أزمة النظم الشمولية

2004-10-15:: محاضرة في ندوة مشروع دراسات الديمقراطية، أكسفورد

 

 طبعا أنا لا أتصور ان هناك أفقا واسعا للتحول الديمقراطي في المملكة العربية السعودية لكن سؤالي يتعلق بالآلية التي ترى أن من الممكن من خلالها دفع الوضع السعودي بل النظام السعودي إلى التغيير عبر تحولات سياسية بطيئة. الصورة التي في ذهني تفيد بان النظام السعودي يقوم بشكل رئيسي على ثلاث ركائز أساسية. الأبوية السائدة من حيث هي نظام من العلاقات التي تربط العائلة السعودية المالكة بالمناطق والأحياء وشيوخ العشائر، ومن حيث هي منظومة قيم سياسية مدنية تنظم علاقات الأفراد والجماعات فيما بينها بصرف النظر عن العشيرة السعودية. والركيزة الثانية هي الاقتصاد الريعي الذي يأتي هنا ليدعم نظام العلاقات الأبوية ويحوله إلى قاعدة لنظام حكم عن طريق ما أتاحه من إمكانيات مادية وسياسية كبيرة لبناء العلاقات الزبائنية بالتوزيع والرشوة والالحاق وكذلك من الموارد الضرورية لخلق طبقة ارستقراطية وطبقة وسطى أيضا مرتبطتين به. والركيزة الثالثة هي التحالف السعودي الأمريكي الذي ضمن للنظام التفاهم المستمر والتعاون مع المنظومة الصناعية وعلى رأسها الدولة العظمى الأمريكية والحصول على التغطية السياسية الفكرية الإعلامية والاستراتيجية التي يحتاج إليها من أجل معالجة التناقضات الداخلية وكبح جماح أي معارضة محتملة قبل أن تنمو وتزدهر. ولا شك أن هذا التفاهم ليس منفصلا أيضا عن وجود الاقتصاد الريعي بحيث يحق لنا القول إن ريع النفط الكبير قد ساهم مساهمة رئيسية في تعزيز إمكانيات استقرار واستمرار النظام الداخلية والخارجية.

 

لكن بالرغم من ذلك لاحظنا في السنتين السابقتين على الأقل ان النظام بدا وكأنه بدأ يشك في نفسه وقدرته على البقاء كما هو، وأخذ يقوم بالفعل بما يشير إلى الشروع في عملية تعديل بطيء في بنيته الخارجية أو السطحية. لقد تكلم السعوديون عن انتخابات بلدية وقاموا بتنظيم مؤتمر وطني وأظهروا رغبتهم في كبح جماح بعض التيارات الوهابية المتشددة حتى قبل 11 سبتمبر 20001. لكن في السنة الماضية يبدو لي وكأن هناك تراجعا غير معلن عن كل هذه الإجراءات التغييرية البسيطة واستعادة من قبل النظام للمبادرة، كما حصل في بعض البلدان الأخرى. سؤالي هو: هل ما حصل من تراجع ناجم عن أن الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي اعتمد النظام على ولائها حتى الآن، لكنها هي أيضا صاحبة المطالب بالتغيير نظرا لأنها الطبقة المتعلمة والمتأثرة أكثر بقيم السياسة الحديثة والطبقة التي أصبح لها موقع في النظام وتستطيع بالتالي التأثير، هل ما حصل ناجم عن أن هذه الطبقة شعرت أمام تطور حركات التطرف الديني وتوسع دائرة العمليات الارهابية داخل المملكة أن من الأفضل لها في الوقت الراهن التمسك بالنظام وعدم زعزعة استقراره لصالح بديل إسلامي متشدد أم هو ناجم عن أن الضغوط الأمريكية الكبيرة في اتجاه الاصلاح قد خفت أو عن الإثنين معا؟ ثم ألم يحصل داخل النظام أو في وسط الفئة الحاكمة السعودية أي خلخلة أو أي انقسام في الآراء؟ ليس المقصود بالضرورة انقسام العائلة المالكة ولكن تبيان في ما إذا كانت الأزمة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر قد دفعت إلى نشوء تيارات ووجهات نظر متباينة حول أساليب العمل المطلوبة للاحتفاظ بالسيطرة داخل المملكة ولإعادة إنتاج النظام. الواقع أنني لم أتبين في الحديث العوامل التي تفسر بالضبط كيف نجح النظام السعودي في ان يستعيد التوازن ويعطل كل عناصر الخلخلة التي أدخلتها الأزمة المتفجرة خلال السنتين الماضيتين سواء بسبب تطور مطالب الطبقة الوسطى السياسية أو بسبب الضغط الخارجي أو بسبب انفلات جزء من القاعدة الاسلامية.

أنا أريد في الحقيقة أن أقول، بسرعة، أن الأنظمة العربية سواء كانت تنتمي إلى نمط الاستبداد الأبوي أو إلى الفاشية الحديثة فهي تعيش جميعا في أزمة حقيقية. المشكلة التي تستحق التأمل والتفكير هي لماذا لا تترجم هذه الأزمة في بلداننا بنشوء حركة ديمقراطية قوية أو في تطور التيارات الديمقراطية التي لا تزال معزولة وضعيفة بالمطلق؟ لماذا تقود الأزمة بالعكس مما كنا ننتظر إلى مسار مختلف تماما هو مسار إعادة هيكلة الأنظمة الاستبدادية نفسها بالتفاهم مع الدول الأجنبية، وبالاستجابة إلى الشروط والطلبات التي تقدمها هذه الدول؟ باختصار لماذا تفشل الضغوط التي تمارسها المجتمعات على الأنظمة في انتزاع أي تنازلات في اتجاه فرض المزيد من الحريات واحترام القانون وضبط الإدارة وإصلاحها في الوقت الذي تثمر فيه الضغوط الخارجية استسلامات متتالية تعبر عنها الأنظمة بالتجاوب السريع مع مطالب الدول الكبرى بل وانخراطها في استراتيجياتها من دون شروط مسبقة؟


الجواب هو أنه كي يمكن للضغوط الداخلية أن تثمر تنازلات في ميدان الحقوق والحريات والاعتراف باستقلالية المجتمع وبجزء من سيادته ينبغي أن تتمتع القوى الاجتماعية والسياسية الضاغطة بالحد الأدنى من الوزن والصدقية الشعبية، أي ينبغي أن تكون لديها القدرة أيضا، مثل القوى الخارجية، على زعزعة استقرار أو التهديد بزعزعة استقرار النظام. في هذه الحالة وحدها تشعر الطبقة الحاكمة أن لها مصلحة في فتح مفاوضات مع القوى الداخلية تماما كما تطالب حالما ترفع الدول الكبرى عصاها بفتح مفاوضات معها وتدعو لحوار سلمي ولتجنب اللجوء إلى القوة. وهي ستظل ترفض مبدأ الحوار في الداخل وتصر على مبدأ استخدام القوة المجسد بإطلاق يد أجهزة الأمن من دون التزام بقانون ولا بدستور طالما شعرت بأن قوى المعارضة لا تستطيع أن تهز استقرار نظامها ولا تهدد سلطتها. وهذا يعني أنه كي يحصل حوار جدي بين المعارضة والحركة الديمقراطية من جهة والأنظمة القائمة من جهة أخرى وبالتالي كي يزيد أمل المجتمع في تحقيق تنازلات تدريجية تشكل أساس الانتقال السلمي نحو وضع أكثر ديمقراطية، لا بد أن تنجح القوى الديمقراطية مسبقا في تعبئة الرأي العام وتكوين قوة تدخل حقيقية في الحياة السياسية والاجتماعية. أما في الظروف الراهنة ونظرا لضعف القوى المعارضة الموجودة فمن السهل على الأنظمة تجنب التفاوض والحوار الداخلي لأن ذلك لا يكلفها كثيرا على المدى القصير على الأقل, وهي تربح أكثر من التفاوض مع الولايات المتحدة والدول الكبرى على مصالح المجتمعات من ربحها عبر التفاوض مع هذه المجتمعات لتقي نفسها من الضغوط الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة والدول الكبرى تدرك أيضا أن التفاوض مع حكومات أقلية لا شعبية تضمن لها مصالح لا يمكن أن تحلم بها في التفاوض مع حكومات حقيقة تمثيلية.


من هنا أنتقل إلى المشكلة الرئيسية. فالسؤال في نظري لا يتعلق بما إذا كانت هذه الأنظمة مستبدة أم لا ولا بما إذا كانت ستبقى أو ستزول. فهي ستزول لا محالة في يوم ما لأنها ليست مخلدة. إنما السؤال الحقيقي هو : لماذا لم تنجح المجتمعات العربية حتى الآن في أن تفرز من داخلها قوى على درجة من الوعي والتماسك والانتشار تمكنها من حمل المشروع الديمقراطي الذي نتحدث عنه وفرضه بالوسائل السلمية أو غير السلمية. بمعنى آخر ما الذي يفسر افتقار المجتمعات إلى القوى الاجتماعية الفاعلة التي يمكن المراهنة عليها من أجل دفع الأنظمة إلى مسار إعادة الهيكلة في اتجاه ديمقراطي ومكنها بالعكس من الاطمئنان إلى أن بإمكانها التوجه من دون أن تخشى شيئا نحو إعادة الهيكلة في اتجاه تجديد العقد الاستعماري الجديد أو الوصاية الأجنبية والتفاهم بين النخب المحلية والنظام العالمي؟ ومن الواضح، وأنا هنا أختلف مع أولئك الذين يعتقدون أن الأنظمة جامدة لا تتحرك, أن هذا النوع من الهيكلة هو الذي نشهد انتشار نموذجه اليوم من مشرق العالم العربي إلى مغربه. وهنا هو الذي يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما نعيشه اليوم في البلاد العربية ليس مرحلة انتقال نحو الديمقراطية والتغيير الديمقراطي التدريجي والبطيء ولكن بالعكس مرحلة انتقال نحو نمط جديد من النظم الديكتاتورية المافيوزية التي تجمع بين التبعية والأحكام اللاقانونية، بين اقتصاد السوق المشوه وسلطة الأجهزة الأمنية التعسفية، بين الانفلات الاقتصادي واستباحة حقوق الجماعات معا، وهي مرحلة الربط المتزايد بين الأجندة المحلية التي لم يعد فيها من الوطنية شيء والأجندة الدولية.
هذا ما يدفعني إلى لفت الانتباه والتركيز على ما أعتقد أنه المسألة الحاسمة في أي تحول ديمقراطي عربي في المستقبل المنظور، وهو موضوع بناء الحركة الديمقراطية. وفي هذه الحالة ينبغي السعي إلى الإجابة العقلانية على السؤال : كيف يمكن ان تتحول الحركة الديمقراطية التي لا تزال تقتصر على بعض النخب المثقفة إلى حركة جماهيرية تشارك فيها وتنخرط في صفوفها قوى اجتماعية فعلية وذات وزن مثل الطبقات الوسطى التي مازالت بعيدة كثيرا عن السياسة، أو حتى بعض القطاعات الشعبية المتنورة وبعض قوى الرأسمالية الوطنية؟ هذا هو التحدي الحقيقي للعاملين في السياسة العربية على مدى السنوات القليلة القادمة.


طبعا نحن هنا في ندوة علمية وليس هذا مجال نقاشنا. لكن أعتقد أن هذا التحدي يواجه وسوف يواجه بشكل أكبر جميع الأحزاب السياسية العربية سواء أكانت علمانية أم إسلامية. وأنا أعتقد أن الأحزاب الاسلامية نفسها أصبحت معزولة عن الجمهور العريض أو بالأحرى عن الكتل الاجتماعية الكبيرة. صحيح أن لديها منتمين أكثر وصحيح أن الجمهور العربي أصبح بشكل عام أكثر التزاما بالقيم الدينية، لكن لا يعني هذا أنه مؤيد لبرامج الأحزاب الاسلامية السياسية كما لا يعني أن هذه الأحزاب لا تزال تتمتع بشعبية كبيرة كما كان الأمر في الماضي. لقد نجحت الأنظمة في اعتقادي في العقدين الماضيين في تحطيم هياكل الحركات الاسلامية وكسر شبكات القوة والتواصل التي كانت تستند إليها داخل العديد من الأوساط الاجتماعية كما نجحت في عزل الحركات العلمانية وابعاد الجمهور عنها بالتهديد والترغيب معا. وهي تجد نفسها اليوم عن حق طليقة اليدين وغير خاضعة لأي ضغط داخلي قوي في مفاوضاتها مع الدول الكبرى من أجل ما تسميه هي نفسها صفقة جديدة، وهو لا يعني إلا إعادة بناء العقد الاستعماري على أسس أكثر خنوعا من العقد الذي وقعته بعد الاستقلالات السطحية والفارغة.
وفي النتيجة أعتقد أن الأهم اليوم من أجل ضمان فرص التحول الديمقراطي في المستقبل، وبالتحول الديمقراطي نحن نعني دائما إعادة السلطة والسيادة المصادرتين من قبل النخب الحاكمة إلى الشعب، هو مراجعة القوى السياسية الديمقراطية التي لم تتبلور تماما إلى الآن ولم تبلور أي برنامج واضح ومقنع، لنفسها، أي لحساباتها وتكتيكاتها واستراتيجياتها، كي تستطيع استعادة جزء من المبادرة السياسية والتحول إلى فاعل حقيقي في الحياة العامة للمجتمعات العربية.


لا شك أن النخب العربية الجديدة النقدية قد نجحت في أن تجعل من الديمقراطية عقيدة سائدة ليس هناك ما يمكن أن ينافسها اليوم لا داخل السلطة ولا في وسط الجمهور. وحتى القوى الاسلامية الجماهيرية مضطرة اليوم إلى إعادة فرز نفسها على أساس الموقف من الديمقراطية إذا لم تشأ أن تضيع رهاناتها جميعا. لكن التحول الديمقراطي ليس مسألة فكرية. إنه مسألة عملية بالدرجة الأول، أي هو فعل مرتبط بصحة الاستراتيجيات والتكتيكات التي يتبعها الفاعلون المؤمنون بالديمقراطية وبحجم التضحيات التي هم مستعدون لتقديمها في سبيل تحقيق أهدافهم. وأعتقد أن مسألة الفعل هذه من المسائل الرئيسية التي ينبغي علينا أن نركز عليها ونوجه إليها الأضواء في المستقبل القريب: أعني مسألة كيف نبني الحركة الديمقراطية والعمل الديمقراطي من حيث هو فعل وممارسة سياسيين وما هو دليل هذا العمل وليس من حيث هو رؤية نظرية ومنظومة قيم فحسب.