اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي

2003-07-04:: الحوار المتمدن

 يصدر الاختيار الديمقراطي في سورية

الكتاب الأخير لبرهان غليون لا يتناول مسائل العولمة والثقافة ومسألة الدولة في علاقتها مع الدين والمنظومة العالمية كما كانت كتبه السابقة ولكنه ينصب على موضوع محلي راهن ومشتعل ما هو دمقرطة المجتمعات العربية الذي أصبح يستخدم اليوم ذريعة من قبل الولايات المتحدة لإقامة سيطرتها الإقليمية الشاملة. وهو يأتي استكمالا لأول كتاب نشره برهان غليون قبل ربع قرن - عام 1976 - بعنوان بيان من أجل الديمقراطية. لكن الكاتب لا يتناول موضوعه المفضل في المطلق ولكن ضمن سياق تاريخي استثنائي عالمي ومحلي هو سياق حركة التغيير المطروحة منذ ثلاث سنوات في سورية بموازاة الحرب الأمريكية المعلنة لإخضاع النظم العربية وتطويعها للسير في ركاب استراتيجيتها الإقليمية والعالمية. وخلال ما يقارب المئتي صفحة من الحجم المتوسط يسعى عالم الاجتماع والناشط السياسي السوري إلى تقديم عرض دفاعي بنفس لا ينقطع عن الاختيار الديمقراطي بوصفه المشروع الوحيد الذي يمكن المجتمع السوري الذي دمرته أربعة عقود من القهر والتهميش والعزل من الخروج من نفق الجمود والاختناق والتقهقر والعودة الفاعلة إلى دورة الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية العالمية. بل هو يرى فيه أكثر من ذلك، وبعكس جميع أولئك الذين يشككون بقدرة المجتمع السوري والمجتمعات العربية عامة على الخروج من النظم الاستبدادية، المشروع الوحيد الذي توجد فرص حقيقية لتحقيقه اليوم بعد انهيار كافة نماذج الشمولية والديكتاتورية وأسسها النظرية والأخلاقية في العالم أجمع. لماذا الديمقراطية وكيف تتحقق في سورية هو الموضوع الأساسي لهذا الكتاب الحواري الذي تتناول فصوله الاحدى عشر مسائل مثل : مصير الاشتراكية والنظم الشمولية، اليسار واليسار الديمقراطي، الديمقراطية والديمقراطية السورية، الديمقراطية وعلاقتها بالرأسمالية والليبرالية، الخراب الذي طرأ على مؤسسات المجتمع السوري ومسؤولية السلطة ومسؤولية المعارضة فيه، الدولة والمجتمع المدني، العلمانية والمواطنة، الديمقراطية والأصولية الإسلامية، الديمقراطية والمسألة الطائفية، العلمانية والمواطنة، العقد الوطني، المصالحة الأهلية ثم مشروع التحول الديمقراطي في سورية في علاقته مع القضايا الخارجية والقومية.

والواقع أن الكتاب لا يعالج فقط أزمة التحولات الديمقراطية في البلدان العربية ومشكلاتها المختلفة، من خلال الحالة السورية، ولكنه يشكل، أبعد من ذلك، مساهمة في النقاش العالمي الدائر حول مسائل التطور النظري للفكر السياسي في حقبة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الشيوعية وصعود النزعة الامبرطورية. وهو يقدم إضافات نظرية أحيانا غير مسبوقة سواء ما تعلق بتجديد الفكر الاشتراكي الديمقراطي وإعادة تأسيسه أو ما تعلق بتجديد الفكرة الديمقراطية وإعادة تأسيسها على قاعدة بناء المواطنية في عالم يفيض أكثر فأكثر عن حدود دوله الجغرافية والسياسية. وهنا بعض الاقتباسات لتعميم الفائدة.

 

في نقد الفكر اليساري السائد

"إن الخطأ الذي وقع فيه اليسار المعادي للديمقراطية, وينبغي القول إنه كان هناك يسار معاد بصراحة للديمقراطية في الحقبة الماضية, هو أنه كان ينظر إلى نظامها بوصفه النظام الذي يوافق مصالح الرأسمالية ويضمن سيطرتها. والسبب في ذلك هو أنه كان يلغي من حسابه أصلا مفهوم الطبقة الوسطى ولا يرى فيه أي قيمة تحليلية أو اجتماعية. إن المجتمع مقسوم في نظره إلى طبقتين أساسيتين متناحرتين والباقي فراغ أو برجوازية صغيرة متذبذبة أو أفراد لا قيمة لهم : طبقة المأجورين الذين لا أمل بحصولهم على أي مكسب وبالأحرى على حريتهم من دون قلب نظام الرأسمالية من أساسه ومنه نظام الديمقراطية الذي نما تاريخيا في سياقه, وطبقة أصحاب رأس المال التي لا هدف لها سوى تخفيض الأجر إلى حده الأدنى حتى تزيد من نسبة أرباحها. والواقع أن التجربة التاريخية أثبتت خطأ هذا التصور المانوي للمجتمعات وأن التكوين الطبقي للمجتمعات أكثر تعقيدا وتنويعا بكثير من ذلك, وأنه حتى داخل الطبقة المأجورة وتلك المالكة لرأس المال هناك تناقضات وتوترات وصراعات, وأن حل جميع هذه الصراعات وترتيب البناء الاجتماعي المتنوع وبث الانسجام فيه لا يمكن أن يحصل من دون هامش كبير من المرونة وإمكانية الحركة هو الذي تضمنه الديمقراطية, وتنشيء عليه الطبقة الوسطى أيضا, فتصبح مفيدة لأصحاب رأس المال كما هي مفيدة لغيرهم لأنها الوحيدة التي تضمن تحويل المجتمع من ساحة حرب بين طبقتين مجردتين إلى مجتمع موحد وقادر على البقاء والحركة والتقدم إلى الأمام بالرغم من الصراع والانقسام. والتجارب الشيوعية وشبه الشيوعية التي عرفها القرن العشرون دلت على أن إلغاء هذا الهامش من الحريات لا يساعد على خلق مساواة أفضل بين الناس وإنما يلغي قبل أي شيء آخر الطبقة الوسطى ويدفع بالفعل المجتمع إلى الانقسام العميق والكامل بين نخبة بيرقراطية مفصولة عن الشعب ومتماهية مع الدولة الاشتراكية وبالتالي مالكة للسلطة السياسية وللسلطة الاقتصادية والفكرية معا وشعب متساو في الهامشية والعبودية والاغتراب.

"ويكمن الخطأ الثاني لليسار في أنه كان يربط تطبيق العدالة التي هي قيمة إنسانية كبرى بمشكلة نمط الانتاج الاقتصادي ويجعل من إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج أو تعميم الملكية العامة والاقتصاد المخطط الشرط الضروري لتحقيق هذه القيمة. وكان هذا نابعا من اعتبار أن البنية التحتية هي التي تتحكم بالبنية الفوقية وأن الملكية الخاصة وما يرتبط بها من علاقات استغلالية وفي مقدمتها ملكية رأس المال لا يمكن ان تتماشى مع العدالة الاجتماعية. الآن نحن نعتقد أن من الممكن من خلال تطوير أليات الدولة القانونية وإخضاع الاقتصاد الرأسمالي لمنطق الحفاظ على الانسجام والاتساق الاجتماعي وبالتالي للحاجات والقيم السياسية من حرية ومساواة وعدالة وتضامن وطني, أن نقيم أشكالا من العدالة أكثر مرونة وفاعلية وتناغما مع حاجات الفرد الى الحرية والمسؤولية والمبادرة الذاتية. وبالعكس تبدو لنا الصيغة التقليدية المستندة الى التأميمات الشاملة صيغة بيرقراطية فاسدة تقضي على حرية الفرد وتقتل روح الاجتهاد والعمل والانتاج وتقود الى الروتينية والجمود والفساد ولا يمكن تصورها من دون نظام السيطرة الشاملة للحزب الحاكم.

هذا لا يعني التقليل من دور الدولة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية لكن يشير الى نوعية او نمط الدولة المتدخلة, هل هي دولة البيرقراطية التي تتصرف من دون مسائلة أم الدولة الديمقراطية المستندة الى انتخابات نزيهة والتي ترجع باستمرار إلى الشعب وتخضع لمراقبته وإشرافه وإرادته المعبر عنها بصورة دورية وليس مرة واحدة والى الابد. كما أنه لا يعني امتناع وجود قطاع عام في الاقتصاد. ففي بلدان مثل بلداننا لا يمكن لمثل هذا الموقف الليبرالي المجرد أن يعني شيئا آخر سوى استقالة الدولة الاجتماعية والوطنية والتخلي عن مسؤولياتها. فما دامت الرأسمالية المحلية ضعيفة وفقيرة في الرسالة والامكانات والموارد والعلاقات الدولية معا وما دام من الصعب تصور نشوء طبقة رأسمالية حية من النمط الليبرالي الذي عرفته البلدان الصناعية – بينما السائد هو طبقة من المافيات أو شبه المافيات التي راكمت رساميلها عبر وسائل السرقة والغش والمصادرة والاستيلاء المختلفة- يبقى على الدولة في هذه البلدان مسؤولية رئيسية في بناء الهيكلية الاقتصادية للمجتمع, لكن ليس بالضرورة بالاساليب والطرق البيرقراطية والتسلطية البدائية.

"لم يعد أحد يعتقد بعد فشل التجربة الاشتراكية البيرقراطية الشمولية أن تحقيق العدالة رهن بإلغاء السوق وملكية رأس المال والملكية الخاصة للشركات الاقتصادية. فالعدالة قيمة إنسانية تستمد حياتها وقوتها من الايمان بها والعمل المستمر لتعميقها, فهي مرتبطة بالحياة السياسية والاجتماعية في حين أن الإدارة الاقتصادية تستمد معناها ومضمونها من النجاعة وتحسين الانتاجية والاستغلال الأفضل للموارد, أي من الترتيبات العقلانية لا الاخلاقية والايديولوجية. إن السوق آلية اقتصادية لكن طريقة ضبط السوق والتعامل معها مسألة سياسية واجتماعية على أساسها تتحدد طبيعة النظام المجتمعي القائم.

 

معنى الديمقراطية اليوم بالنسبة للسوريين "والعرب" عموما:

"عندما نطرح مسألة الديمقراطية هنا في بلدنا، فنحن لا نطرحها بإطلاق كما أننا لا نطرحها في الفراغ ولا لذاتها وإنما لما ننتظر منها من آثار ايجابية في تحقيق جملة من الاصلاحات الهيكلية الأساسية والضرورية وفي سياق تاريخي محدد, أي من منظور ظرف دولي واجتماعي واقتصادي معين, وفي إطار الأزمة الكبيرة التي نمر بها وما تفرضه علينا من ضرورة البحث عن إجابات ناجعة على تحديات معينة ومختلفة, وبعضها جديد تماما بالنسبة لنا ولغيرنا. ومن المفروض ان تلبي الديمقراطية التي نطرحها مطالب تتعلق بإطلاق العملية الاقتصادية التي تكاد تتوقف تماما بسبب المثبطات المختلفة, واحياء المجتمع وإثارة فضوله وشحذ إرادته وتعزيز معنوياته حتى يستعيد شيئا من روح المبادرة المقتولة تماما, وتحرير لأفراد من منطق الإذعان والاستسلام والتسليم للدولة وللمعونة الحكومية وتنمية الشعور بالمسؤولية الجماعية والتاريخية وبالتالي تحرير الانسان من الكساح الأخلاقي والسياسي والاجتماعي الذي أحدثته فيه عقود طويلة من الإمعية والصمت ونزع الشخصية والإرادة وتخدير الوعي الجمعي في ظل أنظمة الوصاية الأبوية, وبالتالي تفجير طاقاته الابداعية والانتاجية. أي أننا نتحدث عن الديمقراطية في سياق البحث عن نزع الخوف العميق من قلوب الأفراد وتشجيعهم على الخروج من السلبية والاستقالة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تترجم باستفحال الفساد والفوضى والتسيب والاتكال.  كما أننا نتحدث عن الديمقراطية اليوم في سياق الشعور المتزايد باغتراب الدولة عن المجتمع ومع الأمل بإعادة تأهيل الدولة وتقريبها, بما فيها من أجهزة ووسائل وإمكانيات, من الجمهور الواسع وجعلها أليفة لديه وعونا له وإطارا لتعبيره عن آماله وتنظيم نشاطاته والتنسيق بين جهود أبنائه لا عدوا يتربص به ولا أداة ومركزا لا تنفذ موارده للتنكيل والقمع والقهر وتكبيل طاقات الأفراد وتحييد

إراداتهم. ونحن نتطلع الى الديمقراطية في سياق إدراكنا المتزايد لما تمثله الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية من تحديات وحاجتنا في سبيل مواجهة ما هو قائم وما هو متوقع منها إلى دفع المجتمع الذي بقي عقودا طويلة منقطعا عن العالم ومنعزلا عن التطورات والمعارف والابداعات الكبيرة التي عرفها إلى المبادرة والانخراط المنتج والمبدع في هذه الثورة التي تتطلب وجود مجتمع مفتوح ومرتبط بالعالم القائم ومتفاعل معه أخذا وعطاءا. ونحن نتحدث عن الديمقراطية أيضا هنا في ظروف مجتمع يواجه منذ عقود طويلة وفي شروط شاقة صراعا مريرا وتاريخيا مع اسرائيل التي لا تزال تحتل جزاء من أراضيه والأراضي الفلسطينية وتسعى الى أن تفرض نفسها كدولة عظمى في المنطقة العربية ولديها من الامكانيات والوسائل العسكرية والسياسية والدولية ما يجعلها تطمح بالفعل الى أن تكرس نفسها القوة المهيمنة التي تخضع لها بقية الدول العربية وتسير حسب املاءاتها. وليس هناك في نظرنا وسيلة أخرى للرد على هذا التحدي إلا بالارتفاع بهياكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية إلى مستوى المواجهة المفروضة علينا, وهو ما يستدعي تخليص شعوبنا من الشلل الوطني والقومي والانساني الذي فرض عليها بسبب أنظمة التعقيم والإخصاء والتقزيم.

"وأنا أرى اليوم أنه من أجل التحول المطلوب لإصلاح الأوضاع ككل في سوريا، لا بد من بناء محور يستقطب كل الديمقراطيين حول ما نسميه برنامجا ديمقراطيا، اشتراكيين وأنصاف وأرباع اشتراكيين، ويمينين معتدلين، وليبراليين عقلانيين، ووطنيين يريدون الإصلاح وتطور البلد، وليس الاغتناء والإثراء الشخصيين على حساب المجموع. هؤلاء جميعاً يجب أن يضمهم قطب ديمقراطي يعطي للحياة السياسية في البلاد ثِقلا جديدا وقوة جديدة تساعدها على الانتقال نحو ما ذكرته سابقاً: إلغاء نظام الوصاية الأبوية أو السياسية أو الحزبية على المجتمع وإعلان عهد الحرية والمساواة بين جميع الافراد والاعتراف بحقوق الإنسان واستقلاله وحرمته, وتكريس المواطنة كوضعية قانونية متساوية ومشتركة قائمة على الاعتراف بالشعب كمصدر للسلطة والقبول بقاعدة الاحتكام الدوري والمنظم له, وفي النهاية, إلغاء الامتيازات القانونية وغير القانونية الاستثنائية وبناء دولة مواطنين لا عزبة إقطاعية يتحكم فيها وبمصير سكانها أسياد متوجون ومخلدون لا يسألون عما يفعلون تدعهم ميليشيات لا ترمي الطاعة لغيرهم ولا تخضع هي نفسها لقانون غير إرادتهم وأهواءهم.

"إن المضمون العميق للبرنامج الديمقراطي في سورية  ليس بناء الديمقراطية  بل وضع حد للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام الذي أثبتت تجارب الشعوب العديدة كما أثبتت تجربة العقود الماضية عندنا أنه غير صالح لتحقيق الاهداف التي خطها لنفسه وفي مقدمها التصدي للفقر والتفاوت الطبقي والاستقلال السياسي والثقافي والتنمية الاقتصادية وبناء الانسان أو الفرد الحر والمبدع.

 

في أصل الخراب الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي

"مصير الشعوب معلق بأساليب أدارتها وتنظيمها وقيادتها السياسية. والإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع البذل والموهبة الحية. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة والتنظيم الرديء وسياسة كرش المجتمعات كما يكرش قطيع الماعز أو الماشية على هدر الموارد وقتل المواهب وتهريب الكفاءات الحقيقية وتعظيم الفئة الوصولية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو. ولم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها لا بسبب العصا الغليظة التي كان يستخدمها قادتها لسوقها كالقطعان ولا بفضل الجزرة أو الرشوة التي كانوا يقدمونها على سبيل الإغراء. لا بد لنا أن ندرك في الحقيقة أن ما نعيشه اليوم من أوضاع هو من إنتاج مؤسساتنا وفي مقدمها نموذج الحكم وممارسة السلطة وأن هذه المؤسسات هي نفسها ثمرة اختيارات سياسية سواء أكان ذلك في الاقتصاد أو في المجتمع أو في التعليم والتربية أو في التكوين والتأهيل الفكري والديني. أحد أمرين إما أن المجتمع كان سيء التكوين والتأهيل ولم يستطع النظام الحاكم تغيير شيء فيه بالرغم من كل الجهود الجبارة التي بذلها, وفي هذه الحال ينبغي التسليم بأن مجتمعنا أو إنساننا بعكس جميع البشر الآخرين منقوص الانسانية وأنه يعاني من نقص أخفق النظام بعد ما يقارب الأربعين عاما من الحكم المطلق والسيطرة الشاملة على القرار والموارد معا في ايجاد حل لهذا النقص والقصور, بل في فهم أسبابه, وفي هذه الحالة عليه سحب الدروس من هذه التجربة واتخاذ الموقف المناسب المترتب عليها والبحث عن موقع آخر يستحق أكثر "التضحيات". أو أن سياسات النظام واختياراته الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة ولا عقلانية وما كان بإمكانها إذن أن تساعد المجتمع على الترقي والتقدم وتجاوز نقائصه البدئية. ولا يمكن رفض كلا الفرضيتين لأن ذلك يعني إلغاء التفكير العقلي بالشؤون الاجتماعية والتهرب من المسؤولية او الاستهانة بالوعي السياسي عند الحاكمين والمحكومين أو معاملتهم كقاصرين عقليا والتخلي عن مبدأ  المحاسبة الجماعية والوطنية. وهذا يقود لا محالة الى الأخد بمبدأ عبثية السياسة ولا مسؤوليتها وإغلاق كل أفق التفكير في الماضي والمستقبل معا.

"والقصد أن تاريخ المجتمعات تصنعه المجتمعات نفسها والمسؤول في كل مرة عن هذا الصنع هي النخب التي تتولى مناصب المسؤولية فتتخذ القرارات وتتحكم بتوزيع الموارد المادية والبشرية وإدارتها وتخصيصها.

 

المجتمع المدني وأصل الانقسامات العصبوية

"ليس من قبيل الصدفة أن السلطة المطلقة التي تدفع بسياسات السيطرة الأحادية التي تمارسها إلى الانقسام والتشظي الاجتماعيين هي أكثر من يستخدم نتائج هذا التشظي لتبرير وجودها كسلطة مطلقة مفروضة من فوق والدفاع عن حقها في التمديد الأبدي لنفسها. فهذا التفكيك العملي للمجتمع هو الذي يسمح لها بالوجود والبقاء ويضفي على سياسة الاستبداد التي تمارسها قسطا من الشرعية الوهمية أو الكاذبة.

وهذا يعني أن سلوك المجتمع بقطاعات رأيه المختلفة بما فيها المعارضة تجاه الدولة وتجاه ممثليها أو المرتبطين بها أو المشتبه بارتباطهم بها, فالأمر واحد, لا يمكن أن يفهما بمعزل عن سلوك السلطة ذاتها تجاه المجتمع وقواه السياسية والفكرية المعارضة وغير المعارضة. لا يمكن مثلا لسلطة أن تتلقى مديح أصحاب الرأي وهي تخنف أي رأي يختلف مع تصورات منظريها وأصحابها. وبالمثل إن لكل سلطة أو نظام سلطة نمط المعارضة الذي يستحقه لأنه هو المسؤول عن وجوده في الظروف والأوضاع الذي يوجد فيها وأسلوب عمله معا. فالمعارضة التي تتربى في مدرسة الديمقراطية والنزاهة الوطنية والشفافية السياسية والاقتصادية وتقاليد الاحترام للقانون والقضاء المستقل والصحافة الحرة والتوازن الصحيح بين السلطات في إطار احترام الدستور وعدم التلاعب به وتحت إشراف صحافة حرة تعكس مختلف تيارات الرأي العام وتساهم في بلورتها وتقدم لها فرص التعبير الحر عن نفسها تختلف اختلافا نوعيا ومطلقا عن المعارضة التي تنمو كنبتة وحشية في مناخ من القهر والقمع والتهديد بالموت الدائم والتعذيب الجسدي والنفسي وسيف الاعتقالات والتجريم المسلط باستمرار والمحاكمة على النوايا والاعتقادات واستسهال الاتهام بالعمالة للسفارات الأجنبية وباللاوطنية لأبسط إختلاف في المواقف والآراء.

"وإذا كانت نظم اقتسام الغنائم بالرغم من قدراتها التحييدية الكبيرة للأغلبية الاجتماعية لا تخلو من تناقضات داخلية ولا من التنافس والصراع بين أطراف النخب النافذة وأحيانا من الحروب الذاتية والاقتتال الدموي فيما بينها إلا أنها عاجزة عن تجاوز منظقها والانفتاح على أي تغيير أو تبديل في قاعدة عمل النظام. إن الاقتتال يشكل فيها آلية طبيعية لإعادة ترجمة ميزان القوى الفعلي والمتبدل على الأرض في ساحة توزيع الغنائم وتقسيم الفيء. بل إن هذا الاقتتال يساعد على استقرار النظام ويدعمه بقدر ما يسمح للأطراف الجديدة الصاعدة من ايجاد سبيلها للنفوذ والحصول على نصيبها من الجنة بالوسائل الطبيعية أقصد حسب منطق التقاسم لا منطق التداول.  وهذا الادماج المستمر للقوى الجديدة في دورة تداول المغانم هو الذي يمكن النظام من التغطية على انعدام تداول السلطة وتغيير قواعد الحكم كما يساعده على تهميش وتحييد القوى الأخرى التي تحولها قوى التحالف المسيطر نفسها الى قوى منشقة, أي خارجة عن القانون ومعادية للنظام وبالتالي مستبعدة من أي مسؤولية ومجردة من جميع الحقوق. إنها قوى إجرامية تعمل ضد النظام ولا يمكن إلا أن تكون متحالفة مع القوى الأجنبية.

"لا يوجد مجتمع مدني من دون دولة ديموقراطية ولا تنطرح فكرة المجتمع المدني بالاستقلال عن الدولة فهما مرتبطان ببعضهما لأنهما جزء من ثورة سياسية واحدة. فلا وجود للمجتمع المدني في الدولة الاستبدادية ولن توجد الدولة الاستبدادية المجتمع المدني ولا تستطيع أن توجده مهما وعدت أو فعلت لأنها النقيض المباشر له. إن وجودها لا مبرر له ولا مقوم إلا القضاء على المجتمع المدني, أي حرمان المجتمع من تنظيم نفسه خارجها, حتى لا يتمكن من مزاحمة القائمين عليها أو تهديد امتيازاتهم وسلطتهم المطلقة والاستثنائية والأبدية. وبالمقابل لا توجد ديمقراطية من دون جمعيات وتنظيمات وأحزاب أهلية. والعكس صحيح، فوجود هذه الجمعيات والتنظيمات والأحزاب لا يمكن أن يتحقق من دون دولة ديموقراطية. فأساس الديكتاتورية إلغاء التعددية بكل أشكالها ومنع المجتمع من الدفاع عن مصالحه ضمن أطر تنظيمية مستقلة وخاضعة لإرادته. وإذا وجدت مثل هذه القوى انصهرت الديكتاتورية كالجليد تحت أشعة الشمس الحارقة. ولا شك أن النقاش الطويل الذي دار في سورية حول هذا الموضوع وأيهما أسبق المجتمع المدني أم الدولة يعبر عن التخبط العميق الذي يعيشه الفكر الاجتماعي والسياسي التغييري في هذه البلاد كما يعكس ربما بشكل أكبر انعدام شفافية النقاش والمناظرة الفكرية التي تخضع هنا لضعوط أمنية وغيرها خارجة كليا عن دائرة المناقشة العقلية وتتطور عبر المزايدات والمماحكات والتنافس بين الأشخاص والخوف من التعبير الصادق والحر عن الأفكار.

 

في علاقة الديمقراطية بالعلمانية

"لا تكمن المشكلة في انعدام العلمنة ولكن، كما يقول البعض عن حق، في تغول الدولة على المجتمع. وكلمة تغول معبرة تماما عن الواقع الراهن لأنها مشتقة من غول. وعندما تحل هذه المشكلة وتكف الدولة عن أن تتصرف كغول, تغتال العقل وتلغي الضمير وتقتل الروح وتغل أيادي الأفراد وأفئدتهم وتبعث الغل في صدورهم, سنجد الناس يتعاملون بتسامح أكثر على المستوى الديني والمذهبي والسياسي. أما اليوم فالتعامل الإنساني مفقود على جميع الأصعدة : صعيد تعامل المجتمع فيما بين أعضائه، وتعامله مع الدولة وتعامل التيارات الفكرية المتعددة والمتباينة فيما بينها وتعاملنا جميعا مع الخارج المختلف عنا. و جوهر العلمنة في العمق ليس شيئا آخر سوى إخضاع جميع النشاطات والمؤسسات والقوانين والقيم والسلوكات الاجتماعية للنقد والمحاكمة العقليين وأزالة أي نوع من التقديس عليها. ومن هذا الإخضاع للعقل ينبع استقلال المجتمعات الانسانية وحرياتها تجاه واقعها ومصيرها. وهذا هو جوهر الحداثة التي تعني أن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه ليس قدرا ولا ثمرة منطق قدري لا يرحم ولا نستطيع معه شيئا وإنما هو ثمرة عملنا. ولذلك بقدر ما نحسن من مستوى وعينا وعلمنا بالواقع ونبني معرفة موضوعية لا رغبوية عنه, وبقدر ما ننجح في إخضاع سلوكنا الاجتماعي والفردي لقيم أخلاقية أي لمبدأ المسؤولية, نستطيع أن نتحكم بهذا الواقع وبالتالي أن نعظم من هامش حريتنا وسيطرتنا على مصيرنا الجمعي. والدولة التي لا تدرك ذلك ولا تعمل له لترتفع بمستوى معرفة أبنائها الموضوعية وترتقي بسلوكهم الأخلاقي وتسعى بالعكس إلى أن تحل محلهم وتتحول هي نفسها إلى قدر يسحقهم ويلغي حرياتهم تبقى دولة قرون وسطى مهما كان شكل أدوات التعذيب التي تستخدمها والكلمات التي تستخدمها في الحكم على السحرة وإحراقهم. ودولة كهذه لا يمكن إلا أن تثير ردود فعل عليها وضدها من النمط القرسطوي ذاته الذي تمارس به سلطتها. ومفهوم الدولة الاسلامية الشائع اليوم يؤكد تماما ذلك فهو ليس في الواقع إلا مقلوب الدولة الاستبدادية القائمة. فهو يهدف إلى إعادة بنائها على الأسس التغولية ذاتها لكن هذه المرة بمرجعية دينية.

 

في الديمقراطية ومخاطر السيطرة الطائفية

" الحياة السياسية والثقافية والعمومية بشكل عام لا يصنعها العدد والرقم الكمي ولكن حيوية النخب ووزنها وديناميكيتها. ولو قارنا بين حجم نخب الجماعات المذهبية لوجدنا الوزن الحقيقي لكل منها في الحياة السياسية والعمومية بشكل عام. وليس من المؤكد أنه في  شروط الديمقراطية ووجود الضمانات الدستورية لحرية الافراد واعتقاداتهم أن لا تكون الغلبة في الوزن النوعي وفي التأثير الثقافي والفكري للنخب القادمة من أصول أقلوية أو ربما ريفية بصرف النظر عن المذهبية. فلا تمنع السيطرة العددية للبروتستنتية في الولايات المتحدة الأمريكية وللكاثوليكية في فرنسا مثلا النخبة الامريكية أو الفرنسية القادمة من أصول يهودية, سواء احتفظت بتقاليدها الدينية أم لا, من أن تمارس دورا ونفوذا أكبر بكثير من وزن جماعاتها الأصلية في هذه المجتمعات. حصل ذلك ويحصل في شروط حياة ديمقراطية لا ديكتاتورية. بل إن من المؤكد أنه من دون هذه الشروط الديمقراطية ما كان من الممكن لهذه النخب أن تمارس هذا الدور. ومثال روسيا هو الأفضل للتدليل على ذلك. فلم يكن دور النخبة الروسية من أصول يهودية تحت النظام السوفييتي يساوي شيئا أمام الوزن الذي أخذت تلعبه هذه النخبة نفسها اليوم بعد تغير النظام وتحوله نحو الديمقراطية. فهي تسيطر على اهم مراكز القرار الاقتصادي والسياسي والمالي والاعلامي معا, وبشكل ربما كان أقوى مما هو الحال في الولايات المتحدة نفسها. فالنظام الديمقراطي لا يضمن سيطرة الأغلبية المذهبية في أي مكان ولكنه يفتح الباب أمام النخب الديناميكية من أي منشأ كانت ويقدم لها إمكانية الارتقاء والتقدم من غير حدود. وهذه النخب هي التي كانت أكثر حماسا للديمقراطية في هذه المجتمعات لأنها تحررها من العزلة الطائفية وضغط الطائفة من جهة وتلغي قوانين التهميش التي تعمل على حرمانها من الارتقاء بنفسها ومواقعها السياسية والاجتماعية. فالدول الاستبدادية تسعى, بالعكس, إلى الموازنة بين الجماعات حتى تضمن التمثيل الشكلي والمظهري لجميع الأطراف في كل واحد زخرفي. وهذا هو الذي يفسر أيضا أن قوى العنصرية هي نفسها قوى الردة على الديمقراطية. وهي تتنامى في أوساط الجماعات الدينية الأكبر كما هو الحال بالنسبة للجبهة الوطنية التي يتزعمها لوبن في فرنسا في مواجهة تصاعد وزن النخب التي تنظر اليها كأجنبية أو غير ممثلة للروح القومية الاصيلة."

 

في السياسة الوطنية السورية

"إن من يتجاهل حقوق شعبه في الداخل ليس لديه أي سبب للدفاع عنها في الخارج, خاصة عندما يكلف هذا الدفاع ثمنا غاليا. فالذي يريد الدفاع عن مصالح شعبه وحقوقه ضد الأجنبي لا يفرط بها في الداخل أصلا. ولا أدري لماذا وكيف يساعد تحويل الناس الى مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم وحرمانهم من حرياتهم ومن حقهم في قضاء نزيه وعادل ومساواة في المعاملة أمام القانون على الصمود بشكل أفضل أمام اسرائيل أو توجيه مقاومة أشد وأمضى لها أو لأي عدوان خارجي؟ بالعكس من ذلك تماما إن المنطق يقول : يحتاج العمل الجاد لمقاومة اسرائيل والعدوان الخارجي الى تلاحم أكبر بين صفوف الشعب وبالتالي الى مزيد من الاحترام والحرية والعدالة والمساواة بين أبنائه جميعا. ولهذا السبب جرت العادة في النظم السابقة غير الثورية والثوريه معا, بما فيها الشيوعية الشمولية, أن تكون الحروب مناسبة لإعلان العفو العام عن جميع المعتقلين السياسيين بل عن المجرمين المدنيين كتعبير عن التسامح والمصالحة والصفح المتبادل الدافع إلى تعميق الوحدة الوطنية في مواجهة العدو القومي والوطني المشترك. ولم يحصل في أي حقبة وفي أي نظام أن عمدت حكومة الى القاء القيض على المعارضة في وقت الحروب أو المواجهات الوطنية لأن مثل هذا العمل يعني أن الحكم الذي يحتاج الى تكاتف كل أبناء الشعب حوله يقوم هو نفسه بتقسيم هذا الشعب ودفعه الى التفتت والتوتر والاحتقان ويضعف قدراته "ذاتها وصدقيته في أي مواجهة محتملة.

من الطبيعي إذن أن يجد الرأي العام في الاستخدام الشعاراتي المكرر للمسألة الوطنية وسيلة لإدارة الأزمة السياسية والاجتماعية الداخلية بطرق استثنائية أي غير قانونية. ومثل هذا الاستخدام للمسالة الوطنية هو سمة من سمات جميع الحكومات التي لا تتجرأ على مواجهة أزماتها الداخلية بجدية وتسعى إلى حرف الانتباه عنها ومنع الرأي العام من توجيه أي نقد لها ولأسلوب إدارتها.

 

في السياسة العربية

"من البديهي أن لا يكون هناك وحدة ولا تعاون ولا تفاهم بين الدول العربية قبل أن تتحول هذه الكيانات الهشة والمفتقرة هي ذاتها إلى الثقة بنفسها ومعرفة واجباتها وقدراتها إلى دول حقيقية, أي قبل أن تتحرر من القيود التي تفرضها على تطورها ولقائها مع أفرادها وأبنائها السلطة المطلقة البيرقراطية والمصالح الشخصية والفئوية التي تكبلها وتفسد جوهرها فتحولها من أداة تنظيم وتسيير وتواصل بين الناس إلى أجهزة أمنية أي قمعية فحسب. وعندما تتخلص الدولة القطرية من هذا المس الذي أصابها وتتحول إلى دولة شعبها ومواطنيها بالفعل سوف نكتشف بسرعة لا جدوى الحديث الطويل في عصرنا الراهن عن التناقض بين القطرية والقومية وعن أهمية تحقيق الوحدة العربية. والتجارب التاريخية التي تجري أمام أعيننا تدل بما لا يقبل الشك أن الدول والأممم الاوروبية المتكونة تاريخيا وبقوة لم تكن بحاجة إلى البرهان على هويتها المشتركة ولا إلى إختراع أسطورة قومية حتى تسعى إلى التعاون وتنجح في تحقيق الاتحاد فيما بينها. فلم يعد من الضروري من منظور تطور إشكاليات العصر, وفي مقدمها العولمة والانفتاحات الاقتصادية, إضفاء المشروعية التاريخية أو الثقافية أو الأقوامية على مشروع تعاون اقليمي حتى نبرر قيامه تجاه الدول والمجموعات البشرية الأخرى ولا من أجل ضمان استمراره وقبوله من قبل الجماعات المتعددة والمتباينة المشاركة فيه. وقد برهن تكوين الاتحاد الاوروبي في العقد الماضي على أن السعي المشترك لتعظيم المنافع والمصالح المتبادلة يشكل اليوم, بصرف النظر عن القرابة الروحية أو الأقوامية أو الجغرافية, مصدرا كافيا بل المصدر الأهم لمشروعية العمل الوحدوي أو الإقليمي. بل لقد أظهر أنه أقوى أثرا وفاعلية في تحقيق الاتحادات اليوم من أي مصدر مشروعية آخر قائم على تأكيد الروابط التاريخية أو اللغوية أو الثقافية. وبالعكس, دلت التجربة العربية على أن إنتماء شعوب عديدة إلى تاريخ واحد وامتلاكها لغة مشتركة وعيشها في إطار ثقافة واحدة ووجود مشاعر وآمال وآلام واحدة عند شعوبها بل ونزوع هذه الشعوب بشكل قوي وجامع إلى الاتحاد لم يقربها من الوحدة ولم يؤسس فيها عوامل الاتحاد, بل لم يحول بينها وبين التمزق والانفصال وتكريس الوطنيات المحلية وتقديس الحدود القطرية التي أثارت العديد من الحروب.

فالعامل الحقيقي والحاسم اليوم في الدفع نحو الاتحاد ليست العناصر التاريخية مهما كانت قوتها, وهي قوية جدا في البلاد العربية, ولا التراث المشترك مهما كانت عظمته, وإنما وجود قوى اجتماعية منظمة وواعية لحقيقة الأوضاع والتحديات الدولية وفي الوقت نفسه حساسة للمصالح العليا الوطنية لشعبها لاعتمادها عليه وعلى قبوله وموافقته في تحقيق أهدافها واستمرار سلطتها ولاستمداد شرعية حكمها وبالتالي وجودها كنخب سيادية منه. فهي تجد نفسها مدفوعة لا محالة في هذه الحالة إلى التقارب مع الدول القريبة منها, سواء أكانت منتمية لأصول واحدة ام لا, كما هو الحال في جنوب شرق آسيا, في سبيل تحسين شروط نموها وتعظيم مصالح شعبها وبالتالي تأكيد مشروعية هيمنتها وقيادتها.

"إن العروبة الاستهلاكية التي استمرت في الحياة بعيدة عن أي ممارسة عملية بعد انهيار الوحدة السورية المصرية أصبحت وسيلة سهلة للتغطية على انعدام الشرعية الشعبية ووفرت على الحكام التفكير بالتزاماتهم التي كان ينبغي أن تكون أساسية لبناء الوطن العراقي والليبي والسوري إلخ, أي لبناء الشعب المكون من أفراد أحرار، متساوين ومتفاعلين ومنتجين ومبدعين، قادرين على التواصل مع الشعوب العربية الأخرى بالفعل وتقديم إضافة للأمة العربية وللقضية الفلسطينية غير الشعارات والهتافات المجانية. ومن المؤكد أن تجاهل التزامات الدول تجاه شعوبها الوطنية لم يخدم القضية القومية أبداً. بل أدى فقط إلى تهميش الشعب داخل كل قطر، وخسارة المعركة القومية بالاضافة إلى معركة البناء الوطني كما قاد إلى  إفساد صورة القضية الفلسطينية عند العرب والرأي العام العالمي معا. وهاهم الفلسطينيون يواجهون العدوان الاسرائيلي بأرواحهم بعد صدورهم وليس هناك أي شعب عربي قادر على أن يقدم يد العون الحقيقي لهم. ذلك أن الشعب الذي يفتقر هو نفسه للحرية لا يمكنه مساعدة شعب آخر, مهما كانت درجة قرابته منه, على التحرر. وعندما توجه الحكومات كل موارد البلاد لضبط شعوبها والسيطرة عليها لمنعها من الحركة، فلن تبقى هناك أية إمكانية لفتح جبهة خارجية. إذن, في بلادنا كما في الكثير من البلاد الأخرى غير الديمقراطية تستخدم السلطات باستمرار مسألة الحرب الخارجية ذريعة ووسيلة لتمتين السيطرة الداخلية لفئة على حساب الفئات الأخرى.

 

في العقد الوطني

"ليس المقصود بالعقد الوطني أن نوقع وثيقة فيما بيننا. فهذا جانب شكلي. لكن المقصود أن نتفاهم، عبر نقاش عميق وواسع، على غايات واضحة تحدد مبرر اجتماعنا، أي غاياتنا المشتركة, ولماذا نحن هنا كمجتمع, وما الذي يدفعنا إلى أن نعيش مع بعضنا؟ هل جغرافية المكان هي وحدها التي تجمعنا؟ أو أن ما يجمعنا هو أننا، فقط، ولدنا في سوريا ولا خيار آخر لنا في ذلك, ومتى وجد الخيار حملنا جوازات سفرنا وهاجرنا الى آفاق أرحب؟ أم تجمعنا مبادئ تشكل حدا أدنى من نقاط الاتفاق على أسس الحياة المشتركة فيما بيننا وتخلق روح الثقة وتشجع على التواصل والتبادل والتفاهم وتمكننا بالتالي من الوصول معا الى برامج عمل مشتركة. مجموع هذه المباديء والغايات والقيم التي توجه سلوكنا وتفكيرنا هي ما نطلق عليه اسم العقد الوطني وما ينبغي أن يجسده في كل بلد الدستور المصاغ بأسلوب ديمقراطي, أي من خلال جمعية تأسيسية منتخبة.

"لكن العقد الوطني لا ينشأ بأوامر عسكرية ولا يفرض من الخارج ولا يولد أيضا من تلقاء نفسه ولا يستمد من الثقافة سواء أكانت قديمة أم حديثة ولا يستخرج من أي نص مقدس أو حزبي. إنه النتيجة والثمرة الطبيعية للاتفاق والتفاهم الحاصل بين أفراد متعددين والتتويج لتفاعل واع وغير واع بينهم والتعبير عن خلاصة وعيهم الجمعي ومستوى نضجهم الفكري والسياسي والأخلاقي وعن متطلباتهم المشتركة لبناء حياة ايجابية منتجة يسودها السلام وتتوج بالسعادة والرضى. ولا يمكن الحديث عن توافق وتفاهم واتفاق من دون الحديث عن التواصل الحر والمفتوح بين الأفراد أو الحوار والنقاش وتبادل الآراء والمواقف والتشاور في الصحيح والأصح والسليم والأسلم للفرد والمجتمع بشكل عام. فالعقد الوطني والحوار الاجتماعي ركنان من أركان البناء الديمقراطي. فالعقد يؤسس للمباديء والقيم والغايات التي يقوم عليها النظام المجتمعي المنشود والحوار يضمن بناء السبل والوسائل السلمية لتحقيق هذه المباديء وخدمة تلك الغايات. فلا حياة سياسية سلمية وسليمة من دون اتفاق جماعي, ولا حماية لهذا الاتفاق والعقد من دون حوار مستمر, نسمبه اليوم في المجتمعات الديمقراطية النقاش الوطني, يتيح لجميع القوى التفاهم, في كل مرحلة وحقبة, على المضمون التاريخي الملموس لهذه المباديء والقيم والغايات.

"و نحن نفتقر اليوم بالتأكيد  لمثل هذا المرجع الوطني الأساسي والشامل الذي يساعدنا على أن نحاسب أنفسنا كمجتمع أو أن نخضع بعضنا البعض أو سلوكنا الفردي والجماعي, أهالي وسلطات, للمحاكمة العقلية. وفي غياب مثل هذا المرجع الأول والمشترك لا يمكن أن نحاسب أنفسنا ولا أن نميز في كل حقبة أين كنا وأين أصبحنا. ولذلك ليس من الغريب في هذه الحالة أن تنزع النخب الحاكمة الى التماهي مع الدولة وأن تحلم بتخليد قيادتها مهما كانت نتائج عملها أو مهما كان رفض الشعب لسياساتها. فهي نفسها لا تملك معيارا تقيس به إنجازاتها وتحاسب من خلاله نفسها, بل لم يعد لديها مفهوما للسياسة ذاتها من حيث هي إدارة تاريخية مؤقتة ودورية وعقلية للموارد والشؤون الجمعية ولا للانجازات. فهي في السلطة لأنها نجحت في الاستيلاء عليها ولا تزال قادرة على تحقيق ذلك بالقوة العسكرية أو بالمناورات والتلاعبات العشائرية أو العصبوية.

وليس من قبيل الصدفة أن تتحول السياسة في إطار غياب أي مرجعية وطنية مشتركة وأي عقد أو تفاهم جزئي إلى طقوس عبادية وأن تتطابق مع الدين, بل أن تتحول إلى دين يقوم توحيد المجتمع المتناثر فيه من خلال الخضوع المشترك والكامل للاله-الملك الواحد والمشاركة في سره وتقديسه. فليس لهذه الإدارة الاجتماعية أي مرجعية عقلية, وليست مؤهلة لتصبح سياسة يشارك فيها الأفراد جميعا. إنها عبادة مشتركة فحسب.

 

في المصالحة الأهلية

"المصالحة الوطنية لا تعني التفاهم بين قوى المعارضة والنظام الحاكم. ولو كان هذا هو معناها لما كان من الضروري الحديث عن العقد الوطني والمباديء والحرية والديمقراطية وكل ما يرتبط بالمجتمع السياسي الحديث. وكان الهدف سيكون اقتسام السلطة بين القوى الحاكمة وتلك التي توجد خارج الحكم غير راضية عنه. ولو حصل هذا التفاهم والتقاسم للسلطة بالفعل لما كان علينا ان نتحدث عن خطوة ايجابية على طريق الديمقراطية ولكن عن نكسة جديدة لهذا المسار السياسي الذي نريد له أن ينقلنا من مجتمعات إذعان إلى مجتمعات بشر تفكر وتناقش وتعي وتطالب وتقرر وتتحمل مسؤولية فردية وجماعية وبالتالي تنتج وتبدع ولا تكون كما نحن الآن عالة على الدولة في الداخل وعلى العالم الخارجي في الحضارة.

إن المصالحة الوطنية تعني الخروج من مناخ الحرب الاجتماعية الدائرة داخل المجتمع منذ عقود أو من الصيغة التي تقيم السلطة على الغلبة المادية كما تعني أو هي تعني الاعتراف الجامع بين كل الأطراف, أفرادا وقوى سياسية, بالحقوق المتساوية للجميع أيضا, أفرادا وجماعات, في المشاركة على قدم المساواة في تقرير مصير البلاد, أي المصير الجماعي. إنها مصالحة المجتمع مع نفسه بكل فئاته ومذاهبه وتياراته وقواه, ومصالحة الدولة مع المجتمع الذي أنكرته عندما أنكرت حقوقه في السيطرة عليها وتسييرها لصالحه العام, ومصالحة أخيرا للدولة مع ذاتها ومع مفهومها كدولة سياسية أي كإطار لتوحيد الإرادة الجماعية وخلق فرص التفاعل والابداع بين الأفراد لا كأداة لقهر المجتمع وإخضاعه وتركيعه لخدمة مصالح خاصة على حساب المصالح العمومية.

"ومن هنا لا يمكن التفكير في أي مصالحة وطنية من دون العودة الى حكم القانون وتعديل الموقف من الدستور بحيث يصبح أداة في يد الأفراد المحتاجين لضمانات قانونية لا في يد السلطة التي تملك أساسا كل الوسائل للضغط على الأفراد والحد من حرياتهم والتقليص من حقوقهم.  كما أنه لا أمل في نجاح أي مبادرة للمصالحة, سواء أجاءت من قبل السلطة أم من قبل المعارضة, من دون إقرار الجميع بأن سورية وطن السوريين بالتساوي ولا ينبغي أن تفرق أو تميز بين أبنائها ولا أن تضمن لبعضهم من المصالح والامتيازات والفرص ما ترفضه لبعضهم الآخر, لا باسم الانتماء العائلي ولا الانتماء الاجتماعي ولا الأصول المناطقية ولا العقائد السياسية أو المذهبية, ولا أن تكرس سيادة قسم منهم على القسم الآخر, لا بالقانون ولا بالقوة ولا بالتربية ولا بأي وسيلة أخرى. وهذا يعني أن سورية ومواردها وقيادتها والمشاركة في بنائها وتحديد مصيرها ومستقبلها ليس فيهم ما هو حكر لأحد أو لفئة ما من دون الآخرين. ومن دون هذا القبول بالخضوع العام, من ابناء المسؤولية إلى أبناء أفقر الشرائح الاجتماعية, للقانون والاقرار بالمساواة التامة بين السوريين والنظر إليهم جميعا كمواطنين من درجة واحدة والتخلي نهائيا عن عقلية التفوق والابوية والأسبقية المستمدة من الروح الانقلابية السابقة, داخل الحكم والمعارضة معا, ستكون سورية مقسومة لا محالة بين أسياد وعبيد, وسيكون من الصعب الأمل بأي مصالحة ممكنة ومحتملة وستسير أكثر فأكثر نحو التفكك والخراب والانفجار.

إن المطلوب لخلق مناخ المصالحة الوطنية هو مبادرات عملية فعلية تظهر الرغبة في التخلي عن روح الوصاية  وإرادة الإقصاء وقوانين التمييز بأي اسم جاءت ولأي سبب نشأت. وهذا العمل مطلوب من قبل السلطة أولا. وهو ليس مطلوب للتقرب من المعارضة أو للمصالحة معها. فالمصالحة كما قلت ليست إعادة اقتسام الغنائم ولكن إعادة بناء قواعد التعامل بين السلطة والمجتمع بحاكميه ومحكوميه. إن المصالحة الحقيقية المطلوبة هي مع المجتمع المقصى وفي سبيل إعادة الحياة له وتطمين الأفراد على أنفسهم وممتلكاتهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم, وإعادة الثقة إليهم في وطنهم وقيادتهم واستعادتهم لميدان العمل الجمعي والمسؤولية العمومية, أي إلى ميدان السياسة والمشاركة والبذل والانجاز والابداع ومن ثم الارتقاء بهم إلى مستوى الحياة الأخلاقية والانسانية الحقيقية.

 

نتائج

لا يبدو أن الايمان العميق بالاختيار الديمقراطي يجعل برهان غليون يتجاهل الصعوبات الكبيرة التي يواجهها مسار التحول الديمقراطي وبالتالي الجهود الثقافية والسياسية والاجتماعية الكييرة التي يتوجب على المجتمعات العربية بذلها للوصول إلى أهدافها. فالديمقراطية ليست بالنسبة له معطى جاهزا ولكنها مغامرة بالمعنى التاريخي للكلمة أي معركة مستمرة. وكما يمكن أن يربح المرء معركته يمكن أن يخسرها، لكنها معركة تستحق الخوض لأن على نتائجها يتوقف تحول الفرد المستعبد إلى إنسان حر كما يتوقف إخراج المجتمعات من عثرتها ووقف تدهور شروط وجودها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستمرة. فكما يختم برهان غليون :

"لا ينبغي علينا أن نتصور أن القوى التي ستعيد بناء المجتمع وتؤمن وظائف القيادة والتوجيه والتسيير والادارة الناجعة والمهمومة بالمصالح الجماعية سوف تولد واعية ومتعلمة ومؤمنة بالمصالح الوطنية ومستعدة للسلوك المدني السليم من تلقاء نفسها. إن ابن الانسان إذا بقي من دون تربية نشأ أشرس من أي حيوان وأكثر أنانية وعدوانية منه. والمجتمع الذي يفتقر لنخب قادرة على توجيه الأفراد وتنظيمهم, وقبل ذلك, ومن أجل ذلك, كسب ثقتهم, يبقى جثة هامدة لا قدرة له على اداء أي عمل مفيد من أي نوع كان اقتصاديا أم سياسيا أم فكريا, ولا يستطيع أن يوجه أي مقاومة تذكر لأي قوة خارجية أو داخلية تسعى الى السيطرة عليه وإخضاعة واستعبادة. ولا يستدعي بناء الانسان وتربية النخب الوطنية وتحسيسها بالمصالح الجمعية وتزويدها بقيم ومباديء وغايات إنسانية جهودا جبارة فحسب من قبل قادة الفكر والرأي والسياسة ولكنه يحتاج, أكثر من ذلك, وقبل ذلك, الى شروط وبيئة ومناخات مجتمعية تجسد شيئا من هذه المباديء والقيم والغايات. وقد يستدعي نشوء حزب سياسي قوي ونجاحه في صوغ برنامج متكامل وفي بناء علاقات ثقة مع الجمهور ومع الرأي العام، وتطوير قدرته على استيعابه لواقعه الاجتماعي والتاريخي وللمشاكل المطروحة على مجتمعه, أي كيما يتحول الى قوة قيادة وتوجيه وطني وتنظيم اجتماعي, إلى عشرات السنين.

وإذا أردنا أن نجنب بلدنا الأزمات الطاحنة القادمة، الداخلية والخارجية, فعلينا منذ الآن  أن نهيّء الوضع وأن نسعى الى تفكيك نظام السلطة المطلقة تدريجياً، حتى نتيح للشعب أن يبني قوى جديدة ضرورية لضمان المستقبل وليست بالضرورة بديلة لما هو قائم اليوم. وبدل أن يسير المجتمع, كما هو عليه لآن, على قدم واحدة, ويعتمد في توجهه وبلورة خياراته على فكر واحد وحزب واحد ورجل واحد, ينبغي أن نعمل لمجتمع يسير على الأقل على قدمين حتى يحفظ توازنه ويتفدم بثبات أكثر، ويفكر برأسين إن لم يكن برؤؤس عديدة ويحلم ويبدع بملايين الأذهان والمخيلات.