لا مجال للمفاضلة بين الدكتاتورية والتدخل الخارج

2004-04-16 :: الموقف

الموقف – هادي يحمد


من مقر إقامته بالعاصمة الفرنسية باريس أين يدير قسم الدراسات الشرقية بجامعة السربون يقوم المفكر العربي السوري برهان غليون بقراءة شاملة للوضع العربي منذ سقوط بغداد محاولا تلمس الخيط الرفيع بين الوقوف في وجه الديكتاتوريات العربية والتصدي للهيمنة الخارجية والتدخل الخارجي , برهان غليون يرسم أيضا في الحوار الذي أجراه الصحفي التونسي المقيم في باريس هادي يحمد البديل الأفضل لقيادة التغيير في العالم العربي و الإسلامي .

 

*دكتور برهان غليون ماذا يعني لكم حدث سقوط بغداد و كيف تنظرون إلى المشهد السياسي العربي الحالي ؟

* اعتقد أن سقوط بغداد الذي هو الحدث الأخير والكبير الذي شهدناه في السنة الماضية يكرس ويؤكد انهيار النظام العربي بمعنى صيغة تنظيم الحياة الاجتماعية التي سادت بعد الاستقلال في البلدان العربية ،هذه الصيغة بينت أنها غير قادرة على أن تحمي العرب من إمكانية ضياع استقلالهم من جديد، وبينت أنها لا تستطيع أن ترد على الحاجات الأساسية للمجتمعات بما فيها الاقتصادية والحاجات التي انطلقت منها حركات الاستقلال التي نادت بشعارات محاربة الفقر والجهل والمرض وبينت أنها غير قادرة على خلق علاقات وتعاون ايجابي بين الأفراد داخل المجتمعات نفسها.

النظم العربية بعد الاستقلال أصبحت عاجزة عن استيعاب ما تطلبه المجتمعات العربية واصبح النظام العربي الرسمي مليء بالنقائص و الأعطاب. وهذا الانهيار يفسر ما نعيشه من فوضى وهو يعني انهيار القواعد التي بني عليها تنظيم المجتمعات خلال القرن الماضي وانهيار صدقيّة هذه القواعد وهو يعني انهيار المبادئ والقيم التي قام عليها هذا التنظيم .

فعندما تنهار القيم والقواعد ندخل في فوضى فالمجتمعات العربية فعلا تعيش حالة من الفوضى العقلية والفكرية فنحن نعيش في الفوضى الدينية إذا نظرنا إلى التأويلات والصراعات والاجتهادات المتناقضة والمختلفة ونحن نعيش في الفوضى السياسية فليس هناك أي قواعد واضحة لممارسة الحكم والتعاقب على السلطة وبدل المشاركة السياسية هناك العنف والقمع والمناورة التي هي أساس الحياة السياسية والعامة اليوم ونحن نعيش في فوضى اقتصادية فنحن اليوم في بلدان لا تعرف هل إنها بلدان تخطيط وقطاع عام أم أنها بلدان قطاع خاص وفي القطاع الخاص تمارس سياسات " اضرب واهرب " وسياسة النهب المستمرة بعيدا عن بناء نظام اقتصادي فاعل على أسس اقتصادية سليمة ومتفاعلة مع المعايير الدولية للإنتاج والاقتصاد العام. وفوضى إستراتيجية بمعنى انه ليس للعرب اليوم أي مخطط أو أي جدول زمني لمواجهة التحديات الخارجية الكبرى التي تمارس عليهم سواء كان ذلك داخل البلدان العربية نفسها خاصة في فلسطين أين التحدي أمام التوسع الاستيطاني الإسرائيلي الذي بدا بعد هزيمة 1967، أنا أقول أن بعد هذا التاريخ بدا تشييد إسرائيل الثانية بعد تأسست إسرائيل الأولى سنة 1948. نحن في زمن غير قادرين على مواجهة هذه الضغوط في ما يتعلق بالمشروع الاستيطاني الإسرائيلي أو ما يتعلق بالضغوط الخارجية في ما يخص التدخل المباشر في الحياة الاقتصادية والسياسية للبلدان العربية أو ما حصل الآن من احتلال حقيقي ومباشر مثلما يجري في العراق .

هناك فوضى في العلاقات بين البلدان العربية فكل الناس يعتقدون أن الجامعة العربية اليوم ما عاد لها أي مقوم من مقومات الحياة ولا أحد يدري على أي أساس هي مستمرة فما هي هذه الجامعة العربية التي تقبل بالتعاون مع مجلس انتقالي في العراق هو مكون في أطار الاحتلال .

اليوم ليس هناك معايير واضحة تحكم المجتمعات العربية في أي ميدان من ميادين الحياة ما يعيشه العالم العربي اليوم هو حالة من الفوضى والتسيب الذي ينجم عنها حال من الصراع المتعدد الأشكال والمستويات.

 

* أمام حالة الفوضى هذه هل نستطيع القول أن المجتمعات العربية في حالة الهزيمة الكلية ؟

* لا طبعا فالردّ على حالة الفوضى التي هي أزمة تنتج المجتمعات أشكال متعددة من المقاومة , الشكل البارز فيها حتى الآن هي المقاومة ضد الاستبداد التي انطلقت منذ السبعينات وتضاعفت في الثمانينات بشكل خاص، إذ بدأت في معظم المجتمعات العربية حركات اجتماعية وسياسية داخلية بأسماء مختلفة وبإيديولوجيات مختلفة هدفها الحد من السلطة الطغيانية وطغيان الطبقة وطغيان العائلة وطغيان العشيرة المسيطرة .غير أنه وبعد أكثر من نصف قرن من ولادة هذه الحركات يُمكنننا القول أن معظمها لم ينجح في أن يحقق أهدافه وفشلت المجتمعات العربية فعلا في أن تنتج نوعا من التحول الديمقراطي على الأنظمة وبالتالي زادت الأنظمة فسادا وزادت مظاهر الفوضى بدل أن تنقص.

من أشكال المقاومة التي أنتجتها المجتمعات العربية ما نراه الآن في العراق ضد الاحتلال الأمريكي والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وبالتالي نجد أنفسنا أمام نوعان من المقاومة:

مقاومة ضد النظم الاستبدادية لما تمارسه من إشكال الضغط على أفراد المجتمع محاولة لكسر حصارها للحريات السياسية ومقاومة ضد الاحتلال .و ما بين المقاومة ضد الاحتلال والمقاومة لنظم القمع والاضطهاد نجد أشكال مختلفة من التوترات والانفجاريات الاجتماعية تقوم بها تنظيمات رفضا للوضع القائم وهي تؤشر لصعوبة الصعوبات التي تواجهها المجتمعات العربية في بلورة خط واضح لمقاومة شاملة ايجابية قوية ومنسقة وقادرة على إعادة تشكيل الأوضاع العربية من داخل المجتمعات العربية ذاتها بدل أن تخضع المجتمعات العربية للمشروع الوحيد المطروح وهو المشروع الأمريكي من الخارج.

فلا زلنا اليوم في حالة فوضى تتميز بصراع حقيقي بين مشروع خارجي للتغيير يرد على حاجات الهيمنة الخارجية ويستجيب لمصالح الدول الأجنبية ومشروع للتغيير الداخلي لإعادة التغيير تقوم به قوى وعناصر وجماعات ومثقفين لا يزالون مشتتين ويمارسون سلطة ومقاومة مجزئة ومفتتة وفي مستويات مختلفة ,ففي بعض المناطق تتركز المقاومة ضد الاحتلال وفي بعض المناطق الأخرى ضد النظم الشمولية وفي مناطق أخرى تتركز لانتزاع مكاسب وحريات عامة وخاصة فجوهر ما نعيشه اليوم في هذه الفوضى هو الصراع بين مشروع للتغيير الداخلي ومشروع للتغيير الخارجي ولم يحسم الأمر بعد في بلورة خط واضح للتغيير الداخلي وفي بلورة قوة قادرة وقوية ومنظمة ومنتشرة على درجة تمكنها من أن تقود عملية تحويل حقيقي للعالم العربي من الداخل وليس من الخارج.

 

* دكتور غليون أنت تتحدث عن فوضى المنطقة العربية وحالة التسيب والانهيار وكأننا أمام أنظمة مؤهلة للسقوط غدا و الحال أن هذه الأنظمة وعلى ضوء المصلحة الأمريكية ذاتها مؤهلة لان تتواصل وتبقى لسنوات طويلة قادمة وربما لخمسين سنة أخرى؟

* أنا لا أعتقد أن الأمور ستستمر لما هي عليه لخمسين سنة أخرى، فما سيحصل هو أحد أمرين أما أن مشروع التغيير الخارجي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية سوف يحقق مكاسب في السنوات القليلة القادمة وبالتحديد قي السنتين المقبلتين بعد الاتفاق بين أمريكا وأوروبا لأن مشروع التغيير من الخارج لا يمكن أن يتقدم إلا ضمن وصول أمريكا وأوروبا إلى تفاهم فالذي يعيق التغيير الخارجي هو انعدام التفاهم بين أمريكا وأوروبا المهتمتين بالمشرق والمغرب العربيين .

أو أن المقاومات المتعددة الأشكال السياسية والفكرية والعسكرية والدينية داخل المجتمعات العربية سوف تنجح في أن تعمق من وعيها ومن تنظمها بما يسمح فعلا في إعطاء مشروع التغيير الداخلي حد أدنى من الصدقية وبالتالي فتح المجال لإعادة تشكيل للمنطقة تشارك فيه الشعوب العربية عبر هذه المقاومات، إذ لا يمكن للوضع الراهن أن يستمر دون أن يؤدي لانهيارات اكبر ومخاطر بما في ذلك حتى على الدول الكبرى .

فالأمور يجب أن تحسم خلال السنوات القليلة القادمة بمعنى أني لا أزعم أن قوانا الذاتية قادرة اليوم على أن تصد في السنوات القادمة أو توقف هذا الهجوم الخارجي بالمعنى السياسي والإستراتيجية لضبط المنطقة، فنحن نأمل في السنوات القادمة أن نوقف هذا الهجوم على أن يكون جدول أعمالنا الزمني هو إيقاف هذا الهجوم ووضع القواعد الأساسية لحركة عربية تستطيع في مرحلة ثانية أن نؤمن أو أن نضمن أن يكون التغيير مدفوعا بشكل أساسي قائم بحسب الحاجات ومصالح المجتمعات العربية وليس وفق مصالح المجتمعات الأجنبية حتى ولو تضمن ذلك مفاوضات وتسوية مع الدول الأجنبية.

 

* أمام ضعف قوانا الذاتية دعنا نقول أن مشروع التغيير الخارجي أصبح تمشي واقعي، فهل تعتقد أن السيناريو العراقي من المرجح أن يتكرر مع سوريا وإيران؟

* طبعا إذا ما تم للأمريكيين والأوروبيين التفاهم فسوف يعيدون النظر في كل هذه الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط والتي يعتبرون أنها مصدر خطر دائم إرهابي وغير إرهابي وفي هذه الحالة سيتم نفس ما حصل في العراق وسيعمم على أكثر من بلد عربي ولكن ليس بالضرورة بالطريقة نفسها، أي بمعنى أن تكون القوى الغربية ذات المصالح الرئيسية في المنطقة لن تكون بحاجة إلى أن تعيد سيناريو الحرب على العراق حتى تضمن التغيير في المنطقة العربية ولكن يمكنها أن تقوم بذلك من خلال الضغوطات المشتركة الاقتصادية والسياسية والفكرية ومن خلال سياسة الاحتواء والترغيب والترهيب والمساعدات. فإذا حصل اتفاق أوروبي-أمريكي سوف يكون التغيير سريع في اتجاه بناء نظم جديدة أو تعديل النظم القائمة بشكل تكون فيه المنطقة خاضعة خضوعا كليا للمصالح الأجنبية.

 

* ولكن المشكلة أن إسقاط النظام العراقي أوجد واقعا جديدا أكثر تعقيدا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية حيث خرج البعبع الإسلامي بلباسه الشيعي و السني من قمقمه وبالتالي خلق واقع أكثر سوء من الديكتاتورية العلمانية وهو الأمر الذي من المنتظر أن يحدث في سوريا أيضا.

* أنا أعتقد أن الولايات المتحدة وأوروبا سوف تفهم درس العراق جيدا وبالتالي فهم سيسعون إلى إعادة التفاهم داخل الحلف الأطلسي في منطقة الشرق الأوسط على الأقل إذ ليس للأمريكيين والأوروبيين المصلحة في أن تستعيد القوى الإسلامية والقومية مواقع جديدة في العراق وفي غير العراق وأن يكون لها دور في إعادة تشكيل الأوضاع في المنطقة، فاليوم ما هو مطروح على التحالف الأطلسي هو إعادة تقييم لتجربة الحرب على العراق وأخذ الدروس منها من أجل تخفيف المخاطر الناجمة عنها وهو ما بدأ يعترف به الأمريكيين والبريطانيين عن طريق إعطائهم لفرنسا خاصة إمكانية المشاركة الذي هو في الواقع اعتراف بالوقوع في الخطأ.

إذا ستكون التسوية الأمريكية الأوروبية إذا ما حدثت بداية الخطة لقطع الطريق لنمو المقاومة التي ذكرتها ولتبني طرق جديدة في إعادة تشكيل النظم العربية لا تقوم فقط على القوة فالخلاف ما بين الأمريكيين والأوروبيين هو أن القوة ليست كافية وحدها لإعادة تشكيل المنطقة ولحل مشاكلها بما فيها مشاكل إسرائيل والنفط, فما ينبغي للأوروبيين هو الدمج بين القوة وبين السياسة وان فشل لغة القوة التي اعتمدها الأمريكيون سوف تؤدي في المستقبل إلى إيجاد خط آخر سوف يكون أكثر ذكاء في ما يتعلق بالدفاع عن المصالح الغربية وربما أكثر نجاعة وهو من المفترض أن يدفع بالحركات الوطنية العربية إلى إعادة النظر في استراتيجياتها وعدم المراهنة قصرا على مقاومات هي عبارة عن ردود فعل سواء جاءت من قوى ذات طابع قومي أو ديني .

أنا اعتقد أن هناك مشكلة يواجهها مشروع التغيير الخارجي هو تخبطه في الوصول إلى أهدافه لإعادة تشكيل المنطقة ولكن هناك في المقابل مشكلة نعاني منها نحن وهي أننا مازلنا بعيدين عن أن نبلور موقفا صحيحا وسليما وذا صدقية للمقاومة بمعناها الشامل يمكّن من إعادة البناء من الداخل العربي سواء داخل المجال القطري أو القومي.