المثقف كفاعل اجتماعي

2006-06-08:: مساهمة في ندوة المثقف والسياسة والاسلام ،المعهد الفرنسي للشرق الأدنى،دمشق

 

1- مثقف الحداثة

خلال أكثر من قرن ونصف، لم يكف المثقفون العرب، الاصلاحيون الاسلاميون منهم والعلمانيون القوميون أو الماركسيون عن التفكير في الهوة التي تفصل المجتمعات العربية عن المجتمعات الأوروبية الصناعية سواء على صعيد أوضاعها العامة والفردية أو على مستوى مسلكها في التنظيم السياسي والاجتماعي أو اختلافها في درجات التقدم المادي والعلمي والتقني والأخلاقي. وقد وجدت الانتلجنسيا العربية في إشكالية التقدم والتأخر التاريخية شبكة من المفاهيم الأساسية التي ستعتمدها عموما بصرف النظر عن تنوعاتها الايديولوجية لفهم الواقع والتأثير فيه. وقد ساعدت هذه المقاربة التاريخية على حل مسألتين أساسيتين. المسألة الأولى تقديم تفسير عقلاني لهذه الهوة مستمد من رؤية تطورية كونية تدرج المجتمع العربي في سياق التاريخ العالمي وتشرح في الوقت نفسه أسباب اختلافه عن المجتمعات المتقدمة والأمراض التي يعاني منها، فتظهر أن المسألة مسألة تأخر وجمود وفتور وانحطاط أي مسألة تأخر زمني فحسب لا علاقة لها بالثقافة أو بالدين أو بالماهية. والمسألة الثانية بلورة سريعة وسهلة لحلول واستجابات قابلة للتحقيق مستمدة من نماذج المجتمعات المتقدمة التي "سبقت" المجتمعات العربية في مسيرة التقدم التاريخية للخروج من هذا التخلف أو للقضاء عليه.
وبحسب الزاوية التي نظر إليها المثقفون لموضوع التقدم التاريخي أو التي ركزوا عليها ستولد مذاهب متعددة في فلسفة التغيير والتحويل التاريخي للمجتمع العربي ينبع التباين في ما بينها من الاختلاف على تحليل الأسباب الرئيسية للتأخر وبالتالي من تحديد طبيعة المهام المحورية التي ينبغي التركيز عليها للوصول إلى الهدف المنشود: تحرير الديناميكية التاريخية داخل المجتمعات العربية وفتح الطريق أمام حركة التاريخ وتسريع هذه الحركة إذا أمكن.
فالذين ركزوا في تحليلهم لأسباب التأخر على منظومة القيم العقلية، الفكرية والأخلاقية ووجدوا في العلم القائم على التجربة ومفهوم السببية العامل الأول للتقدم التاريخي شددوا على مظاهر الجمود الفكري وما تبعها من تجميد الاجتهاد الديني وسيطرة المنطق الخرافي فكونوا تيار السلفية الجديدة أو الاصلاحية الاسلامية العقلانية التي وجدت في إطلاق حركة الاجتهاد والتقريب بين منظومة القيم الفكرية والأخلاقية الحديثة والتقليدية الطريق الرئيسي لتجاوز الفوات الحضاري والعودة إلى الاندراج في الصيرورة التاريخية العامة للمعرفة العلمية. وقدمت هذه المقاربة للمجتمعات العربية، على مفترق القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فرصة كبيرة لإعادة اكتشاف التراث العربي والاسلامي ونفض الغبار عنه بالمعنين، بمعنى إخراجه من النسيان ومعنى تجديد معانيه ووظائفه معا لتثميره في معركة التقدم والالتحاق بركب الحضارة الانسانية العام.
والذين ركزوا في تحليلهم لأسباب الجمود والتأخر على مثالب السلطة الشخصية الاستبدادية التي ميزت الدولة أو السلطنة العثمانية لقرون طويلة وجدوا في بناء الأمة بمعانيها الحديثة المختلفة، من حيث هي أخلاقيات جديدة تحكم تكوين الاجتماع السياسي وتجعل منه ثمرة لتعاقد بين أفراد أحرار ومتساوين، ومن حيث هي بناء لدولة المؤسسات الحديثة التي تجسد السيادة القومية تجاه مختلف عوامل سلب الإرادة الخارجية والداخلية، المحور الرئيس للعمل في سبيل الخروج من التأخر وتحقيق أهداف التقدم التاريخية. وكان لهذه المدرسة الفضل الأكبر في توجيه الوعي العربي نحو معالجة مسائل الحياة السياسية الحديثة واستيعاب معانيها بما تتضمنه من رؤى دستورية وتجديد في معنى ومضمون الحرية الشخصية المدنية والسياسية وتطوير مفهوم الدولة وعلاقتها بالجماعة الوطنية وفي نشر مفهوم للسلطة القانونية التي تعتمد في وجودها على وجود العلاقات المؤسسية وما تعنيه من تحديد دقيق للصلاحيات والمسؤوليات في مقابل السلطة القائمة على شبكة علاقات التبعية الشخصية والولاءات العائلية أو الطائفية أو العشائرية. وفي هذه المقاربة السياسية للتأخر تم تجديد المفاهيم الأساسية للسياسة وتوليد أو توالد النماذج المتعددة للفكرة والحركة القومية والوطنية التي جعلت من بناء الدولة القومية أو إعادة بنائها محور جهد المثقفين والسياسيين العرب لعقود طويلة تبدأ من عشرينات القرن التاسع عشر حتى سبعينياته أي ما يعادل نصف قرن. وجميع المناقشات التي ستشهدها هذه الحقبة سوف تدور حول تحرير الجماعة الوطنية من الهيمنة الأجنبية والفئات والطبقات الاجتماعية من قيود القرون الوسطى وملكوت الضرورة وتحرير الأفراد من عصبيات الماضي وتقاليده.
أما الذين نظروا لأوضاع العالم العربي والهوة التي تفصله عن المجتمعات الحديثة من زاوية الفعالية والانتاج ومراكمة القدرة والقوة فقد مالوا بفكرهم نحو تأكيد أسبقية العوامل العلمية والتقنية وجعلوا من الثورة الصناعية والتنمية الاقتصادية وبناء القاعدة التقنية المهمة الرئيسية للخلاص من الحقبة التقليدية. وهذا ما سوف تقدمه بشكل أساسي الترجمة العربية للماركسية التي زودتهم بالأدوات النظرية والرؤى العملية للتحويل الاقتصادي والاجتماعي وتبديل الشروط المادية لمعيشة المجتمعات العربية. وقد ألهمت هذه الفلسفة، بصرف النظر عن الأشكال التي أثرت بها في وعي الفاعلين الاجتماعيين العرب، الجزء الأكبر من السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقت في العالم العربي منذ الستينات والتي نقلت هذا العالم من نموذج المجتمعات الزراعية إلى نموذج المجتمعات الصناعية بالرغم من كل ما تميز به هذا النموذج ولا يزال يتميز به من رثاثة وضعف وعدم اتساق وتفاوت أيضا.

عبرت مجموعة هذه اللحظات المتعاقبة عن الرؤى المختلفة والمتضافرة وأحيانا المتداخلة التي طورتها المجتمعات العربية لمقاربة مسألة الحداثة والاندراج فيها. كما عبرت عن الدور الحاسم الذي لعبه المثقفون العرب أيضا في بناء البيئة الفكرية أو الحاضنة النظرية لتمثل هذه الحداثة واستيعاب معانيها وطبيعة المهام التاريخية التي يتوجب تحقيقها على طريق الاندراج فيها في الوقت نفسه. وقد ارتبط دور المثقف العربي الجمعي ومكانته، أي دوره لا من حيث هو منشيء للمعاني ولكن من حيث هو فاعل اجتماعي أو نخبة متميزة أو انتليجنسيا تساهم في بناء المصائر العمومية، بتكوين هذه الحاضنة الفكرية التي يشكل وجودها شرطا ضروريا لخلق الأمل وفتح الآفاق وتحديد الوجهة وتوفير الحوافز النفسية التي تدفع إلى العمل وبذل الجهد وتساعد على بلورة الاجماع والتعاون بين الأفراد، أي بناء ما نسميه بالايديولوجية الاجتماعية. فبعث الثقة بامتلاك وعي حقيقي أو ناجع بالواقع وترسيخ الأمل بالقدرة على تغييره هما شرطان ضروريان لشحذ الإرادة وإطلاق الممارسة الجمعية ورفع قيمة الاستثمار ومردوده معا في المشاريع التاريخية.
وقد تعزز موقع المثقفين العرب كفريق اجتماعي في المجتمع ومكانته في السياسة والسلطة معا في موازاة نجاحهم في بلورة هذه الحاضنة الفكرية التي قدمت من خلال هذه اللحظات الثلاث التأسيسية رؤية ايجابية للعالم والتاريخ معا وأرست لدى الرأي العام وعيا قويا بأن التخلف أمر عرضي وأن التقدم ممكن ومن وراء ذلك أن التقدم تاريخي وحتمي. فنظر إلى المثقف كما لو كان نبي المجتمع الجديد وحامل أسراره ومفتق معانيه. وزاد الطلب عليه للمشاركة في بناء الأحزاب السياسية وتكوينها وقيادتها وفي تحمل المسؤوليات العمومية. ولا تزال آثار هذه المعاملة التفضيلية قائمة إلى اليوم عبر مراهنة الجمهور العام المستمرة على الثقافة وحامليها لإخراج الأمة العربية من الهوة التي وضعتها فيها القيادات البيرقراطية والتقنوقراطية ورجال المال والأعمال.

 

2- من مثقف الحداثة إلى مثقف الهوية

قلت إن مثقف الحداثة قد سيطر على حقبة كاملة من حياة العرب الفكرية والسياسية منذ عصر اليقظة إلى منتصف القرن الماضي. لكن الأمر قد اختلف كثيرا منذ وصول مسيرة الحداثة العربية إلى الطريق المسدود الذي نعرفه والذي يؤكده انحسار الجهد التحديثي على جميع محاوره لصالح نقيضه. وهذا ما يشير إليه انتصار السلفية التقليدية والمفرطة في النزعة المحافظة على الإصلاحية الاسلامية العقلانية التي تبلورت في بداية القرن الماضي ونجاح نظام الطغيان في حل عرى الجماعات الوطنية التي نشأت في مرحلة الصراع ضد الاستبداد ونجاح العصبيات القبلية والاتنية والطائفية العائدة في ركابه في اغتيال روح الوطنية والقومية التي غذتها مرحلة طويلة من الكفاح من أجل الاستقلال والسيادة وكانت تنتظر تكريس نفسها في دولة العدالة والحرية والمساواة. وهو ما يشير إليه أيضا انهيار القاعدة الاقتصادية والاجتماعية والتقنية للاندراج في الحركة الكونية للحداثة وتكوين رأس المال المادي والمعرفي اللازم لتثبيت أسس العقلانية والوطنية وترسيخها في أرض الواقع. وهو ما يكرسه الانتصار الكاسح في جميع البلاد العربية لرأسمالية المضاربة والتوزيع على رأسمالية الإنتاج والتجديد والابداع.
فبقدر ما ارتبط دور المثقف الحديث بالحداثة وكان ثمرة لديناميكتها أيضا سيقود وصول مشروع الحداثة العربية إلى طريق مسدود إلى تحلل المثقفين وانهيارهم كقوة اجتماعية ونخبة متميزة وإلى خروجهم بالتالي من لعبة السياسة لا بمعنى الصراع على السلطة ولكن بمعنى المشاركة الفعالة، اعتمادا على رأسمالهم الخصوصي، في بناء السلطة العامة والاشراف على بلورة توجهاتها الايديولوجية عبر الممارسة التاريخية. بل إن التشكيك في أهلية المثقفين وأهلية الثقافة نفسها في رفد حركة التغيير التاريخية بأي قيمة ايجابية قد فاض عن حدوده بعد الثمانينات ليضع مسألة الحداثة العربية أو إمكانية تحديث العالم العربي وإدراجه في المنظومة العالمية للحداثة موضع الشك والسؤال، بما في ذلك لدى قطاعات واسعة ومتزايدة من الجمهور العربي نفسه. وبينما ركز المراقبون الأجانب على عدم قابلية الاسلام - الذي نظروا إليه كروح ثابتة متلبسة بالمجتمعات - للتأقلم مع الحداثة وقيمها، تشبثت النخب العربية الحاكمة ولا تزال، منسجمة في ذلك مع مناخ الانكفاء على النفس المتزايد، بفكرة الخصوصية الماهوية التي لا ترى مجالا لأي مقاربة تاريخية إنسانية مشتركة. بل إن الأمر قد تجاوز ذلك كله نحو وضع فكرة الحداثة نفسها، في الشرق وفي الغرب، موضع السؤال ومعها جميع الطروحات والرؤى الفكرية التي غذتها وعملت على بنائها وفي مقدمها إشكالية التقدم والتأخر التاريخية التي نسجت عليها.
هكذا بدأت مرحلة تشتت المثقفين المحدثين وضياعهم وانفراط عقدهم والتحاق القسم الأكبر منهم كأفراد خاصين بأصحاب السلطة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية بهدف زيادة المنافع والرزق. وانسحاب البعض الآخر بعيدا عن العمل والتفكير العام نحو الانجاز المهني وأخيرا انخراط القسم الاكثر شقاءا في الوعي وتعذيبا للضمير وانشغالا بالمصير الجمعي في حركات الاحتجاج السياسي العنيفة التي نشأت وتطورت في العقود الثلاث الماضية، بل واختيار قطاعات واسعة منها، بالخصوص أجيالها الجديدة والشابة، طريق الانتحار التاريخي عبر الالتحاق بما نسميه اليوم بالاسلاموية الجهادية أو المغالية. لقد كان هذا الاختيار ولا يزال تعبيرا صريحا عن خيبة الأمل بمشاريع الاصلاح الحديثة التي أخفقت أو لم تر النور والتخلي في سياق ذلك عن كل الطروحات التي انبنت عليها الحداثة العربية، بما فيها السلفية الإصلاحية والوطنية القومية والتقانوية الرديكالية التي طورها المثقفون في القرن الماضي واتخذوا منها منارة لإضفاء المشروعية على التغيير وتأكيد حتميته وقابليته التاريخية معا.
ويرتبط هذا التحلل والانهيار للانتليجنسيا العربية بمفارقتين كبيرتين. الأولى أن تراجع دور المثقفين قد حدث بعد انتصار الأحزاب التي كانت بالدرجة الأولى أحزاب المثقفين وصنيعتهم، أعني الأحزاب القومية والاشتراكية. فقد انتزعت المبادرة منهم قوى جديدة سوف تنشأ في إطار الثوروية التقنية المرتبطة ببناء ما سمي بالقاعدة الاقتصادية والصناعية نفسها. والمفارقة الثانية أن تغييب المثقفين واستبعادهم واضطهادهم معا لمنعهم من القيام بأي دور في الحياة العامة قد جاء على يد تلك السلطات والنظم نفسها التي ما كانت لتقوم من دون مساهمة المثقفين وكفاحهم، أي على يد مثقفين غيروا من رسالتهم وأصبحوا، من بيرقراطيين إلى عسكريين إلى قادة أجهزة الأمن،الحماة الرئيسيين للسلطة والنظام ودولة العسف وغياب القانون.
بانهيار مشروع الحداثة العربية وتراجع فرص إنقاذه سوف تبدأ حقبة الانقلاب السياسي والفكري الذي سيقود المجتمعات العربية، تحت تأثير ما سمي بالصحوة الاسلامية، وما رافقها من انتشار الحماسة الدينية الموضوعة في مواجهة العقلانية واستفحال السلطة الاستبدادية وسيطرة العصبيات الجمعية البدائية، إلى الأزمة التاريخية الطاحنة التي تتخبط فيها منذ ربع قرن البلاد العربية. وستشهد المجتمعات العربية في سياق هذا الانقلاب على مشروع الحداثة موجة من الشك العميق في مشروعية سؤال التقدم نفسه وإمكانية التغيير. وسيترك السؤال التاريخي الذي كان في جوهر تكون المثقفين العرب كفاعل تاريخي، كوعي وكممارسة جمعية معا، أعني سؤال التأخر والتقدم، مكانه لسؤال الهوية الذي سيحتل ساحة الوعي العام منتزعا الرؤية العربية من إطار النزعة الإنسانية والكونية ليزرعها في تربة الخصوصية. وسيغير هذا السؤال الجديد طبيعة المقاربة النظرية كما سيؤثر على تعيين المهام التاريخية المرتبطة بالمبادرة الجمعية وتحديدها، وسبدفع بالتالي إلى إعادة صياغة مجموع المواقف النظرية والايديولوجية العربية في إطار الإشكالية الجديدة، إشكالية الهوية والآخرية.
الاسلاموية الجديدة الخارجة من أنقاض الحداثة العربية والمرتدة عليها هي التي ستأخذ على عاتقها مسؤولية التعبير عن هذه الإشكالية وصياغة المهام التاريخية المرتبطة بتحقيقها. وفي موازاة تعاظم نفوذها في المجتمعات العربية سيتبلور المثقف الاسلامي الجديد بمعنى الانتلجنسيا الاسلامية وستظهر معه وبفضله الحركات والأحزاب الاسلامية التي ستجعل من تأكيد الخصوصية ومكافحة "التلوث" بالأفكار والقيم الغربية والعودة إلى قانون الشريعة الدينية برنامجا كاملا للحياة الوطنية وتكنس على طريقها كل ما كانت قد أنجزته الاصلاحية الاسلامية من تقارب بين قيم العصر وقيم الدين. كما ستتراجع في السياق نفسه الأفكار الليبرالية التي استلهمتها النخبة المثقفة الحديثة سابقا في سعيها لبناء المواطنة والدولة الدستورية والأمة الحديثة قبل أن تغيب نهائيا لصالح التأكيد على المركزية القومية المستندة إلى تأكيد الخصائص الإتنية وعلى محورية السلطة والدولة التسلطية. وستفقد المقاربة التقنية والعلمية التي ألهمت الثورة الصناعية والاجتماعية مكانها أيضا لصالح سياسات التكيف مع السوق العالمية كما ستفقد الطبقات البيرقراطية الرسمية التي ربطت مصيرها بتسريع وتائر التنمية موقعها لصالح صعود شبكات المصالح الخصوصية وسيطرة فئات الأعمال الطفيلية والريعية التي لا تملك مشروعا اقتصاديا ولا سياسيا لا طبقيا ولا من باب أولى وطنيا.
لم يعد الهم الأول والشاغل الرئيسي للفكر والممارسة العربيين في هذه الحقبة استدراك ما أضاعه العرب من التقدم العلمي والتقني خلال قرون الانحطاط وإنما تأكيد مبدأ نحن نحن وهم هم، أي مبدأ التمايز والخصوصية والاستقلال الحضاري. ولذلك سيكون هم الاسلاموية الدائم إثبات حضارتنا في وجه حضارتهم وتاريخنا في وجه تاريخهم وثقافتنا في وجه ثقافتهم. إي إلغاء الكونية أو النزعة الإنسانية التي كانت في أصول نشوء المثقف الحديث كحامل لوعي تاريخي مفارق ولمشروع تحويل اجتماعي إنساني مشارك في عملية التحول الحضاري العامة. إن جوهر منطق وممارسة الاسلاموية الجديدة هو : لا تقدم ممكن ولا أمل في تعاون إنساني من أجل التقدم أو الخروج من مأزق التقدم ولا تاريخ مشترك إنساني يفتح الواحد على الآخر ولكن هناك فقط حتمية الاختيار بين استمرار في الوجود يفترض ويستدعي تأكيد الخصوصية بكل تفاصيلها وعلى جميع المستويات، بما فيها العلمية، أو القبول بالموت والذوبان في الآخر أو التسليم له. وفي هذه الحالة لن يبقى هناك مطلب يفوق مطلب المقاومة والدفاع عن النفس من خلال التمسك بالهوية والذود عن الذاتية.
في هذا السياق الجديد سوف تبدو الدعوة إلى الاستمرار في استيعاب الحداثة أو منجزاتها أكثر فأكثر كدعوة للتخلي عن الهوية العربية والقبول بالاستلاب. إن تحرير الثقافة العربية من الروافد الأجنبية والمغالاة في رفع جدران الحماية الذاتية ستصبح من المهام التاريخية الأساسية للمثقف الاسلاموي الجديد في سعيه إلى تحصين الذات والداخل وضمان نقاء الحضارة والثقافة العربيتين. ومن هنا سيأخذ الاسلام موقعه الجديد كمحور لإعادة بناء الهوية ومورد للمعاني والمفاهيم الضرورية لصيانة الذات الحضارية وضمان سماتها الأصيلة والأصلية وتأكيد استقلالها وتاريخيتها الخاصة معا.
في إطار هذه الإشكالية الجديدة التي ستتخذ شكل المفاضلة بين الحضارات كأنماط متميزة ومتباينة بل متعارضة أحيانا للتفكير وللحياة، ستفقد المفاهيم التاريخانية مركزيتها في تفسير الاختلاف القائم والملاحظ بين أنماط حياة العرب والغربيين لتحل محلها المفاهيم المستقاة من الانتربولوجية الثقافية وصراع الحضارات والنزعات الجيوسياسية. كما ستفقد الايديولوجية العربية والثقافة التي تتغذى منها ملامحها الكونية التي كانت تعزز فكرة حتمية اندراج العرب، وإن بشكل متأخر زمنيا، في التاريخ الكوني للإنسانية، سواء ما تعلق منها بنظريات وحدة العقلانية أو التكوين القومي الحديث أو تعميم نماذج الانتاج والتقنية الصناعية، لتحل محلها مفاهيم إسلامية المعرفة والأمة الاسلامية والاقتصاد الاسلامي وكل ما يساهم في إظهار الفروق العميقة بل والقطيعة بين الذوات الحضارية.

 

3- مثقف الديمقراطية:

تندرج أزمة المثقفين العرب، بجناحهم العلماني وجناحهم الاسلاموي معا في إطار الأزمة التاريخية الشاملة التي تضرب الاجتماع العربي بأكمله. وهي الأزمة التي يعبر عنها الإخفاق المزدوج لمشروع الحداثة والبناء الوطني الذي كان موضوع استثمار تاريخي طويل عند المثقفين المحدثين ولمشروع إعادة تأسيس الهوية وتثبيتها على أسس إسلامية في مواجهة الهيمنة الغربية الذي انشغل به المثقفون الاسلامويون. وليس لهذه الأزمة علاقة ضرورية بالقيم التي يدافع عنها هذان الفريقان ولا بطبيعة المهام التي نذرا أنفسهما لها. إن جذورها تضرب عميقا في البنى والعلاقات الجوسياسية والجيواستراتيجية التي حكمت ولا تزال تحكم مشروع الحداثة العربية وتحدد آفاق تطوره المعنوية والمادية معا. بل ليست القطيعة التي تؤسس للفكر العربي الراهن وتفصل بين ضفتيه ومحوريه سوى الصدى المباشر لغياب آفاق التحول التاريخي الفعلية في المنطقة العربية. ولن تكون هناك إمكانية للخروج من الأزمة الفكرية التي تكرس انقسام النخبة المثقفة وتهميشها وانعدام فعاليتها المجتمعية من دون أن تتحقق تغييرات أساسية في الظروف العامة تخلق فرصا جديدة للتقدم وتسمح بإعادة إطلاق المبادرة التاريخية في المجتمعات العربية وتوفر الأدوات والعناصر المادية والمعنوية اللازمة لتسريع وتيرة التنمية الحضارية. ولا يبشر الهجوم العالمي الكاسح على المنطقة الشرق أوسطية اليوم في نظري بمثل هذا الانفتاح القريب كما لا يبشر به أيضا تدهور الأوضاع الإقليمية والوطنية التي تشير إلى استمرار النزاعات الداخلية وتجددها وتفكك النظم الحاكمة وفسادها وتهافتها معا. وهو ما يعزز احتمال سيادة طروحات الانكفاء على الذات والتمسك بالثوابت وتعميق النزعة الإجماعية والتوافقية في كل بلد ضد ما يبدو كتهديدات جدية للهوية والاستقلال الجماعي. ولا يزال من غير الممكن حصول طفرة تزيد من احتمال تحول الاسلاموية العربية وتطورها على منوال التطور الذي سمح لحزب العدالة التركي بتجاوز الحواجز العقلية والدينية التقليدية والقبول بالسلطة كوسيلة لإدارة الشؤون العامة في شروط الاكراهات التاريخية وبالتعامل مع الواقع والتكيف معه، مع التخلي عن أي رؤية تاريخية مسيانية أو خلاصية.
وبالرغم من العودة الرائعة للفكر النقدي في عموم البلاد العربية لا يزال من المبكر الحديث عن طفرة في الوعي العربي العام تقوده إلى استعادة زمام المبادرة العقلية والحضارية من جديد قبل أن ينجح المثقفون في هضم صدمة الإخفاق التاريخي الذي ساهموا فيه ومن دون نقد التجربة الماضية والخروج منها بدروس ومعرفة بطبيعة الاختيارات الأساسية التي تحتاج إليها إعادة بناء الرؤية التاريخية وإنارة مسار النشاط الجمعي القادم. وهو ما يعني النجاح في بلورة مشروع تاريخي للتقدم العربي المنشود، إذا كان التقدم لا يزال هدفا ممكنا وقائما.
وسيتحتم في هذه الحالة العمل على إعادة تعريف معنى التقدم: هل هو تجاوز للتأخر بالمقارنة مع البلدان الصناعية أو التكنوعلمية وبالتالي استدراك ما لم يتم إنجازه من مهام بوسائل مختلفة ليبرالية أو دولوية أم هو اندراج في الدورة الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للحضارة الانسانية الراهنة.
وفي هذه الحالة كيف يكون الاندراج وما مضمونه وما هي استراتيجياته ووسائله. أليس من الممكن الافتراض بأن سبب فشل التجربة الماضية للقرنين السابقين، أي التقدم عن طريق إصلاح الدين أو إصلاح الدولة (الملكية الدستورية) أو إصلاح العلاقات الجيوسياسية (الوحدة العربية)أو إصلاح المجتمع (الاشتراكية والمجتمع المدني) كامن بالضبط في تصور التقدم استدراكا للتأخر وتجاوزا له لا شقا لطريق جديدة تسمح، انطلاقا من المعطيات المحلية لكن حسب مباديء كونية وعامة، بإعادة البناء المجتمعي الشامل في مستوياته المختلفة الاخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ هل يمكن تجاوز "التخلف" من دون إعادة تأسيس فلسفة "التقدم"؟ وهل لا يزال هذا الزوج من المفاهيم مناسبا لطرح موضوع التحول المجتمعي في العالم العربي وفي غيره من البلاد؟ باختصار، هل المسألة مسألة تجاوز واستدراك أم هي مسألة إعادة بناء مجتمع كامل خرب ومتآكل، بصرف النظر عن أي مقارنة مع أي جماعة أخرى. وفي هذه الحالة سنجد أنفسنا أمام أسئلة جديدة سمحت لنا إشكالية استدراك التأخر، بالمنطور الاصلاحي الديني أو الليبرالي وبالمنظور الرديكالي الثوري الماركسي أو القومي، بالتهرب منها وتأجيلها وهاهي تعيد طرح نفسها علينا أكثر قوة من قبل: أي ثقافة وأي أخلاقية وأي دين وأي دولة وأي سياسة وأي قومية وأي علاقة بالمجموعة الانسانية، أي حضارة وأي طريق ومنهج لاستيعابها؟ باختصار، أي حداثة للعالم العربي أو أي حداثة عربية؟

هذه هي الأسئلة كما هي التحديات المطروحة على المجتمعات العربية والتي يتوقف على المثقفين في العقود القادمة توفير الاجابات المتسقة والعقلانية عنها للحصول على موقع في خريطة السلطة الاجتماعية واستعادة دور الريادة والمبادرة التي كانت للمثقف منذ بداية النهضة العربية.
لكن نستطيع منذ الآن أن نقول لتأكيد تفاؤل فعلي لا مصطنع إن انخراط المثقفين الراهن أو بعضهم في السنوات الماضية وبشكل أكبر فأكبر اليوم، إلى جانب الشعوب في معركة انتزاع الحقوق المدنية والسياسية، أي في مسيرة التحولات الديمقراطية العميقة، في إطار الهيئات المدنية والسياسية معا، وإن كان لا يقدم مثل هذه الإجابات المنتظرة بعد، إلا أنه يشكل المدخل الضروري الذي يعيد المثقف إلى مجتمعه ويمكنه من استعادة دوره في توجيه المسيرة العامة بقدر ما يسمح للمثقفين بالانخراط في الممارسة العملية ويقدم لهم فرصة الالتقاء في المعركة الواحدة من أجل الحرية والاستقلال عن الوصاية السياسية والأبوية معا. ومن هنا تمثل المشاركة في معركة الديمقراطية المفتوحة في البلاد العربية خشبة الخلاص الرئيسية اليوم إن لم نقل الوحيدة لخروج المثقفين كفاعل اجتماعي من نفق الهزيمة والاحتقار والهامشية للالتحاق بقاطرة التحول التاريخية العتيدة. وبقدر ما تساهم هذه المعركة في تحقيق التغيير واستعادة المبادرة في استيعاب الحداثة وتوطينها تمهد الأرض لتجاوز القطيعة بين الاسلاموية والعلمانوية وتهيؤ للخروج معا من فقر المقاربة التاريخانية وسحرية المقاربة الثقافوية ورؤيتها الحضاروية الرخيصة معا.