العالم العربي بعد 11 أيلول

2002:: منتدى عبد الحميد شومان الثقافي

 

 -  الموقف العربي من أزمة ايلول الدولية:

وهم الاستقلالية والقدرة على رفض الالتحاق

لم يعد يخف على أحد من المراقبين السياسيين أننا نعيش مواجهة فعلية بين العالم العربي والولايات المتحدة، وأن هذه المواجهة مؤهلة للتفاقم والاتساع أكثر مما هي مهيأة للتراجع والانحسار، بالرغم من تزايد تيار المبادلات الثقافية والاعلامية والسياسية وتصاعد وتيرة الزيارات الرسمية المتبادلة بين المسؤولين العرب والأمريكيين·

ترجع أسباب سوء التفاهم العربي- الأمريكي الراهن  بشكل رئيسي إلى الأزمة الكبرى التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 1002· فعلى المستوى الشعبي لم يكن هناك شك في أن الهجوم الذي تعرض له مركز التجارة الدولية ومبنى البنتاغون قد لاقى صدا كبيرا  وقوبل بحماسة من الجمهور العريض اليائس من السياسة الأمريكية في فلسطين منذ انتخاب جورج بوش الابن  رئيسا للولايات المتحدة· أما على المستوى الرسمي، فقد بقي موقف الحكومات العربية التي أدركت أن الأزمة  وضعت العرب في بؤرة الاتهام العالمي مترددا بين التسليم بالحرب ضد الارهاب مع التأكيد على تعاون الدول العربية مع واشنطن والتمسك بالدعوة إلى مؤتمر دولي لتعريف الارهاب، وللتمييز بشكل أساسي بين الارهاب والمقاومة المشروعة·

والواقع أن الدول العربية التي كانت السباقة منذ عام 4991 إلى الدعوة للتحالف الدولي ضد الارهاب عندما كانت جميعها أو أكثرها تتعرض لضغوط عنيفة من قبل الجماعات الاسلامية المسلحة، لم تعد تشعر، بعد أن نجحت في القضاء على مصادر التهديد الداخلي ووقعت منذ عام 8991 اتفاقية عربية مشتركة ضد الارهاب، بأن الحرب التي تعلنها الولايات المتحدة تمثل أولوية في حساباتها وجدول أعمالها· بيد أنها كانت تدرك في الوقت نفسه أنها من غير الممكن أن ترفض التعاون مع الولايات المتحدة التي تشكل السند الرئيسي لها في العديد من المجالات، وفي مقدمها المجالات الأمنية، حتى بالنسبة لتلك البلدان التي لم توقع اتفاقات عسكرية معها· ولذلك فقد انخرطت في الحرب ضد الارهاب من دون حماس، بل مع الكثير من التردد· وإذا أردنا تلخيص الموقف العربي بكلمة واحدة فلن تكون نعم ولا لا ولكن لعم، وهي عبارة أصبحت شهيرة في سجل الدبلوماسية الفلسطينية التي اضطرت دائما للحرب في ثنايا موازين القوى الضيقة جدا· وتعني لعم التعاون باللسان من دون قلب، وبالتالي  ضمن الحدود الممكنة مع واشنطن من جهة ومعارضة أسلوب تحديد الارهاب بل الحرب الراهنة ضد الارهاب بالقول، وبعضهم بالقلب، من جهة ثانية لا تأييدا لأفغانستان ولا شفقة بشعبها ولكن خوفا من أن تكون الحرب الأمريكية فاتحة لحروب أخرى تجري على الساحات العربية ذاتها·

وينسجم هذا الموقف مع حاجات النخب المحلية التي تجد نفسها مضطرة للتوفيق بين الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها، مهما كانت ميول أعضائها ونواياهم، من جانب الرأي العام الشعبي الذي يعبر بشكل جارف عن العداء للحرب وللولايات المتحدة بل عن التأييد الواسع لبن لادن نفسه الذي حولته الحرب إلى بطل أسطوري يتحدى الغطرسة الأمريكية وإلى شخص ينتقم بمفرده لشعوب كاملة من دولة تشجع اسرائيل علنا على الاستمرار في أعمالها الوحشية، من جهة،  والضغوط الدولية، وبشكل خاص الأمريكية، التي تريد منهم تأييدا قويا وواضحا لحربها ضد الارهاب، حتى لا تظهر هذه الحرب كأنها حرب ضد العرب والمسلمين جميعا من جهة أخرى·

وقد بدا للوهلة الأولى أن هذا الموقف الوسط الذي قال نعم ولا في الوقت نفسه، نعم للولايات المتحدة ولا للانخراط الحماسي في الحرب، قد حقق أهدافه· فالقيادات العربية ضمنت هدوء الرأي العام الشعبي وأمنت في الوقت نفسه جانب الولايات المتحدة التي تستطيع من دون أن يكذبها أحد أن تدعي دعم العالم العربي والاسلامي لها من دون حدود· وهكذا اعتقدت الدبلوماسية العربية أنها توصلت إلى الصيغة المتوازنة التي تستجيب بنجاح لجميع الضغوط الداخلية والخارجية وتضمن الحاضر والمستقبل على حد سواء·

ومما زاد في هذا الاعتقاد أن الولايات المتحدة لم تلوح في البداية  بعدم ضرب أي بلد عربي فحسب، ولكنها وعدت بأن تؤيد قيام دولة فلسطينية· وبهذا أصبح من حق الدبلوماسية العربية أن تكون أهدأ بالا وأن تقف على مواقفها هذه من دون تغيير وتملأ فراغ الوقت خلال مرحلة االحرب بترداد المواقف ذاتها والتأكيد عليها، أعني المواقف المبدئية نفسها التي بلورتها منذ بداية الأزمة، وذلك كلما احتاج الأمر وبدا على بعض تصريحات المسؤولين الأمريكيين الخروج عن الوعود المضروبة أو شبه المضروبة: مؤتمر دولي ضد الارهاب، عدم التعرض في الحرب للمدنيين الأفغان، ضروررة ايجاد حل للقضية الفلسطينية·

والواقع أن التكرار المستمر لهذه المواقف المبدئية، كان يخفي حقيقة أن الدول العربية التي تقع في قلب العاصفة والتي تدور الحرب بشكل أساسي من حولها إن لم نقل إنها هي الهدف غير المباشر للحرب، قد اختارت على المستوى العملي، أي السياسي والاستراتيجي، العطالة التامة والانتظار· فلم تقم منذ ذلك الوقت، أي منذ الأيام الأولى للأزمة، بأي مبادرة جديدة، اللهم إلا تداول الزعماء فيما بينهم للمواقف والآراء، في الوقت الذي كانت الدبلوماسية الأوربية والأمريكية  والاسرائيلية تدور العالم كله، وتعيد صوغ المواقف والوعود، وتناور على مستوى الكرة الأرضية بأكلمها، في الميدان السياسي والعسكري والثقافي والاعلامي معا،  لحصار الدول العربية ذاتها وجعل مواقفها المترددة مرفوضة من قبل الدول جميعا·  لا بل إن بعض الزعماء العرب شعروا لبعض الوقت أمام ما تبديه واشنطن من طول بال واضح تجاه الدول العربية أنهم قد ربحوا المواجهة الدبلوماسية، وأن بإمكانهم أن ينددوا بالمواقف الأمريكية ويقدموا قائمة بمطالبهم التاريخية أمام الدول الأطلسية·

ولا شك أنه كان للكلمات المعسولة التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لوصف سلوك العرب وشكرها لهم على تأييدهم المبادرة العسكرية الأمريكية، والتساهل الواضح الذي أبدته أمام ما كانت تصفه دائما بالارهاب في البلاد العربية، وإلحاحها على إظهار حرصها على مشاعر العرب والمسلمين والسعي إلى فتح حوار إعلامي معهم عبر الصحافة وقنوات التلفزة، كل ذلك قد فعل فعل السحر في الإرادة العربية الميالة أصلا إلى البطالة، فزاد في تخديرها وتنويمها عن المخاطر القادمة·

بيد أن الواقع كان مختلفا تماما عما تمنته القيادة العربية· فالولايات المتحدة الأمريكية وقسم كبير من المسؤولين الغربيين والعالميين معا، فيما وراء التصريحات المطمئنة والتي تهدف إلى تنويم الرأي العام عن النتائج الحتمية والمتطلبات المنطقية لحملة ما يسمى حرب الارهاب الدولية الطويلة والمستمرة بعد أفغانستان، يعتقدون بقوة وعمق أن العلاقة وثيقة بل أكثر من وثيقة بين الارهاب والاسلام، وأن العرب لا يتحملون قسطا رئيسيا من المسؤولية عن الارهاب المتفجر في العالم المعاصر من حيث أن لديهم أنظمة ترعى الارهاب وتستخدمه في سياساتها الداخلية والخارجية، ولكنهم مسؤولون أيضا من حيث هم شعوبا وأفرادا يؤمنون بالعنف ويشجعونه ويؤيدون من يقومون به· وأن تخليص العالم الراهن من شرور الارهاب لا يمكن أن يتحقق تماما من دون إخماد همجية العرب وإخضاعهم وضرب الحصار الشامل عليهم· بيد أن إعلان مثل هذه المواقف لم يكن ممكنا لأنه كان  سيؤدي إلى عكس الغرض المطلوب تماما، إذ سيعبيء العرب  منذ البداية  والمسلمين وراءهم وقسما كبيرا من الرأي العام الدولي المعادي للحرب ضد استراتيجية الحرب الطويلة لمواجهة الارهاب، ويجهض الاستراتيجية الأمريكية منذ البداية· كان المطلوب هو بالعكس السير في الحرب مرحلة مرحلة، وعدم إستفزاز قوى كبيرة وزجها في المعركة المضادة منذ الطور الأول· لقد كان تحييد العرب ولا يزال شرطا أساسيا لانجاح عملية وضع أسس الحرب العالمية الجديدة التي تحتاج إلي قبول جميع الأطراف وموافقتها· وهذا يفسر أيضا العديد من التصريحات الأمريكية التي رفضت تحديد جميع أهداف الحرب منذ البداية ولا تزال تردد أن هذه الأهداف ستحدد في وقتها، مرحلة وراء مرحلة· والمرحلة الأولى كانت  تحتاج لدعم الدول العربية والاسلامية وأخذ التغطية السياسية منها، وفيما بعد لن يكون هناك حاجة لهذه التغطية· تماما كما حصل في حرب العراق حيث لم تتردد الولايات المتحدة في تجاوز كل قرارات الأمم المتحدة وشن حربها الخاصة، وهي لا تزال تشنها حتى اليوم على بغداد، لتحقيق أهداف قومية أمريكية لا علاقة للكويت ولا للعراق بها·

فالبنسبة للإدارة  الأمريكية ولجزء كبير من الادارة الأوربية يمتد خط الارهاب من أفغانستان إلى أندونيسيا مرورا بالباكستان، ويسعى إلى إقامة قواعد ثابتة له حتى في الدول الغربية، الولايات المتحدة وأوربة· وقطع جذور الإرهاب من الأساس لن يتحقق إلا بتجفيف عروقه في أرض المنبع، أي في البلاد العربية نفسها· ويعني هذا التجفيف القضاء كليا على كل المنظمات التي شاركت أو تشارك بشكل أو آخر في العنف الواقع على الغربيين، بما فيهم الاسرائيليون، وفرض الرقابة المالية والسياسية والثقافية بل والدينية غير المباشرة على الدول المتهمة بإيواء الارهاب أو بمساعدته أو بالتساهل معه أو بعدم القدرة على محاربته على أراضيها، وفرض تشريعات وقوانين تردع قيام أي منظمات أو هيئات مناهضة للغرب وللولايات المتحدة وسياساتها تحديدا لما تشكله من تهيئة لمناخ الارهاب والعنف· إن المطلوب بالنتيجة هو دفع حكومات قريبة وليست صديقة فقط، إلى أن تنفذ مباشرة ومن دون تساؤلات كثيرة السياسات التي تصوغها الولايات المتحدة للمنطقة، من دون تردد ولا تساؤل· ومن هنا ستبدأ المواجهة الصامتة بين العرب والأمريكيين·

 

 

 -  السياسة الأمريكية الجديدة في العالم العربي :

 من الاحتواء إلى الإخضاع والترويض

والواقع أن الولايات المتحدة لم تكن بحاجة إلى دلائل رسمية على مشاركة الدول العربية في الارهاب أو تشجيعها له حتى تتخذ مثل هذه الإجراءات· بل لم تكن بحاجة إلى أحداث 11 سبتمبر لتفكر بخطة تضع فيها المنطقة العربية تحت الوصاية الدولية· إن أحداث 11 سبتمبر مهمة في هذا المجال لأنها تقدم ذريعة ينتظرها العديد من القوى الدولية التي تنظر إلى المنطقة العربية كبؤرة للتوتر والعنف والهمجية السياسية والفكرية والدينية، أي كمصدر تهديدات خطيرة للمصالح الحيوية الأمريكية والاوربية الاستراتيجية وتحلم  من ثم بتصفية حساباتها معها مرة واحدة وأخيرة·

وفيما وراء الانتقام للضحايا أو للاهانة التي وجهت لها، والدول الحقيقية لا تتصرف لا بدافع الانتقام ولا تشعر بالاهانة، تريد الولايات المتحدة الأمريكية التي بسطت نفوذها الأحادي على العالم منذ نهاية الحرب الباردة وحصدت ثماره نموا مضطردا جعلها تتجاوز خلال عقد كامل جميع أزماتها الاقتصادية وتحل مشاكلها على حساب العالم، بما في ذلك الدول الصناعية الرئيسية وتحتفط بمستوى عال من الرفاهية لسكانها أو لطبقاتها الحية والنشطة، أن تستثمر عملية الحادي عشر من سبتمبر، لتعيد تأكيد قيادتها الدولية وتضرب آخر معاقل المقاومة الموجهة، في العالم العربي وغيره، بل وفي أوربة، لهذه القيادة، وتلزم الجميع بجدول أعمال وأولويات أو بأجندة واحدة هي تلك التي تتماشى مع مصالحها واستقرارها وسلامها· وقد قدمت لها هذه العملية فرصة تاريخية استثنائية لا يمكن أن تضيعها ولا تريد أن تضيعها· لكن نجاحها في المناورة الاستراتيجية الجديدة الكبرى التي دشنتها باسم الحرب الكونية ضد الارهاب ليست مضمونة النتائج وليست مربوحة سلفا· لكن سنعود لذلك فيما بعد·

وللعالم العربي وما أصبح يشكل محيطا مجاورا له ومرتبطا به من حيث المشاعر والمواقف والتفاعلات الجيوسياسية، مثل ايران والباكستان وأفغانستان، في هذه المناورة الجيواستراتيجية دور أساسي وكبير هو دور الفريسة التي سبق وأن لعبها العراق لتلقين الدول الأكبر والأقوى درسا في الفتك الشرعي الذي يمكن أن تقوم به دولة عظمى بمن يتعرض لمصالحها بالخطر أو يجرؤ على تحدي إرادتها· والدبلوماسية الأوربية التي سارت مع الركب الأمريكي وسايرته بدافع الخوف أكثر منه بحافز الاقتناع لم تقم في الواقع إلا بإعداد الضحية وتحضيرها سواء عن طريق تخديرها أو تطمينها وهي تقودها نحو المسلخ بمرافقتها لها· وهي غير معنية بكسب العالم العربي، ولا أي دولة فيه، لجانب التحالف الدولي، فهي لا ترى فيه، بالرغم من المظاهر الكلامية الخادعة، أهلا لأن يكون موضع تقدير وثقة أو محاورا أصيلا وبالأحرى شريكا يعتد به أو يعتمد عليه أو يستحق التعامل معه في أي مشروع عالمي وفي أي ميدان· فهم جميعا ينظرون إلى الشعوب العربية على أنها تعيش خارج العصر ولا علاقة لها بقيمه الحديثة المرتبطة بالعقلانية والحياة المؤسسية والعمل، ولا بآماله الانسانية في الحرية والعدالة والحياة القانونية والأخلاقية السليمة· ولا يرون في قياداتها إلا مجموعات من المافيات أو العصائب الطائفية والعشائرية والجهوية التي لا تدين في سياساتها بأي مذهب ولا تخضع في سلوكها لأي قاعدة ولا يهمها وهي تخدم نفسها على حساب المجتمعات التي تحكمها مصلحة عامة ولا روادع أخلاقية وبالأحرى مباديء إنسانية· وإخضاع مثل هذه المجتمعات وفرض الاستسلام والتسليم عليها لا يبدوان هنا منافيين لمباديء الحق والقانون واحترام السيادة الدولية، وإنما واجبا أخلاقيا تجاه أبناء البلاد المتحضرة، ودفاعا مشروعا ضد البربرية·

من هنا لم يكن ضرب إفغانستان إلا مقدمة لمحاصرة العالم العربي وفرض الطاعة العمياء على جميع الدول العربية بما يعنيه ذلك من إلغاء أي هامش مبادرة لدى حكوماتها تجاه واشنطن وتغيير النظم والحكومات التي تبدوا غير قادرة على تطبيق السياسة الأمريكية الأكثر تطرفا يمينيا ومعاداة للعرب ولفلسطين كما هو مطلوب منها، وتدفيع العالم العربي ثمن هجومات 11 سبتمبر الباهظ وهو الذي اعتقد أنه يستطيع الاعتماد عليها لتغيير موقعه ودوره وحصته في الخريطة الدولية· وكما أن من الخطأ أن نعتقد أن واشنطن قد غيرت خلال يوم وليلة نظرتها للعرب شعوبا وحكومات، وأخذت تقدرهم وترعى ودهم، وتراعي مصالحهم بعد أن كانت تحتقرهم وتهملهم تماما وتسلمهم لقمة سائغة، رغم كل تشكياتهم واستغاثاتهم والتصاقهم بها، بسبب عملية ارهابية عربية تعرضت لها، فمن الخطأ أيضا أن نعتقد، كما يعتقد بعض الأوربيين على ما يبدو، أن الولايات المتحدة ستتراجع عن سياستها الأمبرطورية وجموحها إلى تأكيد الهيمنة الدولية الشاملة بسبب ما تعرضت له من هجوم على مركز التجارة العالمية·  كما أن من الخطأ الإعتقاد بأن واشنطن سوف تدفع للعرب ثمن الحرب التي شنها عليها تنظيم القاعدة دولة فلسطينية أو حماية لأنظمة حكم تعتبرها مسؤولة، بسبب عجزها عن السيطرة على مواطنيها، وسياساتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، عن تفريخ الارهاب الدولي·  وهذا ما تشير إليه في الواقع، على سبيل الاعداد لحروب المستقبل، الهجومات التي تشنها بعض الصحافة الأمريكية على مصر والسعودية والإشارات المتناقضة عمدا التي ترسل لسورية وبعض الدول العربية الأخرى، كما تشير إليه الوعود المجردة من أي تفصيل أو مبادرة عملية وتضارب التصريحات الأمريكية وغموض الكثير منها في موضوع فلسطين· لا بل إن هناك أصواتا لا تتردد في القول، في واشنطن واسرائيل، وهما شيء واحد اليوم، أن الضربة الرئيسية كان ينبغي أن توجه للعربية السعودية قلب الارهاب وموئله الأول·

أخطأ القادة العرب إذن حين اعتقدوا أن الولايات المتحدة ستحقق لهم ما يطلبون لمجرد أنهم أعطوها التغطية السياسية للحرب· وأخطأوا  أيضا عندما أعتقدوا أن الولايات المتحدة قد تابت وأصبحت أكثر ميلا لتطبيق قاعدة الحق والقانون في الشرق الأوسط· ويخطئون أكثر إذا اعتقدوا أن الولايات المتحدة سوف تساعدهم على تصفية حركات الارهاب أو ما يمكن أن ينشأ في بلدانهم في المستقبل من إرهاب لأنها تعرضت هي نفسها لمثله، أو لأنها أقرت اليوم بلا إنسانيته ولا شرعيته· يخطئون لأنهم بتفكيرهم هذا يعاملون واشنطن كما لو كانت طفلا بريئا لا تعرف مصالحها ولا تدري ماذا يجري في العالم ولا تدرك معنى الاستراتيجيات ولا تقوم، مثلهم، إلا بردود أفعال هدفها الانتقام أو التنفيس عن الرأي العام· والحال أن الواقع ليس كذلك أبدا· إن الولايات المتحدة تريد وتستطيع بما تملكه من موارد بشرية ومادية أن تستمر قائدة للعالم، بما يعنيه ذلك من الحصول على حصة الأسد من جميع موارد هذا العالم ورفع معدلات النمو ومستوى المعيشة لسكانها على حساب جميع الشعوب الأخرى· وقد أصبح لديها اليوم ما يبرر دفاعها المستميت بشكل أكبر عن شرعية مثل هذه القيادة وشرعية فرضها على العالم وانتزاع الاعتراف بها بعد أن تعرضت عاصمتها ذاتها للارهاب· وسيكون الميل قويا في الولايات المتحدة إلى تحويل أحداث 11 سبتمبر إلى نوع من الهلوكوست الأمريكي، المشابه للهلوكوست، أو المذابح الجماعية، التي تعرض لها اليهود ولا يزالون يحيون ذاكرتها بشكل دائم ومتواصل بموازاة استمرار مشروعهم التاريخي لاستيطان الأرض الفلسطينية·  وسوف يستثمر يمين الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأحداث منذ الآن بالأسلوب نفسه الذي استثمرت به الصهيونية المذابح النازية، أي أنه سوف يبرر، من خلال التذكير الدائم بالمحرقة، كما تفعل اسرائيل تماما، مطالبته بأن توضع أمريكا وسياساتها فوق القانون وفوق معايير الأخلاق والضمير، وبالتالي أن يحق لها أن تضرب وتغير وتفعل ما تشاء من دون أن تحاسب نفسها أو تقبل المحاسبة على سياساتها· بل مع الادعاء بفعل ذلك من منطلقات الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحماية الحضارة والقيم الانسانية· فهي لن تكتفي منذ الآن باعتبار نفسها حامية المعكسر الغربي الديمقراطي  وإنما المدافعة عن الحضارة ضد البربرية· ولا بد أن يكون للبربرية مكان وزمان وهيئة، وهي لا يمكن أن تكون في العقود القادمة سوى تلك المناطق العربية التي تفيض بالنظم الديكتاتورية وبحركات القتل والارهاب والتعذيب وانعدام الحرية والمدنية والأخلاق· ومن هذا الأفق لن تسمح الولايات المتحدة بإضعاف إسرائيل والضغط عليها· ولن تخفف من ضغطها على الدول العربية ومن حضور قواتها في الخليج لحماية موارد النفط الاستراتيجية ولا من استمرارها في الهجوم على العراق· ومنذ الآن بدأت بعض المقالات تماثل بين سورية وباكستان في علاقة الأولى بأفغانستان والثانية بلبنان·

وهذا يعني أن الانتقام الكبير للولايات المتحدة من عمليات بن لادن لن يكون في أفغانستان ولكن في العالم العربي نفسه الذي تحمله واشنطن المسؤولية الحقيقية والحضارية عن هذه العمليات· كما أنها، هنا، في هذا العالم العربي، تستطيع أن تستثمرها أفضل استثمار· ولا يهدف التركيز على بن لادن وعلى الأفغان العرب والتمثيل الحقيقي فيهم واستباحة حياتهم إلا إلى الاعداد النفسي للرأي العام الدولي لتقبل السياسات التي ستطبق في المنطقة العربية قريبا· والذين يعتقدون من بين العرب البسطاء أن الولايات المتحدة تخشى الارهاب أو تخاف من نتائج تعميمه ونشر الفوضى، أو أنها لا تريد أن تنفجر الأوضاع أو تتحول مناطق عديدة إلى ما يشبه أفغانستان، يخطئون التقدير كثيرا· إن واشنطن لا يضيرها أبدا إذا اقتضى ذلك تحقيق مصالحها تحويل نصف الكرة الأرضية لأفغانستان· وتهميش العالم العربي وإخراجه من الساحة السياسية والاقتصادية العالمية لا يغير كثيرا في موازين القوى الدولية ضد مصالح أمريكا بل يدعمها· أن قانون الامبرطورية هو أنه إذا لم يكن من الممكن ضمان الاستقرار الذي يساير مصالح الدولة ويضمنها، فليس هناك أكثر وسيلة لحماية الذات والاستمرار إلا في نشر الفوضى وتعميمها· بيد أن مثل هذه السياسة لا تناسب الدول الأوربية التي تقع على مقربة من البلاد العربية، وتشكل لها هاجسا حقيقيا، ومن الممكن أن تكون بداية بروز اختلافات جوهرية وانقسام في التحالف الأطلسي إذا لم تعرف واشنطن كيف تحيد الاعتراضات الأوربية وتفشل مبادرات الدول المستقلة فيها·

يبين هذا التحليل إذا كان يملك حدا من الصدقية والموضوعية هشاشة المواقف العملية العربية التي يبدو عليها وكأنها أخذت بالتحليل المتفائل جدا والمبسط للأزمة وتصرفت ولا تزال وهي تضع أقدامها في ماء بارد كما نقول، أو كما لو أنها قد نجحت في تجنيب نفسها المخاطر، منذ أن انتزعت من الولايات المتحدة، والواقع أن واشنطن هي التي تطوعت بذلك لتنويمها، بعض التصريحات التي يمكن أن يفهم منها أنها لن تلجأ إلى ضرب البلاد العربية أو توسيع دائرة محاربة الارهاب لتشمل المنظمات المقاومة لاحتلال اسرائيل· وهي في الواقع لم تنجح في شيء على الإطلاق· ولكنها أظهرت في موقفها هذا عجزها عن إدراك حقيقة المعركة التي لا تزال دائرة اليوم حول تعريف نظام السيطرة العالمية والرهانات التي تمثله وتتعلق بها والمكسب الذي يمثله التحكم الكامل بالمنطقة العربية وإخضاعها لأجندة أو لجدول أعمال القوى الدولية المتنافسة لتحقيق الأسبقية· فالولايات المتحدة لن تستطيع أن تزيل أثر الهزة التي أصابت سيطرتها العالمية وتتغلب على التحديات الجديدة التي يبعثها فتح معركة إعادة ترتيب المواقع وتنظيم هذه السيطرة من جديد، كما حصل من قبل أثناء أزمة الخليج، إلا بوضع اليد على المنطقة العربية التي انطلقت منها وارتبطت بها هذه الأزمة· وعلى الطريقة التي سيتحقق لها من خلالها السيطرة على المنطقة العربية مع امتداداتها الشرق أوسطية الاسلامية، عن طريق فرض حكوماتها وسياساتها الخاصة، أو عن طريق الحوار والتفاهم مع شعوبها وحكوماتها، يتوقف مصير العالم العربي ومستقبله·

 

- الولايات المتحدة الأمريكية والعالم: نحو سياسة القوة لا الحوار

كان لدى الولايات المتحدة ولا يزال في الرد على التحدي الذي واجه قيادتها العالمية عبر العمليات الارهابية الانتحارية الخطيرة خياران· الأول سلمي وقانوني يقوم على ملاحقة مسببي الحادث ومحاكمتهم وتطبيق القانون عليهم والسعي بالتعاون مع المجموعة الدولية وفي إطار الأمم المتحدة إلى بلورة سياسة مشتركة للقضاء على منظمات الارهاب وفيما وراء ذلك على أسباب ظهوره ونموه وانتشاره في العالم· ومثل هذا الخيار كان سيعني أن الولايات المتحدة لم تعد دولة فوق الدولة ولم يعد النظام الدولي الذي نعيش فيه نظام القطبية الواحدة، وأن واشنطن سوف تحد من نزعة السيطرة والهيمنة الدولية، وأنها ستستجيب، بعد الضربة التي تلقتها وبسببها، إلى الهموم العالمية وتتخلى عن منطق القوة وعن ازدواجية المعايير لتأخذ بمنطق القانون الدولي وتعمل على تطبيقه بموضوعية، وتسعى إلى إحداث إنفراج في الحياة الدولية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية·وفي هذه الحالة كانت الولايات المتحدة ستظهر قدرتها على السيطرة على ذاتها والتحكم بمشاعرها وتصبح نموذجا للقيادة المسؤولة التي تنتظرها في الواقع الساحة الدولية وتنتظر منها الكثير لبث بعض الانسجام والتعاون والتفاهم بين الجماعات والمجتمعات التي تركها زوال الحرب الباردة في حالة من فقدان التوجه وعدم اليقين والاستقرار· وربما كان هذا هو ما تخيلته الدول العربية كخيار يمكن لواشنطن أن تستقر عليه  للخروج من الأزمة· وقد انتظرت بعضها بالفعل أن تمد لها واشنطن يدها للعمل سوية على إزالة كل المشاكل التي تنغص حياة شعوب الشرق الأوسط لكن في هذه الحالة كان من الممكن للبعض أن يفسر مثل هذا السلوك على أنه يجسد قبول  واشنطن با لابتزاز الارهابي والخضوع له ومن ثم أن يشجع منظمات أخرى على استمرار الأخذ بوسائل الارهاب·

والخيار الثاني الذي كان قائما أمام واشنطن هو خيار القوة التي تملك الولايات المتحدة التفوق المطلق فيها على جميع الدول الأخرى·  وفي هذه الحالة سوف  ترد الولايات المتحدة كدولة عظمى تعرضت لهجوم واعتداء خطيرين ولا يمكن أن يروي غليل عظمتها المجروحة ويضمن إعادة بناء هيمنتها الدولية المتحداة والمعرضة للخطر ويعيد اصطفاف الجميع، وفي مقدمهم الدول الكبرى الأوربية والآسيوية عنوة وراء قيادتها، سوى تحويل الرد على الهجوم الارهابي الفردي إلى حرب عالمية تضع واشنطن من جديد على رأس تحالف دولي يتيح لها أن تحقق من تحت غطائه كل أهدافها الجديدة المرتبطة برد التحدي والقديمة التي لم تنجح في تحقيقها من قبل· فمن وراء الحرب ضد الارهاب تخاض ببساطة الحرب لإعادة السيطرة المباشرة على العالم، أي لاحتكار القرار الدولي· ولن يكون تعريف الارهاب مطلوبا بل حتى مطروحا على جدول الأعمال في مثل هذا الاختيار· وعلى جميع الأحوال، ليست الدول العربية، مهما كانت مشروعية مطالبها، هي التي تستطيع أن تفرض على الولايات المتحدة مثل هذا التعريف·

لا يعني هذا أن السير في الطريق الأول كان مستحيل الحدوث· لكن كان من الممكن لواشنطن أن تختاره فقط في حالة إذا اضطرت إلى ذلك ووجدت بالفعل أن ثمن الاستمرار في العمل من أجل السيطرة الدولية أصبح أعلى كلفة من القبول بالمشاركة والتعددية القطبية وتطبيق المعايير القانونية الدولية أو إصلاح الفوضى العالمية· والحال لم تدفع الأزمة التي فجرها تدمير مركز التجارة العالمية إلى تغييرات في اصطفاف القوى تجعل واشنطن تخشى من مواجهة مقاومات قوية أو من احتمال تعرضها لخسائر كبيرة نتيجة الاستمرار في سياسة السيطرة التقليدية· بل بالعكس من ذلك· إن اليمين الأمريكي الذي يسيطر على الإدارة وجد في مناخ الأزمة فرصة لا تعوض لفرض أطروحاته وتطبيق سياساته التي تقوم على استثمار الانتصار في الحرب الباردة وتطوير هذه الحرب لتشمل بلدان ومناطق يعتقد اليمين الأمريكي أن من مصلحة الولايات المتحدة إخضاعها أو التحكم الشامل بمصيرها· ومن البديهي أن هذه السياسات لم تلق معارضة تذكر من قبل  الدول الكبرى الأخرى التي وجدت في هذه الحرب ضد الارهاب العربي فرصة جديدة لتأكيد موقفها التقليدي منذ نهاية الحرب الباردة، وهو أن من غير الممكن الاستغناء عنها أو تجاوز دورها في أي محاولة جدية لمواجهة المشاكل العالمية وايجاد الحلول الناجعة لها· أما الاتحاد الروسي فقد وجد في الحرب الأمريكية ضد الارهاب مناسبة لا تعوض بثمن لتسويق مالديه من قوة استراتيجية وسياسية لتحسين أوضاعه المالية·

بالتأكيد لم يكن بإمكان الولايات المتحدة ولا يزال من غير الممكن لها أن تخوض هذه الحرب وتستمر فيها في المستقبل  وتحافظ على حلف دولي متماسك ضد الارهاب (ومنذ الآن ينبغي تحديد معناه بأنه ضد كل ما يعادي الولايات المتحدة)، من دون أن تراعي مصالح الدول الكبرى وتقدم تنازلات نسبية لها· بيد أن ذلك لا يعني أنها مستعدة بالقدر نفسه لمراعاة مصالح جميع الدول وتقديم تنازلات لها، وعلى أي حال، ليس للدول العربية التي تفتقر في نظرها للكفاءة والصدقية والمشروعية الديمقراطية، ولا لحكومات تتهم بعضها بتمويل الارهاب ورعايته، وإنما بالدرجة الأولى لصالح الاتحاد الأوربي الذي  تظهر دبلوماسيته نشاطا وفعالية استثنائيين لتحقيق نجاح المناورة الاستراتيجية ·

قد يعتقد العرب أيضا أن أوربة تستطيع غدا، بعد أن تكون قد أكدت دورها الدولي والاقليمي في الحرب ضد الارهاب أن تمارس الضغط اللازم على واشنطن لتقنعها بالعمل بصورة ايجابية في الشرق الأوسط، خاصة في موضوع ايجاد حل عادل للمسألة الفلسطينية· ولا شك أن لأوربة مصلحة كبيرة في ذلك· لكن مصلحتها هذه تتعارض بالضبط مع مصلحة الولايات المتحدة· فايجاد مثل هذا الحل يفتح المنطقة كلها على العالم ويقدم لأوربة التي تمثل المنافس الرئيسي لواشنطن فيها فرصا كبيرة لتوسيع دائرة نفوذها وزيادة مكاسبها المادية والمعنوية· ومن الممكن تماما للولايات المتحدة الأمريكية أن تقبل التشاور مع أوربة في العديد من المسائل الدولية، خاصة في تلك التي تمس المصالح الأوربية المباشرة في أوربة نفسها، وفي المفاوضات التجارية المعقدة، لكنها لن تقبل التشاور والتعددية في معالجة مشاكل منطقة تريد أن تبقى مغلقة كليا عليها· ولا ننسى أن الولايات المتحدة بقيت الدولة الكبرى الوحيدة التي لم تفرض الحصار على دولة جنوب أفريقيا العنصرية، وظلت تتعاون معها بالرغم من مقاطعة العالم كله لها· فالدولة التي تجعل من السيطرة العالمية غايتها لا تلزم نفسها لا بقانون ولا بأخلاق ولا بعواطف إنسانية· وهو الأمر نفسه الذي تلتزم به تماما النخب الحاكمة العربية للحفاظ على سيطرة مطلقة شبيهة، لكن في دائرة الحياة الوطنية وبمساعدة الدول الكبرى ذات المصلحة في الاستقرار، بالسيطرة الامبرطورية القائمة على الفرض والإملاء وعقود الاذعان·

والنتيجة أن من الصعب ، انطلاقا من موازين القوى وطبيعة العلاقات القائمة، أن تتصور الدول العربية موقفا أمريكيا ايجابيا منها، قائما على الحوار والتعاون· فالاقرار بلغة الحوار والتفاهم بدل الإملاء في تعامل الدول فيما بينها يستدعي توفر شروط لا توجد في سلوك الدول العربية إطلاقا ولا تزال لم تسع إلى توفيرها بعد، وهي القوة والمصداقية والملاءة الاستراتيجية· وردود فعل الدول العربية خلال الأزمة الكبيرة التي أعقبت الهجوم على مركز التجارة الدولية في نيويورك مثل ما هو الحال في الطور الثاني من الأزمة الذي أعقب إطلاق واشنطن يد حكومة شارون اليمنية في تدمير مقاومة الشعب الفلسطيني، قد أظهر هشاشة الرؤية والممارسة الاستراتيجية العربية· فبدل أن تدرك هذه الدول  المخاطر الماحقة وتقوم برد فعل ايجابي يوفر لها القوة والصدقية والملاءة الاستراتيجية تصرفت كما لو أنها قد أمنت، بسبب هجوم  لا علاقة لها به، منفذا لايجاد حلول خارجية للمشاكل الوطنية الكبيرة العالقة التي لم تجد هي نفسها حلولا داخلية لها· وهذا يعني بالعمق أنها فكرت كما لو كانت قد سجلت نقطة فعلا ضد واشنطن، وأن الهجوم الذي شنه زعيم القاعدة على الولايات المتحدة يمكن أن يقود إلى تعديل ايجابي في الموقف الأمريكي يدفع به إلى مزيد من الضغط على اسرائيل وبالتالي تحقيق السلام·  والواقع أن الدول العربية قد عبرت بذلك عن غياب أي رؤية استراتيجية وحلمت بأن تقوم واشنطن في مكانها بايجاد حلول لمشاكلها المختلفة، بما في ذلك قضية فلسطين، مما يعني أنها تطلب من غيرها أيضا أن يدفع ثمن سوء إدارتها وعجزها وتقاعسها·  ولايمكن أن يسمى ذلك بشيء آخر سوى الاستقالة السياسية، و لا يمكن أن يشجع موقف الاستقالة السياسية بأي شكل واشنطن على التفكير في الحوار مع الدول العربية للتوصل إلى اتفاقات تضمن ايجاد حلول سلمية وعادلة للمشاكل الكبيرة والعديدة التي تواجه المنطقة العربية، ولا تقتصر على فلسطين فحسب· بل أكثر من ذلك، ليس لدى الولايات المتحدة ولا غيرها حلول  لأي مسألة من المسائل التي تواجه الدول العربية، لا تلك المتعلقة بفلسطين ولا بمشاكل التنمية ولا بالأمن والاستقرار في المنطقة · وليس هناك دولة تفكر بحل مشاكل مجتمعات غير مجتمعاتها، وليس هذا من واجبها· إنها تستفيد بالعكس من عدم وجود حلول لهذه المشاكل كي تبقى قادرة على السيطرة عليها والاستفادة من مواردها ومواقعها ومواقفها وتبعيتها· ولذلك لم يكن من غير المتوقع أن تكون ما خبأته لها الولايات المتحدة هو مطارق أقسى ايلاما من كل ما سامتها به حتى الآن·

 

- طبيعة الاستجابة العربية : تفكك وغياب الإرادة وروح المبادرة الاستراتيجية والجهل بالرهانات الحقيقية

أظهر ترديد الدبلوماسية العربية الطروحات ذاتها التي أطلقتها منذ بداية أزمة الحادي عشر من ايلول من دون تغيير وتعديل، بالرغم من أن واشنطن قد استمرت في سياستها المرسومة، من دون أن تعبأ بمؤتمر العرب الدولي حول الارهاب ولا ببلورة تعريف محايد لهذا الارهاب ولا بالتمييز بينه وبين المقاومة الوطنية المشروعة ولا بوقف الهجمات التي تؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين، أنها كانت بعيدة كثيرا عن تقدير حقيقة التصميم الأمريكي وما يخفيه من أهداف استراتيجية· ولا شك أن مسايرة الحكومات العربية للطلبات الأمريكية وتبرئة الدول الغربية العرب والمسلمين كلاميا من تهمة الارهاب واعتقاد العرب القوي بأن ليس لهم أي مسؤولية عما حصل في نيويورك وواشنطن، كل ذلك قد ساهم في جعلهم يركنون إلى ولا يمكن بالتالي أن يكونوا، بأي شكل، مستهدفين في عملية الرد الأمريكي والأوربي عليها· بل إن من الطبيعي أن ينتظروا من الأمريكيين موقفا ايجابيا من القضايا العربية إذا أرادوا فعلا مواجهة بن لادن والقضاء على الارهاب· فالقضاء على الارهاب بستدعي القضاء على مصادره، وهي الاحباط واليأس الناجمين عن تعفن المسألة الفلسطينية·  بل ربما أصبحوا على اقتناع عميق بأنه ليس لدى الولايات المتحدة أي هدف آخر من حملتها الدولية الراهنة سوى القضاء على الارهاب، ذاك الذي يصيبها أو أصابها، وذاك الذي يصيبهم ويمكن أن يصيبهم في المستقبل·

 وبالرغم من تواتر التهديدات الأمريكية المبطنة من جهة واستمرار الحرب الاسرائيلية، بصرف النظر عن الضغط الأمريكي الدبلوماسي على شارون لوقف النار، وبقاء الدول الأوربية في حدود الوعود المجردة والعمومية، لم يطرأ ما هو جديد على طبيعة الممارسة العربية بعد مرور خمسة أسابيع على بدء الأزمة، ولم يصدر عن الدول العربية ما يشير إلى القيام بأي مبادرة أو مناورة استراتيجية ذات مغزى، باستثناء الجلسة الاستثنائية التي عقدتها لجنة المتابعة الوزارية لدعم الموقف الفلسطيني أو للتأكيد عينه على أنه لا حل للارهاب من دون ايجاد حل للقضية الفلسطينية·  وبالمثل، أعربت الدبلوماسية العربية منذ الأسبوع الرابع من الحرب عن خشيتها من أن تكون الوعودة الأمريكية وعودا كاذبة هدفها التطمين والتخدير، فظهرت دعوات تنادي بالعمل بسرعة للحصول على التزامات مكتوبة من قبل الولايات المتحدة حتى لا يحصل بعد الحادي عشر من سبتمبر ما حصل بعد حرب العراق·  وكانت قمة التعبير عن هذه الخشية والشكوك بصدقية الوعود الغربية التصريح الذي صدر عن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في الخامس من نوفمبر معربا عن خوفه من أن يتعرض العرب لعملية نصب سياسي من قبل الدول الغربية· وللتغطية على العجز الاستراتيجي العربي البارز وعدم القدرة على اتخاذ أي مبادرات عملية جدية لجأ العديد من الدبلوماسيين العرب إلى التشدد في بعض التصريحات وابراز التصلب في بعض المواقف السياسية في مرحلة تحتاج قبل أي شيء آخر إلى روح المرونة والمناورة واستغلال ديناميكية الأزمة الدولية لاحتلال مواقع تمكن العرب من الدفاع عن أنفسهم ومصالحهم في الطور الثاني من الأزمة التي يشكلون كما قلت جوهرها، أي في مرحلة ما بعد الحرب الأفغانية وانطلاقا من التغيير الذي ستحدثه نتائج هذه الحرب على توازنات القوى الدولية والإقليمية·

يؤكد هذا الموقف المنحى ذاته الذي سارت عليه الدبلوماسية العربية منذ بداية مرحلة السلام والبحث عن تسوية شرق أوسطية عادلة، أي التسليم بأن حلول المشاكل التي تواجهها المنطقة موجودة عند الولايات المتحدة الأمريكية، وأن ما هو مطلوب عمله لتحصيلها هو العمل على انتزاع التزامات جدية وإذا أمكن مكتوبة من واشنطن لضمان تحقيقها في المستقبل· وهذا يعني أن الدبلوماسية العربية تريد أن تخضع الولايات المتحدة لجدول أولوياتها الخاصة، وأن تستثمر حرب الارهاب الدولية لايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، في الوقت الذي تنزع فيه الادارة الأمريكية، انطلاقا من المبدأ ذاته الذي طبقته الحكومات العربية ولا تزال تطبقه على أي عمليات إرهابية في بلادها، بل على أي بيانات سلمية يوقعها مثقفوها ومهنيوها، بأنها لا تقبل بأن تخضع للضغط وتعمل تحت الضغط، وأن من غير الممكن والمقبول أن تكافيء الارهاب والجريمة· والواقع  إن من ينظر إلى ما يحصل في فلسطين بالفعل يدرك بسرعة أن الوعد بالدولة الفلسطينية عنصر من عناصر الحرب الاعلامية لا غير وأن الضغط على اسرائيل هو وسيلة لكسب الوقت وتخفيف عمليات التحدي والاستفزاز للجمهور العربي والاسلامي، من دون تغيير الخطط الحقيقية، لتمرير مسألة الحرب الدولية ضد الارهاب، التي سيكون هدفها الثاني بعد أفغانستان ليس العراق كما يظن بعض العرب، ولكن العالم العربي بأكمله· ومنذ الآن، وقبل أن تنجز الولايات المتحدة أي أهداف واضحة في أفغانستان بدأت بتوجيه النار رويدا رويدا صوب العالم العربي بإعلانها ثمانية منظمات عربية منظمات إرهابية، ومنها حماس وحزب الله· وهذا مدخل لا يمكن التقليل من خطورته ولا تجنب قراءة مغزاه·

وحتى لو اضطر الأمريكيون إلى تسجيل وعودهم على الورق، ولن يكونوا مضطرين لذلك أمام عالم عربي مفكك وعديم الارادة والقدرة والمبادرة، فلن يغير ذلك كثيرا من النتائج المنتظرة· فهم في تعاملهم مع العرب لايختلفون كثيرا عما كانوا يتعاملون به مع الهنود الأمريكيين· فالعقود والوعود والاتفاقات الموقعة كانت توقع كجزء من استراتيجية التطمين وكسر شوكة الهنود و تقسيمهم لكسب جولة سياسية قبل العودة إلى الحرب· بمعنى آخر، كانت الاتفاقات توقع لتنقض، ومع معرفة مسبقة بأنها ستنقض· وإذا حصل ووقعت تفاهمات مع العرب في أي ميدان من المبادين الوطنية أو الاقتصادية أو السياسية، فهي جزء من المناورة الاستراتيجية· وليس هذا من الأمور الصعبة ولا ينبغي أن تكون جديدة على العرب أو غير معروفة عندهم· فمنذ بداية القرن العشرين حتى  اليوم لم يصدق وعد واحد قدمته الدول المسيطرة أو المستعمرة لهم أو للمستعمرين (بقتح الميم) مثلهم· وهذا هو منطق السيطرة ذاته· إن العلاقات بين الدول لا تقوم حتى الآن لسوء الحظ بالنسبة لنا على الشفقة والمحبة والصداقة والرحمة والأخلاق والتألم على مصاب آلاف بل ملايين البشر الضحايا· وأكبر مثال على ذلك ينبغي أن يأخذه العرب من معاملة الأوربيين أنفسهم لبعضهم البعض· فقد زهقت الحرب العالمية الأولى والثانية عشرات ملايين الأرواح· ولم تتوقف الصراعات والحروب إلا عندما تم التوصل إلى اتفاقات متوازنة بين الدول المتنافسة وذلك بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها عندما التقت مصلحتها مع مصلحة إعادة تأهيل أوربة وبنائها لمواجهة التحدي السوفييتي الشيوعي الصاعد في منتصف القرن الماضي· وهو الالتقاء الذي تدفع إلى استمراره اليوم مواجهة مخاطر تصاعد القوة الآسيوية وتعميم مناطق الفوضى العالمية، وفي مقدمها المنطقة العربية والاسلامية· بالمقابل يمكن للحكومات والنظم العربية أن تضمن لنفسها السلام والأمن والاستمرار وتحظى بالسلام فيما بينها ومع اسرائيل أيضا، في حالة واحدة فقط : إذا قبلت بالانضواء تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاذعان لمطالبها والعمل تحت إشرافها لمراقبة وإخضاع الشعوب العربية الاسلامية التي تعتبرها واشنطن وجزء كبير من الغرب الأوربي المصدر الرئيسي للارهاب العالمي، لأنها قائمة على التعصب والكره للأجنبي والعداء للغرب والتمسك بالتقاليد المهترئة ورفض الحداثة والقيم الغربية والانسانية·

 

- أي استراتيجية للرد على مخاطر إلغاء هامش المبادرة العربية والاعداد لحصار حضاري شامل للعالم العربي؟

ما لم يتحقق الوصول إلى نظام دولي يكون فيه القانون مقدما على القوة كما هو الحال داخل الفضاءات الوطنية فلن يمكن لأي دولة أو مجموعة من الدول أن تحقق مكاسب، بل أن تدافع عن مصالح، لا تستطيع أن تفرضها بقوتها الخاصة وتحافظ عليها بإمكانياتها· وهذا هو القانون الذي يفسر انحسار قوة دول وصعود دول أخرى كما يفسر انهيار دول وتفجرها وتفككها ونشوء دول موحدة أو قادرة على فرض وحدتها على الدول الأقوى· فلا أحد يملك تكريسا أبديا وثابتا لموقعه وامتيازاته وموارده· وحتى الوحدة الوطنية والترابية التي تبدو كما لو كانت إرثا طبيعيا، وهي عادة كذلك، ليست إلا مصلحة ومصلحة كبيرة يتطلب الحفاظ عليها جهدا ماديا وسياسيا مستمرا وواعيا· وقد نسي العالم السياسي هذه الحقيقة بسبب الاستقرار النسبي الذي عرفته خريطة توزيع الدول خلال النصف الثاني من القرن العشرين· وهي الخريطة التي نشأت عن تصفية الاستعمار وحافظ عليها إلى حد كبير تراجع اهتمام الدول الكبرى المشغولة بالحرب الباردة بالعالم الفقير وتفاهم الدول النامية على عدم المساس بالحدود الموروثة عن الحقبة الاستعمارية· وقد ساعد على تكريس ذلك نشاط الأمم المتحدة للحفاظ على الحد الأدنى من الأمن والاستقرار والنمو الاقتصادي الاستثنائي الذي عرفه العالم الصناعي خلال تلك الفترة· لكن العقود القادمة سوف تشهد تبدلا كبيرا في هذا الثبات النسبي، وسوف تتغير حدود العالم وخارطته الدولية سواء بسبب انفجار الدول الداخلي تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وعجز النخب الحاكمة عن المعالجة السياسية للتوترات الناجمة عنها، أو بسبب تدخلات الدول الكبرى المباشرة وغير المباشرة· وسيقود هذا الانهيار في العديد من البلدان، كما حصل تماما في أفغانستان، إلى حروب وفوضى دولية كبيرة، هي التي تتوقعها الدول الأطلسية وتسعى منذ اليوم إلى إقرار القواعد شبه القانونية أو الأعراف الدولية المقبولة لاحتوائها من وجهة نظر مصالحها الخاصة، وبصرف النظر عن النتائج بالنسبة للشعوب والمجتمعات المنهارة·

قد تنجح بعض الدول بالرغم من ضعفها، بل بسبب ضعفها وعدم تمثيلها شيئا كبيرا في ميزان القوة في الاستمرار كما حصل في بعض دول أوربة الصغيرة مثل سويسرا واللكسمبورغ بسبب تفاهم الدول الكبرى على تركها كمناطق عزل وتطمين، أو بسبب عدم تمثيلها مصالح كبرى لأحد· ولكن هذا غير ممكن بالنسبة للقسم الأكبر من الدول ذات الوزن والتي يمكن أن تلعب دورا في الحياة السياسية الاقليمية أو الدولية·

وليس المقصود بالقوة العسكرية منها· فهي أضعفها على الإطلاق· ذلك أن أي دولة لا تملك اليوم ما يمكنها من مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية وهناك دول كثيرة لا تقف أمام أي دولة أوربية أو كبيرة· لكن أمنها يمكن أن يظل مع ذلك غير معرض للتهديد بالضرورة· إن القوة تشمل عناصر ردع متعددة مثل التماسك السكاني والوطني مما يجعل أي اعتداء عليها يكلف غاليا ولا يستطيع أن يحقق أهدافه، ودرجة اندماج البلاد في الدورة الحضارية العالمية، الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الذي يجعل من أي عدوان عليها يثير ردود أفعال قوية في مركز دائرة الحضارة ذاتها· ومن هذه العناصر أيضا نوعية التحالفات الاستراتيجية، ووشائج القربى الثقافية والاجتماعية والدينية والأخلاقية، وقدرة النخب الحاكمة على استباق الأزمات والمبادرة إلى حلها أو المشاركة في حلها، سواء منها الأزمات الداخلية أو الخارجية· وكل ذلك يشكل عناصر أساسية من أي استراتيجية للمستقبل بالنسبة لأي دولة أو كتلة سكانية·

وفي جميع هذه المجالات، وفي المجال العسكري أيضا من دون شك، يبدو العالم العربي مكشوفا تماما لأي قوى كبرى تريد التلاعب به والعصف بمكتسباته الحديثة المحدودة وتحويله إلى أفغانستانات متعددة ومتحاربة، ربما باستثناء إمارات الخليج الصغيرة التي تقدم للغرب مثالا للدول العربية الصالحة التي تضع نفسها بحماس تحت حماية الدول الكبرى وتعمل المستحيل كي تكون شريكة اقتصادية واستراتيجية وسياسية لها، وتتبنى جميع اختياراتها الدولية وتلبي جميع حاجاتها واحتياجاتها· فالصورة التي يعطيها العالم العربي عن نفسه، وعن حق، هي صورة عالم يفتقر لأي تماسك وطني، تخترقه النزاعات الاجتماعية والطائفية والمذهبية والاقليمية ولا تستقر فيه الأوضاع والنظم العمومية إلا بسبب تطبيق قوانين الطواريء والحصار السياسي والعسكري أو الأمني المضروب على الشعب، وليس فيه احترام لا لرأي عام ولا لقوى معارضة، ولا لأي نوع من التعددية السياسية والفكرية، ولا لأي قيم إنسانية·  وهو على درجة من التهميش لا تكاد تماثله منطقة أخرى في العالم· فهو يتلقى أقل من 1 بالمئة من الاستثمارات الخارجية الدولية، ولا تتجاوز صادراته من غير النفط حجم صادرات دولة صغيرة مثل فلندا لا يزيد عدد سكانها عن ستة ملاييين نسمة· وهو بالإضافة إلى ذلك عالم يغرق أكثر فأكثر في الخصوصية ويدير ظهره للقيم الحديثة لصالح التمسك بالتقاليد والنماذج والقيم القديمة التي تتنافى مع قيم احترام حرية ضمير الفرد وحرمته، ووجود قانون عام يطبق بالتساوي على جميع الأفراد ولا يقبل التمييز بينهم، ووجود قضاء نزيه ومستقل فعلا عن السلطة السياسية ولا يستخدم كأداة في يدها، ومع وجود حياة مؤسسية سليمة لا ترهن مصير الأفراد في بحثهم عن تأمين شروط حياتهم وسعادتهم بعلاقات شخصية، أي بإرادة ومزاج من هم فوقهم في المسؤولية السياسية والإدارية· وبهذا المعنى فالعالم العربي يبدو عن حق أيضا على أنه خارج الحضارة الحديثة وسائر بخطى حثيثة للابتعاد أكثر ما يمكن عنها بدل السعي للاندماج فيها· وهو يبدو كذلك عالم بعيد كل البعد عن إدراك أهمية التحالفات الاستراتيجية وتفهم مباديء التعاون الدولي، بل الإقليمي، إن لم نقل التعاون داخل البلد والجماعة الوطنية ذاتها· فبلدانه وقواه ونخبه المختلفة لا تفهم إلا لغة القوة· ولا تتحالف أو تفض تحالفاتها انطلاقا من مباديء سياسية وأخلاقية واعتمادا على منظور تاريخي واستراتيجي طويل المدى، ولكنها تخضع للأقوى الذي يهدد مصالحها الآنية وتدخل في خدمته أو تقف مع من تعتقد أنها تستطيع أن تستفيد منه لتحقيق مآربها· إنه مفهوم التحاقي محض أو انتهازي بسيط لتحالفات أو لمحاور لا علاقة لها بمعنى التحالفات الاستراتيجية الدولية التي تقوم على تحقيق أهداف ايجابية بالضرورة بعيدة المدى، كتحقيق التنمية أو الأمن الاقليمي والسلام أو التقدم العلمي والتقني أو اللحاق بالثورة التقنية والعملية بعد الثورة الصناعية، أو الاندماج الاقليمي أو الاندماج في أوربة كما تفعل تركيا لضمان مستقبل التصنيع الذي حققته، كما تقوم على أساس القبول بمبدأ المصالح المشتركة من التعاون وليس الاستفادة الأنانية والفردية والمؤقتة· 

وهذا الانكشاف للموقف العربي العام هو الذي يفسر تجربته المريرة والطويلة مع الوعود المغدورة· ذلك أن الدول الكبرى كانت ولا تزال تقدم الوعود للعرب إما للنجاح في استخدامهم كأداة في معاركها الخاصة بها، والتي تتجاوز دائما العالم العربي، كما حصل في بداية القرن العشرين مع الحلفاء الذين وعدوا الشريف حسين باستقلال مملكته العربية، أو لاحتوائهم واحتواء أذاهم المحتمل وخلق فرص استمرار استغلالهم ونهب مواردهم وثرواتهم كما هو الحال مع الموارد النفطية اليوم· وهذا الانكشاف هو الذي سيدفع الأمريكيين الذين يكررون كما لم يحصل من قبل أن الحرب الراهنة ليست موجهة ضد الاسلام والعرب إلى شن حرب لا هوادة فيها ضد العرب وبعض المسلمين وتدمير مجتمعاتهم وما حققوه من مكاسب قليلة على طريق الحداثة والتجديد باسم القضاء على منظماتهم الارهابية وقيادتهم البربرية·

يعتقد العرب، والقوى الوطنية التقدمية على رأسهم، أن موقفهم هذه المرة أكثر قوة مما كان عليه أثناء حرب العراق لأن قادتهم لم يعلنوا التسليم الكامل بالطروحات الأمريكية وتجرؤوا على أن يقولوا لعم للولايات المتحدة، أي لا يقبلون بالحديث بمنطقها وترداد شعارات حربها كما حصل سابقا، وعفوا عن تجنيد الجامعة العربية للمساهمة في التغطية على الحرب· لكنني لا أرى في هذا الموقف أي تقدم على الاطلاق وإنما تعبيرا عن تفاقم الاستقالة السياسية والاستراتيجية وانعدام روح المسؤولية· وسوف تكون نتائج مثل هذا الموقف  للأسف أسوأ بكثير من قبل· ليس ذلك بسبب خطأ الطروحات العربية على ضعفها، ولكن لأن التصدي للسياسة الأمركية والتجرؤ على مطالبة الولايات المتحدة بالمشاركة في تقرير ما هو الارهاب وإكراهها على الاعتراف بمسؤوليتها عما حصل في نيويورك وواشنطن واعتباره ثمرة للسياسات غير العادلة لواشنطن تجاه العرب، والاعراب عن عدم القبول بقتل المدنيين في أفغانستان، بما يعنيه كل ذلك من الانكار الضمني لمشروعية الحرب الأمريكية الراهنة، أقول لأن مثل هذه المواقف تحتاج إلى من يحمبها ويدافع عنها· ولا يمكن أن يكون هذا الحامي هو نفسه الذي يحتمي بالولايات المتحدة ويناشدها ويترجاها ويتسول على مساعداتها ويعتمد في وجوده وبقائه على دعمها أو غض نظرها عن ممارساته وسياساته غير المقبولة· فبدل أن تدفع هذه المواقف إلى إقناع النخبة الأمريكية والغربية عموما بقوة الإرادة والعزيمة العربيتين، كما هو منتظر سوف تزيد الشعور لدى هذه النخبة بعدم جدية المواقف العربية في مواجهة الارهاب، وسعيها إلى استغلال الأزمة لانجاز أهداف غير مستعدة لدفع ثمن تحقيقها بوسائلها الذاتية· ولن تفتقر واشنطن غدا، عندما تقرر بدء الحرب ضد الدول العربية، على الطريقة الجديدة، أي طريقة التعاون على تصفية الارهاب ومهاجمة الدول الارهابية، مناسبات وذرائع لتلوي عنق الدول العربية وتستخدم ضدها جميع النقائص والخروقات التي صمتت عنها حتى الان، وفي مقدمها الفساد وسوء الإدارة والتلاعب بالأموال العامة والتعامل بالإرهاب الداخلي والخارجي· ولن يكون من المستغرب بعد الفراغ من حرب أفغانستان أن تفتح واشنطن نفسها ملفات الارهاب العربية الداخلية منها والخارجية· والذين اعتقدوا أن الحرب ضد الارهاب تشكل فرصة سانحة للفتك بخصومهم السياسيين أو التخلص منه، وهم كثر بين الدول العربية، سوف يكونون أول من تتهمهم واشنطن بالبربرية التي لا تحترم الحد الأدنى من قيم الحضارة والمدنية وتستخدم سياساتهم ذريعة لتدمير شعوب لم تعد تملك أي قدرة على الرد والمقاومة، تماما كما حصل مع شعب العراق·

هدفي من هذا العرض أن أشير إلى أن من يريد أن يتخذ، في السياسة الدولية، مواقف مستقلة، مهما كانت أسسها القانونية والأخلاقية متينة، بل ربما خاصة إذا كانت متينة، عليه أن يؤمن الوسائل والقوة التي يحتاج إليها لحمايتها وحماية نفسه من أولئك الذين يسيء إليهم حتى التذكير بالقانون، كما هو الحال في الصراعات الداخلية العربية ذاتها حيث تشكل منظمات حقوق الانسان الهدف الأول للضرب والتنكيل من قبل الحكومات· وعندما يتعلق الأمر بمواجهة سياسة دولة من حجم الولايات المتحدة ومواجهة طموحها لإعادة هيبتها الدولية وسيطرتها العالمية، فلا يمكن لهذه المواقف أن تمر على سبيل الدعاية وكسب الرأي العام المحلي· ومن الواضج من طبيعة التعبئة الكبيرة للإدارة الأمريكية الناطقة بالعربية، وهي اكتشاف حقيقي بالنسبة للرأي العام العربي، أن الحكومة الأمريكية تشعر بالاحراج نتيجة عدم تجاوب الجمهور العربي والاسلامي مع مشاريعها، وهي ميالة إلى تحميل الحكومات العربية التي لا تبدي كما قلنا حماسا للحرب الأمريكية، المسؤولية المباشرة في ذلك·

باختصار، لم تظهر الدول العربية قصورا كبيرا في إعداد شروط مواجهة ولو سياسية محدودة مع الولايات المتحدة وسياساتها المناهضة للارهاب فحسب ولكنها حاولت أن تخفي عجزها وراء مواقف أخلاقية ونظرية وسياسية لا يمكن أن تقنع أحدا وليس لها قيمة كبيرة حتى من الناحية الاعلامية· فمهما رددت في تحفظاتها على الحرب ضد أفغانستان سيظل من الصعب عليها إقناع الرأي العام الدولي،  ومن باب أولى الحكومات الغربية التي تعرف دقائق الأمور وتفصيلاتها أكثر من أي رأي عام عربي، بحرصها المفاجيء على حياة المدنيين وكثير منها لا يتورع ولم يتورع عن تصفية عشرات الآلاف بل إبادة أحياء كاملة بسكانها دون تمييز للدفاع عن استقرار حكمه وعن احتكاره المطلق للسلطة في بلده· كما أن من الصعب إقناع هذا الرأي العام بأن هذه الدول والحكومات ليس لديها أي مسؤولية عن توسع الارهاب العالمي واستمرار مأساة الشعب الفلسطيني وتزايد الفقر والجوع والبؤس في البلاد العربية، بينما تعرف الادارة الأمريكية بل مؤسسات دولية أقل منها بكثير حجم الفساد واستغلال النفوذ والسطو على الأموال العامة والقهر والاضطهاد التي تعاني منهما الشعوب بأغلبياتها وأقلياتها معا ودون تمييز، في ظل أنظمة اعتقدت، في ظل الحماية الأمريكية ذاتها وبموافقتها ورعايتها أيضا، أنها ليست بحاجة كي تستمر في الحكم وتحفظ بقاءها لاحترام أي مبدء من مباديء الحياة السياسية والاجتماعية الحديثة ولا الالتزام بأي قاعدة قانونية أو قيمة وطنية أو إنسانية أو أخلاقية· كل هذا يدفع بالعكس إلى إضعاف صدقية هذه الأنظمة والرجال الذين يتحكمون بها إذا كان من الممكن بعد الحديث عن صدقية· ومن المستحيل أن تقبل دولة ذات قيادة ونفوذ بمجموعة من الثعالب الصغيرة التي تعيش على القنص والاحتيال على شعوبها ذاتها كمحاورين أصيلين، ومن باب أولى كشركاء محتملين في تقرير مصير أوطانهم وبلدانهم الصغيرة ومن باب أولى تقرير مصير المنطقة ومابالك بالمشاركة في تقرير المصير العالمي· ولذلك قام التحالف ودخل الحرب وضرب في أفغانستان مدنيين وغير مدنيين ولم يتلفت حتى من قبيل اللباقة إلى اعتراضات الدول العربية ولم يرد عليها· وبالمقابل استمر العرب على تكرارها كاللازمة من دون زيادة ولا نقصان كما لو أن شيئا لم يتغير، ولم يؤثر في تصميمهم على تكرارها·

ليس هناك عميل يمكن أن يسمح لنفسه بتوجيه النصح فما بالك بالنقد لمعلمه، إلا إذا أظهر مستوى من الكفاءة والمهارة والشعور بالمسؤولية تجعل لرأيه قيمة من حيث هو رأي مستقل· وحتى في هذه الحالة ينبغي عليه أن يعد نفسه لمعركة حاسمة يتوقف على نجاحه فيها فرض نفسه على معلمه السابق في علاقة من نوع جديد، علاقة الشريك والمحاور· وهذا يتطلب سياسات مختلفة كليا عن تلك التي اتبعتها الحكومات العربية في مواجهة الأزمة الدولية الناجمة عن عملية الحادي عشر من سبتمبر·

 

- أساس الارهاب في الشرق الأوسط ومسؤوليات أصحابه الحقيقية

ما الذي يكون بالجوهر حقيقة الموقف العربي الرسمي، والشعبي أيضا، لكن هذا ليس هو المطلوب هنا بالرغم من أهميته أيضا،  في الأزمة الراهنة؟ من دون أن يكون المرء أمريكيا أو مع المعسكر الأمريكي، سيفاجيء لا محالة من أن جميع الدول العربية اعتبرت نفسها غير مسؤولة من قريب أو بعيد عما حصل· وكان جهدها كله ولا يزال مركزا على أمر واحد، وهو أن الإرهاب غير عربي وإسلامي بالضرورة، وأن من الممكن أن تكون العملية من فعل منظمات أمريكية داخلية، وهي كثيرة، وأن واشنطن لم تقدم حتى الآن دليلا قاطعا على أن المسؤولية تقع على بن لادن· ثم في مرحلة متطورة أصبح الهم الرئيسي للدبلوماسية العربية هو أن تركز على ضرورة الفصل بين الارهاب والاسلام بعد أن التقطت هذا الخيط من الاعلام السياسي الأمريكي والأوربي ذاته، الذي أراد أن يحيد مسبقا الرأي العام العربي والاسلامي، خاصة بالنسبة للدول التي تتعرض لتحديات حقيقية ومباشرة مثل الباكستان· وصار هذا التمييز وسيلة للحديث أيضا عن أن الارهاب الذي طاول المركز الدولي للتجارة ليس له علاقة بالعرب والاسلام· وفيما بعد زاد التركيز على حقيقة أن بن لادن وجماعته هم ثمرة  تعبئة الاسلاميين من قبل واشنطن نفسها في حربها ضد الاتحاد السوفييتي، وأنه نشأ في البداية كعميل للمخابرات المركزية· وأثارت الدبلوماسية العربية بحذر في البداية مسألة فلسطين والعراق من دون أن تشير إلى أي مسؤولية للسياسة الأمريكية ولكن بمجرد القول إن الحل لا ينبغي أن يبقى أمنيا ولكنه لا بد أن يشمل مصادر الارهاب الفعلية، أي اليأس والاحباط الذين يولدهما تفجر الأوضاع في فلسطين وعدم إيلاء واشنطن الأهمية المطلوبة لحل القضية· وشيئا فشيئا تورطت الدبلوماسية العربية فربطت في العديد من المناسبات الارهاب بالسياسات الأمريكية التي مالأت اسرائيل وقبلت بدعم سياساتها العنصرية والاستيطانية·

لا تبنى سياسة على دفع التهمة عن النفس· وحتى لو لم يكن للعرب مسؤولية فيما حصل فالعرب مسؤولون مثلهم مثل بقية الشعوب الأخرى عن صيانة القيم الانسانية والمدنية والأخلاقية· ولا يمكنهم أن يكتفوا في مواجهة عملية إرهاب ذات نتائج خطيرة مثلما حصل، بالتبرؤ من دم القاتل، وإنكار نسبه وكفى الله المؤمنين القتال· فحتى لو لم يكن لهم مسؤولية، ولم يكن بن لادن عربيا ومسلما، وكان من قام بالعملية منظمة أمريكية، لا يغير ذلك من واقع أن هناك خطرا يحيق بالمجتمع الدولي، وأن العرب، وهم يعيشون على خمسة بالمئة من مساحة الكرة الأرضية، ويشكلون إحدى أهم خمس ثقافات كونية، ويلتف حولهم بسبب الدين خمس البشرية، مدعوون للتفكير فيما حصل والمبادرة لمواجهته والمشاركة بعمل ايجابي مع غيرهم لوقف دوامة السقوط في البربرية· وكان من الممكن لفكرة المؤتمر الدولي ضد الارهاب أن تكون فكرة بناءة لو لم ترتبط منذ البداية بنية واضحة معروفة تفقدها صدقيتها، وهي هدف التمييز بين الارهاب والمقاومة، حتى بدت وكأنها وسيلة يريد بها العرب تبرير نوع من الارهاب الخاص الذي يستخدمونها لتحقيق أهدافهم القومية لا لبناء تصور مشترك للأهداف العالمية· كما أن رمي المسؤولية دائما على الأمم المتحدة كثيرا ما يعبر عن انعدام المبادرة الخاصة ويغطي العجز عن ممارسة الحقوق الطبيعية، بما فيها حق الدفاع عن النفس· وهكذا لا يبدو مشروع مؤتمر الارهاب الدولي، خاصة وأن مؤتمرا مماثلا قد حصل في شرم الشيخ من قبل لدعم حكومة بيريس، لم يجد ضرورة لتحدد معنى الارهاب، اقتراحا يعكس إرادة عربية جدية في المشاركة الايجابية في المعركة ضد الارهاب، ولكن كوسيلة غير مباشرة للتغطية على الهرب من المسؤولية وتجنيب العرب المسائلة فيما يمكن أن يبدو ممارسة لأعمال إرهابية·

وفي العمق ليس هناك ما يجبر أي دولة، خاصة الولايات المتحدة، حتى في حال تحديد معنى دقيق للارهاب الالتزام بهذا التعريف والتقيد به· فالتعريفات ليست مستقلة في ميدان العلاقات الدولية عن موازين القوة· ولم يمنع ميزان القوة المختل اسرائيل من العودة عن جميع التزاماتها واستمرارها في مشروع الاستيطان الاستعماري للأرض الفلسطينية بالرغم من تحديد مشروع واضح للانسحاب التدريجي ودعم الولايات المتحدة خلال عهد بوش الأب وكلينتون لمفاوضات جدية بين الطرفين·

في سياق مثل السياق الحالي للأزمة يبدو التمسك بمباديء نظرية صغيرة مثل التعريفات والأطر القانونية البسيطة والواضحة كما لو أنه بحثا عن ذرائع للتملص من المسؤولية· وبالفعل، إن دبلوماسية الدول العربية تعكس خطا واضحا هو تجنيب النفس التهمة والتورط في الأمر وترك الاخرين يقلعون شوكهم بأيديهم، فنحن لم نر ولم نسمع· هذا أمر لا يهمنا لأننا لسنا شركاء فيه· لا نحن ولا العروبة ولا الاسلام· وهذا يعني ببساطة نحن غير موجودين في العالم، أو كفاعلين دوليين، أو ليس لدينا أي شعور بالمسؤوليات العالمية الجماعية· وفي هذه الحالة لايمكن لنا أن نطالب الآخرين بأن يكون لديهم مثل هذه المسؤوليات تجاهنا، بالرغم من أنهم، من منظور مواقعهم الدولية، يشعرون بهذه المسـؤولية ويحاولون أن يساعدوا على ايجاد حلول للمشاكل التي نواجهها، بشكل لا يؤثر على مصالحهم الرئيسية والثانوية ولا على مصالح حلفائهم وعملائهم·

ومع ذلك، ومن دون أسف أو حذر أو امتعاض، لا تقل مسؤولياتنا فيما حصل من إرهاب اليوم والبارحة في العالم، وفي منطقتنا بالذات، عن مسؤولية الدول الكبرى، بما فيها السياسات الأمريكية المتحيزة لاسرائيل والضيقة الأفق والمعادية بالعمق للمصالح العربية الحيوية· ولايمكن لأي طرف أن يطمح إلى أن يكون شريكا في أي نشاط من دون أن يبدي بالفعل قدرة فعلية على إدراك المسؤولية وتحملها، مهما كانت طبيعة المهمة المنتظرة منه·

وإذا كانت المسـؤولية الجنائية فيما حدث في 11 سبتمبر تقع من دون شك على المنظمة التي قامت بالعمليات الانتحارية الارهابية، سواء أكانت منظمة بن لادن أوغيره فإن المسؤولية السياسية تقع في جزء كبير منها على العالم العربي الذي أصبح المصدر الأول للارهاب العالمي والعنف والتعصب والعداء منذ ثلاثة عقود متواصلة على الأقل· بالتأكيد ىرجع قسم كبير من هذا الارهاب لعوامل وطنية، وفي مقدمها الصراع العربي الاسرائيلي، لكنه يرجع كذلك إلى نزاعات سياسية عاشتها ولا تزال تعيشها المجتمعات العربية، كما يرجع بجزء أكبر منه للأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية التي قادت إليها السياسات التنموية الخاطئة للنخب العربية، وفي ما وراء ذلك كله إلى أسلوب إدارة المجتمعات وقيادتها من قبل النخب العربية على اختلاف مذاهبها ومشاربها· فالعنف والارهاب هو اليوم في البلاد العربية أسلوب حكم ونمط إدارة وطريقة في التربية معا· فالشعب لا يحكم ولكنه بخضع بالقوة ويجبر على التسليم والاستسلام والتخلي عن رأيه وإرادته وحقوقه وممتلكاته عن طريق الارهاب الذي خلقت لتنميته وتطويره منظمات وهيئات متعددة أطلق عليها اسم قوات الأمن والمخابرات السياسية والعسكرية، وليست هي في واقع الأمر سوى ميليشيات خاصة تستخدمها النخب الحاكمة لبث الرعب والخوف في صدور المواطنين لضمان صمتهم عن ممارساتها ومنعهم من المطالبة بحقوقهم في المناقشة والمحاسبة والمشاركة السياسية· وهي ميلشيات خاصة لأنها تعمل خارج القانون ولا تقبل بأن تخضع في عملها لأي شكل من أشكال المراقبة القضائية، أي القضاء ذاته الذي تدعي الدفاع عنه· والعنف والارهاب نمط إدارة يومية لا يمكن من دونه إخضاع المواطنين ولا تسخيرهم لمآرب خاصة وشخصية ولا إكراههم على قبول كل ما يصاغ لهم في غيابهم ومن دون إرادتهم من قوانين وإجراءات ونظم وعقوبات استثنائية· وهو طريقة تربية تجعل التخويف من النار الالهية أو من غضب الرئيس أو من رجل الأمن قيمة مدنية وأخلاقية أولية تتقدم على جميع القيم الأخرى في الفاعلية، فهي الناظم الرئيسي لعلاقات السلطة في أي مستوي من مستويات الحياة الاجتماعية، في العائلة والمدرسة والمؤسسة والحزب والدولة معا· ولا ضمان للبقاء وحفظ الوجود في حدوده البيولوجية الدنيا من دون الالتزام بها وجعلها في مقدمة الغايات التي ينبغي أن تؤكد عليها أي تربية عقلانية في هذه المجتمعات·

فأسامة بن لادن، قبل أن يكون صنيعة المخابرات المركزية الأمريكية، أقصد كل من هو في موقفه، رجل منا، وقد صنعته نظمنا الاجتماعية القائمة على مباديء وقيم تنكر الحرية الشخصية وتؤكد على الانمحاء في الأنا الجمعية، وترفض التنمية العقلية النقدية، وتصر على غسل الأدمغة البشرية وتلقينها مرة واحدة ونهائية، منذ بداية سنوات تفتحها، كل ماتحتاجه في جميع مراحل عمرها، وتغلق الباب على فهم أو احتواء أو تحليل أي جديد أو غريب أو مفارق·  وعلى مؤسسات تنفي الذاتية عن كل إنسان ولا تقبل بغير الولاء والموالاة الشخصية وتفرض العبادة للأشخاص وتجعلهم قادة ورؤساء عبر تعميم العبودية· وعلى ممارسات تقدس التميز والتمييز وتجهل المساواة بين الأفراد ولا تقر بقانون آخر غير قانون القوة وإرادة الأقوى· وعلى نظم إجتماعية لا تعرف معنى العدالة الانسانية ولا تحترم إلا الكبير ولا تعمل على شيء آخر سوى توسيع دائرة تهميش الأغلبية· وعلى نظم إقتصادية وضعت خصيصا لخدمة فئات وعائلات وأسر حاكمة لا تكاد تشعر بانتمائها لأي مكان، لا لوطنية ولا لقبلية ولا لأي جماعة إنسانية·

ولا ينبغي للحديث عن مسؤولياتنا هذه في خلق الارهاب الوطني والعالمي أن يمنعنا من الحديث عن مسؤولية الدول الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية التي تلعب دورا رئيسيا في صوغ علاقات القوة في حياتنا الوطنية والاقليمية والدولية معا· وليس في ذلك أي تناقض على الاطلاق ولكن هناك بالعكس تكاملا حقيقيا بين المسؤوليتين· فاسرائيل التي تستمد قوتها الرئيسية، العسكرية والسياسية والقانونية والمعنوية من الدعم الأمريكي العلني وغير المشروط مهما كانت طبيعة سياساتها، ولكونها الحليف الأول لها في المنطقة، هي من دون منازع مدرسة الارهاب الرئيسية في كل المنطقة العربية· وعلى أيديها، وبسبب التحديات الخطيرة التي تطلقها وعجز النخب المحلية عن الرد الايجابي عليها، تتلمذت أجيال عديدة من الارهابيين العرب الشرعيين وغير الشرعيين، الوطنيين وغير الوطنيين وصارت طريقتها في القهر والقمع والاغتيال والابتزاز الجماعي والقصف العشوائي للمدنيين وكسر عظام الرضع والأطفال والكبار معا من دون تمييز أسلوبا عاديا وشائعا في منطقة لم تكتسب بعد ولم تكن قد اكتسب قبل قيامها الكثير من التقاليد القانونية والانسانية· وقد عممت اسرائيل من دون أن تدري منطق العنف الأعمى والتعسفي الذي استخدمته وتستخدمه ضد الفلسطينيين والعرب الاخرين على جميع شعوب المنطقة فصار قتل الابرياء والعبث بأرواحهم بعد حقوقهم أمورا طبيعية يومية· وصارت نظم الحكم التي تسود في المنطقة أشبه بنظم الاحتلال منها إلى نظم القيادة والإدارة السياسية· لقد بدأت اسرائيل تعاني من خطر العرب والمقاومة بقدر ما نجحت في إدخال فكرة العنف والابتزاز بالعنف إلى عمق الإرادة العربية وجعلت من عبادة القوة المادية نزعة حتمية وضرورية·

لكن مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية في تنامي العنف الشرق أوسطي لا تقتصر على دعمها الشامل وغير العقلاني لاسرائيل فحسب· فالصور الأليمة للعنف الشامل والمجرد الذي صبته على شعب العراق يشكل في الذاكرة العربية عاصفة لم تهدأ رياحها العاتية بعد· وهذا العنف الشامل والكثيف والحاسم والمستمر من دون تحديد أي نهاية، أي المصيري الذي أطلقته واشنطن على شعب العراق سوف يصبح النموذج والمثال الذي ينبغي أن يقتدى به لدى جميل كبير من جمهور الشباب العربي الذي عايش بالصوت والصورة مجزرة حرب الخليج ولا يزال يعايشها من خلال الأخبار المستمرة عن عدد الضحايا من الأطفال والشيوخ والنساء التي تنشرها الصحف كل يوم نيتجة نقص الدواء أو الغذاء أو قصف الطائرات الأمريكية التي لا تزال مصممة، كنسر جارح انقض على فريسته، على طلعاتها الروتينية لابقاء جرح العراق، ومن ورائه جرح العرب، فاغرا إلى أقصى ما تستطيعه الرزنامة الأمريكية·

ومسؤولية الولايات المتحدة حاضرة في صنع منطق الارهاب العربي من خلال حركة الأساطيل وتحريكها وفرض الأحلاف الدولية والتغطية على النظم والنخب الحاكمة الطغيانية· وهي حاضرة كذلك من خلال الاستخدام العلني والسري لكل أشكال العنف والارهاب، بما في ذلك الاسلامي منه، للمساهمة في تطويع نظام أو التأثير على سياسات دولة من الدول، كما حصل في أفغانستان وكما يحصل اليوم تماما فيها أيضا· إن العنف العربي والعنف الأمريكي يمتحان من معين واحد ويسعيان إلى تحقيق أهداف متماثلة ومشتركة: إخضاع الشعوب العربية وتحييدها وتهميشها لوضع اليد بصورة بدائية ووقحة على مواردها، بما في ذلك البشر والأرض، وتقاسمها بين الشركات الكبرى الدولية والنخب المحلية· هذا هو أساس نظام العنف والارهاب القائم في الشرق الأوسط وأهدافه الحقيقية· ومقوماته لا يختلف عن مقومات أي نظام عنف وإرهاب موجود أو يمكن أن يوجد في العالم، أي القهر ونزع الإرادة عن المجتمعات وإجبارها على الالتحاق من دون شروط بمشروعات النخب الفئوية وشراكاتها الدولية·

ومن الصعب على مثل هذا العنف أن لا ينجب عنفا مقابلا، سيكون بالضرورة أكثر عمى وعشوائية وانغلاقا· وهذا هو العنف الذي نشاهده اليوم في دورة معاكسة تحضر هي نفسها إلى دورة عنف رسمية جديدة بدأت مسيرتها في السهول الأفغانية·