروعية وجوده ولا يهمه كثيرا ضمان مشروعية الأنظمة الأخرى. بل ربما كان كل نظام يعتقد أن استقرار النظام المجاور يشكل تهديدا لاستقراره هو ويستدعي التدخل والرد بوسيلة أو أخرى. وهو ما قاد إلى العديد من النزاعات العربية العربية التي لا يزال قسم كبير منها مستمرا حتى اليوم. 

 

لكن العامل الرئيسي الذي حكم على المنطقة بعدم الاستقرار المزمن في مرحلة ما بعد الاستقلال يبقى الإعلان عن إنشاء الدولة اليهودية من جانب واحد وموافقة الأمم المتحدة عليه من دون ايجاد حل للمشكلة الفلسطينية وامتناع الدول الكبرى التي أيدت قيام اسرائيل وكان لها النفوذ الأكبر لديها وفي المنطقة من تنفيذ الشطر الثاني من القرار الأممي المتعلق بإقامة دولة عربية فلسطينية وقبولها بدل ذلك بضم أراضي هذه الدولة المنتظرة إلى إسرائيل ودول عديدة أخرى مجاورة. وكان معنى ذلك القبول بتحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب من اللاجئين الذين انتشروا في الدول العربية المجاورة للدولة اليهودية الجديدة وهذا يعني أنه بالإضافة إلى التحدي الذي تمثله كدولة مفروضة بالقوة وقائمة على التوسع تحت حماية القوة العسكرية والتهديد المستمر بالحرب على حدود الدول العربية ستشكل إسرائيل قنبلة موقوتة داخل مجتمعات العالم العربي نفسه. فما كان من الممكن للفلسطينيين المشردين والمقيمين على حدود وطنهم أن يبقوا مكتوفي الأيدى أمام المصير الذي فرض عليهم بموافقة الدول الكبرى وتأييدها.

لقد أدخل قيام اسرائيل ديناميكيات صراع جديدة إلى المنطقة تتجاوز بكثير في العنف الذي تبطنه ويمكن أن تنتجه جميع ديناميات النزاع والصراع الأخرى السابقة. وتبدو التوترات الناجمة عن النزاعات الاجتماعية السياسية داخل الدول العربية وتلك الناجمة عن الصراعات بين الأنظمة العربية الضعيفة والمتباينة في اختياراتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بسيطة وسهلة المعالجة بالمقارنة مع المشكلة المعقدة التي طرحها قيام اسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني في البلدان العربية المحيطة وما وجهه هذا الوضع من تحديات على النخب والرأي العام العربي. وبالرغم من الضحايا ومن الخسائر المادية التي كلفتها، تبدوا آثار النزاعات الداخلية الأهلية والحروب العربية العربية محدودة جدا على مصير التنمية ومستقبلها في المنطقة بالمقارنة مع التكاليف الباهظة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية التي أسفرت عنها ولا تزال الأزمة العربية الاسرائيلية المستمرة والحروب العديدة التي نجمت عنها. 

فمن أجل أن تفرض وجودها ضد إرادة الشعوب العربية التي لم تقبل إعلان الدولة اليهودية من جانب واحد وعلى حساب الشعب الفلسطيني دخلت اسرائيل في منطق تحقيق التفوق العسكري والاستراتيجي الساحق والحرب الوقائية المستمرة ضد العرب. وخاضت من هذا المنظور الاستراتيجي حروبا متتالية في 48 وفي 56 وفي 67 حققت فيها مكاسب إقليمية كبرى اضطرت العرب إلى مواجهتها بحرب 73. ومنذ منتصف السبعينات لم تتوقف حروب إسرائيل التي تركزت على جنوب لبنان ثم انكفأت على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد دفع قيام أسرائيل ثم توسعها الاستيطاني المستمر واستخدامها المتصاعد للقوة لتحقيق أهدافها خارج أي إطار للتفاهم الاقليمي ومع استبعاد أي حل مقنع وعادل للمسألة الفلسطينية إلى سباق إقليمي على التسلح استنزف طاقات المجتمعات العربية الرئيسية. وبلغت تكاليف الحروب الاسرائيلية العربية مئات مليارات الدولارات التي أنفقت على إعداد الجيوش وشراء الأسلحة.

لكن تكاليفها السياسية كانت أكبر أثرا فقد عزز احتلال أراضي الدولة الفلسطينية منذ الخمسينات ثم أراضي الدول العربية بعد حرب 1967 والتهديد المستمر بالحرب الوقائية فرص النخب العسكرية للتسلط على الحكم ثم التمسك به وحرمان المجتمعات من حقها في المشاركة السياسية وفي مراقبة السياسات الحكومية ومحاسبة المسؤولين. ودعم هذا التسلط العسكري على الحكم مفاهيم سلبية لممارسة السلطة والاحتفاظ بها أدت إلى غياب الشعور بالمسؤولية العمومية عند الحاكمين والاستهتار بالحسابات الوطنية وعمل على تعميم الفساد في الإدارات العسكرية والمدنية. كما عمل تصاعد العنف الناجم عن الاحتلال وانخراط اللاجئين الفلسطينيين فيه على زعزعة استقرار بعض الدول والمجتمعات وكان أحد الأسباب الرئيسية لتفجر الحرب الأهلية التي استمرت سبعة عشر عاما في لبنان.

وعلى المستوى الاقتصادي دمرت الحروب المستمرة التي شنتها اسرائيل أو التي أضطرت الدول العربية إلى شنها لوقف الاعتداءات الاسرائيلية لمرات عديدة البنيات التحتية العربية بما في ذلك المؤسسات العلمية ومنها مفاعل تموز العراقي للبحث الذري في الثمانينات. كما أدى المناخ المتوتر الدائم إلى هرب الاستثمارات وتفاقم نزوح الرساميل المحلية إلى الخارج بحثا عن مواطن بعيدة وذلك نتيجة الشك بإمكانية الاستثمار الطويل المدى وعدم الثقة في مستقبل المنطقة. وشكلت الحروب المتواصلة والضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية التي نجمت عنها حافزا إضافيا لتفاقم هجرة الأطر والكوادر الفنية بالإضافة إلى حافز البحث عن تحسين مستوى الدخل أو ايجاد مناصب أكثر جاذبية ومردودا ماديا ومعنويا. وأنجب منطق الحرب الذي عاشعت فيه المنطقة لأكثر من نصف قرن من دون انقطاع، مع وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون غالبا في أسوأ الشروط المادية والنفسية، توترات وتناقضات إضافية بين الحكومات والدول العربية. وأصبحت الخلافات حول الاستراتيجية التي يجدر اتباعها تجاه اسرائيل عائقا جديدا أمام تطوير أشكال التعاون الاقتصادية والعلمية والتقنية الضرورية بين الدول العربية. وعلى المستوى السياسي زادت درجة الحذر والشك وانعدام الثقة التي وسمت باستمرار العلاقات القائمة بين هذه الدول. وعمل العجز عن مواجهة التحدي الاسرائيلي لدى الدول العربية على تطوير استعدادات قوية للقول بعكس العمل وللتغطية على القصور بإدعاء الانجازات الكاذبة في كل مجال وزاد الاتجاه إلى رفض المحاسبة وإلغاء الشفافية الاقتصادية والمالية والسياسية معا والقبول بالنفاق والكذب في العلاقات العربية تحت ستار الحفاظ على المصالح الوطنية وعدم إظهار الخلافات والعيوب الداخلية. وأفسد التنافس بين النظم العربية على كسب الرأي العام العربي في مسألة فلسطين التفكير الوطني والقومي وعمم نمط المبالغة الكلامية في الوطنية على حساب التخطيط العقلاني والطويل المدى لتحقيق إنجازات فعلية. وربما كانت النزاعات والاختلافات بين الدول العربية التي نجمت عن تباين الوضع الاستراتيجي لكل دولة وحسابها للمخاطر في مواجهة اسرائيل وما نجم عن ذلك من إلغاء فرص التعاون الاقليمي العربي هي الثمن الأكبر الذي دفعته المجتمعات العربية لقيام الدولة اليهودية ولضمان استمرارها. ولا يزال منع التفاهم والتعاون بين الدول العربية هدفا رئيسيا من أهداف استراتيجية ضمان الأمن والاستقرار في إسرائيل، في نظر تل أبيب والعواصم الدولية الرئيسية معا، بصرف النظر عن أثر هذا الخيار على حياة الشعوب وأمنها وحاجات تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية ومستقبلها في عموم المنطقة. ولا يزال الصراع العربي الاسرائيلي الذي لا يظهر في الأفق أي حل واضح أو قريب له يشكل السبب الأول في تقليص فرص التنمية والتطور العلمي والمعرفي في البلاد العربية، سواء لما يخلقه من مناخ عدم الاستقرار وبالتالي تدهور شروط الاستثمار وغياب إمكانية التقدم في عملية التعاون والاندماج الاقليمي أو لما يكلفه من رساميل وتضحيات بشرية وذيول سياسية ونفسية ترهن المجتمعات وتستنزفها ماديا ومعنويا.

ولعل ما يزيد من دوافع اليأس لدى شعوب المنطقة والمعنيين بتطورها ونموها هو ما حصل من ترابط وارتباط، منذ نهاية الحرب الباردة، بين الصراع العربي الاسرائيلي من جهة والصراع العالمي على السيطرة على احتياطيات الطاقة النفطية التي يتجمع القسم الاكبر المكتشف منها في الخليج والشرق الأوسط عموما من جهة ثانية. وتشكل المعركة الدولية الراهنة للسيطرة على احتياطيات الطاقة مصدرا إضافيا رابعا لزعزعة الاستقرار وتوليد العنف في المنطقة. ففي الوقت الذي تبدوا فيه الدول العربية وكأنها فقدت السيطرة على مصيرها وليس لديها أي جواب على استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية ورفض السلطات الاسرائيلية أي تسوية، مهما كانت، حول المسألة الفلسطينية، تشير السياسات الامريكية المنحازة كليا لاسرائيل إلى أن واشنطن تراهن أكثر فأكثر على التحالف الاستراتيجي مع تل أبيب لضمان سيطرتها وتفوقها في المنطقة على الدول الاخرى. وهي ميالة بالتالي أكثر من أي حقبة ماضية إلى تبني استراتيجيات التوسع الاستيطاني والحرب الاسرائيلية المستمرة باعتبارها جزءا من استراتيجيتها العالمية لاحتواء المنطقة العربية وإخضاعها لمصالحها القومية.