تحدي العالمية وبناء الحوار والسلام العالمي

2003-06-20::

 

اتسمت الثقافة العربية الكلاسيكية مثلها مثل كل الثقافات الامبرطورية بسمة عالمية بارزة. وبقدر ما اعتمدت في انتشارها على الدعوة الدينية الموجهة إلى الأمم جميعا أصبحت أيضا ثمرة تفاعل ثقافات الأمم ومشاركة العديد منها في إعادة بنائها. وبالرغم من أن الجمهور العربي لا يزال يجد في هذا الطابع العالمي والانساني لثقافته مصدر اعتزاز وفخر دائمين إلا أن النزوع إلى الخصوصية وتأكيد المحورية الذاتية قد أصبح في العقود القليلة الماضية هو السمة الرئيسية للممارسة الثقافية في البلاد العربية. وقد نمت في سياق هذه الخصوصية وتلك المحورية الذاتية تيارات عديدة تنحو نحو التقوقع والخوف من ثقافة الآخر والتشكيك في العالمية ذاتها. وبالإضافة إلى التيارات الاسلاموية التي عبرت عن هذه النزعة الخصوصوية بالدعوة إلى القطيعة مع النظم والأفكار ونسق القيم الغربية وإقامة نظام الدولة الاسلامية المستلهم لقيم الدين والحضارة العربية مكانها، شهد العقدان الماضيان على مستوى الجمهور الواسع نفسه عودة مضطردة نحو نماذج التفكير والسلوك التقليدية سواء أكانت مستمدة من الدين أو من العرف والتقاليد المحافظة القديمة.

تبدو هذه التوجهات المتزايدة للثقافة العربية وكأنها تسير عكس التيار العام للثقافة البشرية المعاصرة التي تنزع بشكل واضح نحو العالمية والانفتاح. ولذلك فإن هذه التوجهات تصطدم بقوة  بالرأي العام العالمي غير العربي وغير الاسلامي الذي يرى فيها توجهات غريبة تعكس عجز العرب عن اللحاق بالعصر أو عداءهم الكامن للثقافات الأخرى. ولعل هذه النظرة هي التي تفسر الصورة السلبية التي أخذت تنتشر في العالم عن العرب وثقافتهم وقدرتهم على المشاركة الايجابية والفعالة في الحضارة المعاصرة. ويكفي الإشارة هنا إلى كتاب برنارد لويس : ماذا حدث؟ أو أين يكمن الخطأ[i]. وهو أيضا ما يفسر الانتشار الواسع في العالم الاسلامي وفي الغرب معا لأطروحات  هنتغتون الشهيرة حول صدام الثقافات والتفسير الذي أعطي لها فجعل منها رؤية تنبؤية للحرب الحضارية.

وتبدو المجتمعات العربية والاسلامية في منظور العلاقات الدولية الجديد مجتمعات حاملة لثقافة وقيم وتقاليد غريبة عن الحضارة الراهنة ومتناقضة معها وهي بالتالي لا يمكن إلا أن تكون معادية بالسليقة للغرب وقيمه وثقافته. وهو ما أصبح يبرر في نظر قسم كبير من الرأي العام الغربي حربا وقائية واستباقية إزاءها تهدف إلى تدمير حركاتها الارهابية المعادية للغرب واحتواء عداءها وتغيير ثقافتها وتجفيف ينابيع العنف النظري والمادي الذي يعتقد أنه كامن فيها ومرتبط بقيمها وتقاليدها. ومن هنا، وفي أغلب الأحيان، اختلطت الحرب ضد الارهاب، عند قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي، بالحرب لإخضاع الثقافة العربية والدين الاسلامي وإكراههما على التغيير، وأصبح العمل على عزل العرب والمسلمين وتهميشهم وإخراجهم من دورة التقدم العلمية والتقنية بمثابة سياسة دفاعية وأمنية رسمية للعديد من الحكومات الغربية.

لا يمكن فصل هذه التوجهات السلبية في حضن الثقافة العربية المعاصرة عن روح المواجهة السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية التي نمت منذ نهاية حقبة الاستعمار بين جماعة عربية طامحة لتبوء مكانتها في عالم الحضارة الحديثة وللسيطرة على مقومات هذه الحضارة العلمية والتقنية وتكتل صناعي غربي لا يزال غير قادر على التعامل معها ومع مواردها من منظور آخر سوى منظور مناطق النفوذ. وهكذا ما كادت محنة الاستعمار التقليدي العميقة تصل إلى نهايتها مع استقلال الجزائر في بداية الستينات من القرن العشرين حتى بدأت سلسلة جديدة من النزاعات بين الكتلة العربية والكتلة الصناعية. ولعل أبرزها ما دار حول قيام الدولة اليهودية في فلسطين وما تبعه من تحالف وثيق بين اسرائيل المستقلة والتكتل الغربي جعل من المستحيل ايجاد أي حل سياسي للقضية الفلسطينية. ومنها أيضا الصراع في سبيل السيطرة على الموارد الطبيعية المحلية الذي سيتركز حول الممرات المائية ثم ينتهي بالحروب المتعددة للاحتفاظ بالسيطرة الاستراتيجية على الموارد النفطية. ومنها أخيرا التحكم بسياسات الدول والنخب المحلية في إطار تعزيز فرص النجاح في الحرب ضد الارهاب. 

وهكذا لم يأت عصر العولمة للعالم العربي بفرص أكبر لتحقيق التنمية التي لم ينجح في الحصول عليها في العصر السابق ولكنه أتى له بمشاكل استراتيجية جديدة بدا غير قادر على مواجهتها وليس لديه الأدوات النظرية ولا الأطر المؤسسية والقانونية ولا الامكانات المادية لبناء وسائل مواجهتها والرد الايجابي عليها. ولذلك فقد تحول بسرعة إلى ضحية لتجاذبات السياسات الدولية، ففقدت الجامعة العربية اتساقها وتجانسها، وتراجعت سيادة الدول العربية، ولم تعد لحكوماتها مشاغل أهم من إرضاء القيادة الأمريكية والرد على مطالبها وإلزاماتها للحفاظ على استقرارها وسلامتها.

ولا شك أن ارتباط المنطقة العربية بموارد أولية استثنائية ذات أبعاد استراتيجية كالنفط، وانخراطها في قضايا ذات ابعاد دولية مثل اسرائيل بوصفها الحل الذي تبلور للمسألة اليهودية الغربية، وتمسكها بهياكل سياسية وقانونية ومؤسسية ضعيفة وهشة تغذي التوتر وعدم الاستقرار المزمن، كل ذلك قد شجع على تحول المنطقة إلى ميدان للصراعات الدولية وأخضعها لاستراتيجيات الدول الكبرى المتنافسة. ونظرة سريعة إلى نصف القرن الأخير تظهر لنا كيف أن تاريخ المنطقة قد تحول إلى استئناف مستمر للحرب وتوسيع لدوائرها ومستوياتها وانغماس متزايد فيها. فلا يكاد يمر عقد من دون اندلاع حرب مدمرة واسعة جديدة. فقد كلف توطين إسرائيل في المنطقة حتى الآن ست حروب كبرى لا تزال آخرها مستمرة وليس هناك أي مؤشر إلى أنها يمكن أن تنتهي قريبا هي حرب 1948 ثم 1956 ثم 1967 ثم 1973 ثم 1982 ثم حرب وقف الانتفاضة الدائرة منذ عام 2000 من دون توقف داخل فلسطين. وإلى جانب مسلسل الحروب العربية الاسرائيلية وبموازاتها بدأ منذ الثمانينات مسلسل حروب النفط التي عرفت المنطقة منها حتى الآن ثلاثة بدءا بالحرب العراقية الايرانية التي خاضتها بغداد باسم العالم الحر الصناعي وبدعمه التقني والعسكري والاقتصادي الكامل في 1980 لحماية نفط الخليج من الزحف الاسلاموي الايراني، إلى حرب الخليج الثانية العراقية الامريكية عام 1991 والتي استمرت لأكثر من عقد عبر الحصار الشامل الذي فرض على العراق، ثم الحرب العراقية الامريكية الثانية التي اندلعت في أفريل 2003 وأدت إلى تفكيك متواصل للدولة وللمجتمع العراقيين بما يعني ذلك من انتشار الفوضى والاقتتال والعنف. وعلى هامش مسلسلي الحروب الاسرائيلية والنفطية وبموازاتهما انطلق منذ 11 سبتمبر 2001 مسلسل الحروب ضد الارهاب العالمي الذي أصبح من المسلم به اليوم في الأوساط الدولية أن مركزه هو الشرق الأوسط والعالم العربي والاسلامي بالذات. ولا يزال هذا المسلسل الجديد يعد العالم بحروب ووقائع حربية كثيرة وغير منتظرة. ويخشى إذا استمرت مسلسلات الحروب المتوازية، كما هو متوقع، حول المسألة الاسرائيلية واحتياطيات النفط وسوء استخدام سيف الارهاب الدولي لإخضاع العالم العربي واستخدامه كرافعة لبناء نظام السيطرة الدولية الأحادية، أن لا يبقى في الشرق الأوسط مكان لحياة أخلاقية ولا لثقافة إنسانية ولا لتنمية علمية ولا لتقدم تقني ومعرفي، بل ربما ولا لحياة اجتماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة وأن تتحول بقاع هذا الشرق إلى ساحة لتراكم الخراب والدمار وتفاقم الفوضى والاقتتال.

لا شك أن أحداث 11 سبتمبر 2002 لعبت دورا كبيرا في تعميق الشعور بالتناقض الثقافي بين الغرب والاسلام وتعميم مفهوم الحرب الحضارية كما لعبت الحركات الارهابية ومظاهر العنف واستخدام القوة من قبل فرق وجماعات صغيرة عربية أو إسلامية عديدة داخل البلاد العربية وخارجها دورا كبيرا في تمكين بعض التيارات الغربية المعادية للعرب من إضفاء نوع من الصدقية على نظرية صراع الحضارات التي تسعى قوى دولية عديدة لاستغلالها في سبيل تبرير أهداف متباينة ومتعددة. ومن هذه القوى بعض الإدارات الجمهورية التي بدأت منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ريغان في رفع شعار محاربة الارهاب كوسيلة سهلة لتعبئة الرأي العام وراء سياسة القوة التي مارستها وإرادة السيطرة والتفوق العالمي التي ارتبطت في ذلك الوقت باستراتيجية حرب النجوم. وقد ورثت إدارة بوش الجمهورية الحالية معظم منظري الحقبة الريغانية واستراتيجييها الذين يستخدمون فزاعة الارهاب العربي والاسلامي لتبرير سياسة القوة والسيطرة الجديدة والتعويض بها عن فزاعة الشيوعية التي فات أوانها والتي كانت تسمح للنخب السياسية وللمركب الصناعي العسكري الاستمرار في التوسع في الانفاق العسكري من دون إثارة أي احتجاج.

ومن القوى ذات المصلحة في توتير الاجواء العربية الغربية وتعميم مناخ الحرب الحضارية أيضا الحكومة الاسرائيلية وأنصار الدولة اليهودية الذين يسعون في كل مكان يوجدون فيه إلى تبرير الحرب الاستيطانية الاسرائيلية في فلسطين وتمريرها على الرأي العام العالمي باعتبارها جزءا من الحرب العالمية ضد الارهاب. ومنها أيضا بعض القوى العنصرية والدينية المتطرفة الموجودة في الدول الصناعية التي وجدت في شعار الحرب ضد الارهاب وسيلة لإدانة الاسلام كعقيدة دينية وتبرير سلوكها تجاه العرب والمسلمين والمهاجرين منهم بشكل خاص.

وفي اعتقادي، عمل تلاقي الأزمة المتفجرة التي تعيشها المجتمعات العربية منذ ثلاثة عقود مع حاجات استراتيجية السيطرة العالمية الأمريكية والحرب الاستيطانية الاسرائيلية، على وقوع الاختيار على العالم العربي بوصفه كبش فداء النظام الدولي الجديد. وقدمت المظاهر المتعددة لانفلات العنف في الداخل والخارج تحت تأثير هذه الأزمة حججا أو ذرائع ظاهريا قوية لتوجيه التهمة إلى العالم العربي والاسلامي كمحور للشر بعد زوال المحور الرئيسي الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي وسمحت للتحالف الغربي بأكمله ثم للإدارة الجمهورية الأمريكية اليمينية بتوجيه الأنظار إليه كمصدر لمخاطر وتهديدات حقيقية وعديدة. وكان الحديث عن الارهاب وإدانته في المنطقة قد تردد كثيرا من قبل في إطار السعي إلى تسوية سلمية عربية إسرائيلية قبل أن تتطور في سياق استراتيجية السيطرة العولمية الأمريكية فكرة الحرب العالمية ضد الارهاب.

ليس هناك شك في أن الربط القائم اليوم بين العالم العربي الذي يختلط في المخيلة الغربية بالعالم الاسلامي وبين أنماط مختلفة من التهديدات التي تقض مضاجع مجتمعات بداية القرن الواحد والعشرين الصناعية والتقنية لم يكن نتيجة عامل واحد ولكن عوامل عديدة عقائدية وسياسية واستراتيجية. فقد تراكمت في الوعي الغربي صور قديمة وحديثة لتحول هذا العالم إلى مصدر شر محتمل وتحكم عليه بالإدانة الكاملة والمسبقة وتدفع إلى معاداته كما تبرر استباحة حقوقه وموارده أو تجعل مثل هذه الاستباحة عملية طبيعية وغير مثيرة لأي احتجاج أو اعتراض. وهكذا انتعشت ذكريات تاريخية دفينة قرسطوية كانت توحد بين العقيدة الاسلامية الدينية وبين الهرطقة وبينها وبين إرادة الحرب المعلنة والغزوات المستمرة والعداء للغرب وللأديان الأخرى وللأقليات، وتضافرت مع صور جديدة معاصرة ترى في الإسلام دينا تقليديا محافظا يرفض الحداثة وقيمها ويصر على العيش في قيم ومناخات القرون الوسطى. وأضيفت ذكريات تاريخية قريبة مرتبطة بالنزاعات التي رافقت حروب الاستقلال ونزع الاستعمار إلى صور جماعات الأصولية الاسلامية الحديثة المحافظة أو المتطرفة والعنيفة منها فكونت للعالم العربي صورة مرعبة يختلط فيها انعدام المدنية مع غياب القيم الأخلاقية والإنسانية. وقد جاءت عمليات تفجير برجي مركز التجارة الدولية في سبتمبر عام 2001 لتلخص هذه الصورة العامة وتكثفها وتجعل من العربي المسلم نموذجا للإنسان المتخلف الذي يستخدم العنف من دون مراعاة أي شرعة إنسانية او قانون أو أخلاق. وهي الصورة التي  ترمي في الواقع إلى جعل الرأي العام العالمي يقبل بأجمعه تبرير الحرب الساخنة للسيطرة على الشرق الأوسط بقوة السلاح والتحكم بموارده المادية والسياسية واستخدامها لفرض التبعية على الدول الصناعية الكبرى والحصول على تعاونها بثمن سهل. 

وليست الضغوط الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمارسها واشنطن احيانا بدعم من الدول الأوروبية الأخرى وأحيانا لوحدها على الدول والشعوب العربية إلا جزءا من تكتيكات هذه الحرب التي ترمي إلى فرض التسليم على الدول والمجتمعات العربية وحرمانها من أي هامش استقلال وانتزاع قرارها الوطني واستخدامها كوقود للحرب الدولية الخفية من أجل السيطرة العولمية.

ولا يمكن لهذه الحرب الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والعسكرية المعلنة  ضد المنطقة العربية ومن ورائها المطابقة المتزايدة، التي تساهم فيها وسائل إعلام عالمية خاضعة بقوة للسيطرة السياسية، بين العقائد والثقافة والمجتمعات العربية والاسلامية وبين العنف والارهاب،إلا أن تعمل على خلق مناخ من الشك والحذر من كل ما هو عربي ومسلم لدى أوساط الرأي العام العالمي، مما يهدد بإفساد التواصل الطبيعي بين المجتمعات العربية والمجتمعات الصناعية المتقدمة ويغلق الباب أمام عملية التفاعل الضرورية للتنمية وفي مقدمها عملية التراكم المعرفي. فهي لا تشجع  العديد من القوى والاوساط الدولية على الابتعاد عن العالم العربي والاسلامي وتجنب الاتصال والتبادل معه فحسب وإنما تبرر للعديد من القوى الدولية أيضا، باسم الخوف من استخدامها لأهداف عسكرية أو إرهابية أو معادية لاسرائيل، حرمانه بشكل علني من السيطرة على وسائل التقدم العلمي والتقني.

وقد دفعت الحرب ضد الارهاب العالمي السلطات في العديد من الدول الصناعية خاصة في الولايات المتحدة إلى تشديد  مراقبتها على المؤسسات العربية والاسلامية الخيرية والعلمية، بل وإغلاق أكثرها ومنع الطلبة العرب والمسلمين من ارتياد الجامعات ومراكز البحث العلمية وامتلاك ناصية العلم والتقنية الأمريكية والأوروبية. وفرضت السلطات الامريكية على أفراد الجاليات العربية والاسلامية تسجيل أسمائهم في سجلات خاصة أمنية تذكر بالممارسات الفاشية التي مست الجاليات اليهودية في أوربة ماقبل الديمقراطية. وهي تزمع التصويت على مشروع قرار يسمح لها بسحب الجنسية الأمريكية من أولئك الذين يمكن أن يشك بولائهم أو يتهموا بالمشاركة من قريب أو بعيد بالعمل الارهابي. وهكذا، تحت تأثير الضغوط الأمنية والعنصرية أحيانا، اضطر عدد كبير من الطلبة العرب الذين كانوا يتابعون دراساتهم في الولايات المتحدة إلى قطع إقامتهم والعودة إلى بلادهم الأصلية.

لكن العواقب الأخطر في هذه الحرب الثقافية المعلنة تكمن  في النزعة القوية التي تنميها عند الرأي العام العربي والاسلامي إلى الانقطاع عن العالم الغربي والخوف منه والشك الكامل في نواياه ومن ثم الانكفاء على قيم الماضي والتراث والانطواء على النفس. وليس من المبالغة ان نقول إن الخطر الأكبر الذي يهدد التنمية, العلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية معا، ويمنع تراكم رأس المال المعرفي اليوم في العالم العربي هو التهميش الذي تفرضه بعض السياسات والاستراتيجيات الدولية على هذا العالم في سبيل احتوائه من جهة وإرادة الإنكفاء على الذات او التهميش الذاتي الذي تنميه لدى قطاعات متزايدة من الرأي العام العربي والاسلامي حركات العداء المعلن والمتفاقم للثقافة العربية وللاسلام من جهة ثانية. فليس هناك ما هو أخطر على مستقبل التقدم الأخلاقي والمدني والعلمي والتقني في العالم العربي من فك الارتباط مع العالم والانعزال.

ولعل ما يزيد من دوافع اليأس لدى شعوب المنطقة والمعنيين بتطورها ونموها هو ما حصل من ترابط وارتباط وثيقين، منذ نهاية الحرب الباردة، بين ما يسمى بالحرب العالمية ضد الارهاب التي مست بشكل حصري مؤسسات إنسانية وعلمية عربية والحرب الاسرائيلية في فلسطين  وبينها وبين الحرب الأمريكية للسيطرة على احتياطيات الطاقة النفطية التي يتجمع القسم الاكبر المكتشف منها في الخليج والشرق الأوسط عموما. ففي الوقت الذي تبدوا فيه شعارات الحرب العالمية ضد الارهاب وسيلة لتبرير الحرب الدولية للسيطرة على النفط تشير السياسات الامريكية المنحازة كليا لاسرائيل إلى أن واشنطن تراهن أكثر فأكثر على التحالف الاستراتيجي مع تل أبيب وتتبنى استراتيجيات التوسع الاستيطاني والحرب الاسرائيلية المستمرة باعتبارها جزءا من استراتيجيتها العالمية لاحتواء المنطقة العربية وإخضاعها لمصالحها القومية وعزل الدول والتكتلات الأخرى المنافسة.

لكن ليس هناك شك أيضا في أن تنامي فكر الخصوصية والانكفاء على الذات وثقافة الضحية يعبر عن إخفاق المجتمعات العربية في الرد على تحديات العولمة وحل المشاكل الكبيرة التي تثيرها سواء في مستوى أزمة الهوية أو تفاقم الصراعات الدولية حول الموارد المادية والمعنوية. وهو بقدر ما يدفع العرب نحو اختيار الانسحاب والهامشية يساهم أيضا في تعميق القطيعة مع العالم ومع العصر وينمي الحاجة إلى مشاعر النقمة ويقلل بشكل أكبر من فرص الرد الايجابي على تحديات العولمة الخارجية والمحلية.

 

 

[i] B. Lewis, Que s’est-il passé? L’islam, l’Occident et la Modernité, (trad. Française), Gallimard, 2002