مقابلة مع تلفزيون سورية: ما الذي ميز مآل الثورة السورية عن مثيلاتها؟

2020-06-16 :: تلفزيون سورية

 

1- بعد مرور أكثر من تسع سنوات، ورغم الدّم الغزير، لم يقطع السوريون بعد كل المسافة التي تفصلهم عن إسقاط النظام ونيل الحرية. الى ماذا تعزو ذلك؟

لكنهم قطعوا مسافة كبيرة حتى الآن. فما كان اسمه نظام الأسد تحول إلى رسم دارس لم يمح ولا ينبغي ان يمحى من ذاكرة الأجيال وإنما أصبح من الماضي. وجميع الأطراف المنخرطة في الصراع تتسابق على الأشلاء وتتقاسم الغنيمة. لكن بالتأكيد لا يزال أمام السوريين طريق طويلة يقطعونها قبل أن يحققوا هدفهم الأكبر في بناء نظام الحرية والعدالة للجميع ويعيدوا إعمار ما دمره الأسد وحلفاؤه.

وقد كنت دائما أردد أن ما جعل مصير الثورة السورية تختلف عن مصير ثورات الربيع العربي المشابهة هو أنها عانت من تقاطع أربع ظروف استثنائية. الأول نوعية نظام الأسد الذي كنت اطلقت عليه اسم الانقلاب الدائم. فهو لم يسحب السلاح من الشارع في اي يوم وعاش على الهجوم منذ تأسيسه. لم يبحث حتى عن شرعية سياسية ولكنه اختار عمدا القهر والاذلال والعنف المجاني بهدف الارهاب والردع. كان نظام حرب استباقية دائمة على الشعب والمجتمع. وتحالف من اجل الاستمرار في هذه الحرب مع جميع القوى التي تخشى نهضة الشعوب العربية وعودة الحياة الحرة الى سورية، من اسرائيل الى ايران إلى دول الخليج إلى الدول الغربية، والتي راهنت على حكم أقلوي، ليس بالضرورة طائفي، يقمع الشعب ويشل حركته. وهذا ما أنتج نظاما مسعورا وليس متوحشا فحسب، لم يخرج من عباءة الأحكام العرفية وقانون الطواريء طوال وجوده، أي لم يفكر ولم يقبل الانتقال ابدا من حالة الاستثناء إلى حالة طبيعية مهما كانت حدود التطبيع أو شكليته. وكان دائما جاهزا ويده على الزناد للقضاء من دون رحمة على اي نفحة استقلال للافراد او حتى حياد، فإما ان تكون معه أو ضده، وفي النهاية فجر كأي إرهابي حزامه الناسف ليقضي على الشعب والدولة والبلاد تحت انظار المجتمع الدولي الذي بقي في موقف المتفرج. 

والثاني اصطدام حلم التحرر السوري بإرادة السيطرة الايرانية الاقليمية التي أعطاها انهيار العراق البعثي، والاستحواذ على موارده الهائلة، والأزمة المتفجرة التي تشهدها الدول العربية عموما، شعورا بأنها امام فرصة تاريخية لا تفوت لاستعادة مجد الامبرطورية الفارسية القديمة، وتحقيق حلمها في التهام المشرق بأكمله وإلحاقه بها وتحويل نفسها، باسم الدفاع عن ما اسمته بالعتبات المقدسة وتحرير الأراضي المحتلة، إلى قوة اقليمية كبرى تقارع الدول الغربية وتتحكم بمفاتيح إحدى اكبر المناطق حساسية من الناحيتين الجيوسياسية والاستراتيجية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف لم توفر طهران جهدا، ولا ترددت امام استخدام اي وسيلة دينية أو عسكرية بما في ذلك حرب الإبادة الجماعية. وقد كانت أكثر من شجع الأسد على الذهاب قدما في عملية التدمير المنظم للعمران السوري والتهجير المنهجي للسكان ومحو معالم القرى والأحياء والمدن والبلدان. 

والثالث دخول روسيا على خط الأزمة السورية، الاقليمية والسياسية، لاعبا رئيسيا، واستغلالها أو الانطلاق منها في سبيل إعادة ترتيب علاقاتها واستعادة مكانتها الدولية على صعيد النظام العالمي، والانتقام لنفسها من التكتل الغربي الذي رفض ادماجها في نظامه وسعى الى تهميشها ومحاصرتها وفرض العقوبات الاقتصادية عليها كما لو كانت دولة من الدرجة الثانية او الثالثة. لقد نظرت موسكو إلى سياستها السورية الجديدة كتحد وردا على التحدي الغربي وتهديدا محتملا لمصالحه في البحر الأبيض المتوسط بأكمله. ولم يعنها ولا نظرت بأي عين إلى قضية الشعب السوري ومصالحه ومستقبله. وهذا ما لا يزال يحكم موقفها الى اليوم. 

والرابع انكماش الغرب الأمريكي والأوروبي على الصعيد العالمي وانكفائه على نفسه بعد حقبة طويلة من المغامرات الفاشلة والمكلفة في أفغانستان والعراق وليبيا والصومال، وإخفاقه في سياسة احتواء ايران، وتراجع اهتمامه بالشرق الأوسط عموما مقابل توجيه انظاره ومحور استراتيجيته الدفاعية نحو الشرق البعيد لمواجهة مخاطر صعود الهيمنة الصينية في آسيا والمحيط الهادي لكن ايضا على صعيد السباق العلمي والتقني والاقتصادي والعسكري. 

ومن الطبيعي أن لا تستطيع الأمم المتحدة أن تقوم بأي دور فعال أمام هذا التقاطع الاستثنائي للعوامل السلبية، ولا تنجح في حلحلة عقدة ما سوف يتحول إلى "أزمة سورية" مستعصية، تتجاوز رهاناتها وأبعادها الاقليمية والدولية رهانات جميع السوريين وتهمشهم جميعا، حتى أنه لم يبق لهم في النهاية، الثائرين والموالين معا،  دور آخر سوى العمل كأدوات في خدمة استراتيجيات القوى الأجنبية، والعمل على أجنداتها. هذا ما يفسر الوضع الذي نعيشه اليوم والذي نقف فيه متفرجين، لا حيلة لنا ولا قدرة على التأثير، ولو بالقليل، في تقرير مصيرنا الذي تصنعه لنا القوى الاجنبية المتنافسة. 

 

2- لماذا تصرّ موسكو وطهران على دعم النظام الى هذا الحد؟

لا ترى طهران وموسكو وأي دولة أخرى النظام من زاوية ممارساته في الداخل وتنكيله بشعبه ولكن من خلال ما يمكن أن يقدمه لها من خدمة في صراعاتها الخاصة، ومن أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية على المحورين الاقليمي والدولي. فهو مجرد ورقة تلعبها وتتمسك بها العاصمتان طالما كان ذلك يخدم مصالحها. وهذا أيضا وضع سورية بأكملها، ومصيرها، دولة وشعبا، في لعبة إعادة التموضعات الاستراتيجية الجهنمية هذه. 

 

3-   وكيف تفسّر التردّد الأميركي ؟ وهل من فارق بين الموقف الأميركي والمواقف الأوروبية خاصةً الموقف الفرنسي

لا أعتقد ان الإدارة الأمريكية كانت مترددة في الموقف من الثورة حتى لو بدا عليها ذلك. في الواقع كانت إدارة الرئيس باراك أوباما منخرطة قبل الثورة في عملية مفاوضات تعتبرها استراتيجية مع طهران بهدف ايجاد حل يوقف أو يحد من تقدم ايران في انتاج التقنية النووية ويحول دون انتاجها للقنبلة النووية، وإعادة استيعابها في المجموعة الدولية، مما يعني توفير حرب على الولايات المتحدة للقضاء عليها كما كانت تطالبها دائما حليفتها الاقليمية الرئيسية إسرائيل. وقد فاجأت الثورة السورية أوباما وجاءت في لحظة حرجة ما كان يقبل فيها التراجع عما حققته له المفاوضات من مكاسب سياسية عامة وشخصية. لذلك رفض منذ البداية أن يوليها اي اهمية، وربما استاء من اندلاعها في تلك الفترة، وأشاح بنظره عنها قبل ان تضغط عليه الدول الأوروبية، امام مشهد المجازر وجرائم الحرب التي تفاقمت في سورية، فأجبر على اطلاق بعض التصريحات المنددة بالأسد. لكنه لم يقم بأي إجراء جدي، وحتى عندما استخدمت الاسلحة الكيميائية لحس، بالمعنى الحرفي للكلمة، الخط الأحمر الذي رسمه لدمشق إذا استخدمتها. وبعد ان قبل برصد بعض الدولارات لدعم المعارضة، وللتغطية على فعلته المشينة عاد فسحبها وعطلها بعد أشهر معدودة. وأعلن رسميا في اكثر من تصريح بأنه لا يملك اي استراتيجية تجاه المسالة السورية. وقد فضح تعليقه على نتائج اجتماعه ببعض قادة الائتلاف المعارض قبل نهاية ولايته رؤيته الحقيقية للأمر عندما صرح للصحافة ان مزارعين وأطباء أسنان لا يصنعون ثورة أو دولة.

إدارة الرئيس دونالد ترامب غيرت موقفها ونظرتها للأزمة السورية، لكن ليس من منطلق ملاقاة التطلعات الشعبية السورية أو التعاطف معها وإنما من منطلق مواجهة روسيا او عدم السماح لها بأن تفرض هيمنتها في منطقة متوسطية كان لها فيها ولا تزال السيطرة الرئيسية. وربما فكر بعض خبرائها بتحويل سورية الى مستنقع للرئيس الروسي بوتين. لكن في النهاية استقرت السياسة الامريكية على تشارك الاعباء بين واشنطن وموسكو لضبط الاوضاع والامساك بها ومحاربة الارهاب وتجنب كارثة انسانية هي الوجه الابرز للازمة اليوم. لكن ليس لكل ذلك أي علاقة بدعم الشعب السوري في مواجهة الابادة الجماعية او حتى التعاطف مع قضيته وتضحياته من أجل الحرية. ولا يخرج تدريب ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتجهيزها ودعمها وتمكينها من السيطرة على موارد المحافظات الشرقية في الجزيرة السورية إلا في إطار هذه الأهداف وجزءا من هذه السياسة وتكملة لها. 

بالمقابل أظهرت اوروبا في الأزمة السورية، كما كان حالها في ازمة البوسنة والهرسك من قبل، أنها عالة على واشنطن في سياستها الشرق اوسطية، وليس لديها اي مبادرة مستقلة، لأنها لا تملك ايضا القوى العسكرية والاستراتيجية المستقلة التي تمكنها من اتباع سياسة خاصة بها في أي أزمة دولية تنخرط فيها قوى كبرى، كروسيا او الصين وغيرهما. ولا يتجاوز دورها في سورية اليوم ايضا تقديم الدعم للميليشيات الكردية التي لا تعرف ماذا سيكون دورها في المستقبل، ولا تفكر في كيفية ادماجها في النسيج الوطني السوري، وتطلب منها، بعد أن اصبحت دولة داخل الدولة، بجيش وعلم واجهزة أمنية وإدارة ذاتية وموارد استثنائية، مشاركة السلطة مع أكثرية هجرت الحروب المتواصلة معظم إن لم يكن جميع نخبها السياسية والثقافية والاقتصادية ودمرت مؤسساتها وبنياتها الاجتماعية بما فيها القبيلة والعشيرة والعائلة. 

 

4-عطفاً على السؤال السابق، كيف يُمكن قراءة المواقف العربية والتركية، وماذا عن الموقف القطري والسعودي؟

العرب، أعني الحكومات العربية، ينقصهم التنسيق والمتابعة حتى عندما يتعلق الامر بمصالح وطنية خاصة بهم. بالإضافة إلى التخبط السياسي والايديولوجي والافتقار لرؤية واضحة استراتيجية ولخطط مدروسة وعقلانية. ولذلك تبدلت مواقفهم وتنوعت: من الدعم الى الانكفاء إلى محاولة العودة الى النظام. اما تركيا فتصرفت كدولة تعرف بوضوح مصالحها الوطنية وتدافع عنها، وتحدد اهدافها في المواجهة السورية بما يخدم هذه المصالح، وتعيد صياغة استراتيجيتها وخططها حسب تغير الواقع الميداني والسياسي. وهي القطر الوحيد الاقليمي الذي نجح في البقاء إلى نهاية الشوط ليشارك الكبار في مناقشة التسوية النهائية للأزمة السورية وربما الاقليمية. على الأقل كما يبدو حتى هذه اللحظة وبعد تسع سنوات من الصراع. 

وفي ما يتعلق بالدول العربية الأخرى يمكن القول إنه لم يبدر عنها "لا حس ولا أنس"، باستثناء الفترة الانتقالية التي عرفتها مصر بعد ثورة يناير 2011، والتي انتهت بانتخاب محمد مرسي رئيسا للجمهورية، وتنظيم القاهرة في عهده مؤتمرا لدعم الثورة السورية توج بالنداء لنصرة المجاهدين وترسيخ الفكرة الخاطئة عن القضية السورية بوصفها قضية دفاع عن الاسلام والأمة الاسلامية. بعد استعادة الجيش للسلطة بقيادة عبد الفتاح السيسي جنحت مصر إلى موقف المهادنة للنظام ثم دعوة الدول العربية لإلغاء قرار تعليق عضويته في جامعة الدول العربية. 

 

5- تصف في إحدى مقالاتك أوجه الشبه بين نظامي القذافي والأسد. لماذا سقط الأول ولم يسقط الثاني بعد؟ ألم يكن من المُفترض أن تقود أوجه الشبه الاستبدادين الى نفس المآل؟

يتشابه النظامان في كونها اعتمدا الترويع وتفتيت المجتمع وتحطيم أضلاعه وإلغاء السياسة وتفتيت المجتمع المدني وإخضاع جميع المؤسسات لسلطة ميليشياوية: وهي في سورية المخابرات التابعة مباشرة للرئيس والتي تعمل من خارج القانون، وفي ليبيا ميليشيا اللجان الشعبية التي يقودها القذافي مباشرة، والتي حلت محل مؤسسات الدولة وسحقتها. وكلا النظامين اشتركا في المزاج الدموي والاستعداد لاغتيال المعارضين والمحتجين او تغييبهم، ونظروا اليهم كفئران وحشرات ومتآمرين، ولاحقوهم اينما كانوا "زنغة زنغة ودار دار"، كما قال القذافي في إنشاده الأخير, باختصار كلاهما راهنا على بث الفوضى وحكما من خلال نشرها والتحكم بإدارتها والتعليق الدائم للدستور ولحكم القانون.

الفارق الأكبر لم يكن في منهج الحكم ولكن في أمرين: موقع القطرين الجيوسياسي الإقليمي خاصة، والطريقة التي تم فيها إسقاط النظام والقوى التي دفعت إليه وشاركت فيه. وقد ذكرت لك للتو المعضلة الجيوسياسية الكبرى التي وقعت فيها الثورة في سورية في تقاطع نيران عدوة، وحيثيات الصراع فيها وعليها، من قبل الدول  الاقليمية والعالمية، وتناقض المصالح الذي بدأ يظهر منذ البداية. أما ليبيا فقد شهدت تدخلا عسكريا مباشرا أسقط النظام بالقوة منذ البداية بمبادرة فرنسية ثم اوروبية أمريكية، وقضى على معمر القذافي شخصيا، وسلم الحكم إلى مجلس انتقالي قبل أن تتفجر ازمة النظام الجديد نتيجة التدخلات المتقاطعة والمتناقضة للدول المتنازعة على اقتسام المصالح والسيطرة على منابع الطاقة الكبرى والموقع الاستراتيجي الليبي هناك. 

يمكن القول ان المقارنة بين الحالتين تظهر حالة متشابهة لكن معكوسة تماما. فالتدخل الاجنبي جاء مبكرا جدا في ليبيا، لكن لغير صالح النظام ولقطف ثمرة الثورة الشعبية، وحرم القذافي من متعة قتل الليبيين وتدمير مدنهم على رؤوسهم، بينما جاء في سورية مبكرا أيضا لكن لصالح النظام الحليف، وبقوة ومن دون شروط، للدفع نحو الحرب الاهلية وقطف ثمارها وتفكيك سورية، مما سمح للأسد ان يفتك بشعبه ويحرق البلد كما هدد من قبل. لكن يمكن القول ان النتيجة ستكون متشابهة: يعيش القطرين العربيين اليوم حالة أصبح فيها كلاهما ساحة للصراع بين الدول الاقليمية والعالمية، وغنيمة حرب تتغذى منها وعليها جميع القوى المحلية والأجنبية التي تتنازع على تقاسم اشلائها. ويبقى أن المسار الليبي قد وفر على ليبيا ما شهدته سورية على يد الاسد وحلفائه من إبادة جماعية وتدمير منهجي للمدن والبنية التحتية ومن تهجير وتشريد لا سابق له في التاريخ لأكثر من 12 مليون إنسان. 

 

6- يبدو الكفاح العسكري في سوريا اليوم ذا هوية إسلامية. لماذا صارت هذه الهوية شبه وحيدة في منطقتنا منذ أواخر الثمانينات؟

هذا صحيح. فالشعارات والافكار والاهداف التي تحتل او يبدو انها تحتل واجهة مسرح الأحداث التي تشهدها المجتمعات العربية اليوم تكاد تكون إسلامية او إسلاموية، اي مرتبطة بالاسلام. لكن ليس لهذا في نظري علاقة بوجود اي مشروع اسلامي منظم قابل للحياة. يملأ الجو او المناخ الاسلامي بأشكاله المختلفة والمتناثرة والمتناقضة أيضا، الدينية وغير الدينية، جملة من الفراغات التي نجمت عن إفلاس النظم والمشاريع التحديثية العربية التي اصبح نموذجها الأعلى والاوضح نظام الاسد الذي انتهى الى وضع الدولة في خدمة الابادة الجماعية للشعب ذاته ولم يتردد في التصريح بنواياه وأهدافه. 

الفراغ الأول هو الذي نجم عن انهيار الايديولوجية القومية العربية وتراجع صدقيتها بعد فشل او إجهاض مشروع الوحدة العربية السورية المصرية بعد انفصال عام 1961، وهزيمة حزيران/يونيو 1967 الكارثية. وبانهيارهما فقدت الشعوب العربية او الجمهور الشعبي الواسع الايديولوجية التي كانت تغذي مخيلة الجمهور العربي وتجعله يحلم، وتوجه الأفراد وتنظم التفكير والوعي السياسي والاجتماعي، وتعطي للجمهور الواسع رؤية وهدفا واضحا للمستقبل. فلا يوجد شك في أن الشعوب العربية راهنت، منذ الخمسينيات، على الفكرة القومية كمرشد للعمل المجزي والناجع في مواجهة التحديات الكبرى التي كانت تواجهها، واعني بها التوسع الاستيطاني اليهودي في فلسطين وتوجيهه أكثر فأكثر تحديات وجودية لأمن الدول العربية واستقرارها وصدقيتها السياسية، وتفاقم الضغوط والتدخلات الغربية في المنطقة وتهديدها سيادة الدول الحديثة واستقلالها كما جسدها حلف بغداد في الخمسينيات، وتعثر التنمية الاقتصادية، وخسارة الثورة الصناعية التي كانت وحدها كفيلة بخلق فرص العمل الضرورية للأجيال الجديدة الصاعدة، والتي تتجاوز نسبتها من السكان 60 بالمئة، واستعادة الكرامة القومية التي هدرها الخضوع للاستعمار وتشوش أو اختلاط الشعور بالهوية تحت حكم السلطنة العثمانية الكسموبوليتي المديد. 

والثاني كان نتيجة صعود أنظمة حكم تفتقر لأي شرعية سياسية ورأت في استخدام الورقة الدينية وعلماء الدين ايضا ستارا لإخفاء هذا الفراغ والتستر عليه. ولا يوجد شك هنا أيضا في أن النظم العربية التي جاءت بعد خسارة حربين وفشل ناجز في تحقيق اي هدف من الاهداف التي اعلنتها، لا الوحدة ولا الحرية ولا الاشتراكية أو التنمية، والنظام السوري في مقدمتها، قامت بجهد استثنائي لترسيخ قيم الثقافة الموروثة او التراثية وعنيت بتمويل بناء المساجد والجوامع، وتشجيع الجمعيات الدينية، الصوفية والنسوية وتمويل ما سمي في سورية بمكاتب تحفيظ القرآن التي قدمت تعليما دينيا معلبا تحت إشراف المخابرات والأجهزة الأمنية. 

وكان الهدف من ذلك التعويض عن إفلاسها التاريخي وإشغال الشباب عن رؤية هذا الافلاس أو التفكير فيه وعن العمل الاجتماعي والسياسي، وتوجيههم نحو ثقافة دينية تتمحور حول التقى والعبادة الفردية والتزود بالحسنات استعدادا ليوم الحساب. ولم يكن الدافع إلى ذلك حرص النظم على الدين أو المتدينين وإنما لحجب انظارهم عن المسائل الاجتماعية وإبعادهم عن قنوات التواصل والتفاعل مع قيم ومباديء المجتمع الحديث ومعاني المواطنة والمسؤولية العمومية والحرية والحق والقانون والتضامن الوطني، من وراء التعدد الطائفي والأقوامي. وهذا هو الدافع ايضا لحرص النظم على شراء ذمم القسم الأكبر من أصحاب المناصب "الدينية" أو الشرعية، واستخدام جميع هؤلاء صمام أمان لضبط المجتمع الشعبي والاجيال الشابة والتحكم بها، رجالا ونساء وإبعادها عن السياسة والتفكير في السلطة وطرق ممارستها. 

فالواقع انه لم يكن امام النخب الحاكمة المفلسة سوى طريقين للتغطية على حكم القوة وكسب خضوع او عدم اعتراض الجمهور والشعب، الأول هو مشاركته الشكلية والانفتاح عليه فيما يشبه العودة الى حياة ديمقراطية بالحد الأدنى، لكن بمخاطر ان تتحول اللعبة إلى واقع حقيقي مع الوقت، ويتعلم الناس السياسة. أو الخيار الثاني وهو التلاعب بالمشاعر والعواطف الدينية وكسب ولاء رجال الدين والطرق الصوفية والجمعيات الدينية والظهور بمظهر المدافع عن الدين والمقدسات والقيم الذاتية والهوية. ولنتذكر انه في الفترة ذاتها ظهر أيضا لقب حامي الحرمين، وحرص رؤساء دول اقوياء على وضع اسم محمد قبل اسمهم الاصلي وصار اغلبهم يؤودون صلاة الجمعة في الجوامع مع المؤمنين الأتقياء. وتنافس بعضهم في إشادة أكبر جامع في أفريقيا أو العالم. 

من دون استثناء اختارت النظم السياسية العربية الطريق الثاني، ما عدا ربما بعض الانفتاحات في المغرب الأقصى، مع حكومة التناوب التي رأسها وعمل من اجلها المرحوم عبد الرحمن اليوسفي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض. وجميعها عوضت الايديولوجية القومية ثم الاشتراكية بثقافة تقليدية محافظة دينية، وبعضها عزز من نفوذ هذه الثقافة بإحياء النعرة المذهبية والطائفية والقبلية، وأضاف إليها عبادة الشخصية العبقرية والملهمة، كما فعل حافظ الأسد، فضمنوا بذلك أن لا تكون هناك حاجة للتفكير في السياسة، ولا حتى حاجة للسياسة نفسها. وفي سورية تبنى النظام شعار: "سورية الله حاميها"، وهذا يعني أنها ليست بحاجة لتفكير أحد والله كفيل بحمايتها وإدارة شؤونها. وبهذا سدت الطرق على ظهور أي أفكار نقدية أو على تطور اي تيارات معارضة حديثة سواء أكانت يسارية أو ليبرالية أو ديمقراطية. هذه كانت خطط النخب الحاكمة لمحاربة الشعب ومحاصرة الجمهور وتغييبه، حتى لا يفكر بما تفعله به وحتى تفعل به ما تشاء بمباركة كبار رجال الدين.

وهكذا سادت "ثقافة جديدة" بطابع ديني أو إسلامي، هي مزيج متنوع ومتعدد  الأشكال والغايات والمشارب والمجالات من المشاعر والأفكار والرغبات والمهارب، لدى الجمهور العريض ولا تزال في معظم البلاد العربية. وهي اللغة الوحيدة التي يتداولها العرب ويتعرفون على بعضهم ومجتمعهم وعالمهم من خلالها اليوم. ومن لا يعرفها ولا يتمثلها يصبح غريبا عليهم حتى لو كان أخا شقيقا أو ابن الاسرة والعائلة. 

أما النقص الثالث الذي استدعى بعث الاسلاموية أو استنفار تراث الدين فقد كان افتقار النظام الايراني المحاصر من قبل الغرب لقضية يبرر بها سياسة التوسع والانقضاض على المشرق العربي المتأزم لتوسيع نفوذ طهران وفك العزلة عنها وفرضها قوة اقليمية عظمى لا مهرب للتكتل الغربي والاطلسي من الحوار والتفاهم معها على شؤون المشرق بأكمله. فكانت القدس ثم الدفاع عن الاسلام والعمل باسم الاسلام القضية الكبرى التي تبرر وتشرعن حروب توسع تستدعي الزج بمئات آلاف الشباب وحرقهم في أتونها. 

وفي هذا السياق تبنى الحكم الايراني استراتيجية الحرب الدينية أو الطائفية وعمل على تغديتها بتوتير الأجواء بين السنية والشيعية، وإطلاق مئات الجهاديين السلفيين من السجون السورية، ومن سجن ابو غريب في العراق، لتنظيم ميليشيات طائفية سنية تبرر إنشاء الميليشيات الطائفية الشيعية العراقية والافغانية والباكستانية والعربية وغيرها. 

والرابع خواء القوى الديمقراطية عموما، بجميع تياراتها الفكرية، والقطيعة البنيوية التي رعتها النظرة العلمانوية القاصرة للعلمانية بين النخبة المثقفة والجمهور الشعبي، ونزعة الاستعلاء والترفع الذي وسمت موقف هذه النخبة إزاء الثقافة الشعبية المحلية. فقد عزل توجس النخبة الحديثة من الانخراط مع الشعب المثقفين أنفسهم، وأبقى الثقافة الحديثة ومفاهيمها ومعانيها قشرة رقيقة على سطح ثقافة دينية مشوشة ومفرغة من محتواها، في الوقت الذي كان النظام يعمل لإفساد هذه الثقافة نفسها بتحويلها إلى ثقافة طائفية تقوض استقرار المجتمع ووحدته من الداخل، وتمكنه من استخدامها لتحييد الشعب وتوجيه نقمته بعضه لبعض، وترك النظام بعيدا عن المشاكل والاحتجاجات، حتى اعتقد أصحابه بالفعل أنهم أصبحوا مؤبدين ومؤلهين، ولا شيء يمكن ان يزحزهم عن عروشهم، وأنهم نجحوا في وضع الشعب بأكمله كالصراصير في زجاجة وصار بإمكانهم ان يلعبوا به ويدفعونه إلى الدوار والإغماء متى أرادوا. 

 سياسات "أسلمة الفضاء العام" الموجهة هذه كانت جزءا لا يتجزأ من سياسات التعقيم الفكري والسياسي التي مارسها النظام الاستبدادي، والتي لم تترك للشعب الذي قطعته، ثقافيا وعمليا، عن العالم لأكثر من نصف قرن، مرجعية فكرية يستند إليها في كفاحه الدموي بل في تعرفه على ذاته واصدقائه وخصومه سوى ما يقوله الزعيم الملهم او  المفتي او الشيخ المعمم. 

وأخيرا، ينبغي ان ندرك ان "الاسلام" لم يعد يقتصر كاصطلاح على مفهوم ديني فحسب، أي يشير إلى منظومة عبادات، ولكنه بسبب ارتباطه بحضارة عريقة تحول إلى ثقافة متعددة الجوانب والمجالات، هي الوحيدة التي لا يحتاج الفرد كي يمتلكها ويستخدمها لبناء مواقفه الوجودية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية إلى جهد استثنائي، أو استثمارات مادية وزمنية كبيرة لتحصيلها. إنها متوفرة مجانا لمن يريد وفي كل مكان، فيما ورثه عن أبائه وأجداده وكبار السن من حكم شائعة وامثال شعبية وشرائع او احكام دينية وفتاوى. بينما يحتاج تملك الثقافة الحديثة موارد وجهدا كبيرا، وعملا على الذات، وأنماط تثقف وتفكير وقراءات في الكتب والصحافة لا تكاد أغلب المجتمعات الفقيرة توفر منها شيئا لأفرادها. الثقافة الحديثة مكلفة ولها ثمن، بينما الثقافة الدينية والتقليدية عموما متاحة للجميع ومن دون ثمن وجاهزة للاستخدام في كافة المجتمعات. 

 

7- هناك من يريد أن يطيح بتسمية "الثورة" واستبدالها بمسمّى "حرب أهلية" في توصيفه لما يجري في سوريا. ما هي أسباب ذلك وما هي نتائجه إن تعمّم؟

هناك مصدرين لهذه التسمية. الاول بريىء نابع من التقاليد الفكرية اليسارية، والماركسية بشكل خاص، الذي يرى في الحرب الأهلية مدخلا ضروريا للتغيير باعتباره انقلابا تاريخيا تقضي فيه طبقة صاعدة وحاملة لقوة الزخم والتقدم التاريخي على طبقة سائدة تجاوزها التاريخ ولم يعد لوجودها مبررا ولكنها من المستحيل ان تتخلى عن موقعها من دون قتال. وهذا هو السبب في إطلاق ماركس عنوان الحرب الاهلية في فرنسا على ثورة كومونة باريس وما رافقها من قمع عام 1871.  فالثورة الاشتراكية هي حرب طبقة ضد طبقة. وبهذا المعنى استخدمها بعض المحللين من اليسار الرديكالي العربي والعالمي.

والمصدر الثاني هو نقيض ذلك، أي وصف أحداث الثورة السورية بالحرب الاهلية على سبيل رفض الاعتراف بهويتها بوصفها ثورة شعب من أجل قيم إنسانية ومن ثم مطالب عادلة وشرعية، اي استخدم المصطلح من أجل التشكيك في رسالتها التحررية. فالمقصود بوصفها بالحرب الأهلية أنها حربا طائفية  ومن ثم نزع الشرعية عنها، وإلحاقها بأنواع الفتن ماقبل الحديثة التي وسمت الحروب الدموي في بعض بلدان المشرق مثل لبنان والعراق واليمن وغيره. 

والواقع  أن الثورة السورية، مثلها مثل ثورات الربيع العربي، لم تكن بأي حال حربا طائفية او قبلية، وإنما كانت بوضوح لا يحتاج إلى كثير أدلة ثورة شعبية شاركت فيها مختلف قطاعات الرأي العام والطوائف والقوميات، ورفعت في مسيراتها الحاشدة الشعارات السياسية والوطنية والانسانية، وهدفت بوسائلها ومناهج عملها وتحالفاتها إلى تغيير قواعد الحكم الأبوي نظام العنف والاحتراب الدائم والفساد، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية لا تختلف عما تعرفه المجتمعات الحديثة في كل بقاع العالم، تسمح بمشاركتها في تقرير شؤونها بعد ما عرفه نظام الحكم المطلق والفردي من إفلاس وفساد. بالمقابل كان دفعها إلى مهاوي الطائفية والقبلية، كما ذكرت اكثر من مرة، استراتيجية النظم القائمة، لتقسيم الشعب وكسر تضامنه وتشتيت انتباهه عن الهدف المشترك، ولكسب تعاطف الدول الاجنبية التي وجدت في هذا الانحراف ذريعة لتبرير تقاعسها والتخلي عن مسؤولياتها السياسية والأخلاقية في وقف المذابح والانتهاكات. 

 

8- منذ انطلاق الثورة يُؤثِر الكثير من اليساريّين الصمت، فيما ينحاز بعضهم الى النظام الأسدي. كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل السبب هو تعلّقهم بما يُسمّى "ممانعة"

ليس هناك موقف موحد للمثقفين لا في الثورة السورية ولا في اي ثورة اخرى. المثقفون ليسوا طبقة ولا عصبة ولا طائفة. يمكن للمثقف ان يكون مثالا للشرف والوفاء والتضحية ونكران الذات كما يمكن ان يكون مثالا للعهر يبيع صوته وقلمه لمن يدفع له. والأكثرية بين بين، ليسوا نموذجا للنبالة ولا مثالا للخسة والنذالة. لكن ما يميز علاقات المثقفين في مجتمعات يضيق المجال فيها كثيرا عليهم، وتشح موارد الشهرة والسمعة والاعتبار، هو التنافس الشديد وضيق العين وعداوة الكار وبروز النرجسية وحب الذات. وقد عكس موقف اكثريتهم من الثورة السورية شكهم العميق في وعي الجمهور، وعداوتهم التلقائية له، وقلقهم من أي تحركات عفوية لا يتحكم بها قائد او زعيم او جهاز أمن، وتمثلهم فكرة جهل الجمهور وميله للفوضى والطائفية، ورفض التحرر والانعتاق.

والحال ان تجربة العقد الماضي، عقد الثورات العربية، لم تظهر خطأ هذه الأفكار فحسب ولكنها اكدت أن المستهلك والمستخدم الأول للطائفية لم يكن الجمهور الشعبي البسيط وإنما النخب السياسية والثقافية المتنازعة على السلطة، ومن أجلها، وأولها النخبة الايرانية، وما بالك بنظام الأسد المتأله، وأن من آثر الابقاء على النظام القديم، نظام القهر والسلطة المستبدة والفساد والمحسوبية والتعهير الثقافي والفكري والإيديولوجي، هم النوع من المثقفين الذين كانوا يدعون أكثر من أي أحد آخر العفة والنزاهة والشرف والتحرر والدفاع عن الحرية والعدالة للشعب. 

لكن لا ينبغي هنا أيضا ان نخلط الأمور ونلجأ إلى التعميم السريع. معظم اليساريين العرب الذين كانوا يدعون الراديكالية وقفوا ضد ثورات شعبية واضحة الهوية لأنهم نظروا إليها على أنها حركات رجعية، إن لم تكن سلفية، اكثر خطرا على نمط حياتهم وامتيازاتهم الاجتماعية من النظم القائمة. لكن قلة منهم لعبوا أيضا دورا مبدعا ومؤثرا في توجيه عقيدة الثورة وتوضيح رسالتها الانسانية التحررية. وهذا ما ينطبق أيضا على بعض المثقفين المحافظين، والإسلاميين منهم بشكل خاص، لكن بنسب متعاكسة. ففي أوساط هؤلاء واكبت الأغلبية مسيرة الثورة وتفاعلت معها لأنها كانت في الأصل قريبة من الجمهور الشعبي، لكن كان لقلة منها دور استثنائي في التخريب والانحراف والتعبير ساهم في دفع الرأي العام العالمي إلى سحب تعاطفه معها.

في المحصلة، ليس اليسار ولا اليمين ولا الإسلاموية ولا العلمانية هم المسؤولون عن مواقف الأفراد، مثقفين وغير مثقفين، ولكن مصالح كل من هؤلاء الأفراد وموقعهم الاجتماعي وعلاقتهم بالسلطة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أشكال وعيهم، بدرجة اكبر، وجدانهم وأخلاقهم الفردية. فالضمير أو الوجدان عامل لا ينبغي أبدا الاستهانة به في تحديد مواقف الأفراد ونمط تفكيرهم وسلوكهم. 

حوار احمد صلال

https://www.syria.tv/%D8%BA%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D8%B8%D8%B1%D9%88%D9%81-%D8%AC%D8%B9%D9%84%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%85%D8%AE%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%A7-%D8%B9%D9%85%D9%91%D8%A7-%D8%B3%D9%88%D8%A7%D9%87%D8%A7