مصير شرق الفرات وغربه معلق بتفاهمات القوى الدولية التي تقدم الحماية

2019-04-20 :: باريس - واشنطن – NPA

في حوار لـ "نورث بريس" مع الدكتور برهان غليون، الباحث في العلوم السياسية و القيادي السابق في المعارضة السورية، قال إن الولايات المتحدة في ظل الادارة الحالية بدأت تبلور سياسات واضحة تجاه سوريا، تدفع نحو إجبار إيران على إنهاء وجودها العسكري، والدفع باتجاه تحقيق تسوية سياسية في سوريا، حيث تبدي واشنطن رفضاً لإعادة تأهيل النظام السوري كما حاولت إيقاف تسابق بعض العواصم العربية لفتح سفاراتها في دمشق.
 
ويشير الدكتور غليون الى أن مصير منطقة شرق الفرات وغربها معلق على تفاهمات القوى الدولية التي تقدم الحماية لهذا الطرف وذاك, حيث لا تزال المساومات مستمرة بين الروس والأتراك والأمريكيين على رسم مستقبل المنطقة وتوزيع مجالات النفوذ فيها، ويرجح غليون إلى أنه لا تتبين معالم المستقبل السوري قبل إنجاز معركة إنهاء الوجود العسكري الإيراني والتوصل إلى رؤية مشتركة للحكومة التي ستلي القائمة.
 
 
نورث بريس: أرادت دولاً إقليمية فتح سفارات في دمشق، وإعادة الأسد إلى الواجهة بإعطائه الشرعية العربية، والعامل الأساسي الذي كبح جماحها هو تهديد واشنطن بالعقوبات، وجديتها بعدم السماح للأسد بالعودة الى الواجهة, كيف تقرأ هذا الموقف الأمريكي ؟ 
 
غليون: السبب ان الولايات المتحدة كانت تتخبط بسياساتها السورية ولا تعطي إشارة واضحة حول توجهاتها الاستراتيجية فيها. لكن الأمر تغير بعد مجيء وزير الخارجية الأمريكية الجديد السيد بومبيو وكذلك جيمس جيفري المسؤول عن ملف الشرق الأوسط. من الواضح أن واشنطن منذ ذلك الوقت، أي منذ أشهر معدودة فقط، قد بلورت سياسة واضحة على الأقل فيما يتعلق بموقفها من منطقة شرق الفرات التي تسيطر عليها مباشرة عبر حلفائها المحليين من قوات قسد "الكردية". وحددت لأول مرة هدفين واضحين لسياستها في شرق الفرات بعد القضاء على خلافة "داعش"؛ الأول إجبار ايران على إنهاء وجودها العسكري في سورية، والثاني الدفع في اتجاه تحقيق تسوية سياسية في سوريا، مما يعني رفض إعادة تأهيل "النظام" كما كان يعتقد الأسد وكما كان يراهن الروس والايرانيون. هكذا أصبحت إعادة التأهيل صفحة محذوفة، ومعها تسابق بعض العواصم العربية على فتح سفاراتها في دمشق الراهنة لكسب مواقع نفوذ في جمهورية الأسد الثانية التي ولدت ميتة كما ينبغي أن تولد. 
 
نورث بريس: انتقدت المعارضة وقياداتها وعدم أهليتها لتمثيل الثورة، ولكن ماذا عن الخطاب الشعبوي والمزاودات على الأرض، حين كنت رئيساً للائتلاف وكانت الأزمة في بداياتها كان الناس على الأرض يطالبون إما "بحظر طيران" أو "بتخوينك" دون أدنى معرفة بين "المتاح والممكن" و"الأمنيات".. لماذا لم تجرّب الثورة المطالبة بمكتسبات تدريجية وسياسية ؟ 
 
غليون: لم يكن طلب الحظر الجوي تعبيرا عن خطاب شعبوي أبدا ولا عن مزاودات سياسية. كان مطلبا مشروعا للسوريين من المجتمع الدولي لأنهم كانوا أمام تهديد وجودي يواجهون عنفا غير مسبوق وغير مشروع ولا مبرر. وكنا في المجلس الوطني، قبل الإئتلاف، نطالب بحماية المدنيين، لا بإسقاط المجتمع الدولي "نظام الأسد" مكاننا. وكان هذا الطلب محقا تماما. واليوم العالم كله يعتقد أن المجتمع الدولي والدول الكبرى تواطأت مع الجريمة عندما غضت النظر عن القتل المتعمد والجماعي للمدنيين وأنها أخطأت في عدم فرض الحظر الجوي الذي كان الوسيلة الوحيدة لحمايتهم وتجنب حرب الإبادة الجماعية والكارثة الإنسانية والعمرانية التي حصلت نتيجة هذا السلوك الشائن. وسؤالي بالمقابل لك: أي مكتسبات ومطالب جزئية وتدريجية كان يمكن انتظارها من نظام أصر بعد ثمانية سنوات من الحرب وتدمير نصف العمران السوري وإبادة مليون إنسان وتهجير ونزوح 12 مليون سوري، لم يجد ما يعمله في بلده بعد ربح الحرب العسكرية على يد الروس والإيرانيين سوى إعادة نصب تمثال والده، رمز إذلال السوريين، في السويداء، وتمثال آخر في دير الزور لشقيقه الذي قتل في حادث سيارة بسبب السرعة المفرطة كما ذكرت رواية النظام نفسه؟
 
لو كان هناك أي خيار حقيقي للحوار والتفاوض والتسوية، ما كان وسطاء الأمم المتحدة وأولهم كوفي أنان قد استسلم بعد  ستة أشهر من المحاولات العبثية لفتح أي شكل من الحوار، معلنا أن النظام لا يريد التفاوض. وهذه كانت الحقيقة الأولى، وهي واضحة كالشمس حتى الآن بعد سنوات الحرب الطويلة والدمار. والسبب أن نظام الأسد لا يعتبر نفسه ممثلا لشعب، ولا ملتزما بمصالحه ومعتمدا على تأييده للبقاء في السلطة وإنما العكس تماما، هو ينظر إليه ونظر إليه دائما كعدوه الأول، لأنه يدرك أن وجوده مرتبط بانتهاكه جميع حقوقه السياسية والمدنية وتهميشه، وهذه أيضا هي الحقيقة الثانية. بين الشعب ونظام الأسد لم تكن هناك سوى الحرب من البداية إلى النهاية. هو نظام الحرب الدائمة. وحالة الطوارئ التي خلدها، وحرمان الشعب من حقوقه ووضعه في القيود والأصفاد وملاحقة أبنائه ليل نهار، وزج الآلاف في السجون وتنظيم المذابح في حماة وتدمر وغيرها، قبل الثورة بسنوات، لم يكن ذلك كله سوى مظاهر مكشوفة لهذه الحرب والتعبير عن قانونها السائد.
 
نورث بريس: اليوم روسيا و تركيا أكثر انسجاماً من أي وقت مضى، تركيا ستشتري اس 400 وتعتبر الأكراد عدوها الوحيد في سوريا، وكذلك القوات التي تعتمد عليها تركيا مهمتها الوحيدة هي مقاتلة الأكراد، في المقابل روسيا بدأت بقصف ادلب والحديث يتصاعد عن عملية في ادلب، ما مصير الشمال الغربي و الشرقي وأي رؤية ترى لهذه المناطق؟ 
 
غليون: لا أعتقد أن الأكراد هم العدو الوحيد لتركيا ولا أن مهمة القوى السورية التي تعتمد عليها في الشمال السوري هي مقاتلة الأكراد فحسب. ففي تركيا أضعاف ما يوجد في سوريا من الكرد، وربما ربع الشعب التركي من القومية الكردية، وقسم كبير منهم لم يتردد في انتخاب طيب رجب أردوغان. كما أن القوى السورية المسلحة التي تحتل مناطق الشمال ليست واحدة وجزء منها ربما الأكبر تابع لجبهة النصرة المصنفة ارهابية، والثاني منظمات من المنطقة نفسها تنتمي للمعارضة العسكرية الموجهة للأسد ونظامه. إلا أن حكومة أردوغان والقوى السورية المتحالفة معها لا تخفي عداءها لقوات قسد التي تمثل تيارا وتنظيما سياسيا كرديا تعتبره أنقرة قبل الثورة السورية، وبصرف النظر عنها منظمة إرهابية وكذلك قوائم الولايات المتحدة الامريكية التي كانت حليفة رئيسية لها. أما الميليشيات السورية المسيطرة جزئيا على الشمال فهي تجد نفسها في الموقف نفسه الذي تجد فيها قوات قسد نفسها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية التي تحميها والتي من دونها لم تكن قادرة على البقاء. ربط مصير الأكراد بقسد وحدها يقوض إمكانية التوصل إلى حل للمسألة السورية وأوله للمسألة الكردية ذاتها في سوريا كما يسيء ربط مصير شعب سورية الذي ضحى بمليون شهيد للحصول على حريته وحقوقه بالمجموعات القليلة المسلحة المتحالفة مع تركيا. 
لذلك يبقى مصير منطقة شرق الفرات وغربها معلق بالضرورة على تفاهمات القوى الدولية التي تقدم الحماية لهذه وتلك اللتين من دون حمايتهما ما كانت أي من هذه الميليشيات ستحتل المواقع التي تحتلها وتبقى فيها أصلا. ولا تزال المساومات مستمرة بين الروس والأتراك، والأتراك والأمريكيين على رسم مستقبل المنطقة وتوزيع مجالات النفوذ فيها. وفي اعتقادي لن تتبين معالم هذا المستقبل قبل أن تسفر معركة إنهاء الوجود العسكري الإيراني والتوصل إلى رؤية مشتركة للنظام الذي سيخلف النظام الهمجي القائم.
 
نورث بريس: ماذا بقي من حكم بشار الأسد، حين نرى الروسي يلعب على تدمير الشعارات التي قام عليه هذا الحلف، فيتصرف  الروسي بسوريا بمعزل عن دمشق مسلماً جثمان جندي اسرائيلي، ومتحكماً بعموم المشهد السوري ؟ 
 
غليون:  الذي بقي من حكم بشار الأسد هو، كما يلاحظ السوريون أنفسهم في الداخل، طوابير السيارات التي تنتظر بالمئات، ساعات طويلة، وربما أياما، بعض المحروقات اللازمة لتسييرها، وإذا استمرت الأوضاع الراهنة فلن يتأخر الوقت قبل أن يجد السوريون أنفسهم مضطرين للوقوف في طوابير الخبز قبل إعلان سوريا الأسد دولة مفلسة بعد ان نقلت ملكيتها الحقيقية للإيرانيين وميليشياتهم. 
 
نورث بريس: هناك دول اقليمية تختار عداوة الشعوب، رغم أن حراكات الشعوب ليست موجهة ضدها، كيف ترى رؤى هذه الدول وما أسست له، مع ظهور الموجة الثانية من الاحتجاجات الشعبية العربية ؟
 
غليون: من هي الدول التي نصبت نفسها صديقة للشعوب العربية؟ لو وجد مثل هذه الدول لما وصلنا إلى ما نحن فيه من تدهور شروط الحكم وتهلهل النظم والدول وانعدام السيادة والشرعية معا، وانتشار الحروب والنزاعات والثورات التي لن تنتهي موجة منها حتى تبدأ موجة ثانية في هذه المنطقة الحزينة من العالم. فشل النخب العربية في إقامة دول تعكس الحد الأدنى من إرادة شعوبها ومصالحها تتقاسم المسؤولية عنه الدول الغربية التي لم تنظر إلى بلداننا إلا بدلالة آبار النفط والطاقة ثم بدلالة الأموال الفائضة المتراكمة في المصارف وصناديق السيادة والتي لا يشغل فكرها شيء سوى الطريقة التي تمكنها من اقتناصها، بأي وسيلة كانت.
  
نورث بريس:   كيف ترى التوجهات الجديدة نحو (التسامح)، ففي سوريا كان لدينا الأسد الذي لقّب بـ"حامي الأقليات" وخرجت داعش من البلاد، هل -نحر أي خطاب إسلامي- والانفتاح على الكنائس والقساوسة سينقل منطقتنا الى واقع متسامح وبعيد عن التطرف ؟ 
 
غليون:  أرى في ذلك نموذجا لسياسات تسول العطف و"تمسيح الجوخ" الجديدة التي تتبناها دول لم تعد تخفي أن مصيرها مرتبط بدعم الخارج لا بشعوبها، وما يهمها هو بناء شرعيتها الخارجية، وإظهار نفسها شريكة لحماتها من خلال التمسح الشكلي بالقيم التي تعلنها هذه الأخيرة والتي تخونها بشكل منتظم ودائم خارج حدودها.
 
نورث بريس:   بعد التجربة السورية التي لم تعتبر فيها روسيا لأي مبادئ إنسانية وحقوقية، باتت موسكو عاملاً جاذباً الى جانبها الصين  للمنطقة أكثر من العلاقة مع دول العالم الغربي، كيف تشرح لنا تبعات هذا التوجه الجديد والى أين يأخذ المنطقة ؟ 
 
غليون: إلى المزيد من الافتقار للحماية والانفاق المجاني أو بالأحرى الهدر للثروة وشراء الولايات المتعددة. وهذا هو الثمن الكبير لرفض الأخذ بسياسات دفاعية جدية ومسؤولة قائمة على تطوير القوى الذاتية وإزالة عوامل النزاع والانقسام بين الدول العربية والخليجية خاصة، والعمل في إطار واحد لتأسيس امن خليجي أو عربي مشترك.  
 
 
نورث بريس: كيف ترى مستقبل المنطقة، هناك توجه قوي في بعض الدول العربية نحو دعم القطاعات الجديدة الأكثر انفتاحاً على العالم، والتوجه للاعمار والبناء، والأفكار الخلاقة في الترفيه والفن والموسيقى، و هناك طموح لتطوير منطقتنا لتنافس وتوازي أوروبا، فكيف ترى قدرتنا على الإنجاز هذا ؟ 
 
غليون: كي نصبح أوروبا جديدة ينبغي أن لا نفكر بأوروبا ولا نقلدها ولا نحتفي بها أو بغيرها، وإنما أن نفكر بأنفسنا وماذا يمكن أن نفعل لنحرر شعوبنا من البؤس والفقر والجهل والبطالة والفقر الثقافي والعلمي. يجب ان نفكر بالسوريين والمصريين والعراقيين والسودانيين والجزائرين وبالعرب والكرد والترك والإيرانيين كشعوب، ونعمل المستحيل حتى يتحول الجميع إلى شعوب منظمة ومتضامنة ومتعلمة ومثقفة وفاعلة، أي أن تهتم الحكومات بتحسين شروط حياة مواطنيها والارتقاء بمستوى تعليمهم وتطبيبهم وتاهيلهم وسكنهم وامنهم ومساواتهم أمام القانون وضمان مستقبل أبنائهم. يكفي هذا لنصبح شعوبا محترمة وتحترم نفسها، سواء شابهت أوروبا أو لم تشابهها. لا أعتقد أن شعوبنا تريد أن تكون مثل أوروبا، ولكنها تريد أن تكون شعوبا عربية تحترم نفسها ويحترمها الآخرون، لعروبتها، مما يعني أن التحدي يكمن في تغيير  صفات العروبة الراهنة الإشكالية التي تحولت إلى عبء على أصحابها، وفي مقدمتها وواجهتها صفات نظم حكمها وحكامها.